رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثلاثون
يوجد هُنا؛ حيث أقصى يسار صدرك مُضغة تشعر بإنفعالات جسدك، جزءٌ ينبض لأجل الحياة، شيءٌ يجعلك تُقاوم الضرر، لكن أحيانًا تكون تلك المُضغة فارغة جافة، أحيانًا تشعر وأحيانًا أخرى تكون صلبة جامدة، أحيانًا تُزهِر وأخرى تَذبُل، تُشبه الفصول الأربعة وتتغير حالتها حسب الأجواء المُحيطة بها، لذلك عليك البقاء دائمًا في المكان الذي يُزهر به فؤادك، فإن لفؤادك عليك بحق.
تلك الليلة التي مضت كانت من أسوء الليالي التي مرت عليها في حياتها، فالأولى عندما رأت مقتل والدها بعينيها، والثانية عِند قتلها لأول مَن نبض القلب لأجله، انزوت يمنى على فِراشها تضم ركبتيها لصدرها وهي تهتز بحركاتٍ خفيفة بطيئة، تزامنًا مع هبوط دمعاتها الحارقة بلا هوادة، تشعر بعبراتها كنيران تهبط على فؤادها لتلتهمه بقسوة، وكأنها تُعاتبها على فعلتها الشنيعة التي أقدمت على فعلها، اعتدلت في جلستها مُتربعة ثم نظرت لكفيها الممدودتان أمامها، طالعتهما بنظراتٍ فارغة وكأن عقلها الصغير لا يستوعب حتى الآن ما فعلته! أغلقت جفناها بقوة لتحبس الدموع داخل مقلتاها لكنها لم تستطيع كتم شهقاتها، وتلك المرة تركت زمام الأمور تسير وحدها، حيث ارتفع صوت بكاؤها عاليًا لتصرخ بقهرة تمكنت من أوردتها، ظلت تضرب على فؤادها الصارخ بعشقه رغم خيانته، لتُصيبها حالة من الهستيريا الغريبة التي لم تأتي لها سوى مرة واحدة، وكأنها بفعلتها الحمقاء تلك ستُجبر فؤادها على إخراجه ونسياته.
فُتِح باب الغرفة لتدلف منه ملك التي ما إن استمعت لصوت صُراخها حتى هرولت إليها، وبعدها دلفت والدتها نبيلة التي فزعت من صُراخ ابنتها بهذا الشكل، وما أصابها بالشلل المؤقت هي حالتها المُهتاجة التي تصرخ بها وضربها على صدرها بتلك الطريقة المُفزعة.
جلست ملك أمام شقيقتها التي كانت مُستمرة في الصراخ بهستيريا، وكأن هذا الحدث كان كالقشة التي قسمت ظهر البعير المُتماسك، لكن هي كُسِرت بقسوة، جُرِحَت وجُرحها لن يلتئم بسهولة، بل ومن الممكن ألا يلتئم مُطلقًا!
بكت ملك على حالة شقيقتها التي تدفعها كلما حاولت الإقتراب منها، لتقترب مرة أخرى لكن تلك المرة قد فرضت سيطرتها عليها مُستغلة ضعفها بسبب الصرخات ثم احتضنها بقوة، استسلمت يمنى لأحضانها لكن صراخها لم يقل، مما أدى انفجار ملك في البُكاء والتي حاولت بشتى الطُرق تهدأتها، لكن الأخرى لا تستجيب لها وكأنها لا تسمعها من الأساس!
استدارت ملك نحو والدتها التي تُطالع حالة ابنتها بصدمة جلية على معالمها، ثم استنجدت بها قائلة بصراخ: كلمي أهلة بسرعة يا ماما.
استفاقت نبيلة من دهشتها ثم هزت رأسها عدة مرات وهي توميء لها بالإيجاب، ثم هرولت نحو الخارج للبحث عن هاتفها والإتصال بإبنتها الأخرى، بينما احتضنت ملك شقيقتها بكل قوتها وهي تهزها في محاولة منها لإفاقتها، أثناء انهيارها الباكي على حالتها: مالِك يا يمنى فوقي، فوقي علشان خاطري ومتخوفنيش عليكِ.
بينما يمنى كانت في عالمها الآخر، حيث هي وهو وفقط، تتذكر كل مزاحه، ضحكاته، حديثه، وإعترافه بعشقه، وكل الذكريات الجميلة التي وُشِمت بفؤادها تُعرض أمامها كشريط سينيمائي لا يُزيدها سوى ألمًا وصراخًا: أنا بحبك يا يمنى، بحبك أوي
أنتِ الحاجة الوحيدة الحلوة في حياتي
أنتِ تستحقي كل الحلو اللي في الدنيا يا يمنى.
هنلعب دلوقتي لعبة. هنحط المخدة دي على وِش واحد فينا لمدة دقيقة، واللي هيموت هيبقى هو الخسران، ودلوقتي هنبدأ ب يمنى.
إيه دا أنتِ عينيكِ عسلي؟ أصل العيون العسلي دي بيتقال فيها شِعر راقي ونضيف.
أنا بحبك.
بتحبني يا يحيى؟
بحبك أكتر من أي حاجة، حتى أكتر من نفسي
وكان هذا آخر حديث يدور بينهم قبل أن تقوم بطعنه ثلاث طعنات بكل غِل في معدته.
وعِند تِلك النُقطة؛ انهارت باكية أكثر وهي تصرخ بهستيريا ودون وعي: ليه! ليه يحصل فيا كدا ليه! يارب. يارب خُدني يارب. آاااه.
تعالت شهقات ملك أكثر التي صرخت بإنهيار: بسرعة يا ماما، فوقي يا يمنى علشان خاطري فوقي.
لكنها لم تستجيب لها أيضًا، بل حاولت التملص من بين يديها للوقوف، وبالطبع لم تسمح لها ملك حتى لا تقوم بأي فعل متهور تؤذي به حياتها، وبعد عدة محاولات من الأخرى؛ سقط جسدها هامدًا على جسد ملك التي صاحت بصراخ: يمني؟
خوف. كلمة مكونة من ثلاث حروفٍ اجتمعت لتُشكِّل صفة ليست موجودة بقاموس أهلة حَرم قاسم طاحون.
أغمضت أهلة عيناها تجز على أسنانها بألم عقب هجوم ضياء المُباغت عليها من الخلف ليُمسكها من خصلاتها، احتدمت عيناها بغضب عقب فعلته وبالطبع لم تشعر ولو بذرَّة واحدة من الخوف، استمعت إلى أنفاسه القريبة من أُذنها، والذي بدوره أردف بحقد: حِسابك معايا بيتقل كل يوم أكتر من اللي قبله، والنهاردة أنتِ جيبتي أخرك معايا.
سيطر الإشمئزاز على محياها من قُربه المقرف لها، وهو تمتع برؤيتها تتعذب من اقترابه، لطالما تعمد عن قصد لمسها حتى يرى نظرات الإشمئزاز والضيق على وجهها، وها قد جاءت فرصته الآن على طبق من ذهب، اقترب أكثر ليلفح بأنفاسه الساخنة بشرة وجهها ثم همس مُتسائلًا بشماتة: إيه؟ قرفانة!
آه قرفانة، وأهو قرف بقرف مش هخلي في اللي خلفوك حِتة سليمة.
قالت جُملتها ثم أمسكت بيده المُمشددة على خصلاتها ثم لوتها بحركة بارعة جاعلة إياه يصرخ من الألم، ليُصبح الوضع معكوسًا الآن، ضياء هو مَن يصرخ أسفل يد أهلة التي تضغط على ذراعه حتى كاد أن ينكسر، وبحقد قامت بضربه بركبتها في قدمه من الخلف أدت إلى سقوطه راكعًا أمامها، وبعدها همست قائلة بفحيح: مش أنا اللي يتلوي دراعي من كلب زيك.
قالتها ثم وقفت أمامه ضاربة بركبتها عظمة أنفه من الأمام مما أدى إلى صراخه الهستيري بسبب الألم، طالعته بإستحقار ثم انحنت قليلًا أمام وجهه مُردفة بشر: فِكرك لما تضربني أنا هسكتلك؟ مفكرني أهلة بتاعة زمان اللي بتخاف منك؟
وفي تلك اللحظة كان قاسم يقف أمام باب المكتب يكاد أن يطرقه، لكن توقفت يده في الهواء عندما استمع إلى حديث أهلة في الداخل، اشتعلت عيناه بالغضب مما يسمع الآن، وعلى بغتة قام بفتح الباب بهمجية دون أن يطرق، ليجد وجه المدعو ضياء ينزف من أنفه ويجلس كالذليل أمام زوجته البريئة.
رفعت أهلة رأسها وكذلك استدار ضياء بألم، لتتحدث أهلة بدهشة شديدة قبل أن تهمس اسمه بصدمة: قاسم؟
اقترب قاسم من كليهما بجمود وعيناه لا تُرفع من على وجه ضياء المقيت، وببرود شديد سألها: خلصتي وخدتي حسابك منه؟
ابتلعت أهلة ريقها بريبة، ثم وببطئ أومأت له بالإيجاب، ليلين وجهه لها قبل أن يقترب منها وينحني على وجهها ليُقبله بحنان شديد، وبعدها اعتدل مُخرجًا من جيب بنطاله مفاتيح سيارته قائلًا بود: حيث كدا بقى خُدي مفتاح العربية واستنيني فيها لحد ما أتناقش مع الأستاذ ضياء بكل هدوء ورُقي.
طالعته أهلة بقلق من أفعاله الجنونية التي من الممكن أن تتسبب في مقتل الأخر، لذلك فتحت فمها للإعتراض؛ فوجدته يدفعها للخارج بهدوء قائلًا: يلا بسرعة بقى متعطلنيش، وهتلاقي في صندوق العربية شيكولاتة اتسلي فيها لحد ما أتسلى أنا كمان.
تفوه بجُملته ثم أغلق الباب بوجهها أثناء ابتسامته الهادئة لها، وبعدها استدار ل ضياء الذي كاد أن يذوب من الخوف والفزع، ليُشمر قاسم عن ساعديه أثناء ابتسامته المُختلة: ودلوقتي أنا وأنت هناخد ونِدي بشكل وِدي مع بعض.
بينما اتجهت أهلة نحو الأسفل بالفعل، لكن توجهت أولًا إلى المرحاض! وقفت أمام المرآة العريضة تُحاول ضبط أنفاسها السريعة، أمسكت بسائل الإستحمام ثم سكبت منه كمية كبيرة على يديها، ظلت تفركهما بقوة وعقلها يُعيد لها مشاهد لمس ضياء لها بالأعلى، ووسط تلك التداخلات تقيأت ما في جوفها بالكامل، حاولت مِرارًا وتكرارًا أن تتحمل لكن رغمًا عنها كان اشمئزازها يُسيطر عليها.
بعد عِدة ثواني أخرى؛ استندت على الحوض وهي تنهج بقوة، فقامت بغسل يديها مُجددًا وكذلك وجهها، ثم التقطت عدة مناديل ورقية لتُجفف بها يدها ووجهها المُبللان.
انتظرت ثواني أخرى حتى تضبط انفعالاتها، ثم وبترفع خرجت من المرحاض تطرق بكل ثقة على الأرض السيراميكة اللامعة بكعب حذائها العالي، وتلك هي عادتها منذ الصغر، تُظهِر القوة والغرور للجميع وهي بالأساس ضعيفة هشة تحتاج لمن يُداويها.
وأثناء هبوطها؛ وجدت الموظفين بالشركة يُهرولون نحو الأعلى بسبب استماعهم لصوت صراخ مديرهم الحقير في الأعلى، لتتشكل ابتسامة واسعة على ثُغرها وهي تتخيل ما فعله قاسم به، وبعدها همست بضحك: كفاءة.
الحب ينتُج عن الإحتواء، الإحترام، التقدير، والحنان، وهو لم يتوانى لثانية واحدة عن تقديم كل هذا لها، كانت ضعيفة مُنكسرة وهو ضمد جروحها، تعامله معها وكأنها صغيرته كان يزرع من الحب بذورٍ صغيرة بدأت بالنمو تدريجيًا نتيجة لأفعاله، والآن هي مُطالبة برد هذا الجِميل له.
جلست حبيبة على الفراش تقضم أظافرها بتوتر وهي تتذكر كل وصايا أهلة وتعليماتها، نظرت ل صهيب النائم بخجل وداخلها يُخبرها على الإقدام، نفخت حبيبة بغيظ وهي تهمس داخلها: حرام عليكِ يا أهلة، إيه اللي أنتِ عايزاني أعمله دا بس!
سحبت نفسًا عميقًا ثم زفرته على مهل وهي تهمس لذاتها بتشجيع: يلا يا حبيبة أنتِ قدها.
وفي ثوانٍ كانت تتراجع أثناء همسها الباكي: لأ أنا مش قدها.
وكل هذا كان صهيب يُتابعها أثناء إدّعائه للنوم، ومن داخله يتوق شوقًا لمعرفة ما علمته تلك الشيطانة المدعوة ب أهلة لزوجته البريئة.
حمحمت حبيبة بشجاعة زائفة، ثم اقتربت بركبتيها حتى وصلت إلى جواره مُباشرةً، وببطئٍ ملحوظ انحنت حبيبة على وجهه ثم قبلته قُبلة رقيقة على وجنته وبعدها ابتعدت مُسرعة عنه وعن الفراش بأكمله!
وقفت حبيبة بعيدًا وتحديدًا بجانب باب الغرفة! حتى أنها وضعت يدها على شفتيها وكأنها مصدومة مما فعلته للتو! وبصدمة خرجت من الغرفة نهائيًا وهي تبكي أثناء تعنيفها العنيف لذاتها: يالهوي يالهوي يا فضيحتي إيه اللي أنا عملته دا؟ هيقول عليا إيه دلوقتي لو كان حَس بيا؟
جلست على الأريكة تدفن وجهها الصغير داخل كفها، ثم همست بصوت مسموع نسبيًا: ياربي! حرام عليكِ يا أهلة، ربنا يسامحك أنتِ اللي وزتيني.
و أهلة وَزتك على إيه يا بسكوتة؟
انتفضت حبيبة بصراخ مُبتعدة إلى آخر الأريكة، بينما نظر صهيب لها ببراءة وهو يتسائل: مالك يا بسكوتة اتخضيتي ليه؟
تسائلت حبيبة بفزع قائلة: أنت. أنت كنت صاحي من إمتى؟
أجابها صهيب مُتصنعًا التثاؤب: لسه صاحي دلوقتي. مش هتقوليلي برضه أهلة وَزَتك على إيه؟
اعتدلت حبيبة في جلستها ثم شبكت كفيها معًا، لتُجيبه بتوتر قائلة: ها. لأ. لأ أنا مقولتش حاجة.
كتم صهيب ضحكته بصعوبة بالغة على توترها، وبعدها أردف بحالمية زائفة: ياه يا بسكوتة، أما أنا حلمت حلم!
ابتلعت حبيبة ريقها بتلعثم وهي تسأله بريبة: حلمت بإيه؟
طالعها صهيب بنظرات شغوفة أثناء اقترابه منها أكثر: حلمت إنك بوستيني من وِشي.
هبت حبيبة من مكانها برعب أثناء نفيها لما قاله بسرعة شديدة وكأنها فعلت كبيرة لا يمكن غفرها: يالهوي! لأ طبعًا لأ. مش أنا اللي أعمل كدا. لأ. قصدي. أكيد يعني كنت بتحلم. آه صح أنت كنت بتحلم.
عض صهيب على شفتيه حتى لا تنفلت منه ابتسامة رغمًا عنه، وبعدها أردف بتعجب: أيوا ما أنا عارف إنه حِلم يا بسكوتة مالك اتوترتي كدا ليه؟
استفاقت حبيبة لذاتها؛ فهرولت تجلس على الأريكة وهي تتصنع الجدية، ثم أردفت بتلعثم: ها! لأ متوترتش ولا حاجة. أنا. أنا هقوم أعمل أكل بقى علشان نفطر.
قالت جُملتها ثم هرولت من أمامه ركوضًا، وبعد أن سارت عدة خطوات وصلها صوت صهيب العابث: بس أنتِ مش بتعرفي تطبخي يا بسكوتة!
أغمضت حبيبة عيناها بتذكر، ثم جزت على أسنانها بغيظ من بلاهتها، وبعدها استدارت له مُتحدثة ببلاهة: ما. ما أنا كنت هجرب يا صهيب.
أومأ لها صهيب مُتصنعًا اللامبالاة، ثم تشدق بحماس: وأنا هستنى أدوق أكلك يا قلب صهيب، يلا انطلقي.
فرغت حبيبة فاهها ببلاهة من المأزق الذي وضعت ذاتها به، وعندما طال وقوفها؛ استمعت إلى صوت صهيب المتسائل بتعجب: مالِك يا بسكوتة واقفة كدا ليه؟ يلا روحي اعملي الأكل علشان أنا جعان.
ابتلعت حبيبة ريقها بريبة، وبتوتر واضح أومأت له بالإيجاب قبل أن تدلف إلى المطبخ وهي تكاد أن تصفع ذاتها على غبائها الذي أوقعها في فخٍ هي فاعلته.
وبالخارج. جلس صهيب براحة على الأريكة أثناء نظره للتلفاز، وبهيامٍ واضح وضعت يده على وجنته التي قبلتها حبيبة، ثم تشدق بحالمية: بركاتك يا شيخة أهلة.
كانت أهلة تجلس داخل السيارة الخاصة ب قاسم وأمامها الصندوق المليء بالحلوى تأكل منه بتلذذ، تزامنًا مع صدوح صوت المُسجل الذي يصدح بإحدى الأغاني الرومانسية وهي تُدندن معه بغناء:
دايمًا دموع دموع دموع، آاااه دايمًا دموع دم...
قاطع غناؤها قاسم الذي صعد بجانبها، وصوته المُستنكر يصعد بتهكم: خدتي عزايا ولا لسه؟
ضحكت أثناء تناولها لقطعة أخرى من الحلوى ثم أجابته نافية: لأ لسه بعيد الشر عليك، بس أنا بحب أسمع أغاني رومانسية وأنا قاعدة لوحدي.
أغاني رو. إيه ياختي؟
سألها بتشنج، لتتعالى ضحكاتها داخل السيارة بصخب، انتقلت له ضحكاتها ليبتسم تلقائيًا أثناء انطلاقه بالسيارة، سيطرت على ذاتها بعد ثوانٍ ثم أجابته مُفسرة: أصل بجد الأغنية دي بحبها أوي وبعتبرها من الأغاني الرومانسية، مش عارفة ليه الناس بياخدوها على أساس إن هي حزينة!
التوى ثغره بسخرية وهو يُجيبها: مش يمكن علشان بيفهموا مثلًا؟
جعدت وجهها وها قد بدا الضيق يُسيطر على محياها، ثم سألته بحنق أثناء وضعها لقطعة كبيرة أخرى من الحلوى داخل فمها: والله؟ تقصد إيه بقى إن شاء الله؟
نظر إليها مشدوهًا تارةً، وتارةً أخرى ينظر إلى صندوق السيارة الذي كان مملوئًا بالحلوى، ولسوء الحظ أنه كان! فتح قاسم فمه مُتحدثًا بصدمة أثناء إشارته بسبابته نحو الصندوق الفارغ نسبيًا: فين الشيكولاتة اللي كانت هنا؟
ابتلعت أهلة ما في جوفها، ثم رسمت على وجهها ابتسامة بلهاء وهي تُجيبه بجهل أحمق: مش عارفة.
مش عارفة؟
رددها قاسم بإستنكار تزامنًا مع إحتكاك إطارات السيارة بالأرض الأسفلتية ليتوقف على الفور، صرخت أهلة بفزع لقُرب اصطدام رأسها بالزجاج الذي أمامها، فاستدارت له مُوبخة إياه: إيه الجنان دا يا قاسم؟
لم يُعير قاسم لصراخها أي إهتمام، بل أمسك بها من وجهها ليُقربها منه أكثر، ثم ضغط بإصبعيّ سبابته وإبهامه على فكها جاعلًا إياها تفتح فمها رغمًا عنها، تأوهت أهلة بحدة بينما هو تسائل وهو ينظر في الداخل: كلتي الشيكولاتة كلها يا طفسة يا مفجوعة؟ هيجيلك السكر وتهبطي مني ومش هعرف ألحقك ياللي منك لله!
غرزت أهلة أظافرها في كفه لتجعله يخف من ضغطه قليلًا، ثم أمسكت به من يده لتغرز أسنانها بها مما جعله يصرخ مُتأوها بصراخ أثناء إمساكه لها من خصلاتها: ورب محمد لو ما سيبتي دلوقتي هخلع شعرك في إيدي.
ابتعدت عنه أهلة بعد ما دفعته بوجه مِحمر من الغضب، ثم صاحت به بضيق: متكلمنيش تاني لو سمحت يا قاسم علشان أنت هزارك بيقلب بغباء.
طالعها قاسم بسخط قبل أن يأمرها بصرامة: انزلي رجعي كل اللي أنتِ كلتيه يا أهلة.
رمشت أهلة عدة مرات بصدمة قبل أن تتسائل بإندهاش: نعم؟ أنت بتقول إيه؟ للدرجادي مستخسر فيا الشيكولاتة اللي أنا كلتها؟
ضرب قاسم على المقود بغضب قبل أن يتشدق قائلًا بحدة: مستخسر إيه يا بنتي أنتِ بتفكري إزاي؟ أنتِ واكلة كيلو ونص شيكولاتة في تِلت ساعة وتقولي مستخسر فيكِ؟ أنتِ ممكن في أي لحظة تدخلي في غيبوبة سكر بسبب غبائك دا.
ربعت أهلة عن ذراعيها واحتل الضيق معالمها ولم تُجيبه، زفر قاسم بغيظ من عنادها وحاول الهدوء والثبات قليلًا، وبعد عدة دقائق من الصمت المُتبادل بين الاثنين؛ خرج قاسم عن صمته آمرًا إياها مرة أخرى بصرامة أشد: مش هكرر كلامي تاني يا أهلة اخلصي.
كانت أهلة قد بدأت تشعر بالدوار بالفعل بسبب كمية السُكريات التي دخلت جسدها دُفعة واحدةً، لذلك هبطت من السيارة بهدوء دون أن تُجادله أكثر مما جعل قاسم يتيقن بإصابتها بالدوار وهبوط في الدورة الدموية، انزوت أهلة في أحد الأركان ثم أخرجت كل ما في جوفها، والذي كان عبارة عن حلوى بُنية اللون فقط، ابتعدت قليلًا واستندت على أحد الحوائط بعدما انتهت من تقيؤها، لتشعر بيد قاسم تجذبها له، وباليد الأخرى يُمسِك بالمناديل الورقية ليمسح به فمها، وبعدها تحدث مُعاتبًا إياها:.
ما أنتِ لو تسمعي كلامي من غير جدال وخناق هيجرالك حاجة أنا عارف.
ضربته على معدته بحنق ثم تحدثت بتحشرج: متتكلمش معايا قولتلك علشان أنت مستفز.
ضحك بخفة قائلًا: حاضر. يلا علشان نمشي بقى.
سارت معه حتى وصلا إلى السيارة، لتصعد أهلة أولًا، وبعدها استدار قاسم وصعد بالمقعد الذي يُجاورها، نظرت له بترفع من طرف عينها ثم حوَّلت أنظارها إلى الجهة الأخرى عندما بادلها النظرات بأخرى ضاحكة، وبعدها انطلقوا بالسيارة إلى منزلهم.
ظلوا فترة طويلة صامتين لكن قاطع صمتهم صوت هاتف قاسم الذي ارتفع يرن صداه في الأرجاء، نظر قاسم لشاشته فوجد اسم ملك يُزين شاشته، ليقطب جبينه بتعجب قبل أن يُجيب بهدوء: ألو يا ملك!
انتبهت أهلة على ذِكر اسم شقيقتها؛ لتعتدل في جلستها ناظرة إلى وجه قاسم الذي يتحول من الهدوء إلى الوجوم تدريجيًا، وأخيرًا تحدث قائلًا: طيب تمام إهدى وأنا جاي حالًا، قوليلي العنوان بس.
استمع لها قاسم لثوانٍ، ثم أغلق بعدها الهاتف وهو يزفر بضيق، لذلك تسائلت أهلة بقلق: مالها ملك يا قاسم بتتصل بيك ليه؟
أجابها قاسم بسرعة ودون مراوغة: يمنى أختك تعبت ومحجوزة في المستشفى.
تم نقل يمنى إلى إحدى المشفيات الحكومية لكن حديثة بعض الشيء، تم حقنها بمُهديء فقدت على أثره قوتها لكن مازالت في حالة وعيها، كانت شاردة في السقف ولا تشعر بما يدور حولها من أحداث، لا تسمع سوى صوت همهمات خفيفة وبدأت بالإختفاء تدريجيًا، وإلى هُنا لم يتركها عقلها لتستريح ولو لثانية، بل ظل يُعيد لها ذكرياتها مع معشوقها الخائن الذي وهبته ثقتها، وهو جاء بكل براعة وحطم روحها المُتعلقة به.
اعتدلت بوهن على الفراش ثم ضمت ركبتيها لصدرها أثناء دفنها لوجهها بين قدميها، فعلت ذلك وكأنها تختفي عن العالم وتذهب بعالمها الخاص، لكنها شعرت بيد دافئة توضع على كتفها، وببطئ شديد وقلبٍ خافق قامت برفع وجهها لترى صاحب تلك اليد، وما إن رفعت حدقتاها؛ وجدته هو بإبتسامته المُشاكسة الشغوفة التي أوقعتها في عشقه، لتهمس اسمه بصدمة: يحيى؟
ارتسمت ابتسامة واسعة على ثغرها ثم اعتدلت في مضجعها بسرعة، وما كادت أن ترتمي في أحضانه؛ حتى وجدت طيفه يتلاشى شيئًا فشيئًا من أمامها، ومعه تلاشت ابتسامتها السعيدة واحتل الألم وجهها مُجددًا!
وهُنا صدحت صوت كلمات أغنية مجهولة المصدر زادت من وجعها أضعافًا: مش هنساك علشان خليتني. أعشق نارك وأنت فايتني. بعد الحب دا كله تقولي. هو دا قلبي وهو قراره!
ارتعشت شفتيها مُهددة إياها ببكاء جديد، وبالفعل ما هي إلا ثواني ودخلت في موجة من البكاء العنيف، وكأن البكاء أصبح الصديق الصدوق لها في فترتها الأخيرة! ووسط كل هذا الحُزن والألم استمعت إلى صوت رجولي يأتي من جانبها يسألها: مالِك يا آنسة أنا متدغدغ مش قادر أقوم.
توقفت يمنى عن البكاء، ثم وجهت أنظارها لمصدر الصوت لتجد رجل يتمدد على فِراش آخر بجانبها يده وقدمه اليسرى مكسورتان، تعجبت يمنى كثيرًا من وجوده، لتجده يتسائل بمسكنة: كنتِ بتعيطي ليه؟ أيكونشي اتقفشتي وأنت بتسرقي بط أم عزت زيي؟
قطبت جبينها بعدم فهم وهي تُردد جُملته بصوتٍ مبحوح: بَط أم عِزت؟
أكد لها وهو يشرح بيده السليمة الأخرى: آه البط، أصل أنا بعيد عنك رُحت أشتري بطة لقيتها بشيء وشويات، وأنا مكنش معايا غير أربعين جنيه بس، قُمت أنا إيه بقى! نطيت من على السور بتاعنا لسَطح الولية أم عزت جارتنا، عندها شوية بط تقوليش عليهم أرانب يا اسمك إيه؟ كنت هعمله مع الملوخية بس للأسف قفشتني ونزلت عليا ضرب هي وشوية الأوباش ولادها، مش عارف نفوس الناس بقت وِحشة كدا ليه ياختي!
كانت يمنى تُطالعه ببلاهة رامشة بأهدابها بعدم تصديق، لقد روى لها قصة حياته دون حتى السؤال أو الحديث! كانت تستمع عن هؤلاء، لكن لأول مرة تراهم أمام أعيُنها، أخرجها من شرودها وهو يسألها بابتسامة: ألا الحلوة اسمها إيه؟ معاكِ محسوبك وليد فريد سعيد، أكيد استغربتي اسمي صح؟ أنا هحكيلك، أصل جدي الله يرحمه كان...
اننتفض من مكانه بفزع عندما استمع لصراخها الباكي: اخرس خالص أنت مبتتهدش؟
طالعها وليد بضجر أثناء اعتداله في مكانه، ثم أردف بسخط: أنا غلطان إني بونسك، أبقى راجل عِرة لو اتكلمت معاكِ تاني.
لم تُعيره يمنى أي اهتمام، بل تكومت على ذاتها مرة أخرى وأخذت تبكي في صمت، وبعد عدة دقائق مرت، استمعت إلى صوته يُناديها: بِس بِس! بقولك إيه يا آنسة! معاكيش لبانة تشيكلس!
جزت يمنى على أسنانها بحقد، ثم رفعت عيناها الحمراء التي تُشبه الدماء من كثرة بكاؤها، لتهمس له بفحيح أرعبه: أنت عارف لو متكتمتش هعمل فيك إيه؟ هخلص عليك عشان أنا جِبت أخري منك.
ابتلع وليد ريقه بتوتر قائلًا بضحكة خائفة: يوه دا أنا بدردش معاكِ يا عسل!
قاطع حديثهم انفتاح الباب فجأةً ودخول أهلة بوجهٍ شاحب خوفًا على شقيقتها، وما إن رأتها يمنى أمام ناظريها حتى انفجرت في البكاء مُجددًا، تبكي للمرة التي لا تعلم عددها، وكأنها لم تبكي من قبل! احتضنتها أهلة بقوة وبادلتها الأخرى العناق بقوة أشد، انهمرت دمعات يمنى بلا هوادة وشفقة على حالتها، و أهلة تكاد أن تُصاب بذبحة صدرية أثر خوفها على شقيقتها.
وقف خلفهم قاسم مُحافظًا على صمته، وبجانبه ملك التي تبكي بإنهيار على ما مرت به منذ عدة دقائق، وبالخارج تجلس نبيلة التي فقدت قواها بسبب حالة يمنى التي كانت تسوء أكثر، وها هي يمنى الآن تُخرِج ما في جبعتها بالبكاء، ضمتها أهلة من الخلف بقوة وكأنها تسحب كل الطاقة السلبية التي بجسدها، وبعد فترة من البكاء الذي بدأ يخفت تدريجيًا، خرجت يمنى من أحضان أهلة التي تسائلت بقلق: مالِك يا حبيبتي؟ إيه اللي حصل احكيلي ومتخافيش أنا معاكِ!
سرقت بطة أم عزت.
أردف بها وليد بجدية، لتتحول جميع الأنظار له بتعجب، جزت يمنى على أسنانها بغيظ ثم أردفت بصوتٍ مبحوح: أنا عايزة أمشي من هنا بعيد عن الكائن المُزعج دا.
إلتوى ثغر وليد بسخط وهو يرد عليها شاهقًا: أنا برضه اللي مُزعج؟ إيش حال يا بت من ساعة ما أنتِ جيتي وأنتِ نازلة عويل وبكاء على الأطلال وأنا متكلمتش.
ترك قاسم الفتيات ثم ذهب للناحية الأخرى من الغرفة حيث يمكث هذا الأحمق، وقف أمامه مباشرة ثم وضع يده على كتفه وهو يسأله بصرامة: مين القمور؟
ابتسم وليد ابتسامة واسعة ثم أجابه: معاك وليد فريد سعيد.
سخر قاسم قائلًا: ودا اسمك ولا دوا كُحة!
لوى وليد شفتيه بإستنكار أثناء قوله: ربنا يسامحك، أنا مش هرد عليك علشان أنا راجل محترم.
مسحت ملك دموعها، ثم مالت على شقيقتها تسألها بتعجب: مين الأهبل دا؟
هزت يمنى كتفها بجهل ثم أجابتها بحنق: معرفش، بس من ساعة ما شوفته وهو حكالي قصة حياته كلها ومش مبطل لَك.
ضحكت أهلة بخفة ثم أردفت بخفوت: بس باين عليه غلبان.
سخرت منها يمنى مُتهكمة: آه أوي أنت هتقوليلي!
وعلى الجانب الآخر. وصل النقاش بين قاسم ووليد إلى حنق قاسم من ذلك المُستفز المُحِب للحديث كثيرًا، حتى تركه قاسم وحده وذهب للفتيات متحدثًا ل يمنى: هتعرفي تمشي معانا ولا تفضلي هِنا يوم كمان؟
هزت يمنى رأسها بالنفي قائلة: لأ همشي أنا بقيت كويسة.
أومأ لها قاسم بالإيجاب، ثم اتجه نحو الخارج ليقوم بدفع حساب المشفى قبل الخروج، لكن قبل ذلك قام بالجلوس بجانب نبيلة الشاردة، وضع كفه على خاصتها ثم أردف بإبتسامة هادئة: متقلقيش يا طنط يمنى بقت كويسة.
انتبهت له نبيلة ولحديثه، لترد عليه بإمتنان وهي تُربت على كفه بيدها الأخرى: تسلم يابني تعبناك معانا.
ولا تعب ولا حاجة انتوا خلاص بقيتوا في مقام عيلتي التانية، ولا إيه رأيك؟
أجابته مُبتسمة بإتساع: طبعًا يا حبيبي من غير ما تقول.
ابتسم لها قاسم ابتسامة هادئة، ثم هبّ من مكانه قائلًا: هستأذنك أروح أدفع حساب المستشفى وتقدري دلوقتي تدخلي ل يمنى هي بقت كويسة.
أومأت له نبيلة بهدوء، بينما توجه قاسم نحو الأسفل ليقوم بالدفع والذهاب من هُنا قبل أن تفقد يمنى صوابها من ذلك الأحمق الذي يمكث معها بنفس الغرفة.
تجمع الشباب معًا جميعًا وكان معهم كُلًا من لوسيندا ومهرائيل، جلس ليونيد على الأريكة ثم تنهد قائلًا بصوتٍ عالي نسبيًا: لقد كان هناك الكثير من العجائز الجميلات ليلة أمس.
نطقها ليونيد بحالمية وهو يرتمي على الأريكة التي خلفه، ليرد عليه فور والذي كان أمامه كمية كبيرة من الطعام تكفي لعائلة كاملة: هُنا بمصر يوجد الكثير من العجائز الجميلات مثل لواحظ.
نكزه رائد في جانبه بضجر وهو ينهره: ما تحسَّن ملافظك يا بغل أنت، أنت بتعاكس ستي قدامي!
جعد فور وجهه بحنق أثناء وضعه لقطعة كبيرة من الدجاج داخل فمه: تبًا لك يا وغد جانبي يؤلمني.
رد عليه رائد بسخط: جتك وجع في فخادك، اتلم يا فور أحسنلك كله إلا لواحظ، دي شرف العيلة.
تسائلت لوسيندا بتعجب: مش المفروض سهيلة هي اللي تبقى شرف العيلة؟
لوى رائد شفتيه يمينًا وشمالًا كحركة شعبية سائدة، ثم أجابها بحسرة: سهيلة؟ لأ دي راحت عليها يا عين أمها ومش هتلاقي اللي يلمها.
اعتدل فور مُتسائلًا بإبتسامة واسعة بلهاء: هل يمكنني الزواج بها؟
تشنج وجه رائد بإستنكار لما تفوه به، ثم أجابه بسخط: ودي هتعملها إزاي إن شاء الله؟ هتدعو لدين جديد أنت وهي ولا إيه أنا مش فاهم؟
انزعج فور من ذلك الحديث الذي يؤرقه دائمًا، ثم توقف عن تناول الطعام وهو يُتمتم بضيق: اللعنة عليك رائد وعلى شقيقتك التي آرقت نومي.
استمعت مهرائيل لكلماته ففتحت عيناها بإنبهار مما سمعته، هل يُعقل بأن فور يبادل سهيلة نفس المشاعر؟ هل يحبها أيضًا مثلما تحبه؟ وبخبثٍ شديد مالت عليه قليلًا قائلة بإتهام: اعترف يا خاين أنا سمعتك، أنت بتحب سهيلة صح؟
فزع فور من حديثها، حتى أن الطعام توقف بحلقه من صدمته، طالعه الجميع سعاله الشديد بتعجب فتسائل آلبرت بشك: ما بِكَ فور؟ ماذا قالت لك تلك الحمقاء؟
غضبت مهرائيل من وقاحته فصاحت به غاضبة: بقولك إيه يا وجه البُرص أنت! اتكلم عِدل بدل ما أفضحك وألم عليك أمة لا إله إلا الله، أنا روحي في مناخيري ومش طايقاك ولا طايقة نفسي.
احتدت عيني آلبرت بغضب من صراخها، لذلك انتفض من مكانه على بغتة ثم اقترب خطوتان حتى أصبح قبالتها فجأة، كادت أن تهرب من أمامه لكن الوقت لم يُسعفها، فأمسكها آلبرت من ياقة ثيابها يهزها بعنف: اسمعي أيها الجرو الصغير. أُقسِم إن ارتفع صوتكِ مُجددًا سأقطع لكِ لسانك ولن أُشفق عليكِ، أسمعتِ؟
تأففت مهرائيل بضيق ثم صاحت بصوتٍ خافت: ما هو أنت اللي بتضايقني وأنا علشان إنسانة بريئة ومحترمة مش عايزة أقل منك.
قربها منه آلبرت بعنف حتى جز على أسنانه بغيظ أمام وجهها: لسانك السليط هذا سأقطعه، انتظري فقط لبعض الوقت وسترين أيتها الوقحة السليطة.
شهقت مهرائيل بسوقية ثم ضربت كلتا يديها ببعضهما البعض أثناء قولها الرادح: حوش حوش يا واد الوسامة اللي بتنقط منك، دا يخربيت الغتاتة اللي بتجري في دمك.
رد عليها آلبرت مُعاندًا إياها: ستظلين جروًا صغيرًا سليطًا في نظري.
لم تجد مهرائيل ما يُجدي نفعًا معه، لذلك تشدقت بكبرياء أثناء دفعها ليده عن ثيابها: صدق اللي قال. ياما ناس شكلها حلو بس جليلة الرباية.
رفع حاجبيه بإستنكار، لتستطرد حديثها قائلة بترفع: وأنت ما شاء الله التربية معدتش على باب بيتكم.
أكد آلبرت على حديثها بالفعل ثم أردف أثناء اشارته لذاته ولجميع أخواته: نعم معكِ حق بالفعل، أتريني أنا وهؤلاء الأوغاد! لم نجد مَن يُربينا.
تجعد وجه إيغور الذي همس بسخط: تلك الفتاة لا تجلب لنا سوى الشتائم، غبية حمقاء.
أيده شقيقه آندريه هامسًا: معكَ حق، لكنها تليق بأخي كثيرًا.
انتبه له إيغور أكثر ليتسائل بصوت هامس مُندهش أثناء اعتداله في جلسته: ماذا تقول؟ هل جُننت؟
نفى آندريه برأسه وهو يقول بخبث: آلبرت يحتاج لمن يروي ظمأ قلبه ويُحييه، وأظن أن تلك الفتاة بكل مصائبها تستطيع إحياء فؤاده.
كان ستيفن يستمع لحديثهم دون التدخل، لكنه قرر مشاركتهم بقوله الساخر: جميعنا نحتاج لمن يُحيي أفئدتنا، لكن متى يا تُرى؟
تنهد ليونيد بيأس وهو يُجيبهم بحالمية: أريد زوجة وسيمة تُشبه العجوز لواحظ.
أبعده إيغور من وجهه بعنف أثناء قوله الحانق: ابتعد من هُنا أيها المُغفل، أنت بالطبع لست أخينا.
مصمص ليونيد على شفتيه قائلًا: أنت هو المُغفل أيها المنيل.
منيل!
رددها أشقائه بتعجب، لتتسع ابتسامة ليونيد الذي اعتدل شارحًا لهم بحماس: نعم منيل، لقد تعلمتها من لواحظ، تلك العجوز رائعة حقًا.
انتبه له شقيقه آندريه مُتسائلًا بفضول: هل تعلمت كلمات أخرى لأقولها لأصدقائي؟
أومأ له ليونيد بغرور شديد قبل أن يعد على أصابعه قائلًا: يا منيل، يا موكوس، يالهوي، داهية، بوس الواوا.
قال الأخيرة ببعضٍ من الخجل، ليسأله ستيفن بتعجب: بوس الواوا؟ ماذا تعني تلك؟
رد عليه ليونيد شارحًا له بجدية شديدة: إذا جُرِحتَ تأتي فتاة وتُقبِّل مكان جُرحك.
لوى إيغور شفتيه بإشمئزاز قائلًا: ما هذا القرف؟ المصريون مقرفون للغاية.
ضربه ليونيد على صدره بكف يده بقوة وهو ينهره بعنف: اصمت أيها القذر، أنا أحب المصريون للغاية.
بعد ضرب ليونيد لشقيقه، اغتاظ الآخر للغاية فهب عليه من مضجعه ثم لكمه بقوة، احتدت عيني ليونيد بغضب فكوَّر يده ودفعها في نية ل لَكم ليونيد ؛ لكن الآخر ابتعد لتأتي على وجه آندريه، سبَّهم آندريه جميعًا ثم قام من مجلسه ولكمهم معًا، لكن لسوء حظه؛ دفعه إيغور للخلف ليسقط على قدم ستيفن الذي كان يُراقبهم بمقط، أغمض ستيفن عيناه بغضب أثناء دفعه لشقيقه من على قدمه ليقع أرضًا، مما أغاظ آندريه أكثر فضربه على صدره هو الآخر، وهُنا اشتعلت الأجواء بلكمات وضربات ذكورية قوية، ومعهم تصعد صرخات أنثوية كان مصدرها مهرائيل بالطبع، والتي كانت بدورها تُمسك ذراع آلبرت بأسنانها عندما طال استفزازه لها، وهو يُمسك بخصلاتها القصيرة يسبها ويسب معرفتها السوداء كما يقول.
بينما كانت لوسيندا تستند على ذراع چون ويُشاهدان التلفاز بإستمتاع بعيدًا عن حِفنة الثيران تلك، و فور يتشاجر مع دجاجاته التي ترفض الدخول إلى فمه مرةٍ واحدة، ورغم أنهم ببداية اليوم؛ إلا أنه قد أكل سبع مرات حتى الآن، تُرى ماذا سيحدث بقية اليوم؟
منذ ساعتان وهو يجلس بتلك الحالة يضع كفه أسفل ذقنه ينتظر الطعام الأسطوري التي ستُحضره ال بسكوتة خاصته، تأفف صهيب الذي نظر لساعة الحائط بضجر، ثم هبّ من مكانه مُقررًا الذهاب لها ورؤية الطعام الذي يستحق كل هذا الإنتظار.
كاد أن يتحدث؛ لكنه صمت فاتحًا فمه ببلاهة عندما رأى كَم الأطباق المحروقة الموجودة أمامه، ورغم ذلك هي لم تيأس ولم تمل، بل وقفت أمام النيران لتقوم بطبخ طبقٍ من البيض بالطماطم والفلفل للمرة المائة والواحد، وبعد ثوانٍ من الصمت تحدث صهيب وهو يقترب أكثر منها:
يا نهار أحمر! دي كلها أطباق اتحرقت ودا كله بيض هيترمي؟ أنتِ عارفة البيضة بكام دلوقتي؟
تعجبت حبيبة من وجوده، فاستدارت له تشكو بحزن: باين كدا البيض كله بايظ.
تشنج وجه صهيب الذي سألها باستنكار: البيض هو اللي بايظ؟
أكدت له وهي توميء له بالإيجاب، ثم أردفت قائلة: آه. ابقى غيَّر الراجل اللي أنت بتجيب من عنده بقى.
أومأ لها ضاحكًا، ثم نظر لعدد الأطباق الكثيرة الموجودة أثناء قوله المُتحسر: يا مرارك يا صهيب؟ هعيش طول عمري على البيض المحروق!
استدار مرة أخرى جهة حبيبة فوجدها تُعطيه ظهرها وتُقلب في محتويات الصحن الموجود أمامها، فتحدث قائلًا: خلاص يا بيبو سيبي اللي في إيدك وأنا هنطلب أكل من برا.
لم يجد منها ردًا، فاقترب منها مُتعجبًا ليُديرها؛ فوجد دموعها تهبط بصمت وعلى محياها يرتسم الحزن والألم، أغلق صهيب النيران ثم أمسك بيديها مُتسائلًا بقلق: مالِك يا حبيبة بتعيطي ليه؟
اشتد بكاء حبيبة أكثر وظهر الضعف على محياها ولم تتحدث، ليجذها صهيب إلى أحضانه بقوة أثناء قوله الخائف: خلاص إهدي يا حبيبتي محصلش حاجة.
مرت دقائق قليلة و حبيبة تبكي فقط، تذكرت حديث تلك الحقيرة المُسماه ب ريمانا منذ قليل عندما هاتفتها مُخبرة إياها بتشفي: وأنتِ مفكرة إن صهيب هيستحمل واحدة زيك فاشلة ونكدية؟ ابقي قابليني، هو هيتسلى يومين تلاتة وهيرميكِ زي اللي قبلك، سلام يا، يا حبيبة.
ومع تذكرها يزداد بكاؤها أكثر، تُحاول بشتى الطُرق أن تصمت حتى لا يمل منها صهيب كما أخبرتها ريمانا صباحًا، لكن مُجرد التفكير يُزيد من هاجس الفزع داخلها، شددت من احتضان خصره، ثم سألته بشهقاتٍ حادة باكية: أنت. أنت هتسيبني عشان أنا فاشلة يا صهيب؟
تعجب صهيب من سؤالها، وبنفيٍ هز رأسه رافضًا حديثها بقوة: لأ طبعًا عُمري في حياتي ما فكرت إني أبعد عنك، أنتِ روحي يا حبيبة وأنا لا يمكن أبعد عنك.
خرجت من أحضانه ناظرة إليه بحذر، ثم سألته بترقب: بجد؟
أحاط بوجهها أثناء استناده بجبهته على خاصتها، ثم أردف بصوتٍ أنهكه العشق: لو اللي باقي من عمري ثانية؛ فأنا هقضيها بين إيديكِ.
ابتسمت حبيبة بخفة، وأخيرًا قررت الإعتراف، قررت الشجاعة ونُطق ما تشعر به، قررت المُجازفة وقول: أنا بحبك.
توقف صهيب عن هدهدتها وتصلب جسده صدمةً مما سمع، يخشى أن يكون كل هذا مجرد حُلمًا جميل وسيستيقظ منه مؤخرًا، لكن ابتسامة حبيبة وتلك النظرة المُلتمعة التي تخصه وحده أكدت له واقعه الرائع! رمش صهيب عدة مرات قبل أن يتسائل مُجددًا: أنتِ. أنتِ قولتي إيه؟
عضت حبيبة على شفتيها بخجل أثناء قولها الخافت: أنا. أنا بحبك يا صهيب.
ولم تكد أن تُكمِل حديثها؛ حتى وجدت جسدها يُسحَب بواسطته ليسحقها بين أحضانه، أحاط خصرها ودفن وجهه في خصلاتها، ثم أردف بعشق: وأنا بموت فيكِ، أنا مبقتش أقادر أتخيل حياتي من غيرك، لإنك ببساطة بقيتي كل حياتي.
روى ذلك الحديث ظمأ قلبها الذي جَف من ظُلم الآخرين لها، وبخجل شديد؛ قامت بلف ذراعيها حول عُنقه لمبادلته العناق بقوة شديدة، ابتسم صهيب بسعادة على تحسنها وتطورها الواضح، وبعفوية قام بتقبيل وجنتها أثناء قوله الشجن: ربنا يديمك ليا يا بسكوتة.
أخرجهما من جوهما الشاعري صوت هاتف صهيب الذي ارتفع رنينه يعلو في الأرجاء، ابتعد عنها صهيب بسخط وهو يُتمتم حانقًا: مفيش لحظة ليا بتكمل وكأني شاقطك أو عايشين مع بعض لموأخذة.
عاتبته حبيبة برقة بقولها: عيب يا صهيب الكلام دا.
ضحك صهيب بخفة وهو يهز رأسه بيأس على طيبة زوجته الزائدة، ثم أجاب هو على هاتفه بهدوء مُردفًا بغيظ: عايز إيه يا فصيل؟
استمع إلى صوت شقيقه الضاحك والذي تشدق بتشفي: هو أنا جيت في وقت غير مش مناسب ولا إيه؟
تخيل! انجز قول عايز إيه؟
ردد قاسم كلمته بتشنج، وبعدها صاح مُحذرًا إياه بحدة: بقولك إيه يلا اظبط بدل ما أظبطك، تعالى عايزك وهات حبيبة معاك تقعد مع البنات لحد ما نخلص مشوارنا.
انتبه صهيب لحديثه فتسائل قائلًا: مشوار إيه دا؟
هقولك لما تيجي.
قالها قاسم ثم أغلق الهاتف بوجهه قبل أن يُعطي الفرصة للآخر بأن يتحدث.
بينما نظر صهيب للهاتف بغيظ قائلًا: آه يابن ال، ولا بلاش، أبويا الغلبان ملوش ذنب، ذنبه الوحيد إنه خلفنا.
البصيرة تُعمى بالحِقد، والبغض يُنشئ بالكُره، والقلب يَسوَّدُ من الأفعال، ووسط كل هذا أتى غروره لينفي كل أفعاله، جلس ضياء على كُرسيه الوثير بوجهٍ متورم من الضربات التي أخذها من يدِ قاسم الغليظة، تذكر رجاؤه له وقسمه بألا يظهر في طريق زوجته مُجددًا، لكن الآخر كان معمي البصيرة عندما سدد له اللكمات والضربات الموجعة في كل أنحاء جسده، وبعدها أنهى أفعاله بهمسه المُتبجح:.
لما تحب تلعب؛ إلعب مع الرجالة، كُتر لعبك مع النسوان خلاك زيهم.
سار قاسم عدة خطوات للأمام، ثم توقف فجأة ليستدير له، وبعدها تشدق بتحذير صارم: لو جِيت ناحية أهلة حرم قاسم طاحون إعرف إنك بتحفر قبرك بإيدك.
وبعدها سار مُتجهًا نحو باب المكتب ليفتحه، وجد الكثير من الموظفين مُرتصين أمام المكتب، ليصدح صوته قائلًا بصوتٍ عالٍ نسبيًا: مالكم قلقانين كدا يا شباب! أنا و ضياء كُنا بنتكلم بطريقة سلمية مش أكتر.
عاد ضياء من شروده على جلوس مُساعده الشخصي أمام عيناه، والذي ما إن رآه حتى هتف قائلًا بفحيح: اسمع كل اللي هقولهولك ونفذه بالحرف الواحد.
احرس دائمًا على اختيارك لصديقٍ صالح يُسهِّل عليك مصاعبك ويُزيل من على كاهلك مصاعبك، لتنجو؛ عليك المُجازفة والإبتعاد، الإبتعاد عن الشر الذي يمكث في قلوب من تظنهم أصدقائك، وهُم بالأصل ثعابين سامة تنتظر الفرصة للدغك، ينتظرون سقوطك لتكون فريستهم، وإن وقعت ستنتهي.
تمددت سهيلة على فِراشها بإبتسامة حالمة مُتسعة وهي تتذكر كلمات فور لها، ذلك الخبيث الذي تسلل لفؤادها رويدًا ليفرض سيطرة حبه على قلبها العُذري المسكين، أمسكت بالزهرة التي أعطاها لها ثم ضمتها إلى صدرها بشغف، تُحبه وحُبه مُحرمٌ عليها، ولا تعلم كيف تجد السبيل للنجاة!
اعتدلت مُتربعة في فراشها ثم أمسكت بهاتفها الذي لم تُمسكه منذ فترة كبيرة للغاية، منذ معرفتها ب عائشة و مريم التي اتضحت أنها صديقة مُقربة للأولى؛ وهي قد مسحت أرقام زملائها القدامى، أزالت حِفنة الأوغاد اللذين كادوا أن ينهوها وينهوا مُستقبلها، ولولا وضع الله ل عائشة في طريقها؛ لكانت قد انتهت منذ مدة.
فتحت إحدى تطبيقات التواصل الإجتماعي، فوجدت رقم غير مُسجل قد أرسل لها عدة رسائل، والتي كان محتوياتها: سهيلة إزيك أنا البنت اللي قابلتك في الجامعة يوم التلات وأنتِ وقتها مكنتيش في وقت يسمح إني أكلمك، بصراحة أنا عايزة أسمعك حاجة بالصدفة سمعتها، ودا ممكن يفيدك، هبعتلك الريكوردات دلوقتي.
قرأت سهيلة محتوى الرسالة بتعجب وتذكرت ذلك اليوم عندما انهارت في البكاء عند علمها لكِبَر ذنبها وخطيئتها، لتأتي إليها فتاة بمعالم قلقة أرادت الحديث معها، لكن حالتها كانت سيئة للغاية لم تسمح لها بالحديث أو الإستماع لأحد، وبقلق شديد قامت بفتح التسجيل الصوتي المُرسل وبدأت بالإستماع إلى ما يحتويه:
يعني هتعمل إيه يا أمجد؟
ولا أي حاجة يا حياتي، سهيلة دلوقتي بقت تحت إيدينا وسيطرتنا، وواحدة واحدة هتبقى مننا وعلينا ومش هتقدر تفتح بوقها بكلمة واحدة وهتخاف على نفسها من الفضيحة.
لأ برافو عليك يا ميجو، عرفت توقعها صح وتخليها تحت طوعك.
طبعًا يا مَنّون أنتِ بتكلمي أمجد الصاوي، المهم قوليلي اسمها كامل علشان أكتبه في قايمة الضحايا الجديدة.
سهيلة محروس الجعان.
سخر أمجد قائلًا بضحكة عالية: جعان ولا عطشان؟
انتهت سهيلة من الإستماع إلى التسجيلات ودموعها تهبط بقوة، كانت تعلم بأنهم قذرون، لكنها لم تكن تتوقع بأن يكونوا بكل تلك الحقارة، وضعت كفيها على وجهها ثم شهقت ببكاء حاد أثناء تمتمها بالحمد، تحمد المولى عز وجل على نجاتها من بين براثن تلك الذئاب، هي محظوظة، والآن علمت أن كل هذا تدابير من خالقها، وكل ما حدث وما سيحدث هي موقنة وواثقة في الإجابة.
أمسكت بهاتفها مرة أخرى، ثم أتت برقم عائشة لتُرسِل لها رسالة كان محتواها:
للمرة المليون أنا مش هقدر أوفيكِ حقك، جاية أقولك إني محظوظة بوجودك معايا وفخورة بإنك صحبتي، ربنا يديمك ليا ويديم المَحبة ما بينا.
وصل قاسم بالفتيات إلى منزله بعد أن أوصل نبيلة إلى منزلها أولًا لشعورها بالإنهاك، هبطت الفتيات واحدة تلو الأخرى حتى جاء دور يمنى، ليصعد صوت قاسم يأمرها بهدوء: خليكِ أنتِ يا يمنى.
قطبت أهلة جبينها بتعجب ثم سألته بإندهاش: عايز يمنى في إيه يا قاسم؟
أجابها قاسم بوجهٍ جامد: محتاجها.
قال كلمته المُبهمة ثم انطلق بسيارته سريعًا دون ترك فرصة لذاته للإستماع إلى أي حديث منهم، وبجانبه يمنى التي دخلت في حالة ريبة من طلبه هذا.