رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني والثلاثون
تسللتِ بدلالٍ لتتربعي داخل قلبي، كان هجومك مُفاجئًا على فؤادٍ بنى حصونه من أصفادٍ حديدية يصعُب اختراقها، لكنكِ جئتي وعلى عكس الجميع واخترقتي جميع تلك الحصون بعينيكِ الخادعة، وآه من عيناكِ! تلك التي تُشبه عيون المها في لمعتها، أهدابكِ الطويلة تُشبه الحائل الزُجاجي يُحيط بها لتمنع من خدشها، وأنا المجني عليه الذي وقع بهما.
كانت تلك بضعة كلمات دَوَّنها قاسم في دفتره الخاص به، وبابتسامة طفيفة دَوَّن آخر كلماته حاكيًا:
لذلك أقول وبكلِ الحبِ: عيناكِ آيتان وأنا بهما مُتيمُ! .
أنهى قاسم كلماته ثم أغلق دفتره، وبابتسامة هادئة أمسك بمصحفه واضعًا إياه على مكتبه مُجددًا بعد أن أنهى قراءة ورده اليومي، وبعدها وقف من مجلسه ثم أمسك بسجادة الصلاة ووضعها في موضعها الأصلي واتجه للخارج.
خرج من الغرفة فلم يجد أثرًا ل أهلة في المكان، فعلم بأنها لربما هبطت إلى الأسفل لتجلس مع الفتيات، لذلك عدَّل من ثيابه ثم اتجه نحو الأسفل بعد أن أغلق جميع أبواب المنزل واطمئن على والدته الحبيبة.
بالأسفل؛ كانت الفتيات يتجمعن على أريكتين والشباب يجلسون على المقاعد الأخرى، تأففت مهرائيل وهي تدفع سهيلة المُلتصقة بها قائلة بضجر: يا ستي ابعدي عني بقى مبحبش حد يلزق فيا كدا!
طالعتها سهيلة بسخط ثم دفعتها تزامنًا مع قولها الحانق: وأنا هلزق فيكِ بتاع إيه يا حبيبتي! اتنيلي واسكتي يا بت أنتِ.
نفخت لوسيندا التي كانت تُجاورهم بنفاذ صبر، لذلك صرخت بغضب: والله لو ما اتهديتوا لهقوم أجيبك من شعرك أنتِ وهي.
بينما ملك التي كانت تجلس على طرف الأريكة طالعتهم بتأفف لكنها لم تُشارك في الحديث، بل ظلت مكانها شاردة بملامح قَلقة على شقيقتها التي لم تأتي حتى الآن.
وعلى الأريكة الأخرى، كان يجلس كُلًا من أهلة وحبيبة فقط! واحترمت الفتيات مرض أهلة واشمئزازها ولم يُضايقونها بإلتصاقهن بها، بل اكتفت حبيبة بالجلوس على بُعدٍ مُناسب منها في نفس الوقت الذي كانت تنتظر به صهيب الذي لم يأتي مع الشباب حتى الآن!
لاحظ رائد شرود ملك وحُزنها، وقُرب مقعده منها جعله يضع يده على خصلاتها القصيرة وهو يسألها بحنان: مالِك يا ملك زعلانة ليه؟
نظرت إليه ملك بتيهة وفكرت في سؤاله على شقيقتها، وما كادت أن تفتح فاهها للحديث؛ حتى استمعت إلى تأوه رائد العنيف الذي صاح بتألم عندما احتضنت الزجاجة البلاستيكية المملوءة بالمياه وجهه، تبعه صوت أهلة الغاضب قائلة: شيل إيدك من على أختي يا نحنوح، ولو لقيتك حاطط إيدك عليها تاني هقطعهالك.
طالعها رائد بغيظ ثم صاح بها بحدة: أنتِ اتجننتي يا بت أنتِ ولا تعبانة في دماغك؟
احتدت عينيّ أهلة بغضب، فهبَّت من مضجعها ثم ذهبت إليه بخطوات سريعة حتى وقفت أمامه مُباشرةً بأعيُن يلتمع بها التحدي، ثم رفعت سبابتها أمام وجهه تُحذره بشر: لو شوفتك قريب منها تاني ردة فعلي مش هتعجبك صدقني، اللهم بلغت.
حدجها رائد بنظراتٍ حاقدة، ثم أردف بنبرة مُثيرة للإستفزاز: لعلمك بقى أختك اللي أنتِ فرحانة بيها دي هتبقى مراتي.
تحدثت أهلة بصدمة: إيه؟
ورددتها سهيلة خلفها: إيه؟
كذلك أردفت مهرائيل بدهشة: إيه؟
تبعها قول شقيقتها لوسيندا: إيه؟
حتى جاء دور ملك التي شهقت بعدم تصديق: إيه؟
دخل في تلك الأثناء قاسم الذي استمع لحديثهم الأخير فتسائل مُتعجبًا: إيه؟
رمش الجميع ببلاهة مما استمعوا إليه للتو، بينما تعجب قاسم من حالتهم ولا يعلم ما الذي حَلَّ بهم، حتى تبرع آلبرت بشرح ما يحدث ببرود والذي يجلس على المقعد غير مُباليًا بالجميع: قال رائد بأن تلك البلهاء ملك ستكون زوجته مُستقبلًا.
حوَّلت ملك أنظارها له، والآن علمت بأنها استمعت بشكل صحيح إلى ما تفوه به رائد وليس مُجرد تخيلات! عادت بأنظارها له ثم تسائلت بعدم تصديق: أنت. أنت قولت إيه؟
تجاهل رائد نظرات الجميع ثم انتبه لها بكامل حواسه، ارتسمت ابتسامة واسعة تلقائية على ثغره ثم تشدق بحماس: قُولت إني هعطف عليكِ وهتجوزك يا معنسة.
تشنج وجه ملك بإستنكار من وقاحته، لذلك فتحت فاهها ثم أجابته برفضٍ حانق: طب إيه رأيك بقى إن أنا مش موافقة؟ وكمان أنت إنسان وقح ودي مش طريقة تتكلم بيها مع كائن لطيف زيي يا عديم المشاعر والأحاسيس.
بتحبي الجاتوه بالكريمة ولا بالشيكولاتة.
سألها غير مُباليًا بغضبها، فأجابته هي بتلقائية شديدة: بالشيكولاتة طبعًا، واللي بيكون عليها كيوي من فوق كدا بتبقى خطيرة.
اتسعت ابتسامة رائد ثم غمزها بعبث: أنت تؤمر يا قمر أنت يا جميل.
إيه الهبل دا؟ أنا أختي مستحيل تتجوز كائن زي دا، أنت اتهبلتي يا ملك ولا إيه؟
أردفت أهلة بتلك الكلمات، لتؤكد مهرائيل على حديثها بقولها: آه أنتِ اتجننتي يا ملك ولا إيه؟
تشنج وجه رائد من كلتيهما، فصاح بهم مُستنكرًا: اطلعي من دماغي يا بت أنتِ وهي أنا مش ناقصكم، وبالعند فيكم هتجوزها يعني هتجوزها.
اعترضت ملك قائلة: إيه دا لأ طبعًا أنا مش موافقة، أنا لا يمكن أتجوز لواحد كان بيكلم بنات قبلي.
وعِند تلك اللحظة لم تتحدث أهلة ولو بكلمة واحدة، بل حاولت جاهدة أن تُظهِر الثبات وكتم ضحكاتها بقدر الإمكان، تلك المُتبجحة الصغيرة ترفضه لأجل هذا فقط؟ أهي الشريفة التي لم تُحادث المئات من الرجال من قبل؟ لذلك وبكل هدوء التزمت الصمت وفضَّلت المُراقبة بصمت حتى ترى أين سيقف النقاش وما نتيجته.
بينما تخصر رائد محله عقب قولها، ثم أردف بطريقة سوقية: لأ حوشي يا بت الاحترام اللي بيقع منك، لأ والنبي حاسبي أصلي هتزحلق من احترامك اللي مالي الأرض! إيش حال ما كنتِ مفكرة نفسك قاعدة في الشئون الإجتماعية وفتحاها جمعية!
تربعت ملك وهي ترمي له نظرات نارية، ثم أردفت بوقاحة صدمته: روح شوف سِتك؟
نهرها رائد صارخًا: إخرسي! ستي دي أشرف من الشرف.
وضعت سهيلة يدها على شفتيها لتكتم ابتسامتها التي كادت أن تظهر، أخاها يُدافع عن جدتها الشريفة الراقصة بكل عنفوان، وأمامه ملك تُطالعه بغضب وبعدها تحدثت بحدة:
بلاها سِتك خالص، أنت ذات نفسك قليل الأدب.
قطب رائد جبينه بتعجب ثم سألها بإستغراب: وأنتِ عرفتي إزاي إني قليل الأدب، لو على البنات فأنا الحمد لله توبت إلى الله ومبقتش أكلمهم، وكمان بقيت بصلي، فعايزة إيه تاني بقى؟
توقفت ملك عن التحدث بعصبية، ثم سألته بحذر: بجد مبقتش تكلم بنات؟
أومأ لها مُجيبًا إياها بصدقٍ ونظراتٍ مُلتمعة: والله قطعت علاقتي بكل البنات ومبقتش أطيقهم خالص.
ردت عليه ملك بريبة: طب إحلف كدا!
ابتسم قائلًا بصدق: والله العظيم قطعت علاقتي بكل البنات اللي كنت أعرفهم قبل كدا.
اعتدلت ملك في مكانها ثم أجابته بصرامة ووجهٍ مرفوع بترفع: لأ مش مصدقاك.
نفذ صبر رائد فأجابها بعصبية وهو يُشيح بيده أمام وجهها: إن شاء الله عنك ما صدقتيني دا أنتِ عيلة باردة، بقولك إيه أنا هروح أطلبك من أمك وهجيب علبة الجاتوه وستي وأبويا وأمي معايا.
تسائلت سهيلة بتعجب: طب وأنا؟
رد عليها رائد حانقًا: اسكتي يا بت، أنتِ لا أختي ولا اعرفك أساسًا.
دخل عليهم في تلك الأثناء صهيب الذي طالعهم بتعجب لتجمعهم ووقوفهم بتلك الطريقة المُحتشدة، رأته حبيبة فتحركت من مكانها تلقائيًا وذهبت إليه بابتسامة مُتسعة، وكأنها طفلة جذبها طيف أبيها لتهرول خلفه مُباشرةً، بادلها صهيب الإبتسامة ثم أحاط بكتفها عند وصلها إليه، ليميل قليلًا مُقبلًا إياها على وجنتها بخفة، وأعقب فعلته بقوله الحنون: وحشتيني.
زين ثُغرها ابتسامة خجولة وهي تُجيبه برقة: شكرًا.
ضحك بخفة على جوابها، وبعدها أخذها ثم وقف بجانب قاسم قائلًا بمزاح: واحشني يا عسل.
استدار له قاسم برأسه قائلًا بجدية مُزيفة: والله وحشتك؟ ما أنت مراتك نستك أخوك ومبقتش تسأل عليا.
ضيَّق صهيب عينيه بشك، ليميل على أُذن حبيبة التي كانت تُتابع صراع الفتيات مع رائد، ثم اردف بهدوء: روحي اقعدي أنتِ هناك يا بيبة على ما أتكلم مع قاسم شوية.
أومأت له حبيبة بابتسامة هادئة ثم اتجهت نحو الأريكة لتجلس عليها، بينما استدار صهيب إلى شقيقه مُتسائلًا بجدية: مالك بقى في إيه؟
تقدم منهم آلبرت في تلك اللحظة مُتحدثًا بضجر: هؤلاء الفتيات يُثيرون حنقي حقًا.
أوقفه صهيب عن الحديث بقوله: استنى بس يا آلبرت نشوف الأستاذ زعلان ليه وبعد كدا نشوف حنقك.
قطب آلبرت جبينه بتعجب وهو يُحوِّل أنظاره نحو قاسم الهاديء: لِمَ أنت حزين قاسم؟
رد عليه قاسم مُربعًا عن ساعديه وهو يُشير لشقيقه: البيه من ساعة ما اتجوز ومراته واخدة كل وقته، مبقاش يسأل فيا ولا حتى يعبرني، الله يرحم أيام ما كان بيتسحب زي الحرامية علشان يجي يشوفني، بس نقول إيه بقى! مَن لقى احبابه نسي صحابه.
فرغ صهيب فاهه من حديث أخيه، ثم تسأل مُنصدمًا: أنا مبقتش أعبرك؟ أنت بتغير من حبيبة يا قاسم؟
التفت إليه قاسم برأسه قائلًا بسخط: والله؟ وأنا هغير من مراتك ليه يعني إن شاء الله؟
مط آلبرت شفتيه بتفكير وهو يُطالع كليهما، ثم نظر ل صهيب قائلًا: أخاك يغار يا صاح، من الواضح بأنه يُحبك للغاية.
وعقب حديثه شعر آلبرت بضربة قوية على صدره من قاسم تبعه قوله الغاضب: اصمت أيها المُغفل أنا لا أغار على أحد.
كاد آلبرت أن يرد له الضربة مُغتاظًا منه، لكن منعه احتضان جسد صهيب لجسد أخيه بقوة، وبعدها تحدث له قائلًا بحب: والله يا قاسم ويشهد ربنا على اللي بقوله إن حياتي من غيرك ملهاش طعم ولا قيمة، أنت مش مجرد أخويا؛ أنت نصي التاني وضهري اللي بتسند عليه وقت ضعفي.
تيبس جسد قاسم عقب حديثه المُهديء لأعصابه، لذلك وبدون تردد قام بمبادلته العناق بقوة أشد، ثم خرج صوته داعمًا ومُشجعًا لحديثه: ربنا يخليك ليا يا صهيب، هفضل في ضهرك دايمًا حتى لو الدنيا كلها وقفت ضدك، اتأكد إن أنت أغلى حاجة عند أخوك وأخوك من غيرك ميسواش.
ضرب صهيب على ظهره بربتات خفيفة داعمة، وكأنه يُخبره بأن مكانه لا يتجرأ أحد على أخذه، فأخيه فوق الجميع وفوق العالم بأكمله، لكن حديث قاسم الذي تفوه به بعد ذلك جعل ضحكاته تتعالى دون إرادةً منه، عندما تحدث قاسم بحنق:
بس برضه مراتك شاغلة كل وقتك ومبقتش تعبرني زي الأول، عايزني أنحرف؟
خرج صهيب من أحضانه ثم قرصه من وجنته كطفلٍ صغير: ياختي بطة بتغيري؟ وعلى العموم يا سيدي احنا مسافرين بكرة وهنبقى مع بعض في نفس الفندق.
أومأ له قاسم بضحك وما كاد أن يتحدث ويُشاركه؛ حتى وجد مهرائيل تركض نحوهم وهي تستنجد به: إلحق يا قاسم. رائد وملك بيتخانقوا وماسكين في شعور بعض.
وعقب انتهائها من الحديث؛ ركض قاسم وصهيب ليروا هذا العِراك الأسطوري، بينما تبعهم آلبرت الذي رمى نظرة عابرة نحو مهرائيل المُتعجبة من بروده، وأنهى أفعاله بقوله اللامبالي: جروٌ جالب للمصائب دائمًا.
طالعت مهرائيل أثره ببلاهة، ثم جزت على أسنانها بغيظ وهي تهمس غاضبة: والله ما فيه جرو غيرك، بني آدم قليل الذوق.
أنهت سبها ثم دلفت خلفهم، لتجد قاسم يُحاول فك خصلات رائد من بين يديّ ملك التي تصرخ بألم بسبب إمساك رائد لأصابعها ولويها للجهة المُعاكسة، حتى شعرت بأناملها كادت أن تتكسر، نفخ قاسم بغيظ من مشاغبتهم المُستمرة وعند استمرارهم بالعِراك؛ ابتعد عنهم صارخًا بصوتٍ عالٍ صنَّم الجميع في مكانه:
لو مسيبتهاش يا رائد دلوقتي مش هتتجوزها.
وعقب إنهاء كلماته مُباشرةً؛ وجد رائد قد ابتعد عن ملك كُليًا، كذلك ملك دفعته بعيدًا ثم دلكت أصابعها بألم وهي ترميه بنظراتٍ حارقة غضبًا منه، بينما رائد لم يهتم بكل هذا، بل تحدث بابتسامة واسعة أثناء ترتيبه لخصلاته المُشعسة: سيبتها أهو. هتجوزها إمتى بقى؟
صرخت أهلة به بعدم تصديق: أنت يابني فيه حاجة في دماغك؟ بعد دا كله وعايز تتجوزها برضه؟ دا انتوا كان ناقص تضربوا بعض بالشباشب.
طالعها رائد بطرف عينه ثم أجابها ببرود: اسكتي أنتِ عشان طلعتي خبيثة وعكس ما كنت متوقع، صدق اللي قال ياما تحت السواهي دواهي.
شعر رائد بعدها بيد قاسم تستقر على كتفه، وبعدها صعد صوته مُتحدثًا بتحذير: لسانك بدل ما أسيّب ملك عليك تاني.
تشنج وجه ملك والتي أردفت بإستنكار: إيه أسيَّب عليك ملك دي؟ شايفني كلب!
نفخ قاسم بغيظ، فدفع رائد ليسقط على الأريكة، كذلك دفع ملك هي الأخرى لتسقط بجانبه، ثم أتبعهم الفتيات وجلسوا على الأرائك وحلَّ الصمت بينهم، وهُنا صعد صوت فور من أحد الأركان والذي كان يتحدث أثناء تناوله لقطعة من الشطيرة:
حقًا؟ وماذا حدث بعد ذلك؟
تناولت منه سهيلة نصف الشطيرة التي قرر أن يُعطيها لها، ثم قضمت منها قطعة صغير حتى تسنح لها الفرصة للحديث:.
وبعد كدا أنا مسكتش طبعًا، جيبتها من شعرها وقولتلها لأ فوقي يا حبيبتي دا أنا سهيلة الجعان، يعني تقفي عِوج وتتكلمي عِدل، طبعًا البت مسكتتش فنزلت فوقيها ضرب علشان تتربى.
فتح فور عيناه بإنبهار أثناء قوله المُشجع: أوه يا فتاة أنت شجاعة حقًا، أنا فخورٌ بكِ للغاية.
اتسعت ابتسامتها وهي تُجيبه بسعادة: بجد؟
أومأ لها مؤكدًا بابتسامة واسعة، فنظر ليدها فوجدها قد أنهت شطيرتها، لذلك سألها بترقب: أمازِلتِ جائعة؟
هزت سهيلة رأسها بالإيجاب ثم أجابته بحرج: بصراحة آه، بس مش مشكلة ماما عاملة أكل ولما أروح ه.
قاطع حديثها المُتواصل بقوله الساخط وهو يمد يده لها بشطيرة أخرى: اصمتي يا فتاة ما الذي تقولينه، خُذي هذا أنا معي الكثير من الشطائر.
اتسعت ابتسامتها ثم مدت يدها لتلقط منه الشطيرة وبدأت في تناولها، وبعدها عقبت قائلة بحنو: أنت طيب أوي.
رد عليها فور بخجل: أنتِ الوحيدة التي أسمح لها بتناول الطعام معي.
احتل الفضول معالمها، لذلك سألته بإهتمام: ليه؟
لم يعلم فور بما يُجيبها، هي مُسثناه عن الجميع لذلك يتقاسم معها طعامه العزيز، وبعد ثواني من الصمت أجابها بخفوت: لأن مثابتكِ بمثابة الطعام لدي.
كل ذلك كان تحت أنظار الجميع الذين يُطالعونهم بتعجب، وازداد استغرابهم أكثر عند تفوه فور بتلك الكلمات التي أثارت تحفظهم، خاصةً أخواته!
انتفض الجميع بفزع عندما استمعوا إلى صوت رائد المُستنكر: مثابتها بمثابة الطعام؟ ليه شايف أختي فرخة يلا؟
قال كلماته بغضب ثم ذهب إليهم وانتشل شقيقته من على المقعد المجاور لمقعد فور، وبعصبية شديدة أردف قائلًا: على البيت.
توترت سهيلة من عصبية أخيها التي تظهر نادرًا، فتحت فاهها للتحدث لكنه صرخ بها مُجددًا بغضبٍ أشد وأعيُن حادة: بقولك على البيت ومتجيش هنا تاني من غير إذني.
أدمعت عينيّ سهيلة بقوة من إحراجه لها بتلك الطريقة المُهينة أمام الجميع، لذلك أمسكت بحقيبتها ثم خرجت من المنزل مُهرولة، وهُنا أطلقت لشهقاتها ودموعها بالهطول، مما أدى إلى انزعاج فور لأجله، لذلك استدار ل رائد وكاد أن يفتح فاهه للتحدث؛ فوجد لكمة قوية من رائد استقرت على وجهه جعلته يقع على المقعد، تبعه قوله الصارخ بعنف: لو شوفتك قُريب من أختي تاني يا فور هنسى إن إحنا كنا صحاب في يوم من الأيام.
هبَّ أخوات فور من مضجعهم بأعيُن حادة غاضبة، وأولهم كان آلبرت الذي سدد نظرة نارية له وذهب تجاه رائد في نية لتلقينه درسًا لن ينساه لضربه لشقيقه، لكن قاسم هو مَن أوقفه مُمسكًا إياه من ذراعه قائلًا بخفوت: سيبه يا آلبرت هو معاه حق.
استدار له آلبرت بعنف ثم أردف بصوتٍ حادٍ غاضب: هذا الحقير ضرب أخي وأنا لن أصمت عن حقه.
نظر قاسم ل رائد وغضبه، ثم ذهب بنظراته ل فور الذي يُطالعه بنظرات باردة تُزيد من إشعال غضب الآخر، وبعدها عاد إلى آلبرت الذي كاد أن يحرق الجميع من أجل أخيه، وأخواته ينتظرون إشارة شقيقهم الأكبر لتلقين رائد درسًا لن ينساه هم أيضًا!
مال قاسم قليلًا على أُذن آلبرت ثم همس له: ثقافتنا مُختلفة عن ثقافتكم يا صديقي، ما فعله فور خطأ وهو يعلم عواقب ذلك جيدًا، ورغم ذلك أقدم على فعله، وبالنهاية هو رجل، الخوف كله على تلك المسكينة التي ستُواجه غضب أخيها إن لم يهدأ رائد قبل ذهابه من هُنا.
نفخ آلبرت بغضب، فغمزه قاسم بمشاكسة ثم أردف قبل ذهابه جهة رائد وفور: اهدأ عزيزي وانظر كيف تتعامل بحيادية في تلك المواقف.
تشكلت ابتسامة جانبية على ثغر آلبرت والذي راقبه بالفعل ليرى ما سيفعل، بينما قاسم اقترب من رائد ثم أمسك به من ذراعه ليجذبه بعيدًا عن الآخر الذي يُطالعه بثبات، أجلس قاسم صديقه على المقعد قائلًا: خلاص اهدى يا رائد وكل حاجة هتتحل بالهدوء.
دفعه رائد من يده ثم تشدق بحدة: سيبني يا قاسم أنا ماشي، أنا لا عايز حل ولا غيره.
وقف رائد من مكانه، ليدفعه قاسم من صدره ليجلس مجددًا مما دفع الغضب في عينيّ رائد أكثر الذي صرخ باهتياج: يوه قولتلك خلاص يا قاسم أنا مروَّح.
لم يتركه قاسم غاضبًا بل جلس جانبه مُربتًا على فخذه بهدوء وبعدها تحدث قائلًا: مش هتروح وأنت متعصب وزعلان مننا، وبعدين يا جدع دا إحنا مسافرين بكرة والله أعلم هنرجع إمتى، يرضيك نسافر ونسيبك زعلان مننا.
وهذا ما ينقصه أيضًا، تذكيره بذهابهم وتركه هُنا وحده دون أصدقاء يُجاورونه أو دعم يحتاجه، نفخ رائد بنفاذ صبر فأتى صهيب ليجلس بجانبه على الناحية الأخرى، والذي تشدق بمزاح ليُخفف من حدة الأجواء: تصدق ياض يا رائد إن شكلك كيوت وأنت متعصب؟
طالعه رائد بإستنكار من طرف عينيه، ليؤكد قاسم على حديثه ضاحكًا: تحسه راجل بحق وحقيقي كدا!
تشنج وجه رائد بسخط ليُصحح قاسم حديثه مُسرعًا بقوله: قصدي إنك كنت راجل فرفوش، دلوقتي راجل بجد.
نكزه صهيب في قدمه قائلًا بغيظ: اسكت يا قاسم الله يكرمك أنت بتعكها!
نفخ قاسم مُغتاظًا ثم تحدث بحنق ل رائد: ما خلاص يا عم الخطير بقى متزعلش، أنت عارف إن فور مش قصده حاجة من اللي حصلت وإن تصرفاته كلها عفوية ومش مقصودة.
زاد الغضب على وجه رائد فتحدث بعصبية ودون وعي لما يقوله من حديثٍ أحمق: دا بيعزمها على الأكل أنت متخيل!
وتلك المرة تدخلت أهلة صائحة به بإستنكار: وأنت عامل المشكلة دي كلها علشان عزمها على الأكل؟ زعقت للبت الغلبانة وحرجتها قدامنا كلنا علشان أكل؟ دا يخربيت النتانة يا جدع.
سدد لها قاسم نظرات نارية فاستدار رائد إلى قاسم هاتفًا بحدة: خَلي مراتك تسكت يا قاسم أنا مش ناقص.
هز قاسم كتفه بلامبالاة ثم أكد على حديثها قائلًا: ما هي بصراحة معاها حق، أنت نتن ومعفن وجيت على أختك ومشيتها معيطة، مع إن رد فعلها هي كمان كان عفوي وأكيد متقصدش حاجة من اللي جَت في دماغك.
شدَّ رائد على خصلاته بعنف وبدأ ضميره في أخذ دوره الفعال وهو إيلامه على فعلته، لكن هو يخاف عليها ولا يحب أن يقترب منها أحد، حتى ولو كانوا أصدقائه، هبَّ رائد من مكانه ثم أردف بوجوم: حصل خير، أنا ماشي.
أوقفه قاسم قائلًا بتحذير: ما بلاش تعمل حاجة ل سهيلة يا رائد، عايز تعاتبها عاتبها بينك وبينها، متكسرش ثقة أختك فيك علشان متندمش العمر كله.
طالعه رائد بوجوم، وبهدوء شديد اتجه نحو الخارج ليذهب إلى منزله، لكن قبل الخروج سدد نظرة عابرة ل فور الذي كان يُراقب الوضع ببرود حقيقي، وكأن الموقف بأكلمه وضَّح له الطريق الواعر الذي سيخوضه حتى يصل إليها! وكيف سيصل إليها وكل الطرق مُغلقة بينهما! هي وُلدت في بيئة وهو في بيئة مختلفة تمامًا، كل الظروف ضدهم وحتى ديانتهم.
نفخ فور بإختناق، وبضيقٍ شديد قام بالخروج والصعود نحو سَطح المنزل حتى يأخذ أنفاسه، وبالطبع لم يتركه الشباب، بل صعد الجميع خلفه وخاصةً قاسم وآلبرت صعدوا خلفه مُهرولين.
عاد صهيب إلى حبيبة التي كانت تتابع الموقف بصمتٍ حاد كجميع الفتيات، ثم أمسك بكفها متحدثًا بحنان: حبيبتي أنا طلبتلك عربية علشان توصلك البيت لإني للأسف مش هرجع دلوقتي، وأنتِ شايفة التوتر هنا عامل إزاي فمش عايز أتقل عليكِ.
أومأت له حبيبة بهدوء موافقة على حديثه، ثم ودعت الفتيات بود وصعدت إلى السيارة التي طلبها السائق لأجلها لتعود إلى المنزل، الأجواء متوترة للغاية وهو لا يريد التأثير على نفسيتها أكثر من ذلك.
بُليتُ بفؤادٍ يهوى رغم تحطُمه، فصرتُ أهوى الحِطام رغم تألُمي، فهل لي بهُدنةٍ لأمحو الكسورِ، أم أن فؤادك بات بالعشقِ مكسورِ؟
كانت الساعة مازالت الثانية ظُهرًا، و يحيى مازال جالسًا بجانب يمنى النائمة بهدوء، استند بظهره على الحائط ثم زفر باختناق شديد كاد أن يُهلكه، لا يستطيع نسيان فعلتها، لقد آلمت قلبه كما لو غرزت به السكين حقًا! تلك الليلة ظل يبكي حسرةً، فمن عشقها الفؤاد حاولت قتله!
عادت بذاكرته لذلك اليوم الذي هاتفه به يمنى، عندما كان يقف حينها أمام مختار الأرماني الذي يُمليه أوامره، والحقيقة بأن مختار كان يسير خلف خطتهم هم! فلقد جعله يحيى يطمئن من جهة صهيب بتاتًا، عندما شك مختار بتصرفاته العجيبة وأرسل خلفه أحد الرجال لمراقبته، ولسوء حظه لم يكن الرجل سوى وليد فريد سعيد! والذي كان يعمل معهم هو الآخر والذي ترك صهيب يذهب كيفما يشاء، وفي نهاية اليوم يذهب إليه ليُخبره بذهابه للعمل ففط، والمغفل كان يصدقه.
أعطى مختار ل صهيب عندما اطمئن تجاهه، كذلك أبعد يحيى الشكوك عن قاسم بتاتًا ولم يشك به ولو لثانية واحدة، بل وضع آلبرت وأخواته أمام المدفع كما اتفقوا سابقًا، وما جعل مختار يُصدق حديثه هو عداوته المُسبقة معهم وعمل إيلينا مع منظمتهم الإرهابية، كُل شيء كان مُرتب ومُنظم كما هو المُتفق ويسير حسب خطتهم تمامًا.
في ذلك اليوم ظل هاتف يحيى يرن كثيرًا وهو يُغلِق لا يُجيب، مما أثار شكوك مختار الذي تسائل بحذر: مين اللي بيرن عليك يا يحيى؟
ابتلع يحيى ريقه بتوتر، ثم أجابه بثباتٍ زائف: لأ. لأ مفيش يا مختار بيه دا واحد من الحُراس، اتفضل حضرتك عندك أي أوامر تانية؟
طالعه مختار بنظراتٍ ثاقبة، وبجمود هز رأسه بالنفي زمازال الشك يُداهمه: لأ مفيش حاجة تاني، اتفضل أنت روح شوف شغلك.
أومأ له يحيى بالإيجاب ومن داخله يتيقن بأن حيلته لم تنطلي عليه، وما إن خرج خرج حتى انطلق إلى منزله وصعد للأعلى مُسرعًا حتى يرى صوفيا التي من المفترض أن تكون نائمة بسبب مفعول المنوم الذي يضعه لها، جلس على الفراش بجانبها بإنهاك وظل يُفكر لبعض الوقت في معضلته، ليُقاطعه صوت رنين الهاتف مرة أخرى بإسم يمنى، لذلك أجابها بهدوء:
أيوا يا يمنى في إيه؟
متضايقة مالك يعني؟
طيب تمام أنا جاي حالًا.
أنهى حديثه معها ثم دلف إلى المرحاض ليغسل وجهه ويستفيق قليلًا، وعند خروجه استمع إلى صوت هاتفه اللحوح؛ ليزفر بضيق من كَم الإتصالات التي تهبط فوق رأسه اليوم، لذلك تمتم بحنق: روحوا ربنا يبتليكم بمصيبة أنا قرفت منكم.
أمسك هاتفه ليجد أن المُتصل هو قاسم، لتتشكل ابتسامة ساخرة على ثغره ثم همس لذاته قائلًا: وانتوا ناقصين مصايب؟ استغفر الله العظيم، متقبلش مني دعوتي يارب دول عيال غلبانة.
أجاب عليه يحيى بمزاح قائلًا: عمي وعم عيالي، واحشني يا غالي.
تجاهل قاسم حديثه ثم تحدث بصوتٍ جاد للغاية وهو ينظر ل آلبرت وفور بقلق: يحيى أنت فين؟
أجابه يحيى بتعجب: في البيت، بتسأل ليه؟
تسائل قاسم دون مراوغة: يمنى طلبت إنها تقابلك!
قطب يحيى جبينه بتعجب شديد ثم رد عليه باستغراب: آه. أنت عرفت إزاي؟
تحدث قاسم بجدية شديدة وهو يجز على أسنانه بضيق: إلبس واقي يا يحيى وأنت رايح تقابلها.
ردد يحيى حديثه بصدمة هامسًا: ألبس واقي؟ في إيه يا قاسم ما ترسيني على الحوار؟
نفخ قاسم بعصبية وهو يُجيبها: يمنى سمعتنا وإحنا بنتكلم ومفكرة إنك خاين بجد، ومحدش متوقع ردة فعلها وقت عصبيتها بس آلبرت شافها وهي طالعة بتجري من البيت وكانت بتعيط، خلاصة الكلام إحمي نفسك وخُد حذرك منها.
ابتلع يحيى ريقه مُنصدمًا مما يسمعه، وبصوتٍ خافت أردف وهي يهز رأسه بالنفي: لأ يمنى مستحيل تعمل كدا.
حينها صرخ به قاسم بغضب خوفًا من أن يُصيبه أي سوء: يابني اسمع اللي بقولك عليه وافهم، يمنى دلوقتي مش في وعيها وممكن تعمل أي تصرف متهور، خُد احتياطاتك مش هتخسر حاجة.
هز يحيى رأسه بالإيجاب وكأنه أمامه ويراه، نظراته شاردة وقلبه يخفق بخوف من أن تفعلها يمنى حقًا وتأذيه! وبالفعل ارتدى واقٍ واهتم بوضع أكياس تحتوي سائل أحمر حتى تنجح الخطة، وبعدها ترك صوفيا نائمة وهبط من المنزل ذاهبًا إلى المكان المكان المُتفق عليه معها.
بعد ربع ساعة وصل إلى المكان فلم يجدها، لذلك فضَّل الوقوف والنظر أمامه على المناظر الطبيعية التي تُريح القلوب، لم يمر الكثير من الوقت حتى تصل، بل استمع إلى صوتها يُناديه بصوتٍ مُتحشرج فشلت في إخفائه، أغمض عينه بألم خوفًا من تلك الفكرة التي دلفت إلى عقله، وبثباتٍ يُحسد عليه استدار لها راسمًا على ثُغره ابتسامة عاشقة، اقترب منها متشدقًا بحب: وحشتيني يا يمنى.
اقتربت منه يمنى أكثر ثم سألته بنبرة باكية: بتحبني يا يحيى؟
أحاط يحيى بوجهها ثم أجابها بعشق: بحبك يا يمنى، أنتِ الحاجة الوحيدة الحلوة في حياتي.
لم تجد بُدًا من قتله، وكأن شيطانها سيطر على أفعالها جاعلًا إياها تتخيل كم هو كاذب ومُخادع، حينها لم تشعر بذاته سوى وهي تُخرج السكين من ثيابها، وبغل أدخلتها في معدته عدة مرات متتالية، مما جعل يحيى يفتح عيناه مُحدجًا إياها بصدمة وعدم تصديق! وبادلها بأخرى مُعاتبة!
استفاق من ذكرياته على تململها وهمسها الباكي بإسمه، ليجلس بجانبه على الأرض مُستندًا بركبتيه حتى يصل لمستواها، ظلت يمنى تُحرك رأسها بعنف وكأنها تُقاوم شيئًا ما! مما جعله يرفع كفه ليُمسد على خصلاتها بحنان شديد حتى فتحت عيناها قليلًا ورأته أمامها حيٌ يُرزق، رددت يمنى صوته بصوت مبحوح باكي: يحيى!
ربت يحيى على خصلاتها مُردفًا بحب: أنا معاكِ يا عيوني.
رددت اسمه مرة أخرى لكن تلك المرة ببكاء شديد: يحيى.
أغمض يحيى عيناه بألم وصوت بكاؤها يخترق حصون فؤاده، تملك أعصابه بصعوبة ثم فتح عينه مرة أخرى متشدقًا بحسم: لأ ما أنا مش هحضنك، الشيخ قالي حرام.
اعتدلت في جلستها ببطئ شديد وظلت تنظر إليه وكأنها تحفر ملامحه داخل عقلها المتيم بعشقه، وضعت كلتا كفيها على وجهها ثم همست له بإعتذار: أنا أسفة. والله أنا أسفة مش قصدي.
وقف يحيى من مكانه ثم جلس جانبها مع الحفاظ على مسافة بينهما، وبعدها أردف بحنانٍ بالغ: علشان خاطري كفاية بُكى، أنا مش حِمل وجع دموعك.
استدارت له يمنى بجسدها ثم تحدثت ببكاء آلم فؤاده: والله أنا محيتش بنفسي، أنا بحبك أقسم بالله. أنت مش متخيل أنا حصلي إيه بعد ما عملت كدا، والله أنا شيطاني كان عاميني سامحني علشان خاطري يا يحيى.
أجابها يحيى بضعف: خاطرك غالي على قلبي أوي يا يمنى، لدرجة إني مزعلتش لما طعنتيني وكنت بحطلك أعذار واهية وصدقتها.
وضعت يمنى يدها موضع قلبها أثناء محاولتها لتهدأ، وبعد ثواني سألته بصوتٍ مبحوح: يعني، يعني أنت مش زعلان مني؟
نفى يحيى بقوله المُستنكر: لأ طبعًا زعلان منك وعايز أكسر دماغك، دا غير إني يومها فضلت أدعي عليكِ بس للأسف بحبك.
تسللت الدموع مرة أخرى لعيناها، ولم تمر ثوانٍ وانفجرت في البكاء المرير مرة أخرى!
لطم يحيى على وجهه قائلًا بصراخ: بهزر. والله بهزر متبقيش قماصة كدا.
استمرت يمنى في البكاء وروحها مازالت تؤنبها على فعلتها، ليسألها يحيى بغيظ لتكف عن الصمت: طيب أنتِ عايزة إيه وتسكتي؟
تسائل لترفع أنظارها له على الفور، ثم تشدقت قائلة: تتجوزني يا يحيى؟
تصنم جسد يحيى مكانه وحل الاستنكار على معالم وجهه المُتشنج، ليخرج صوته أخيرًا وهو يسألها بشهقة: وحياة أمك يابت؟ لأ بقولك إيه هتبوظيلي دوري في الحياة كراجل هبوظلك معالم وشك ك ست.
ارتعشت شفتي يمنى مُجددًا تُهدد بالبكاء، فاعتدل يحيى في جلسته قائلًا بنفاذ صبر: يوه خلاص موافق.
ارتسمت ابتسامة واسعة على ثغر يمنى التي وقفت في محلها تسأله بعدم تصديق: قول أقسم بالله.
وقف يحيى أمامها مُومئًا بضحك، لتقفز هي مكانها بسعادة بالغة، ثم أردفت وهي تُجفف وجهها المُبتل والمليء بالدموع: أنا بحبك أوي أوي أوي بجد.
احتلت الراحة صدر يحيى عند رؤيتها سعيدة، وبحنان شديد اقترب منها خطوتان ثم أردف بعشق:
أنا اللي عايز أسألك دلوقتي. تتجوزيني يا يمنى؟ موافقة تكملي بقيت حياتك معايا في بيتي وفي حضني؟
وبسعادة وفرحة عارمة أومأت له يمنى بالإيجاب قائلة: موافقة أفضل معاك العمر كله بس أكون جنبك.
اتسعت ابتسامته وغمز لها بعبث: حيث كدا بقى خلينا نمشي وأروح أطلبك من والدتك على طول.
مرَّ اليوم على الجميع هادئًا، حتى حلَّ الليل يسدل ستاره على الجميع، عاد صهيب إلى منزله فلم يجد ل حبيبة أثر في غرفة الصالون، قطب جبينه بتعجب ودخل إلى غرفة نومه ولم يجدها كذلك، مما زاد القلق والريبة في فؤاده.
إلتف حوله عله يجدها في المطبخ لكنه لم يجدها، فدخل إلى الغرفة الثالثة والتي من المفترض أنها خاصة بالأطفال، لذلك لا يدلف إليها أحد، لكن ولدهشته الشديدة وجدها بها تقف بجوار الشُرفة وتتحدث في الهاتف بصوتٍ خفيض غير مسموع! قطب صهيب جبينه بدهشة والذي ناداها متعجبًا:
حبيبة؟
انتفضت حبيبة في مكانها بخضة، وبسرعة شديدة قامت بإغلاق الهاتف وخبأته خلف ظهرها ظنًا منها بأنه لم يراه، اقترب منها صهيب أكثر حتى وقف قبالتها، ثم سألها مستغربًا حالتها: واقفة عندك بتعملي إيه؟ وكنتِ بتكلمي مين؟
توترت حبيبة بقوة عقب حديثها، وبتلعثم شديد أجابته: ها. لأ. لأ مكنتش بكلم حد. دا.
لم يتركها صهيب تُكمل حديثها، فانحنى قليلًا عليها ثم أخذ منها الهاتف ليرى إن قام أحد بمضايقتها وهي تخفي عليه بسبب توترها، فتح سجل المُكالمات ليجد أن المكالمة الأخيرة كانت من ريماس، والتي كانت مدتها عشر دقائق تقريبًا، رفع صهيب أنظاره لها ثم سألها متعجبًا: ريماس كانت بتتصل عليكِ ليه؟
ابتلعت حبيبة ريقها بريبة، ثم أجابته بصوتٍ جعلته ثابتًا قدر الإمكان: كانت بتقولي إنها هتيجي كمان ساعة عشان تقعد معايا شوية قبل ما نسافر بكرة.
نظر لها صهيب قليلًا بثبات، ليرسم ابتسامة طفيفة على ثغره قبل أن يميل على وجنتها يُقبلها برقة، ثم أردف بحب: ماشي يا حبيبتي مفيش مشكلة، أنا هدخل آخد شاور دلوقتي وأنا جايب أكل جاهز حطيه لحد ما أخلص.
أومأت له مُبتسمة له، تابعت أثره وهو يتحرك بعيدًا عنها ثم وضعت يدها على صدرها هامسة براحة: الحمد لله كنت هتكشف.
الغضب والضيق هما عنوانًا له الآن، نفخ رائد بغيظ من حالته وغضبه هذا، فمنذ أن جاء إلى المنزل وهو يجلس بغرفته يحاول أن يتلاشى الحديث مع شقيقته حتى لا يصل الحديث معها إلى أمر سيندم عليه فيما بعد.
استمع إلى صوت جرس الباب فذهب ليرى مَن الطارق، تنغضت ملامحه عندما وجد فور أمامه بملامح يظهر عليها الضيق، ربَّع رائد ساعديه أمام صدره ثم تسائل ببرود: نعم؟
مط فور شفتيه بضيق ثم أجابه بحزن وهو يزفر: حسنًا لا تحزن، أنت تعلم بأنني لم أقصد مضايقتك بشقيقتك أو الإقتراب منها، أنت بمثابة شقيقي وأنا لا أريد أن أُسافر غدًا وأنت حزين مني.
لانت ملامح رائد قليلًا عندما رأى الندم يطفو على وجهه، لكنه لن يتهاون في إظهار الضيق له، لذلك أردف بعتاب: أنت عارف كويس يا فور إنك صحبي وأخويا، بس أختي لأ، وحُط تحت لأ دي مليون خط، أنت لا من طينتها ولا هي من طينتك، فملهوش لازمة الحوار اللي يدخَّل الزعل ما بينا دا.
احتل الضيق صدر فور بما قاله، مشاعره تنجرف نحو طيار غير مناسب له، عليه التضحية بشيء واحد، إما ديانته أو خسارتها! وللحقيقة هو مُذبذب للغاية.
تقدم فور من رائد ثم احتضنه قائلًا بحب: حسنًا أنا آسف، أرجوك لا تغضب مني فأنا أحبك.
تلاشى البرود من رائد وحل محله الحنين، لذلك بادله العناق ثم أردف يقول بود: وأنا كمان بحبك. ربنا يديم محبتنا ويخلينا سند لبعض دايمًا.
أنهت حبيبة رص أطباق الطعام على السُفرة، نظرت تجاه المرحاض فوجدت الباب مازال مُغلقًا و صهيب بالداخل، لذلك أخرجت هاتفها من جيب بيجامتها ثم طلبت أحد رقم أهلة وانتظرت قليلًا، والتي ما إن أجابتها حتى هتفت بتوتر: كنت هتكشف يا أهلة و صهيب كان هيعرف إني بكلمك أنتِ والبنات وهيكشف خطتنا.
انتبهت أهلة لحديثها قائلة: طب وعملتي إيه؟ عِرف حاجة؟
نفت حبيبة بقولها: لأ معرفش حاجة، هو دخل على مكالمات الفون بس مشافش الواتس، والحمد لله إن ريماس اتصلت بعدك على طول.
قطبت أهلة جبينها بتعجب ثم سألتها بريبة: و ريماس بنت عمك كانت بتكلمك ليه؟
أجابتها حبيبة بلامبالاة وحُسن نية: كانت بتقولي إنها هتيجي تقعد معايا شوية كمان نص ساعة كدا.
أومأت أهلة بتفكير، ثم أجابتها: امممم. طيب تمام خلي بالك من نفسك أهم حاجة واعملي اللي قولتلك عليه ها؟
أجابتها حبيبة بخجل: حاضر. يلا سلام.
خرج صهيب من المرحاض فوجدها قد قامت برص الاطباق، فصاح مُحييًا إياها: أجمل واحدة في حياتي ترُص أطباق يا ناس!
ابتسمت حبيبة بإتساع ثم أجابته وهي تجلس على الطاولة: يلا بقى علشان ناكل بسرعة، ريماس زمانها على وصول.
جلس صهيب لتناول طعامه ثم أجابها على مضض: ما تيجي يا بني هو إحنا بنسرق، وبعدين أنا عايزك تخلصي الأكل دا كله علشان تتخني.
أومأت له حبيبة قائلة بضحك: حاضر.
بعد القليل من الوقت تناولوا به الطعام، استمع كلاهما إلى صوت جرس الباب، فذهب صهيب ليفتحه وذهبت حبيبة خلفه لاستقبال ريماس، وبالفعل كانت هي ريماس الطارقة التي ما إن رأت صهيب، حتى ابتسمت بود زائف قائلة: ازيك يا صهيب؟
أجابها صهيب بابتسامة طفيفة: الحمد لله يا ريماس، أخبارك أنتِ ايه؟
الحمد لله بخير.
ااستدار صهيب لزوجته ثم أردف قائلًا بحنو: طيب يا حبيبتي أنا هنزل أجيبلكم حاجة تشربوها وهسيبكم تتكلموا شوية على راحتكم.
أومأت له حبيبة وبالفعل ذهب صهيب لشراء المشتريات وظلت الفتاتان وحدهما في المنزل، جلست حبيبة بجانب ابنة عمها بعد أن احتضنتها بود، وظلتا تتسامران قليلًا حتى هبت حبيبة من مقعدها قائلة: هروح أجيبلك عصير ونشربه أنا وأنتِ لحد ما صهيب يجيب الحاجة السقعة.
أومأت لها ريماس قائلة: براحتك يا بيبة.
ذهبت حبيبة من أمامها بينما ظلت ريماس تنظر في أرجاء الشقة ثم همست لذاتها بحقد: أنا هحول حياتك لجحيم بس الصبر.
تصنعت الابتسامة مرة أخرى عندما لمحت حبيبة تأتي تحمل كوبين من العصير، جلست بجانبها ثم مدت يدها بالكوب الخاص بها، لتلتطقه ريماس بابتسامة متكلفة أثناء قولها المُعتذر: أسفة يا حبيبة، بس ممكن تجيبيلي كوباية ماية معلش!
هزت حبيبة رأسها بالإيجاب على الفور ثم ذهبت لتجلب لها ما قامت بطلبه، لتستغل ريماس تلك الفرصة وتقوم بإخراج أحد الأقراص من دواء مجهول المصدر ووضعه في الكوب الخاص ب حبيبة.