قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث والثلاثون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث والثلاثون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث والثلاثون

الشر يُهلِك ابن آدم ويضعه على طريق الدمار، سَل مَن أهلكته نفسه بسبب أفعاله، سَل مَن كان في قلبه مثقال ذرة من حقدٍ إلام توصل، هل إستلذ بنصره! أم أن سعادة الخاسر أنسته لذته؟
جاءت حبيبة مُبتسمة ل ريماس أثناء حملها لكوب المياه الذي طلبته الأخرى، وضعته أمامها على الطاولة ثم سألتها برقة: عايزة حاجة تاني أجيبهالك؟

كتمت ريماس غيظها من رقتها المُصطنعة كما تظن، لتبتسم ابتسامة صفراء رأتها حبيبة ودودة ثم تشدقت قائلة: لأ يا حبيبتي تسلميلي.
جلست حبيبة جانبها ثم تحدثت متسائلة: عاملة إيه؟ بقالي كتير مشوفتكيش من آخر مرة.
قالت جُملتها الأخيرة ببعضٍ من الحرج عندما تذكرت ذلك اليوم الذي طردهم به صهيب من شدة غضبه، لتُعلق ريماس على حديثها ساخرة: قصدك اليوم اللي طردنا في جوزك؟

ابتلعت حبيبة ريقها بحرج ثم ردت عليها بتوتر: متزعليش يا ريماس، بس أنتِ عارفة إن صهيب مش بيحب أنس وريمانا.
قضبت ريماس جبينها بضيق وهي تُجيبها بسخط مُستغلةً طيبتها: لاحظي يا حبيبة إن أنتِ بتتكلمي عن أُختي، و أنس كمان يبقى ابن عمك، وتصرف صهيب مكنش ليه أي داعي وأو ر كمان.

غضبت حبيبة من طريقتها في التحدث عن زوجها، لذلك ردت عليها ببعضٍ من القوة التي تعلمتها مؤخرًا من الفتيات بسبب كثرة جلوسها معهم: وأنتِ شايفة إن تصرف أختك وابن عمك كان صح؟ مش فاهمة وجهة نظرك الحقيقة.
دُهشَت ريماس قليلًا من قوتها التي لا تعلم من أين أتتها، ومع ذلك ردت عليها بحدة غير مقصودة: وماله تصرف أختي وابن عمي؟ وبعدين أنتِ أكتر واحدة عارفة إن أنس بيحبك وأنتِ روحتي اتجوزتي صهيب.

احتل الغضبُ وجه حبيبة تلقائيًا، فأجابتها قائلة بإمتعاض: وأنا مبحبوش، معنديش أي استعداد أضيَّع نفسي تاني زي زمان، أنا كنت عايشة تحت رحمة الكل ومحدش حاسس بيا ولا أنا كان شعوري إيه، صهيب هو الوحيد اللي حبني زي ما أنا، و أنس ميجيش فيه حاجة، لإن صهيب ميتقارنش بحد.

زفرت ريماس على مهل وتحكمت في أعصابِها بصعوبة شديدة، تريد أن تقف وتقتلها حتى تتخلص منها ومن برودها لكن الخطة التي وضعوها ستفشل إن قامت بفعلتها تلك، لذلك رسمت على فاهها ابتسامة زائفة ثم ردت عليها بيأس مصطنع: متزعليش مني يا حبيبة، بس أنا معنديش غير أختي ريمانا حتى لو كانت وحشة، وبزعل لما حد يجيب سيرتها بحاجة وحشة.

نظرت إليها حبيبة بضيق وكم آلمها حُزنها، اقتربت منها قليلًا ثم ربتت على كفها قائلة بإعتذار: متزعليش مني أنا أسفة، مكنتش أقصد أضايقك.
هزت ريماس رأسها بنفي وهي تتشدق بودٍ زائف: لأ ولا يهمك مش زعلانة، أنتِ معاكِ حق وأنا زودتها حبتين.
تحدثت حبيبة بحذر: يعني أنتِ مش زعلانة مني؟
نفت ريماس قائلة: لأ مش زعلانة يا بيبة، يا دوب بقى أشرب العصير وأمشي قبل ما الجو يتأخر.

قالت جُملتها ثم امسكت بكأس العصير الذي وضعت فيه الدواء وأعطته لها قائلة بإبتسامة واسعة: خُدي اشربي وهعتبر إن إحنا اتصالحنا من بعدها.
ضحكت حبيبة بخفة ثم أخذت من بين يدها الكأس، وكذلك أمسكت ريماس بالكأس الآخر لترتشف منه القليل ببطئٍ وتلذذ وهي تُتابع الكأس الموجود بين يدي حبيبة مُنتظرة ارتشافها منه على أحر من الجمر.

رفعت حبيبة الكأس على فاهها وكادت أن تتجرعه؛ لكن صوت جرس الباب قد منعها من الإكمال، انزلت كفها ثم نظرت ل ريماس التي كادت أن تغلي من الغضب، قائلة بإبتسامة لطيفة: ثواني هروح أشوف مين اللي بيخبط.
أومأت لها ريماس التي أغمضت عيناها بغضب بعد ذهابها، ثم جزت على أسنانها حاقدة على الطارق وعلى حظ الأخرى الذي أنقذها في آخر لحظة!

اتجهت حبيبة نحو الباب لتفتحه، لترتسم الدهشة جلية على معالم وجهها بعد أن رأت الفتيات يرتصن أمامها وعلى رأسهم أهلة التي دفعتها جانبًا لتدلف للداخل وعلى وجهها يرتسم إمارات الغضب بوضوح، لكنها حاولت قدر الإمكان حتى لا تشك حبيبة في أي شيء ويعود إليها الشعور بالنبذ مرة أخرى.
حدجتها حبيبة باستغراب، ثم استدارت إلى الفتيات تسألهم بدهشة: ما هو مش معقول أكون وحشتكم بالسرعة دي علشان تيجوا كلكم كدا.

اقتربت منها ملك ثم لفت يدها حول كتفها آخذة إياها لتدخل خلف أهلة، ثم أردفت بمرح: عيب يا جدع متقولش كدا، دا أنتِ بتوحشينا وأنتِ معانا.
ورغم أن كلمات ملك كانت مازحة؛ إلا إنها أدخلت السرور على فؤاد تلك المسكينة التي ابتسمت لها وبسعادة وحرمان!
تخطتهم مهرائيل التي أسرعت خلف أهلة متشدقة بدرامية وهي تضرب على رأسها: استر يارب، أهلة هتاكل البت اللي قاعدة جوا.

هرولت خلفهم لوسيندا وكذلك يمنى التي أردفت بسخرية: لحم الكلاب مُر يا ضنايا، ودي عيلة متتعاشرش.
تنغض جبين حبيبة ببعضٍ من الضيق بسبب ما قالته، لتغمزها يمنى قائلة بمرح: من عدا أنتَ يا جميل يا عسل.
اِحمرت وجنتيّ حبيبة بخجل ثم أردفت برقة: يوه بقى بتكسف بجد!

اقتربت منها لوسيندا تُقبلها على وجنتها بقوة أثناء قولها المُحِب لتلك الشخصية الطاهرة: يخربيت العسل يا شيخة بجد بقى، دا إحنا بنعتبرك بنتنا مش صاحبتنا لأ.
ضحكن على حديثها وفعلتها العفوية، ثم دلفن إلى الداخل ليروا المعركة الناشبة بين أهلة و ريماس، لكن ليست معركة بالأيدي! بل بالنظرات.

انحنت أهلة قليلًا لترتشف من كوب العصير الذي كان موضوعًا أمامها، ونظرات التحدي والعنف كانت مُرتسمة بوضوح على عيناها، وبعد فترة من الصمت خرج صوتها مُتسائلًا بشماتة خفية:
و صفوت بيه حالته إيه دلوقتي يا ريماس ياختي؟

ابتلعت ريماس ريقها بريبة أثناء مُتابعتها لكأس العصير الماكث بين يديّ أهلة، وفي تلك اللحظة سبتها وسبت قدومها وتخريبها لخطتها التي كانت على وشك النجاح، لولاها هي وتلك الغبية الأخرى التي تجلس بجانبها، انتبهت بعدها إلى صوت مهرائيل التي تسألها بنبرة هجومية بحتة:
هي البعيدة مبتسمعش ولا إيه؟ ما تردي يابت وقوليلنا أبوكِ عامل إيه؟ مات ولا لسه؟

احمرت عينيّ ريماس بغضب عقب حديثها المُهين بالنسبة لها، وما كادت أن تُجيبها حتى استمعت إلى صوت أهلة التي نظرت إلى مهرائيل معاتبة إياها: تؤتؤ يا مهاميهو دي مش أخلاقنا، إحنا بنتعامل بكل احترام ورُقي مع الناس مش كدا.

جاءت في تلك الأثناء الفتيات ليجلسن على الأرائك هنَّ الأخريات، جلست حبيبة بجانب أهلة من الناحية الأخرى، و لوسيندا جلست بجانب ريماس التي تُطالع الجميع بإشمئزاز، وجاورتها ملك، وعلى النقعد المنفصل جلست يمنى، فأصبحت ريماس مُحاطة من جميع الإتجاهات!
قطع الصمت صوت أهلة التي رفعت كوب العصير ل حبيبة تسألها بترقب: حد شِرب من الكوباية دي قبلي يا بيبو؟

هزت حبيبة رأسها بالنفي وهي تُجيبها برقة: لأ يا هولا محدش لمسها، اشربيها أنتِ وأنا هقوم أعمل للبنات.
أوقفتها حبيبة وأجلستها مكانها مُجددًا، ثم أجابتها وهي تُكمل ارتشاف العصير: لأ سيبك منهم ومتعبيش نفسك، اقعدي معانا دا أنتِ وحشتينا جدًا.

ابتسمت لها حبيبة بإمتنان، غافلة عن نظرات الحقد التي انبعثت من عيني الأخرى التي كادت أن تحرقها حية، وبالطبع لم تغفل يمنى عن نظراتها تلك والتي بينت لها خُبثها ليس كما تظهر، وبمكرٍ شديد تسائلت وهي تعبث بخصلات شعرها:
ألا قوليلي يا ريماس، أنتِ جاية لوحدك ولا حد جاي معاكِ؟

توقف العصير في حلقها مما أدى إلى سعالها واحمرار وجهها بقوة نتيجة لحبس أنفاسها، انتفضت حبيبة على الفور ثم ناولتها المياه لتشرب منها، بينما لوسيندا استغلت قُربها منها وضربت على ظهرها بضربات قوية وهي تقول بهلع مصطنع: يا ساتر يارب! خُدي نفسك. خُدي نفسك لتفطسي مننا.

دفعت ريماس يدها بقوة وهي تلعنها في داخلها، بينما ملك مدت يدها من الخلف ثم أمسكت بخصلة من خصلاتها وجذبتها للأسفل بقوة شديدة، مما أدى إلى سقوط المياه على ثيابها أثناء ارتشافها منها، ثم صراخها المُتألم الذي ارتفع نتيجة لجذب شعرها المُفاجيء.

طالعت حبيبة الفتيات بتيهة وحتى الآن لا تجد مُبرر لعنفهنَّ معها، فتحت فاهها للتحدث؛ فوجدت يد أهلة تجذبها من ذراعها وهي تقول بجدية: سيبي البنات يشوفوا شغلهم وتعالي عايزاكِ.
نظرت حبيبة للوضع بقلق، وبتردد شديد ذهبت معها نحو الشرفة أثناء نظرها للحالة الهجومية التي تلبست جميع الفتيات بلا استثناء!

وبالجهة الأخرى. دفعت ريماس يد لوسيندا بعنف، لتصطدم يدها بالطاولة التي تجاورها، احتدمت عينيّ مهرائيل بشراسة وهبت من مضجعها ذاهبة إليها بسرعة مُرعبة أثناء قولها الغاضب: أنتِ بتضربي أختي؟ دا أنتِ ليلة أمك سودة النهاردة.
قالت جُملتها ثم هجمت عليها تجذبها من خصلاتها بعنف، وبالطبع لم تكن وحدها، بل تجمعت حولها الفتيات كذلك وأخذوا حق رفيقتهم التي جُرحَت جرح صغير للغاية!

أما أهلة. فقد أوقفت حبيبة أمام الشرفة المُحاطة بسور حديدي فخم، ثم أشارت على أحد السيارات قائلة: بُصي وركزي على العربية اللي هناك دي كدا!
نظرت حبيبة حيث تُشير، فوجدت زجاج السيارة مفتوح نصفه فقط ويوجد بالداخل شخص يتحرك حركات خفيفة لكنها لم ترى وجهه، قطبت حبيبة جبينها بتعجب ثم تسائلت بجهل: مين دا مش فاهمة؟
استندت أهلة بظهرها على السور من خلفها، ثم ربعت عن ساعديها قائلة دون مراوغة: دا أنس ابن عمك.

صُدمت حبيبة من قولها فتسائلت بدهشة وكأنها لم تسمعها من الأساس: مين؟
رددت أهلة حديثها بجمود: دا أنس ابن عمك. جاي مع ريماس والله أعلم غرضهم كان إيه، أنا مرتحتش لما قولتيلي إنها جاية علشان كدا جبت البنات وجيت.
أحست حبيبة بتلك الغصة المؤلمة التي تشكلت بحلقها، وبدون إرادة منها هبطت دموعها وهي تقول بصوتٍ ضعيف: بس. بس ريماس مش زيهم، مستحيل تكون بتكدب عليا كل دا!

طالعت أَهِلَّة حالتها الحزينة بشفقة، لتفك عن ساعديها ثم اقتربت منها ببطئ قائلة بأسف: لأ يا حبيبة بتكدب عليكِ، ريماس زيها زي ريمانا زي أنس، كلهم نفس الفصيلة ونفس الشر، الفرق بس إن هي دخلتلك من الحِتة اللي بتوجعك، عملت نفسها صحبتك علشان تعرف تسيطر عليكِ وتنفذي كلامها.

حاولت حبيبة التحكم بذاتها ومنع عيناها من ذرف الدموع لكنها لم تستطع، لذلك وضعت يدها على فاهها تمنع شهقاتها الخافتة التي صعدت منها، ثم أردفت بصوتٍ واهن تزامنًا مع عودة شعورها بالمقط مِن مَن حولها: هما ليه بيكرهوني أنا معملتش ليهم حاجة وحشة.
حزنت أهلة عليها فاقتربت منها بدون تردد ثم أحاطت بها من كتفها تضمها إليها بحنان، رفعت كفها تُربت على خصلاتها بود ثم أردفت قائلة:.

أنتِ مش وحشة يا حبيبة، أنتِ مكانك بين العيلة دي هو اللي غلط، ولو جيتي للحق فأنا مكنتش برتاح ليكِ في الأول.
رفعت حبيبة أنظارها إليها تسألها بأعيُن دامعة: ليه؟
أجابتها أهلة بشرود: عشان أنتِ من دمهم، والعيلة دي بالذات أنا مش بحبها.
ليه هما أذوكِ؟
تسائلت حبيبة لتُجيبها الأخرى بسخرية: أذوني؟ دا أنا كنت ملطشة ليهم.
طالعتها حبيبة بحزن ثم شددت من احتضانها قائلة بصوتٍ مُرتعش خافت يشوبه البكاء: أنا أسفة.

ابتسمت لها أهلة بحنان ثم أجابتها وهي تنظر للسيارة بأعين غامضة حادة: أنتِ ملكيش ذنب، سيبيني أنا آخد حقي منهم بمعرفتي وعلى الطريقة اللي بمزاجي.
صمتت حبيبة قليلًا ولم تُجيبها، بل شردت في تلك الجالسة في الخارج والتي أتت لمنزلها لخداعها، وهي المُغفلة التي ظنتها لا تُشبه هؤلاء الوحوش الذين قضوا على شخصيتها! حمقاء أنتِ يا حبيبة لتظني هكذا في هؤلاء حمقى!

خرجت من أحضان أهلة ثم مسحت أهدابها المُبتلة بدموع الأسى الحارقة، وبعدها هتفت بصوتٍ مبحوح أثناء نظرها للسيارة التي يمكث بها أنس: طيب وهعمل إيه دلوقتي؟
هنعمل. اسمها هنعمل مش هتعملي.
قالتها أهلة بقوة لتؤكد على وجودها دائمًا بجانبها ثم أردفت بخبثٍ ماكر: ودلوقتي تعالي بقى اتفرجي وعايزاكِ تتمزجي.

لم تفقه حبيبة حديثها بشكل مُباشر، بل لاحقتها للداخل حتى ترى ما تنتوي فعله في الأخرى، اتجهوا حيث تتجمع الفتيات حول ريماس ونظرات الغضب والشراسة تحوم داخل حدقتي مهرائيل التي كادت أن تقتلها، استدارت ريماس بغضب نحو حبيبة ثم وبختها بعنف قائلة بصراخ: إيه قلة الأدب والقذارة دي يا حبيبة؟ من إمتى وأنتِ بتتعرفي على أشكال زي دي؟

أتاها الجواب على الفور. لكن ليس من حبيبة، بل من أهلة التي أجابتها بصفعة مدوية هبطت على وجنتها لتترك أثرًا واضحًا على خدها الأبيض، ومن قوتها شعرت الأخرى بالدوار يعصف برأسها لعدة ثواني!
شهقت حبيبة بخفة أثناء وضعها ليدها على فاهها لتكتم صدمتها، أمسكت بها لوسيندا من يدها لتُطمئنها بوجودها وتُخفف من حدة الأجواء لديها، بل ولتكتسب الثقة في وجودهنَّ أيضًا.

بينما أهلة اقتربت منها ببطئ مُتدلل كأفعى سامة على وشك الهجوم على فريستها، ثم همست أمام وجهها بفحيح: لو شوفتك قُريبة من حبيبة تاني أنا هحول حياتك لجحيم.

كانت ريماس حينها تنظر لها بعدم تصديق، وحتى الآن مصدومة من فعلتها التي فاجئتها بها على غفلة، احتدمت عيناها بحقدٍ بالغ عندما رأت نظرات الشماتة تحوم داخل مقلتيها، لذلك رفعت كفها في نية لرد ضربتها لكن أوقفتها يد أهلة التي لوت ذراعها للخلف تضغط عليه بعنف، وبمكرٍ خبيث تشدقت قائلة: ما قولتلك بلاش أنا! صدقيني هتندمي.

أرادت أهلة إذلالها أكثر لكن أوقفها شعورها بالإشمئزاز الذي داهمها فجأة نتيجة لقربها من الكثير من الأشخاص اليوم، لذلك أخفت ما تشعر به وارتدت قناع الثبات وهي تدفعها للأمام بعنف حتى كادت أن توقعها، وبإصبع سبابتها أشارت نحو الباب قائلة بجمود: الباب عندك أهو تطلعي منه ومشوفش وشك العِكر هنا تاني.

ابتلعت ريماس اهانتها عندما كادت أن ترد عليها بوقاحة، لكن كان يرتص على يمينها أهلة، حبيبة، يمنى، وعلى يسارها مهرائيل، لوسيندا، ملك، وجميعهم يُسددون إليها نظراتٍ كادت أن تحرقها حية، لذلك أخذت حقيبتها ثم ذهبت من أمامهم قبل أن ينقضوا عليها.

كانت نظرات حبيبة تُتابعها بأعين مُتحسرة تَكون فيهما الدمعُ حُزنًا، رأتها يمنى فجذبتها إليها مُحتضنة إياها بحنان أثناء قولها: متزعليش يا بيبة علشان خاطري، ولو خايفة ياستي فإحنا كلنا جنبك ومش هنسيبك أبدًا.
أكدت أهلة على حديثها قائلة: يمنى معاها حق يا حبيبة، وبعدين أنتِ هتلاقي فين بنات بالحلاوة والجمال والإحترام والهدوء دا؟

اهتز جسد حبيبة بضحك على دُعابتها، فأردفت يمنى بحماس قائلة بصراخ أفزعهم: نسيت أقولكم حاجة مهمة.
ابتعدت عنها حبيبة بريبة من صراخها، لتجذبها لوسيندا لها بقهقهات عالية أثناء قولها الضاحك: تعالي يا بسكوتة جنبي أصلها بتتحول.
تجاهلت يمنى حديثها، ثم أردفت بصوتٍ مليء بالسعادة: يحيى راح طلب إيدي من ماما وهنتجوز.
صاحت ملك بسعادة وهي تسألها بدهشة: إيه دا بجد طلب إيدك؟

نفت يمنى على الفور قائلة ببلاهة: لأ أنا اتقدمتله وهو وافق.
تشنج وجه الفتيات بإستنكار، لتتسائل مهرائيل بغباء: ودي عملتيها إزاي لموأخذة؟
شبكت يمنى أصابعها أمام صدرها ثم تحدثت بنظراتٍ هائمة: قولتله يا يحيى تقبل تتجوزني وتكون شريك لحياتي؟
في تلك الأثناء. شعرت بمن يُمسكها من ياقة ثيابها وتسألها بشر: سمعيني كدا مين اللي اتقدم للتاني؟

نظرت يمنى ل أهلة برعب، لتبتلع ريقها بصعوبة راسمة على وجهها ابتسامة بلهاء أثناء قولها المُتناقض: أنتِ صدقتي ولا إيه يا أهلة يا حبيبتي؟ طبعًا هو اللي اتقدملي وفضل يتحايل عليا عشان أنا كنت رافضة أصلًا، وفي الآخر وافقت بيه بقى، وأهو يحيى أحسن من عبدالله.
سألتها حبيبة برقة: عبدالله مين دا؟
طالعتها يمنى بابتسامة بلهاء وهي تُجيبها: لأ دا مثل شعبي قديم مش هتفهمه واحدة بنت ناس زيك كدا.

تركتها أهلة مُتمتمة في سرها: ناس ولاد.
بدأ الدوار يُداهم رأس أهلة تدريجيًا فاستئذنت من حبيبة قائلة بهدوء زائف: حبيبة معلش عايزة أدخل الحمام.

أشارت لها حبيبة بإبتسامة هادئة، فدلفت أهلة للداخل مُسرعة ثم غسلت كلتا يديها جيدًا، وكالعادة حاولت السيطرة على تقيؤها ولحُسن حظها نجحت في ذلك، سحبت نفسًا عميقًا من رئتيها ثم زفرته على مهل، وبصعوبة بالغة تحكمت في الدوار الفتاك الذي يعصف برأسها ثم خرجت إلى الفتيات.

قُضي الوقت وذهب الفتيات جميعًا من المنزل بعد أن اطمئنوا على الحالة النفسية لصديقتهم ثم اتجهت كل واحدة منهم نحو منزلها بعد يومٍ شاق وعناء طويل.

كُتِبَ عليَّ الحُزن في حظوظ حياتي، وباتت طُرقاتي مفعمة بظلامِ الشيطان، يرسم لي خطواتي لأتبع مساراته، وأنا أُجاهد للخلاص من الهلاك، فهب لي يا الله طاقةً، لأُكمل طريقي وأعدو النجاح.
استمعت سهيلة إلى صوت طرقات الباب فمسحت دموعها بسرعة خوفًا من أن يراها أحد، سيطرت على ذاتها ثم سمحت للطارق بالدخول، ليدخل بعدها رائد بملامح هادئة مُستكينة عكس غضبه منذ قليل.

رأته سهيلة فتنغض جبينها بإنزعاج ثم سألته بضيق: عايز إيه؟
رد عليها ساخرًا وهو يُغلِق الباب خلفه: عايز محشي يا روح خالتك، عندك؟
أجابته بنبرة هجومية غير مُتناسية إهانته لها أمام الجميع منذ قليل: لأ معنديش، وبعدين أنت جاي ليه؟ جاي تكمل تهزيقك ليا اللي مكملتهوش قدامهم؟

اقترب منها ومعالم الإستنكار ترتسم بوضوح على محياه، ثم أجابها حانقًا: أنتِ ليكِ عين تتكلمي بعد اللي عملتيه؟ سهيلة أنتِ علاقتك أنتِ و فور من الأول مش مريحاني، وأنا مش عايز الموضوع يتطور بينكم أكتر من كدا.
اشتدت الضيق بفؤادها فأجابته بدون وعي وغضب غير مُبرر: ما أنت كمان علاقتك أنت و ملك متطورة ومحدش كلمك ولا قالك أنت بتعمل إيه.

ضرب على رأسها بقوة خفيفة راميًا إياها بكلماتٍ قاسية آلمتها رغم علمها وتيقنها بصحتها: أنا و ملك مسلمين زي بعض، وهروح أتقدملها زي ما قولت، لكن أنتِ و فور متنفعوش نهائي، متنفعوش بأي شكل من الأشكال حتى لو أنتِ كنتِ بتحبيه.
توترت معالم سهيلة بقوة عقب حديثه الأخير، ثم نفت برأسها قائلة بتلعثم: ها! بحبه! لأ طبعًا مبحبوش أنت بتقول إيه!

رد عليها رائد بصرامة وجدية شديدة: أنا مش عيل بريالة علشان معرفش أختي بتفكر إزاي ولا حاسة بإيه، أنا عارف إنك بتحبي فور، وهو كمان باين عليه بيحبك بس مينفعش.

ضغطت سهيلة على كفها بقوة وأغمضت جفنيها لتمنع من هطول دموعها التي تشكلت داخل مقلتاها، نظر إليها رائد بحزن ثم جلس أمامها على الفراش وجذبها بحنان لأحضانه، كلماته كانت قاسية لكن لابُد منها، عليها أن تفهم أن علاقتهما من الصعب عليها أن تكتمل لإختلاف أديانهم، لذلك كان عليه مُواجهتها بالحقيقة التي تعلمها وتتجاهلها بإرادتها.

وهُنا أطلقت العنان لشهقاتها بالهطول تزامنًا مع خروج شهقات بكاء ضعيفة من فاهها، شدد رائد من احتضانها ثم ربت على ظهرها يُهدهدها بصوتٍ حاني كالأطفال، غضبه منها تلاشى فور رؤيته لحُزنها، لذلك لم يمنع ذاته من اسكاتها.
ظلت على حالتها تلك عدة دقائق فقرر رائد مشاكستها بقوله: وبعدين بتحبي فيه إيه دا؟ دا حتى مفجوع وطفس ومخلص على أكل الدولة.

ضحكت سهيلة بخفة قبل أن تبتعد عنه ببطئ أثناء حديثها المُحِب: ملكش دعوة. على قلبي زي العسل.
تنغض جبين رائد بإستنكار فصاح حانقًا: يابت أنتِ مبتفهميش! يخربيت الغباء الوراثي اللي عندك دا.
قالها دون وعي لتضحك سهيلة على حديثه العفوي، قبل أن تتحول بسمتها لأخرى حزينة قبل اعترافها لأخيها على بغتة: بحبه يا رائد ومش هعرف أطلعه من دماغي.

كاد أن يعترض فأوقفته مُسرعة بنبرة صوتها المُرتعشة بحزن: أنت بتحب ملك ومش بتقدر تتنفس في وجودها، بتبقى قاعد مش على بعضك وبيبقى باين عليك جدًا، أنا كمان قلبي مش أنا اللي بتحكم فيه وحبيته غصب عني، أنا مش هعرف أنساه يا رائد صدقني.

أغمض رائد عيناه بضيق وحيرة ولا يعلم كيف يحل الأمر، لكن ما أقلق شقيقته هي تلك البسمة الخبيثة التي ارتسمت على فاهه فجأة بعد وقت من الصمت والتفكير، لتجده يتسائل بحذر: قولتيلي أنتِ بتحبيه ومش هتقدري تعيشي من غيره؟
وبريبة أومأت له سهيلة ببطئ، لتجده يهتف بإبتسامة مُتسعة بعد أن توصَّل إلى الحل: يبقى نقتله.

تشنج وجه سهيلة بإستنكار واضح، ثم دفعته إلى الخلف بقوة أدت إلى سقوطه على الأرض الصلبة، تبعه قولها الساخط قائلة: أنت أهبل يلا؟ هو إيه اللي نقتله؟ دا أنا أقتلك أنت وهو لأ، اللي زي فور دا أحافظ عليه في حباب عنيا مش في قلبي بس.
اعتدل رائد من على الأرض، ثم بصق عليها بصقة واهية بإشمئزاز قبل أن يُجيبها قائلًا: اتفو على دي تربية، بقولك إيه يا بت أنتِ أنا مش عايز اعرفك تاني، يا عاق.

قال كلمته الأخيرة بعصبية، ليجدها تُجيبه بتشنج: اسم الله عليك يا حبيبي أنت اللي متربي أوي، بقولك إيه لو معندكش حل لو سمحت أخرج برا وسيبني أبكي على حالي الحزين.
نفض رائد ثيابه وهو يُجيبها بحنق: عندي حل ياختي بس على الله يطمر في جِتتك يا معفنة.
اتسعت ابتسامة سهيلة وهي تسأله بسعادة جلية: بجد! حل إيه دا؟

فتح رائد فاهه وكاد أن يُجيبها، لكنه توقف على صوت جلبة طفيفة تأتي من الخارج، قطبت سهيلة جبينها بتعجب ثم تسائلت مُستفهمة: هو فيه ضيوف برا ولا إيه؟
احتل السخط وجه رائد وهو يُجيبها: آه ياختي، خطيب ستك جاي يزوها جايب ليها ورد ودباديب وهدايا.
مصمصت سهيلة على شفتيها أثناء قولها المُتحسر: عيني علينا وعلى حظنا المهبب، أما لو لينا نص حظ لواحظ! كان زمانا في مكان تاني دلوقتي.

أكد رائد على حديثها قائلًا بتنهيدة ثقيلة: معاكِ حق يا بنتي والله، بس نقول إيه! أهو النصيب.
أومأت له سهيلة بخفة، فوجدته قد دفعها من وجهها بغيظ لتقع نائمة على ظهرها بعد أن اصطدمت بالفراش بعنف، ثم صدح صوته ساخطًا: وبعدين ما تتخمدي بقى جتك البلا.
قال كلماته ثم تركها وذهب وتركها تنظر لأثره بدهشة، وبداخلها تشكر القدر الذي رزقها بشقيقٍ ك رائد مُتفهمًا بأقصى حد ممكن.

عادت أهلة إلى المنزل بخطواتٍ غير مُتزنة بعد أن تركت الفتيات وصعدت وحدها، تشعر بأن عقلها سابح في الفضاء، وجسدها لا تقدر على حمله وحدها، لتتعثر خطواتها أثناء صعودها للدرج، وقفت أمام باب المنزل المُنغلق بتيهة، لتتشكل ابتسامة بلهاء على ثغرها أثناء قولها الضاحك بدون وعي:
هو إيه اللي جاب باب المتحف المصري عندنا هنا؟

ضحكت عدة ضحكات مُتقطعة وباتت أشبه بالسُكارى إلى درجة كبيرة، وقفت مُتخصرة محلها وهي تُمعن النظر بباب الشقة، انحنت بجسدها قليلًا ثم اقتربت من الباب ببطئ شديد قائلة بهمس وكأنها تُحدثه: قولي الحقيقة. قاسم بيتاجر في الأثار صح؟
انتظرت لثوانٍ وكأنها تسمع الإجابة، ثم صفقت بيدها وكأنها حازت على سر خطير الآن أثناء قولها غير مُتزن: كنت واثقة، استنى بقى أبلَّغ عنه البوليس.

قالت كلماتها الأخير ثم أخرجت الهاتف من جيب بنطالها الكُحلي لتتصل بالشرطة، رفعت الهاتف أمام وجهها ثم اِدَّعت الجدية والصرامة أثناء قولها الساكر: اتصلي بالبوليس يا تليفوني.
انتظرت لثوانٍ لكن ليس هُناك أي ردة فعل من الهاتف، طالعته بإستغراب وظلت تُقلب به يمينًا ويسارًا ثم أردفت بسخط: شكله بايظ، مش مشكلة. هشحنه وبعد كدا أبلغ عنه البوليس بكرة الصبح.

قالت كلماتها ثم اقتربت من الباب واضعة رأسها عليه أثناء طرقها عليه بتيهة: قاسم، واد يا قاسم افتح الباب، يا حرامي الجزر ههه.
ختمتها بضحكة تُشبه المُدمنين أو السُكارى، وبعدها لم تشعر بأي شيء سوى انفتاح الباب فجأة وسقوطها بين ذراعيّ قاسم الذي التقطها على بغتة قبل أن تحتضنها الأرض قائلًا بقلق بالغ: أهلة! مالك يا أهلة!

تسائل بها بهلع ظنًا منه بأنها قد أصابها مكروه، لكنها حاولت الإتزان والوقوف بخُطى غير ثابتة، ثم اقتربت منه أكثر قائلة بعبث لم يشهده منها من قبل: أنت قمر كدا طبيعي ولا دا نفخ؟
كتم قاسم أنفاسه من قُربها المُهلك، فأثار انتباهه حديثها الغير مُهندم، كذلك وقفتها الغير ثابتة على الإطلاق، فتح عيناه بعدم تصديق ثم تسائل بدهشة: أنتِ سكرانة يا أهلة؟

رسمت أهلة ابتسامة واسعة على ثغرها قبل أن تُجيبه على الفور: سكرانة من حلاوتك يا جميل.
لأ دا كدا الموضوع كبير!
همس بها قاسم لذاته قبل أن يسألها بشك: أنتِ متأكدة إنك كنتِ عند حبيبة؟
كان جفنيّ أهلة مُنغلقان للغاية وكأنها لم تنام منذ عدة أعوام، فاقتربت منه تضع رأسها على صدره قائلة بصوتٍ ناعس: أنا عايزة أنام.

علم قاسم بأنه لم يحصل منها على شيء يُريحه بتلك اللحظة، لذلك أمسك بيدها بهدوء في نية لسحبها خلفه أثناء قوله اليائس: تعالي.
أوقفته حانقة ثم دفعت يده فاردة لذراعيها وهي تقول بضجر: لأ شيلني.
احتل الخبث على محياه وهو يسألها بمكر: متأكدة عايزاني أشيلك؟

ابتسمت له أهلة وهي توميء له بالإيجاب، فذهب إليها مُنحنيًا قليلًا ثم حملها على ذراعيه، لتُحيط هي بعنقه أثناء وضعها لوجهها بين حنايا عنقه تتمسح بها كهرة صغيرة وجدت والدتها، ابتسم قاسم بحنان على فعلتها وهو يضعها على الفراش لتنام قليلًا.
كاد أن يبتعد عنها ويهبط لسؤال الفتيات، ليجدها قد أمسكت به من يده قائلة باحتياج: خليك معايا متسبنيش.

كان صوتها مُتألمًا عكس ما كان منذ قليل، ليجلس بجانبها مُربتًا على خصلاتها بحنان، ثم سألها مُترقبًا: مالك يا هولا زعلانة من إيه؟
تشبثت أهلة بكفه بكل قوتها لتضمها إلى صدرها، ثم أجابته بنبرة ضعيفة واهنة: أنا زعلانة من الدنيا كلها ومش لاقية اللي يراضيني.
اقترب مُقبلًا جبينها بحنان أثناء سؤاله المُعاتب لها: وأنا روحت فين؟
رفعت أنظارها له ثم طالعته بهيام: أنت. أنت غيرهم كلهم.

ابتسم لها ابتسامة خفيفة ثم ابتعد قليلًا وهو يقول: طيب أنتِ زعلانة من إيه دلوقتي؟ هولا السُكر زعلانة من حاجة وأنا معرفهاش؟
هزت رأسها بالإيماء وحتى الآن لا تعي لمن حولها، ليسألها هو بترقب: و هولا زعلانة من إيه بقى؟
طالعته بنظرات زائغة ثم أجابته بألم: مكنش عندي أب بيخاف عليا ولا بيحبني.
احتار قاسم في مقصدها فتسائل بحذر: إزاي يعني!

توقفت عن الحديث قليلًا ثم أجابته بنعاس شديد لكن مازال الألم يظهر واضحًا عليها: كان. كان بيسيبني لصاحبه. و. و...
توقفت عند شعورها ببوادر التقيؤ على وشك القدوم، بينما هو تصنم محله ناظرًا إليها وعقله يعمل في جميع الاتجاهات، اقترب منها أكثر مُتسائلًا بانتباه: كان بيسيبك لصاحبه ليه يا أهلة؟ احكيلي مش هقول لحد.

حاول أخذها على حسب استيعابها العقلي، لتهز هي رأسها بالنفي قائلة بإنزعاج: لأ. لأ مش هحكيلك. مش هحكي لحد. أنا بقرف.
وبتتقرفي مني؟
تسائل، لتهز رأسها مسرعة، فلم يجد بُدا من فتح ذراعيه إليها ثم أردف بحنان رغم الألم الذي تشكل داخل فؤاده من أجلها: طيب تعالي في حضني.

وعقب انتهائه من جُملته، وجدها قد اعتدلت وارتمت داخل أحضانه تُحيط به بقوة، لا تريد تركه وإن تركته ستهلك، هو بمثابة طوق النجاة بالنسبةِ لها، والآخر اتخذها مَسكنًا له ولآلمه، هي رُكنه اللطيف الهاديء.
قبَّل خصلاتها بحنان ثم دفن وجهه بين خصلاتها يستنشق عبيرها بهيام، لتتمسح به بأنفها بطفولية بالغة، وبعد ثوانٍ ذهبت هي في ثُباتٍ عميق، وهو لأول مرة يُجاورها وينام بكل ذلك القُرب المُهلك لقلبه!

هرول الوقت مُسرعًا وجاء الصباح، خاصةً وتحديدًا داخل المطار!
صعد صهيب مع والدته في الطائرة الخاصة بعد عدة مُحاولات عديدة في إقناعه، رفض قاسم في البداية ترك والدته وحدها، لكن الحزن الذي ظهر على وجه أخيه حيال رفضه جعله يتراجع في قراره ويسمح له بالصعود معها، بينما هو سيظل مع الفتيات في الطائرة الأخرى التي تجمعهم بالكامل.

احتضن رائد صديقه قاسم بقوة، ثم تشدق بصوتٍ متحشرج أثر حُزنه: يعني خلاص كلكم هتسيبوني لوحدي وتسافروا؟
شدد قاسم من عناقه ثم أردف بوعد: مش هنتأخر والله، هو شهر واحد بالكتير هنعمل عملية ماما ونطمن عليها وبعد كدا هنيجي تاني.
ابتعد عنه رائد كاتمًا حزنه داخله، ثم اقترب من آلبرت مُحتضنًا إياه هو الآخر قائلًا: وأنت كمان هتوحشني يا بغل أنت، رغم إنك مقضتش مدة كبيرة معانا بس كنت طيب.
طيب آه.

قالتها مهرائيل ساخرة، ليُطالعها آلبرت بحاجب مرفوع أثناء مُبادلته العناق للآخر، ليخرج صوته ودودًا نادرًا ما يخرج: وأنا أيضًا سأشتاق إليك كثيرًا، احرص على ذاتك وإن أردت شيئًا هاتفني ستجدني في الخدمة دائمًا.
تخفَّي يحيى أسفل قبعة كبيرة تُخفي معظم وجهه تقريبًا وذهب لتوديع قاسم بقوة قائلًا: ابقى طمني عليك يا صاحبي، ومتتأخرش بقى عشان عايز أتجوز البت.

ضحك قاسم بخفة أثناء ضربه على ظهره بمشاكسة أثناء قوله: على أساس ياض إنك مش ممكن تغدر بينا وتكتب الكتاب قبل كا نيجي؟
فكًَر يحيى قليلًا ثم أردف بصدق: بصراحة ممكن، بس انتوا وحظكوا بقى.
أبعده قاسم عنه بإشمئزاز ثم أردف حانقًا: غور يلا من هنا مش عايز أشوف وشك.
وعلى الجانب الآخر.
وقف فور أمام سهيلة التي تُحاول تلاشي النظر إليه حتى تمنع ذاتها من البكاء: سأشتاق لكِ كثيرًا هايلة.

عضت سهيلة على شفتيها بقوة، ثم ردت عليه بصوتٍ ضعيف واهن: خَلي بالك من نفسك يا فور.
نظر لها فور لعدة ثواني بصمت، ثم اقترب منها يلف يده حول خصرها مُحتضنًا إياها بقوة، أراد إدخالها داخل أضلعه وهي كانت مُتصنمة مكانها، ليصعد صوته بعدها هامسًا لها بعشق: أنا أُحِبُكِ هايلة.
كل ذلك وكانت سهيلة تكتم أنفاسها وعيونها جاحظة بعدم تصديق، حتى أنها لم تقدر على رفع يديها ودفعه، بل شعرت بأن قوتها قد خارت تمامًا!

شعر فور بمن يجذبه بعنف والذي لم يكن سوى قاسم لحُسن حظه، سدد قاسم ل سهيلة نظرة نارية قبل أن يأخذ فور بعيدًا هامسًا له بغضب:
أنت عارف رائد لو شافك كان هيعمل فيك إيه؟ أنت يا بني آدم مبتفهمش؟ سهيلة متنفعش ليك، بطَّل تعذبها بقُربك وتعذب نفسك.
أجابه فور بوهن: وماذا عن قلبي؟
نظر له قاسم بحسم وبعدها هتف بصرامة: ابعد عن سهيلة يا فور عشان متخسرش رائد.

هتف بها ثم ابتعد عنه تاركًا إياه يُعيد حساباته الخاصة بها، اللعنة على هذا الحظ الذي أوقع به في طريق مليء بالعثرات.
وفي نفس الأثناء، كانت كلًا من ملك ويمنى يبكون حُزنًا على فراق شقيقتهم لهم، احتضنتهم أهلة قائلة بيأس: خلاص بقى علشان خاطري، دا هو شهر واحد اللي هجيبه.
حاولنَّ السيطرة على ذاتهن، فمسحت ملك أنفها بكُم ملابسها قائلة تحشرج: ابقي هاتيلي معاكِ إسدال جديد وأنتِ جاية.

ضحكت أهلة متسائلة: هو أنا راحة الحج؟ دا أنا راحة روسيا، يعني بلد معظم اللي عايشين فيها كُفار.
بكت ملك أكثر وهي تجيبها: مليش دعوة جيبيلي إسدال.
كانت تلك محاولة فاشلة لكتم دموعها، لكن عادةً ما تفشل بكتم مشاعرها أمام شقيقاتها، احتضنتها أهلة مرةً أخرى بحنان، وظلوا هكذا عدة دقائق إضافية.
جاء في تلك الأثناء قاسم الذي ودَّعهم بود، ثم نظر ل أهلة، لوسيندا، مهرائيل قائلًا: يلا علشان نكمل باقي الإجراءات.

أومأوا له بالإيجاب، لتعترض مهرائيل قائلة بتعب: لأ أنا بجد رجلي وجعتني من الوقفة فهستنى هنا.
لم يُبدي قاسم أي اعتراض تاركًا إياها على راحتها، ثم أخذ كُلًا من أهلة ولوسيندا لترتيب الحقائب، والباقيون قد ذهبوا من المطار بعد أن ودعوهم بكلماتٍ حارة.

عادت مهرائيل إلى المقعد، وفي طريقها قابلت آلبرت الذي نظر لها ببرود شديد، قابلت نظراته بجمود يُشبهه وقررت استكمال طريقها بعيدًا عن هذا المُغفل الذي يزيد من حنقها، تخطته بخطوتان؛ لكنها توقفت الثالثة عندما رأت أبيها يقف مع عمها وابن عمها على بُعد أمتار قليلة منها!

عادت جميع الذكريات تتقاذف داخل عقلها مُجددًا، لتُصيبها نوبة من الهلع عندما أوصلها عقلها لفكرة رؤيته لها! عادت إلى آلبرت مُهرولة حتى وقفت أمامه مُباشرة لتختبيء خلف جسده العريض، ثم همست بصوتٍ باكي: بابا.
لم يفهم ما تقوله، لتهمس خائفة برعب: بابا هنا.

ارتعشت يديها التي تُمسك بقميصه لتثبيته وبدأت الدموع بالتسلل إلى دموعها تدريجيًا، ظلت واقفة هكذا لبعض الوقت ثم مدت رأسها لترى أبيها لتجده مازال واقفًا، بل ويضحك بملئ فاهه مع عمها أيضًا!
أثار تعجبها تلك الكدمات الغريبة التي تُزين وجهه لكنها لم تُعلق، وببطئٍ شديد همست بضعف بعد أن خبأت رأسها مُجددًا:
أنا خايفة.

ما مرت به كان قاسيًا للحد الذي يجعلها خائفة من أبيها طوال عمرها، أغمضت عيناها تُحاول التحكم بنبضات قلبها التي زادت بطريقة مُخيفة، لتشعر بعدها بيد غليظة تُحيط بها من ظهرها، ويد أخرى تُربت على خصلاتها بحنان شديد، ليصعد بعدها صوت آلبرت الهاديء بعد أن جذب رأسها لتستقر على صدره: لا تخافي. أنا هُنا معكِ جروي الصغير.
دُهِشَت مهرائيل من فعلته لكنها تركت نفسها بعد أن شعرت بالأمان يُداهم جسدها!

علي السادة المُسافرين ربط الأحزمة.
كان ذلك صوت المُضيفة أردفت بتلك الكلمات عندما جلس الجميع بأماكنهم في الطائرة، كانت أهلة متوترة بعض الشيء وهي تجلس بجوار قاسم، فرحلتهما معًا على وشك البدأ الآن!
نظرت بجانبها فوجدت الفتيات يجلسن على المقاعد المُخصصة لهم، لتُسدد لهم ابتسامات واسعة سعيدة لوجودهم معها، مال قاسم عليها قليلًا ثم همس قائلًا: ما بلاش الابتسامات دي كلها؟

اختفت ابتسامة أهلة التي طالعته باستغراب، ثم تسائلت بتعجب: ليه اشمعنى؟
رد عليها قاسم بعبث وهو يغمزها: فلتتركي الثُلث لقلبي.

الفصل التالي
بعد 19 ساعة و 30 دقيقة.
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة