قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الحادي والثلاثون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الحادي والثلاثون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الحادي والثلاثون

سار قاسم بسيارته بسرعة عالية للغاية جعلت التي بجانبه تنكمش على ذاتها بخبث، أمسكت يمنى جيدًا في باب السيارة ثم أردفت بفزع من سرعته المُبالغ فيها: براحة شوية يا قاسم هنعمل حادثة.
ظل قاسم على نفس سرعته ولم تهدأ ولو قليلًا، طالعها ساخرًا بطرف عينيه قبل أن يتشدق بغموض: إيه خايفة تموتي؟

ابتلعت ريقه بريبة من غرابته، لتعتدل في جلستها أثناء نظرها للطريق الذي أمامها، وبعدها تسائلت بإلحاح: إحنا رايحين فين؟ ليه صممت تاخدني معاك؟
أجابها قاسم بغموض أخافها: دلوقتي هتعرفي.
صمتت أثناء مُطالعته بقلبٍ يخفق من الخوف، تعلم بأنه لن يُؤذيها؛ لكن هُناك شيء يُخيفها في الأمر، وهذا ما يُقلقها!

بعد عشر دقائق أخرى من القيادة توقف قاسم أمام المكان المقصود، ارتعش جسد يمنى وهي تنظر حولها ثم سألته بأعيُن باكية خوفًا من الإجابة: أنت جايبني المقابر ليه؟
إنزلي.

كلمة واحدة رددها قاسم بصرامة قبل أن يهبط أولاً من سيارته، تاركًا إياها ترتعش خوفًا من القادم، وببطئٍ شديد هبطت هي الأخرى لتلحق به وبخطواته التي بدأ يخطوها للداخل، ظلت يمنى تلتف حولها برعب، تخاف! بل تموت فزعًا، وجودها هُنا حيث الموتى يُدخِل الرهبة داخل وجدانها، يُدخِل القلق من فكرة قدومها يومًا إلى هُنا، لكن ليست كذائرة، بل كمُقيمة!

توقفت أقدامها عن السير، تصنم جسدها محله، امتنعت أنفاسها عن الخروج والدخول بطريقة طبيعية، بل وشعرت أيضًا أن الدماء بدأت تتجمد داخل جسدها، وكل هذا حدث عندما رأت لوحة القبر مُدوَن عليها بخط كبير وعريض المرحوم: يحيى مراد الديب!

رفعت أنظارها ل قاسم الذي يقف أمام قبره يرفع يده أمام وجهه ويقرأ له الفاتحة بصوتٍ هامس يكاد لا يُسمَع، انتهى بعد ثوانٍ ثم التفت لها ليجد وجهها شاحبًا كالأمواتِ تقريبًا، اقترب منها خطوتان ثم تشدق بصوتٍ مُتسائل بارد: مش هتقرأيله الفاتحة؟

طالعته بأعيُن فارغة وكأنه كائن فضائي غير طبيعي، لتجده يبتسم بسخرية أثناء إكماله لحديثه المُهلِك لفؤادها: رغم إنه خدعنا كلنا بس مفيش في إيدينا غير إننا ندعيله بالرحمة، كان خاين آه. بس مقدرش أنسى إنه كان في يوم من الأيام صاحب لينا، حتى لو بالخداع.

وبدون شعور منها وجدت دموعها تهبط بكثافة، تنزل عبراتها على وجهها كالنيران لتحرقها بذنبها، رفعت يدها التي ترتعش بشكلٍ ملحوظ ثم أشارت بسبابتها تجاه قبره: ضِحك عليا وفهمني إنه بيحبني، كان بيضحك عليا!
تقومي تقتليه؟

صرخ بها بإنفعال بعدما أُزيح سِتار البرود الذي كان يرتديه، لتُجيبه بصوتٍ مُنفعل باكٍ: قولتله إني أكتر حاجة بكرهها الخيانة يا يحيى، قولتله أنا خايفة أحبك يا يحيى، قولتله أنا بخاف أتخذل من اللي حواليا يا يحيى، قولتله أنا هثق فيك علشان أنت طلبت يا يحيى، وفي الآخر يحيى عمل فيا إيه! استغلني ودبحني بسكينة تِلمة نحرتني، قالي أنا بحبك يا يمنى، هكون ضهرك وقوتك يا يمنى، عايزك تثقي في يا يمنى، وفي الآخر فعلاً وثقت فيه، وثقت فيه وحبيته، كنت مستعدة أضحي بحياتي علشانه، وبعد دا كله طِلع بيلعب بيا، لِعب بيا واستغلني يا قاسم، سامعني! لِعب بيا واستغلني.

كان قاسم ثابتًا ينظر إليها بنظرات جامدة لم تستطيع تحديدها، تجاهلته هي ومن ثَم اقتربت من القبر المُدون عليه اسم يحيى، ذلك الخائن الذي عشقته بكل ذَرة في وجدانها، استندت برأسها على اسمه ثم همست بصوتٍ مبحوح وهي تضرب بقبضتها على جداره: ليه يا يحيى ليه؟ حرام عليك قلبي اللي وثق فيك، أنا بكرهك علشان مش عارفة أكرهك حتى بعد ما قتلتك بإيدي.

وضع قاسم كفيه في جيب بنطاله ثم أردف بهدوء: وأنتِ إيه اللي خلاكِ مُتأكدة إن هو فعلًا خاين؟ روحتي وقتلتيه على أساس الكلام اللي أنتِ سمعتيه مننا بس!
هبطت دموع يمنى التي كانت مازالت تستند برأسها على جُدران قلبه، ثم أجابته بصوتٍ هامس: سمعت التسجيلات اللي في عربيتك.
قطب قاسم جبينه وهو يسألها بحذر: أي تسجيلات؟

اعتدلت يمنى في وقفتها لكن قدماها لم تقدران على الوقوف والثبات، وكأنها فقدت قوتها ومعها فقدت قلبها، وضعت كفيها على وجهها تُخفيه عن قاسم الذي طالعها بحزن دفين لحالتها، ظلت تبكي على حالتها وعلى قلبها الذابل من العشق، ذهب إليها قاسم ثم جلس بجانبها مع الحفاظ على مسافة مناسبة بينهما، ليتشدق بهدوء يحثها على الإكمال: احكي يا يمنى أنا سامعك.

هدأت يمنى قليلًا ثم أردفت أثناء رفعها لوجهها تُطالعه بمعالم مُنتهكة: أنا. أنا نزلت لعربيتك علشان افتكرت إنك وقتها كنت حاطط أجهزة ترقب في عربية كل واحد فينا لما كنا رايحين لشركة الأرماني، وأنا بدور عليه لقيت التسجيلات، شغلتها وقتها لقيت صوت يحيى وهو بيتفق مع مختار الأرماني، عِرفت إنه قتل صادق عشان يحمي مختار، خدعنا كلنا وخدعني قبلكم وفهمني إنه بيحبني وهو كان عايز يوصل لهدفه، عايز يوصل لهدفه على حسابي أنا! طيب ليه؟

زفر قاسم بضيق من حالتها التي تزداد سوءًا، ليسمعها تستكمل حديثها وهي تردف بصوتٍ مُنهار مُتعب: روحتله علشان أتأكد منه، بس هو كان لسه بيكدب عليا، كان لسه بيقولي إنه بيحبني، محستش بنفسي غير ودمه على إيدي، بكرهه وبكره نفسي وبكره قلبي اللي حَبه، قولي أعمل إيه يا قاسم علشان أنساه؟ قلبي من الوجع حساه هيقف وبعد دا كله لسه بحبه.

شرد قاسم في نقطة بعيدة ثم أجابها: لو على النسيان فكلنا عايزين ننسى، بس القلب مبينساش.
طالعته يمنى بيأس، وبألم شديد وضعت جبهتها على ركبتيها شاعرة بتلك الغصة التي تحرقها من الداخل، وبقلبٍ مكلوم أردفت بشهقات خفيفة: الحب ضعف وعذابه مش هَيِّن.
هز قاسم رأسه بيأس من حالتها التي تزداد سوءًا، فهب من مكانه ثم أردف بصوتٍ هاديء رخيم: يلا عشان نمشي.

رفعت عيناها الحمراوتان له ثم هزت رأسها بالنفي رافضة طلبه: لأ. خليني معاه شوية علشان خاطري.
ردد جُملته مرة أخرى بصرامة لكن أشد: بقولك يلا يا يمنى نمشي من هنا.
نظرت يمنى لقبر يحيى للمرة الأخيرة، وببطئ شديد وقفت من مكانها بعد عدة محاولات للثبات، ثم سارت بجانب قاسم تاركة فؤادها مُتعلق حيثما كانت جالسة، وتحديدًا جوار قبره!

عند مُجتمع الفتيات. جلس الجميع حول حبيبة مُنتظرين ما ستقوله، خاصةً أهلة التي انتبهت لها بكل حواسها، والتي أدرفت بحماس: اخلصي يا حبيبة عملتي إيه بعد كدا؟
أجابتها حبيبة بثقة: قولتله أنت أكيد بتحلم أنا لا يمكن أعمل حاجة زي كدا.

انتظرت حبيبة ردة فعل أهلة عندما تلاشت النظر إلى وجهها حتى تتجنب نوبة غضبها، لكن صمتها قد طال! ولم يمكن صمتها هي فقط؛ بل صمت جميع الفتيات الأخريات، وبتردد واضح حَوَّلت أنظارها إليهم؛ لتجدهم ينظرون إليها بنظرات جامدة وأوجه ساكنة، لتتسائل بتوتر بالغ: م. مالكم! بتبصولي كدا ليه؟

وأول مَن خرجت عن صمتها هي أهلة التي أردفت ببرود أثناء توجيهها لحديثها لجميع الفتيات: إحنا هنقطع علاقتنا بالبت دي، شكلها مش هتنفع معانا.
دعمتها مهرائيل والتي أردفت بتأييد: معاكِ حق، هو إيه اللي كان بيحلم! وبعدين لو أمه اللي بتبوسه مش هتبقى كدا!
ضحكت سهيلة بمليء فاهها أثناء قولها العابث: ما تتهدي يا بت أنتِ وهي وسيبوها تعمل اللي هي عايزاه، وواحدة واحدة تزيد محبة.

تدخلت ملك تدعم قول شقيقتها قائلة بإستنكار: دي فضلت تلف حوالين نفسها علشان باسته من وشه، أنا من رأيي حبيبة مش هتنفع معانا لأ.
كل ذلك الحديث تحت أنظار حبيبة التي امتلأت حدقتاها بالدموع، هُم لا يُريدونها بينهم وهذا أكثر شيء كانت تخاف حدوثه، وهو نبذهم لها، لذلك وعلى بغتة انفجرت في البكاء الشديد!

نظرت الفتيات لبعضهما البعض بجهل، لتتنهد أهلة بيأس قبل أن تقترب من حبيبة لتضع كفها على كتفها وهي تتسائل بحذر: متقوليش إن أنتِ زعلتي من كلامنا!

أخفضت حبيبة أنظارها للأسفل وظلت دموعها تنهمر بصمت، مازالت تؤرقها فكرة ابتعاد الجميع عنها بلا سبب، ولهشاشتها ورقتها ظنت أن حديثهم جاد ليس مزاحًا، سيبتعدون بعد أن وضعت ثقتها العمياء بهم، قد يظهر للبعض بأنه تَصرف مُبالغ به لكن لا يشعر به إلا مَن ذاق طعم الوحدة وقهرتها.

نظر الفتيات لبعضهم بعتاب، فاقتربت أهلة منها أكثر، وبتردد واضح قامت بجذبها لأحضانها والتربيت على ظهرها بحنان، أحاطتها حبيبة هي الأخرى ثم سألتها بصوتٍ باكٍ وشهقات خافتة: انتوا بجد هتبعدوا عني؟

شعرت أهلة في تلك الأثناء أن حبيبة ما هي إلا طفلة تحتاج إلى الحنان والإحتواء، طفلة عانت من أثار الوحدة والبُكاء، لذلك هزت أهلة رأسها بالنفي وهي تُشدد من احتضانتها ثم أجابتها بحنان: لأ يا حبيبتي مش هنبعد عنك إحنا بنهزر بس.
توقفت حبيبة عن البكاء ثم ابتعدت عنها تسألها بحذر: بجد ولا بتضحكي عليا؟

تلك المرة جائتها الإجابة من لوسيندا التي أمسكت بكف حبيبة تُشدد على ضغطها عليه، ثم أجابتها بمزاح: لأ طبعًا بنتكلم بجد، وبعدين جهزي نفسك للخطة اللي جاية.
ابتلعت حبيبة ريقها بتوتر أثناء تجفيفها لوجهها المليء بالدموع، ثم تسائلت بصوتٍ مُتحشرج: لأ. خِطة إيه! أنا مش هعمل حاجة تاني.

تدخلت مهرائيل متحدثة بسوقية: مفيش الكلام دا، الخِطة هتمشي زي ما إحنا عايزين آمين؟ آمين إن شاء الله، فركزي وصحصحي معانا كدا عشان يمين بالله لو جيتي المرة الجاية بنفس حالتك دي علشان بوسة هرزعك علقة تجيب أجلك.
نظرت حبيبة ل أهلة الضاحكة بإستنجاد، فهمست لها بصوتٍ رقيق خافت: خَلي مهرائيل تتكلم بطريقة كويسة علشان أنا بخاف منها.

تشنج وجه مهرائيل بإستنكار لتُقهقه أهلة عاليًا ثم أومأت ل حبيبة التي تُطالع الأخرى ببعضٍ من الخوف قائلة: براحة يا مهرائيل على البسكوتة اللي حيلتنا.
يعني أنتِ مش سامعة كلامها يا ست كُخة!
هتفت بها مهرائيل بحنق، لترد عليها أهلة بضحكات مُتقطعة: معلش عيلة وغلطت خليكِ أنت الكبيرة، مش يمكن يجي يوم من الأيام ونحتاجها!
سخرت مهرائيل بقولها: نحتاجها في إيه إن شاء الله؟ بقولك إيه يا أهلة تعرفي تتوكسي أنتِ كمان!

ولم تكد مهرائيل أن تُكمل حديثها؛ حتى وجدت زجاجة المياه تصطدم في وجهها بعنف، تبعه حديث أهلة المُحذر بصرامة: اتلمي بدل ما أقوملك، أنا مش طيبة ولا غلبانة زي حبيبة هقولك حاضر وأسكت، لأ دا أنا هقوم أجيبك من شعرك ومحدش هيعرف يخلصك مني.
وعقب حديثها؛ توترت معالم وجه مهرائيل التي تشدقت بصوت خافت وابتسامة بلهاء: مالك قفوشة كدا ليه يا أهلة يوه! دا أنا بهزر معاكِ!

طالعتها أهلة بسخرية ثم استدارت ل حبيبة قائلة لها بإبتسامة حنونة: خلاص متزعليش مننا يا بيبو وأديكِ عرفتي إننا كنا بنهزر معاكِ، طول الوقت هتلاقي هزارنا كدا بس حاولي متزعليش مننا، ماشي؟
ألقت إليها حبيبة ابتسامة لطيفة قبل أن تُوميء برأسها قائلة: حاضر.
تحدثت الفتيات قليلًا ما عدا ملك التي كانت تلتزم الصمت بطريقة غريبة على غير عادتها، لذلك سألتها سهيلة بتعجب واضح: مالك يا ملك قاعدة سرحانة النهاردة ليه؟

استفاقت ملك من شرودها ثم أردفت بتنهيدة ثقيلة: خايفة على يمنى أوي، اللي حصل معاها النهاردة قلقني وأول مرة أشوفها بالحالة دي.
قطبت لوسيندا جبينها بتعجب وهي تنظر لشقيقتها المُتعجبة أيضًا: وهو إيه اللي حصل ل يمنى؟
ضربت أهلة على رأسها بتذكر قائلة: ياربي نسينا نقولكم! يمنى تعبت وجالها إنهيار عصبي واتنقلت للمستشفى.

انتفضت جميع الفتيات بخضة من مضجعهم، فسبقتهم سهيلة التي تسائلت بفزع: مستشفى إيه وإنهيار عصبي إيه؟ هي فين يمنى وإزاي انتوا سايبينها كدا؟
ردت عليها ملك بتعب وهي تزفر بضيق: هي دلوقتي بقت كويسة وخرجت من المستشفى بعدها بكام ساعة، بس مش عارفة راحت فين مع قاسم.
استدارت لوسيندا ل أهلة تسألها بشك: أنتِ عارفة جوزك خَد يمنى وراح على فين يا أهلة؟

زفرت أهلة بضيق وحالة من الإختناق تتلبسها كلما تتذكر أمر شقيقتها المُريب، ثم هزت رأسها بالنفي وهي تُجيبها بصدق: لأ والله أبدًا، و قاسم كمان مقليش هما رايحين فين، لما يرجع هبقى أفهم منه.
أومأ لها الفتيات بقلق ثم عادوا لمواضعهم من جديد، لتتسائل حبيبة بحزن مُوجهة حديثها ل أهلة: طيب عايزين نشوفها ونطمن عليها!
أومأت لها أهلة بإبتسامة طفيفة ثم أجابتها بود: هي شوية وهتيجي مع قاسم ونطمن عليها كلنا.

لوت حبيبة شفتيها بحزن ثم هزت رأسها بصمت وهي تِفكر بقلق في حالة صديقتها، فمنذ أن دخلنّ‌َ هؤلاء الفتيات في حياتها التعيسة؛ أصبحوا يُمثلون لها العائلة والأصدقاء والرفاق، وهذا ما كان ينقصها، الشعور بالحب والألفة والإنتماء، وهم لم يتهاونوا ولو دقيقة في حُبهم وتعاطفهم معها، حتى أصبحوا هُم الحياة بأكملها.
مرت الدقائق القليلة حتى تحججت أهلة بتذكر زائف: طيب أنا هطلع أعمل حاجة فوق وهنزلكم تاني.

هز الفتيات رأسهم بالإيجاب، بينما نظرت ملك إلى شقيقتها بشك حاولت أهلة تجاهلة بقدر الإمكان.

أنا المُتألم الصامت، النازف الضاحك، الوحيد الصديق، أنا كل هؤلاء وأُظهِر ما يراه الناس، أُظهِر الضحكات، السعادة، السرور، وأُخفي وجعًا يبكي الصخر من شدته.
كانت يمنى مستندة على زجاج سيارة قاسم شاردة فيما أمامها، لا ترى شيئًا ولا تستمع لأحد، تائهة فقط في ملكوتها الخاص ودموعها تنهمر بصمت متألم، استفاقت على صوت قاسم الذي وقف بسيارته أمام أحد المنازل المجهولة والذي تشدق بهدوء: إنزلي.

مسحت يمنى دموعها ثم نظرت حولها بتعجب متسائلة بصوتٍ مبحوح: إيه المكان دا؟
وللمرة الثانية يُكرر حديثه بجمود قائلًا: قولتلك إنزلي.

خضعت يُمنى لحديثه ثم هبطت من السيارة، وما كادت أن تفتح فاهها للتحدث؛ حتى وجدته يتجه إلى المنزل بخُطى واثقة وهي سارت خلفه بتردد، سارت خلفه بعد أن فتح بابه بهدوء ثم دخلت معه في طُرقة ضيقة لكنها طويلة، وأخيرًا وصلت إلى غُرفة واسعة بها العديد من الأرائك والشباب يجلسون عليها و. و. هو!

الولية المعفنة مفكراني هقرب منها وهي كانت ريحتها جاز أساسًا، إديتها كوباية الماية وحطيت فيها المنوم وبعد كدا هي اتكلت على الله، كان يوم ما يعلم بيه إلا ربنا بسبب أخوك الظالم والمفتري، وأنا كان مالي ومال الهَم دا ياربي! مش كنت اتجوزت البت اللي منها لله وهربت أحسن!

كل ذلك الحديث كان تحت أنظار تلك المُتصنمة، هو يجلس مع الشباب ويتحدث بأريحية شديدة، ليس به جُرحٌ ولا دماء، وإلى تلك النقطة أوصلها عقلها بأنه طيف كسابقه، لكن تلك المرة قررت إغتنام فرصتها والإقتراب منه قبل أن يذهب كالمرة الماضية، وببكاء شديد همست اسمه بإشتياق شديد قائلة: يحيى؟

كان يحيى في تلك الأثناء يتجرع المياه براحة، وعندما استمع إلى صوتها يُناديه توقفت المياه بحلقه وقذفها في وجه فور الذي صاح ساببًا: تبًا لكَ أيها الوغد الحقير.
ننظر يحيى ل يمنى بصدمة، وكذلك نظر لها الشباب بتعجب من تواجدها هُنا، تسائل آلبرت موجهًا حديثه ل قاسم: لِمَ جلبتها؟
أجابه قاسم بهدوء وهو يقترب منهم: هتعرف دلوقتي.

بينما يمنى كانت في عالمها الخاص، تقترب منه ببطئ ولا تدري بأن قلبها من يقودها، وقفت أمامه تُحدج كل إنش بوجهه لتوشمه بفؤادها حتى تُشبعه، تخاف أن تلمسه خوفًا من أن يختفي طيفه، تخاف عليه كجوهرة ثمينة يصعب الحصول عليها، لكن شوقها لم يمنعها من التقدم أكثر، وبصوتٍ مبحوح ودموع كثيفة كررت اسمه ببكاء: يحيى؟

تسائلت ولا تعلم كيف انطلقت إلى أحضانه، ضمته بقوة وكأن العالم سيُزال وينتهي إن ابتعدت عن أحضانه، ظلت تهذي ببعض الكلمات الغير مفهومة وهي تُشدد من عناقه، تُعاتبه وتسبه بذاتِ الوقت، وهو لا يقدر على رفع يده ليضمها، فعلتها كانت كبيرة بالنسبة إليه، غدرها أهلكه حزنًا بعدها، وتألمها الآن يكويه وجعًا، بإختصار هي مصدر عذابه الجميل.

دفنت رأسها بصدره وهي تُعاتبه بصوت منهك: ليه يا يحيى ليه؟ أنا. أنا عملتلك إيه علشان تعمل فيا كدا؟ أنا بحبك وبكره نفسي عشان حبيتك، أنا. أنا مش عارفة أنساك. أنا أسفة. متبعدش عني أنا مش قصدي أقتلك والله العظيم.
وفي تلك اللحظة علم الجميع بأنها ليست في وعيها، رفع يحيى أنظاره ل قاسم مُنتظرًا تفسيرًا لحالتها، ليتشدق قاسم بشفقة واضحة: كانت في المستشفى وحصلها إنهيار عصبي حاد.

أغمض يحيى عيناه بتألم، وبدون تردد رفع ذراعيه ليحيط بخصرها ووجهه يدفنه في خصلاتها، ظلوا على تلك الحال ربع ساعة تقريبًا، هي تهذي وتتأسف عما فعلته وهو يُربت على ظهرها يُهدهدها كالأطفال، وأخيرًا قرر التحدث والنطق بإسمها، قائلًا بهمس مُتألم: يمنى!

زاد بكاء يمنى وانهيارها داخل أحضانه وهي تهز رأسها بالنفي، يبدو أن ما حد يُعاد داخل ذاكرتها مُجددًا، وقد أيقن من ذلك عندما ظلت تُردد بصوتٍ متألم: أنا أسفة. مش قصدي والله. أنا بحبك مش قصدي.
ابتلع ريقه بألم ثم تحدث وهو يُربت على خصلاتها بعشق: يمنى أنا يحيى، أنا عايش مش ميت.

شهقات حادة كانت تخرج من فاهها كانت بمثابة سكين تالم يُغرز في فؤاده دون شفقة، لعن تلك المؤامرة وعائلة الأرماني وخطتهم المُبتذلة بسبب ما سببوه لها، هي الأهم لديه ولا يعلم كيف يُهديء من روعها، وبيأسٍ شديد شمّر عن ساعديها ثم ثبتهما لتسنح الفرصة ل قاسم بإدخال تلك الإبرة إلى ذراعها ويحقنها بمُهديء قوي المفعول عندما ازداد انهيارها.

سقطت يمنى بين ذراعيّ يحيى فاقدة للوعي تمامًا، لكنها مازالت تُمسك في ملابسه بقوة وكأنها تمنعه من الذهاب، حملها يحيى مُتجهًا بها نحو الأريكة ليضعها عليها، ثم انحنى عليها جبينها يُقبله بعشقٍ مُنهك هامسًا بوعيد: كل حاجة قربت تخلص وحقك هيرجع يا عيوني، حقك عليا أنا.

صعدت أهلة للأعلى مُسرعة ودخلت إلى شقتها، وتلقائيًا اتجهت إلى المرحاض لتُفرغ ما في جوفها!
استندت على الحوض الُرخامي العريض، ثم تقيأت بعنف دون إرادة منها، لقد تلامست مع قاسم في السيارة واقترب هو منها عن الحد المطلوب، ثم جاءت لهُنا واحتضنت حبيبة في موجة حُزنها وتحاملت على ذاتها بقدر الإمكان، لكن تحملها لم يزيد وشعرت بأنها على وشك التقيؤ أمام الجميع عِند شعورها بالإشمئزاز.

ظل صدرها يعلو ويهبط بنهيج عقب انتقاؤها، وبأيدي مُرتعشة استندت على الحوض وبوادر الدوار قد بدأت تظهر على وجهها بوضوح، فتحت الصنبور ببطئٍ شديد ثم غسلت يديها بقوة وكذلك وجهها، لكن ولسوء حظها قامت أظافرها بجرح باطن يدها من حدة احتكاكها بها، لم تُعير لجرحها الضئيل أي إهتمام، بل أمسكت بمنشفتها وجففت يداها ووجها بحذر شديد، وحين انتهائها خرجت من المرحاض تُحاول جعل ذاتها ثابتة بقدر الإمكان.

اتجهت نحو باب الشقة مُقررة الهبوط للأسفل مجددًا، لكنها توقفت عندما استمعت إلى همهمات خافتة للغاية تكاد لا تُسمع، لكن سكون المنزل وصمته جعلها تسمعها، استدارت بتعجب عندما أيقنت بأن الصوت قادم من ناحية والدة قاسم، وبحذر شديد اتجهت نحو باب غرفتها المفتوح بضئالة.

نظرت من تلك الفَتحة الصغيرة؛ فوجدت حياة تُنادي بصوتٍ خافت على قاسم، لكنها صمتت عندما علمت بأنه غير موجود في ذلك الوقت، ابتلعت أهلة ريقها وبتردد واضح قامت بفتح باب الغرفة لتراها الأخرى، وعندما أبصرتها حياة ابتسمت بخفة ثم تشدقت بصوتٍ واهن: تعالي يا أهلة واقفة عندك ليه؟
رسمت أهلة ابتسامة صغيرة على ثُغرها ثم تقدمت منها بهدوء قائلة بعد أن وصلت لفراشها: أخبارك إيه يا طنط؟

هزت حياة رأسها بإبتسامة طفيفة ثم أجابتها قائلة: الحمد لله يا حبيبتي بخير، أنتِ عاملة إيه و قاسم عامل معاكِ إيه؟
جلست أهلة أمامها على الفراش ثم أجابتها مُبتسمة: الحمد لله شغال.
ضحكت حياة ضحكة مُرتفعة بعد الشيء، لينتج عن ذلك آلام جانبها بوخزة شديدة نسبيًا، وضعت يدها على جانبها ثم أردفت بضحك: الله يسامحك يا أهلة، هو إيه اللي شغال! أنا بسألك على عربية؟

قهقهت أهلة عاليًا ثم أجابتها ضاحكة: لأ مش قصدي كدا، بس هو تمام معايا يعني، بيستغبى ساعات بس كله تحت السيطرة.
ابتسمت حياة بحنين أثناء قولها المُشتاق: قاسم دا مفيش أطيب ولا أحن منه، ومش بقول كدا علشان هو ابني لأ، بس والله قاسم ابني لسه جواه روح عيل صغير اتحبست من صُغره.

التمعت عينيّ أهلة بشغف وهي تستمع إلى حديثها، عضت على شفتيها ثم تسائلت بصوتٍ مُطالب بخجل: لو مفيهاش إحراج يعني ممكن تحكيلي عن طفولته وهو صغير.
أومأت لها حياة ضاحكة، فمدت كفها له تطلب منها: دا أنا هحكيلك لحد ما تزهقي، بس ساعديني براحة أسند ضهري على السرير.

هبت من مضجعها ثم اتجهت إليها تُمسِك بيدها حتى تُساعدها في النهوض ببطئ شديد كي لا يتم أذيتها، وبعد عدة محاولات صعبة نجحت أخيرًا في إجلاسها ووضع وسادة من القطن الناعم خلف ظهرها حتى تجلس براحة دون الشعور بالألم، وبحماسة شديدة تربعت أهلة على الفراش أمامها ثم تشدقت بفضول: يلا بقى احكيلي.
ارتسمت ابتسامة واسعة على ثُغر حياة ثم أجابتها بشرود وحنين للماضي:.

قاسم كان طفل بريء جدًا وبيحبنا جدًا جدًا، لدرجة إنه كان بيسيبنا وبيروح يقعد مع الفراخ بتاعتنا وياكل معاهم لما يبقى غضبان أو زعلان من حاجة.
طالعتها أهلة بعدم تصديق وهي تفتح فاهها بدهشة من حديثها، لتتسائل بصدمة: بياكل مع الفراخ؟

أومأت لها حياة ضاحكة ثم أكدت حديثها بقولها: آه والله زي ما بقولك كدا، وكمان كان بيروح للكلب الموجود في الشارع بتاعنا ويركب عليه على أساس إنه حمار، لحد ما الكلب زهق منه وطِفش من الشارع كله بسببه.
تعالت ضحكات أهلة بقوة عقب الإنتهاء من حديث الأخرى، وكذلك شاركتها حياة في الضحك لكن بخفة شديدة حِفاظًا على صحتها، وفي تلك الأثناء أتى قاسم بعد أن أتى واستمع لصوت ضحكاتهم الواضح يصل له في الخارج.

دخل قاسم مُقطب الجبين بتعجب، ثواني ما انفكت عقدته عندما رأى والدته تجلس أمامه بكامل صحتها وأمامها أهلة كذلك، ارتسمت ابتسامة واسعة على ثغره ثم اتجه إليها بشوقٍ مُهلك ليحتضنها بحنان شديد وشغف أشد، أحاطت حياة بظهره تضمه لصدرها بقدر الإمكان لتتشبع من وجوده، قبَّل قاسم جبينها وكذلك وجهها وهو يتسائل بسعادة: عاملة إيه يا ماما وحشتيني أوي؟

قبّلته حياة هي الأخرى مُجيبة إياه بصوتٍ مُتحشرج مُشتاق: وأنت كمان وحشتني يا نور عيني.
ابتعد عنها قاسم قليلًا ثم أمسك بكفها مُقبلًا إياه قبل أن يتسائل بفرحة عارمة: صحيتي إمتى؟
أجابته حياة براحة وهي تنظر ل أهلة المُبتسمة: صحيت من شوية و أهلة جَت وقعدت معايا شوية.

استدار لها قاسم يُطالعها بنظرات مُمتنة قابلتها هي بصدرٍ رحب، لكن سعادته لم تدوم عندما استمع لصوت أهلة تُجيبه بنبرة حماسية: كانت بتحكيلي عن طفولتك.
ضرب قاسم على صدره وهو يشهق بعنف مصدومًا: يا مصيبتي!
ابتسمت أهلة ببلاهة ثم دفعته جانبًا مُولية إهتمامها الكامل ل حياة التي تضحك بخفة، ثم أردفت قائلة: كملي يا طنط وسيبك منه أنا سمعاكِ.

تشنج وجه قاسم بإستنكار ثم دفعها للخلف من وجهها مما أدى إلى سقوطها على ظهرها، ثم استدار لوالدته مُتشدقًا بسخط: بتسيحيلي يامَّا؟
اعتدلت أهلة في جلستها ثم تحدثت ساخطة: أنت مالك وبعدين إيه اللي جابك دلوقتي؟ جاي تقرفنا ليه يا جدع أنت!

جعد قاسم أنفه بقرف، ثم أشاح بوجهه بعيدًا وهو يُجيبها: روحي إلعبي بعيد يا بت أنتِ وابعدي عن أمي، وأنتِ يا ماما استهدي بالله كدا وبلاش فضايح، دي صحفية وممكن تلاقي صورة ابنك وطفولته العرة متشردين في الجرايد.
التمعت عيني أهلة بالخبث قبل أن تتشدق هامسة: تصدق فكرة!
أبعدت حياة ابنها المتذمر عنها، ثم قالت بصوتٍ صارم مصطنع: ابعد يا ولد عني ومتدخلش في كلامنا، وياريت يعني تسيبنا لوحدنا.

هز قاسم رأسه بالنفي الشديد مُعترضًا: يمين بالله ما يحصل، أنتِ عايزة تفضحيني!
سددت له حياة نظرة نارية تُشبهه تمامًا، فابتعد عنها ليجلس جانبًا بعد أن أدرك أن فضيحته آتية لا محالة، لذلك عاد قليلًا إلى الخلف ليجلس بجانب أهلة بعد أن دفعها بضجر: ابعدي شوية يا وش الفضايح أنتِ.

ابتعدت أهلة قليلًا عنه وهي تكتم ضحكاتها التي كادت أن تصعد بصعوبة بالغة، ليُطالعها هو بنارية ثم إلتفت بوجهه بعيدًا عنها ساخطًا على هذا الوضع الذي وُضِعَ به بسبب والدته.
بدأت حياة بقص طفولة قاسم، أو بمعنى أصح قامت بفضحه، لتبدأ حديثها بقولها الضاحك:
زي ما قولتلك قاسم ابني دا كان بريء في طفولته، والكل يشهد بكدا.
قالتها، ليجز قاسم على أسنانه بغيظ عند علمه بسخريتها منه، فأكملت والدته حديثها قائلة:.

هادي الله يرحمه كان لسه مستلم شغل جديد في مزرعة قريبة من بيتنا، كُنا وقتها عايشين في بيت من طين بس كنا مرتاحين نفسيًا، المهم إنه في يوم من الأيام والده خَده معاه المزرعة لأني كنت تعبانة شوية، راح يشوف صاحب الشغل علشان يمضي لحضوره وساب قاسم واقف قدام باب الخيول بيتفرج عليهم، يسكت هو! لأ طبعًا. قام فاتح باب الخيول وخلاهم يجروا من مكانهم، لأ وكمان من خوفه فَك حبل الكلب علشان يجري ورا الخيول ويدخلهم جوا زي ما كان مفكر، والكلب طبعًا زوَّد من خوف الخيول وخلاهم يجروا بعيد، والحمد لله اليوم دا هادي اترفد من الشغل بسبب ابنه النبيه الذكي ما شاء الله عليه.

وعقب انتهاء حياة من قَص جزء من طفولة قاسم ؛ انفجرت أهلة ضاحكة على ما عايشه من طفولة بريئة! لم يمنع قاسم ذاته من الضحك هو الآخر بل شاركها الضحك وكذلك معه والدته، مالت أهلة للأمام تضحك عاليًا بينما الآخر طالعها بضجر بعد أن استمرت وصلة ضحكاتها لخمس دقائق تقريبًا!
هز قاسم رأسه بيأس ثم تمتم متحسرًا: ربنا يسامحك يا ماما.

انقضى المزيد من الوقت يتحدثون حول مواضيع مختلفة، وكما يحدث عادةً؛ ذهبت حياة في سبات عميق أثناء مكوثها معهم، ليُطالعها قاسم بحنان قبل أن يقف من مجلسه ويذهب تجاهها حتى يقوم بإعدال نومتها، طالعت أهلة تلك المرأة بحزن شديد ثم رفعت أنظارها تجاه قاسم لتسأله: هي كويسة صح؟

أومأ لها قاسم قبل أن يهبط على جبين والدته النائمة يُقبله بحنان، وبعدها اتجه مع أهلة نحو الخارج، أغلق باب الغرفة جيدًا ثم استدار للأخرى قائلًا بإبتسامة هادئة: استعدي عشان هنسافر بكرة.
لم يستوعب عقل أهلة ما قاله رغم أنها كانت تعلم من قبل، وببلاهة شديدة تسائلت: هنسافر فين مش فاهمة.
اقترب منها حتى بات على مسافة قريبة منها، ثم أردف بلكنة روسية مُتقنة: سنُسافر إلى روسيا سينيوريتا أهلة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة