رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل السابع والأربعون
ليتني أقف على حافةٍ عالية لأُلقي بجميع همومي، وأتخلص من جميع آهاتي، أشعر بالخراب يزداد داخل فؤادي فيُبعثر الباقي من شتاتي، أيتها الحياة أيمكنكِ تخليصي من آلامي؟ أم أنكِ تُزيدين من قهري وإحزاني؟
أنا ابقى أهلة مختار الأرماني.
جُملة واحدة خرجت من فاهِ أهلة ودموعها تملأ وجهها، فؤادها يصرخ بألم وكأنه ينهرها على وضع اسم ذلك الحقير بجانب اسمها، وكيف تستطيع الاعتراف به وهو السبب الرئيسي في تدميرها؟
أباها؟ عدوه اللدود وأكثر رجل يكرهه بالعالم هو والدها؟ وقف قاسم من مكانه بعد أن انتفض بصدمة، فتح فمه للتحدث لكن الحروف لم تصعد، وكأن لسانه قد شُلَّ عن الحديث وإبداء أي رد فعل طبيعي!
رفعت أهلة عيناها الحمراء تُطالع ردة فعله بحذر، لكن دموعها مازالت تهبط بصمت وملامح الحسرة ترتسم بوضوح على وجهها، رفعت كفيها تمسح وجهها بهدوءٍ شديد بعد ان زفرت بقوة لتستجمع روحها المُشتتة، وبعدها طالعته بقوة ثم قررت تفجير قنبلتها التالية:
وأنا اللي قتلت عمي، رفعت الأرماني.
صمت. صمت. صمت. كل ما حصلت عليه هو الصمت الذي عمَّ كل ركن من أركان الغُرفة، نبرتها كانت جامدة، باردة، وكأنها ليست نادمة على قتله أو ما شابه، بينما قاسم نظر إليها بملامح مُبهمة وكأنها كائن غريب برأسين مثلًا! ارتمى بجسده يجلس على الفراش وعيناه مُتحجرة على نقطة واهية بالغرفة، حتى صوته رفض بالخروج وقدماه لم تقدر على حمله!
التوى ثُغرها بابتسامة جانبية ساخرة، ثم رفعت يدها لتستند على الكومود بجانبها حتى نجحت بالوقوف، وبهدوء شديد توجهت نحو المرحاض وأغلقت الباب خلفها، دون حتى أن توجه له أي نظرة حتى لو نظرة عابرة! وهو فعل المثل، لكن بعد إغلاقها للباب رفع أنظاره يُطالع الباب المُغلق بصمتٍ وبدون تحرُك، وبعدها هب من مكانه واقفًا وخرج من الغرفة بأكملها بسرعة بعد أن أغلق بابها بعنفٍ ناتج عن صدمته.
وبداخل المرحاض؛ تكومت أهلة على ذاتها بعد أن جلست على الأرض السيراميكية الباردة، انتفضت من مكانها عندما استمعت إلى صوت الباب يُغلق بعنف، فعلمت بأنه قد خرج من الغرفة بأكملها، وهُنا سمحت لذاتها بالانهيار، هبطت دموعها وعلت شهقاتها الحادة لتملأ المكان، وهُنا عادت لعادتها القديمة، وضعت يدها على فمها لتمنع صعود شهقاتها الحادة، تُحاول أن تمنع ذاتها بشتى الطرق عن البكاء، وهُنا تمنت لو أنها لم تُعالَج من الكتمان من الأساس.
مرت ساعة تقريبًا وهي تجلس نفس تلك الجلسة وتبكي، حتى قاومت وتوقفت من مكانها ثم اتجهت نحو الخارج، ذهبت أبصارها رغمًا عنها نحو المرآة فرأت بوضوح وجهها المُتورم وعيناها الحمراء بقوة، اقتربت أكثر حتى أصبحت قبالتها تمامًا، فارتعشت شفتيها أكثر وهي ترى انعكاسها أمامها وهي تهمس بألم: مش ذنبي. والله مش ذنبي.
أخفضت رأسها للأسفل وأكملت بكائها العنيف، شعرت بأن قواها ستخور فاستندت بكفيها على تسريحة المرآة الموجودة أمامها ثم أكملت بكائها، ورغمًا عنها دار بخلدها بعضٍ من اللحظات التي تجمعها مع مختار الأرماني بعد أن حاول الاعتداء عليها، أنظاره كانت حادة وحديثه مُغلف بالكراهية والحقد، تذكرت تهديداته لها وعنفه الغير مُبرر معها، وهُنا صرخت بألم عنيف ثم أمسكت بزجاجة العطر الكبير وابتعدت قليلًا، وبعدها قامت بقذفها نحو المرأة بكل قوتها وهي تصرخ بأن لا ذنب لها.
تناثر الزجاج وأتى أسفلها، لكن كل هذا لم يهمها، آلامها الداخلية كانت أكبر وأقوى من الألم الجسدي الذي تشعر به الآن، لذلك توجهت نحو الفراش ببطئ شديد ولم تُبالي لقدمها التي جُرحت وتنزف الدماء، بل أكملت السير ثم نامت مُتكورة على ذاتها بعد أن غطت كل جسدها باللحاف الثقيل.
أحيه! يعني مراتك طِلعت بنت مختار الأرماني؟
هتف صهيب تلك الكلمات بصدمة، ليوميء له قاسم بصمت والذي يضع رأسه على مقود السيارة مُغمضًا لجفنيه بانهاك، لكنه فُزِع تلك المرة بحق عندما شهق صهيب بحدة وهي يضرب على صدره: أحيه تاني!
طالع قاسم شقيقه بغيظ، فأمسك بعلبة المناديل الورقية ثم قذفها على وجهه وهو يصرخ عليه بغضب: يقولك إيه يلا أنا فيا اللي مكفيني وأعصابي بايظة لوحدها، قول اللي عندك واخلص.
حكَّ صهيب وجهه وهو يُحدج قاسم بانبهار وكأنه توصل لاكتشافٍ عظيم، ولقد كان بالفعل!
معنى كدا إنك أهلة وحبيبة أخوات!
وتلك المرة ردد قاسم بصدمة: أحيه!
أكد صهيب على حديثه وهو يوميء له: هو فعلًا أحيه، ياه يا جدع! دي مصر كلها طِلعت أوضة وصالة!
أومأ له قاسم باقتناع وهو يُفكر مليًا في تصرفات أهلة الودودة مع حبيبة، فتحدث مُفكرًا: عشان كدا أهلة كانت بتعامل حبيبة بطريقة مُميزة! وهي فاكرة إنها بنت عمها مش أختها أصلًا!
أيده صهيب أثناء وضعه لكفه أسفل ذقنه قائلًا: أظن إن إحنا في ورطة، أنت لازم تقول ل أهلة إن حبيبة أختها، وأنا لازم أقول ل حبيبة إن مختار الأرماني هو أبوها.
أصاب الدوار رأس قاسم من كم الحقائق الصادمة التي علم بها دُفعة واحدة، وضع يده على رأسه قائلًا بانهاك: أنا دماغي لفت وصدعت.
خاف صهيب على شقيقه فتحدث بقلق: أنت هبطت مني ولا إيه؟ بقولك إيه افطر النهاردة عشان أنت لو أُغمى عليك هضطر أعملك قُبلة الحياة وأنا بقرف.
نظر قاسم ل صهيب بنظراتٍ حادة نارية، فمال عليه قليلًا ثم فتح باب السيارة ودفعه للخارج بعنف أثناء قوله الغاضب: بقولك إيه انزل مش عايز أفطر عليك، أبو معرفتك يا شيخ.
وبالفعل دفعه خارج السيارة رغم مقاومة الآخر الحانقة، ثم انطلق بها مُتحركًا بعيدًا وهو يُتمتم ببعضٍ الكلمات الساخطة، بينما صهيب نظر للشارع الفارغ من حوله ثم صاح صارخًا على شقيقه بغضب: يمين بالله أنت متربتش ولا شميت ريحة التربية يلا، دا أنت خسارة فيك المواساة يا عديم الإحساس.
حين تُتاح الفرص سأُعبر عن مكنونات فؤادي المُختبئة بين ثناياه، سأصرخ بأنني قد وقعت بين أمواج عينيك التي أغرقتني دون إرادتي، جذبني حُبك كالمغناطيس، وأصحبتُ أنا كالأسير، وحين تربعت بداخل وجدانك؛ أغلقت جميع أبوابك، فبِتُ أنا السجين.
كانت لوسيندا تقوم بتبديل ثيابها والتي كانت عبارة عن منامة وردية اللون ومُزينة ببعضٍ من النقوش البيضاء، سرحت خصلاتها وهذبتها ثم استدارت نحو چون الذي يُطالعها بنظراتٍ هائمة، وكأنها لم يرى من النساء مثلها، لقد اكتفى بها وظن أنه قد نجى، لكن عشقها قد أنهكه فأصبح لا يحتمل صخب فؤاده النابض باسمها، استدارت له وعلى ثُغرها ابتسامة هادئة يكاد يُقسم بأنها أفضل ابتسامة قد رآها طيلة حياته، ثم اقتربت منه بخطوات بطيئة رآها مُتدللة بعض الشيء، صعدت على الفراش بجانبه ثم التصقت به دون أن تتفوه بكلمة، وبعدها تمتمت بحبٍ: أعشقك چون.
أحاط چون بخصرها وقرَّبها منه أكثر، ثم قبَّل وجنتها بحنان وهو يهمس: و چون هائم بكِ لوسيندا.
اتسعت ابتسامتها حتى ظهرت نواجزها، فاعتدلت بحماس ثم جلست قبالته وهي تقول بأعين مُتلهفة: هنسمي ابننا إيه؟
انتقل إليه حماسها فرد عليها ضاحكًا وعيناه مُلتمعة بشعر لذِكر هذه السيرة: ولو بنت؟
عضت على شفتيها وهي تُفكر لعدة ثوانٍ، وبعدها هتفت قائلة: خلاص نختار اسم بنت واسم ولد من دلوقتي، إيه رأيك؟
طرق فؤاده بعنف وهو يتخيل صغيره من الآن وكيف سيكون، عمَّ الصمت على كليهما لدقيقة كاملة تقريبًا، ليهتف بعدها چون بحماس وهو يُمسك كفها بسعادة: لو بنت نسميها چوليا، إيه رأيك؟
التمعت حدقتاها بحماس وهي تُوميء له بسعادة: الله حلو أوي، ولو ولد هنسميه را ، حلو؟
أومأ لها وابتسامته تتسع تدريجيًا، فيما هتف هو بعدها بعد أن جعلها تستقر على صدره: أطفالنا سيكونون لُطفاء للغاية، مثلكِ تمامًا حبيبتي لوسيندا.
رفعت لوسيندا رأسها له ثم قبلت وجنته بحب، وبعدها تسائلت بنظراتٍ مُترقبة: هل ستظل تحبني چون؟
أجابها دون مراوغة أو تفكير: حتى نهاية أنفاسي لوسيندا.
لاحظ حدقتاها اللامعة بدموعٍ مُتأثرة، فأحاط بوجهها وهو يقول بعشق: إن توقف فؤادي عن النبض ستكون آخر نبضة تُنادي باسمك، وآخر دمعة مني ستهبط حسرةً على عدم رؤيتكِ مُجددًا، الابتسامة الأخيرة ستكون لأجلك فقط، أنا هُنا لأنكِ بنفسِ المكان لوسيندا.
هبطت دمعة شاردة من عين لوسيندا تأثرًا بحديثه، ذلك الرجل يحتل كيانها بأكمله دون أن يبذل أي مجهود، اعتدلت جالسة ثم أحاطت بعنقه بقوة شديدة وهي تهمس: بعد الشر عليك، أنا بحبك أوي.
بادلها العناق بقوة لكن طفيفة بعض الشيء خوفًا على طفله، ثم قبَّل جانب عنقها هامسًا: وأنا أيضًا أحبك لوسيندا.
سعادتها كبيرة وفرحتها أكبر تكفي لأن تُوزع على العالم بأكمله، لذلك قررت مشاركتها مع أصدقائها، هرولت سهيلة إلى منزل كُلًا من يمنى وملك وهي تكاد تقفز من السعادة، طرقت على باب منزلهم بنغماتٍ مُتجانسة حتى فتحت نبيلة بوجهٍ واجم، لكن انحمى وجومها فور رؤيتها ل سهيلة تقف على أعتاب المنزل بابتسامة واسعة، فبادلتها الابتسامة واحتضنتها عندما اقتربت منها الأخرى قائلة بترحيب: سهيلة؟ إزيك يا حبيبتي؟
ردت عليها سهيلة بود وهي تُربت على ظهرها بخفة: الحمد لله يا طنط كويسة، أنتِ أخبارك إيه؟
ابتعدت عنها نبيلة ثم أجابتها وهي تجذبها نحو الداخل: الحمد لله بخير يا حبيبتي، إيه القمر والحلاوة دي؟ شكلك قمر بالحجاب ما شاء الله.
أخفضت سهيلة رأسها ببعض الخجل ثم أجابتها على استحياء: تسلميلي يا طنط دي عيونك اللي حلوة.
ربتت نبيلة على ظهرها بود ثم أشارت لها لغرفة ملك وهي تقول بضحك: ادخلي هتلاقي البنات جوا، وربنا يكون في عونك على الغباء اللي هتشوفيه.
ضحكت سهيلة بخفة على مزحتها ثم اتجهت نحو الغُرفة بالفعل، لكنها قررت مشاكستهم قليلًا، ففتحت باب الغرفة ببطئ شديد وطلت برأسها للداخل حتى ترى ماذا يفعلون، وكان المشهد كالتالي:.
ملك تجلس مُتربعة على الفراش مُتربعة وهي تُطالع شقيقتها يمنى بخوف، و يمنى تصرخ بغضب وهي تجذب خصلاتها بجنون والتي تشعثت من غضبها، وأمامهم يوجد الكثير من الكتب: ألطم ولا أجيب لطامة ولا أعمل في أمك إيه أنا؟
ابتسمت ملك بتوتر وهي تُلاحظ غضبها الذي بدأ يتصاعد أكثر، فزادت الطين بلة بقولها الأحمق: يا يمنى يا حبيبتي أعصابك لتطق وتموتي، وبعدين مالها الإجابة بتاعتي يعني؟ ما هي صح وزي الفل أهو!
طالعتها يمنى بشر فاستندت على الفراش بركبتيها ثم مدت يدها تُمسك بخصلاتها بقوة وهي تجذبها نحوها أثنلء صراخها الغاضب: هو إيه اللي زي الفل؟ أنا نفسي أعرف أنتِ دخلتي تربية انجليزي إزاي؟ طالما حمارة ومبتفهميش داخلة تتقنعري وتتفشخري فيها ليه!
تأوهت ملك بألم، فرفعت يدها لتُبعد يد شقيقتها عن خصلاتها وهي تُبرر: على فكرة دي كُلية سطحية وتوكسيك، وترجمتي أنا اللي صح اسمعي مني!
نفذ صبر يمنى التي صرخت بالمقابل وهي تشعث خصلاتها أكثر: لأ تعاليلي بقى، ترجمة إيه هي اللي صح! جايلك ترجمة فيها Hot dog تقومي تترجميها كلب حار؟ ليه بيغريكِ بروح أمك.
كتمت ملك ضحكتها التي كادت أن تصعد رغمًا عنها، فأجابتها بهدوء أثار استفزار الأخرى: ما هي دي الترجمة الصح، أنت لو ترجمتي Dog هتلاقيها كلب، ولو ترجمتي Hot هتلاقيها حار، فين الغلط بقى!
فتحت يمنى فمها للرد عليها، لكنها ابتلعت حديثها عندما شعرت بأنوار الغُرفة تُغلق، تركت يمنى خصلات ملك وابتعدت عنها ثم أردفت بريبة وهي تنظر إلى عقب الباب: هو النور قطع هنا في الأوضة بس ولا إيه؟ أنوار الشقة كلها قايدة.
انتفضت ملك من مكانها ثم اقتربت منها حتى التصقت بها بقوة وهي تُمسِك بذراعها أثناء قولها الخائف: هما مش بيتسلسلوا في رمضان ولا إيه؟
ابتلعت يمنى ريقها بريبة وهي تتسائل بفزع: هما مين دول؟
شددت ملك من الإمساك بذراعها وهي تُردد بخوف: اللهم احفظنا.
أمسكت يمنى بثيابِ ملك بقوة وكأنها لم تكن تمسك بها من خصلاتها وتُعنفها منذ قليل: بقولك إيه! تعالي ننزل من على السرير سوا ونروح ناحية الباب ونفتحه.
عضت ملك على شفتيها وهي تُردد بصوتٍ مُرتعش: لأ روحي أنتِ وأنا هفضل مكاني أشجعك.
تحولت معالم وجه يمنى إلى الحنق، فأردفت بإصرار: لأ هنروح سوا، يلا ننزل.
أومأت لها شقيقتها مُوافقة إياها، وما كادا أن يضعا أرجلهم على الأرض؛ حتى استمعوا إلى صوت الباب يُغلق بالمفتاح، وخيالٌ يمر من أمام المنطقة المُنيرة أسفل الباب، لطمت ملك على وجهها بفزع ثم نادت بصوتٍ مُتذبذب على والدتها: يا. يا ماما، ي.
قطعت حديثها صارخة بقوة هي و يمنى عندما ظهر أمامهم جسد شخص مجهول يوجه ضوء مصباح الهاتف إلى وجهه بطريقة مُفزعة، دفعت يمنى شقيقتها ملك وهي تصرخ بعنف: خدوها هي أنا صايمة وهي فاطرة.
صرخت بها ملك وهي تكاد تبكي من الخوف: يا كذابة. متسمعش منها يا أستاذ عفريت أنا صايمة أقسم بالله.
كان فزعهم وصل إلى ذروته، لكنهم صمتوا عندما استمعوا إلى صوتِ قهقهات أنثوية تنطلق في الأرجاء، قطبا جبينهما بتعجب مُبتلعين ريقهم بريبة، وفي اللحظة التي تلتها فُتِحَ نور الغرفة وظهرت سهيلة التي صدحت عاليًا، طالعتها كُلًا من يمنى وملك بدهشة، ثوانٍ ما تحولت نظراتهم إلى الحقد ثم اندفعوا إليها معًا وأبرحوها ضربًا.
بعد عشر دقائق تقريبًا؛ ارتمت الثلاثة فتيات على الفراش وهن يتنفسن بعنف أثر المجهود المضني الذي فعلوه، فلقد وصل الشجار إلى ضربهم لبعضهم البعض، فتارةً تضرب يمنى سهيلة، وتارةً أخرى تحصل ملك على نصيبها من الضرب، وهكذا نفس الشيء مع سهيلة وملك.
اعتدلت سهيلة أولًا ثم عدَّل من حجابها الذي خرب كُليًا، وبعدها اعتدلت يمنى وملك معًا، فبدأت سهيلة بحديثها المُتحمس وهي تخلع الحجاب تمامًا: كنت جاية أفرحكم معايا عشان أنا فرحانة أوي.
أرجعت يمنى خصلاتها للخلف وتسائلت بانتباه: خير اللهم اجعله خير، إيه اللي حصل؟
انتقلت سهيلة بأنظارهما بين كلتاهما لتُراقب وجوههم الفضولية، ثم تشدقت بابتسامة سعيدة للغاية: فور أسلم.
صرخت ملك بعدم تصديق والابتسامة تشق وجهها بقوة: قولي أقسم بالله كدا؟ فور بتاعنا قصدك!
ضحكت سهيلة بقوة وهي تُوميء لها، فصفقت يمنى بحماس وسعادة شديدة: الله بجد! يعني كدا مفيش أي مانع إنكم تتجوزوا صح؟
اتسعت ابتسامة سهيلة والتي أجابتها بأعين مُلتمعة: طلب إيدي من بابا، وبابا قاله خليها بعد العيد، أنا بجد مبسوطة أوي.
أنهت حديثها؛ فوجدت الفتاتان تحتضنان إياها بقوة بالغة وهُم يلقون على مسامعها جُمل المُباركة التي زادت من سعادتها.
ابتعدت عنها يمنى ثم أبلغتها بابتسامة سعيدة: وعشان الخبر السعيد دا حببت أفرحك أكتر وأقولك إن حبيبة ولوسيندا الاتنين حوامل.
وضعت سهيلة فاهها بعدم تصديق وهي تردف بدهشة: إيه بتهزري!
ضحكت ملك على ردة فعلها وتحدثت بحماس أشد: و أهلة اتعالجت من الكتمان وبتتعالج من الوسواس دلوقتي.
التمعت عيني سهيلة بدموع السعادة ثم أردفت بتحشرج وصوتٍ مُتأثر بكم الأحداث السعيدة التي تسمعها الآن: الحمد لله بجد، كرم ربنا كبير ورمضان جِه وجاب معاه الجبر لقلوبنا كلنا.
وافقاها على الحديث وكُلًا منهم تبتسم بسعادة، فالمشاكل بدأت بالزوال وأتى مكانها الفرح والسعادة، الحزن يتبدد والسرور يقتحم القلوب، كل شيء بدأ يعود مثلما كان وأفضل مما كان عليه.
وصل قاسم إلى وجهته بعد نصف ساعة من القيادة ودلف إلى المشفى، قام بالصعود حيث غرفة والده دون أن يلقى أي اعتراض من الأطباء نظرًا لعلمهم بمكانته هُنا، فتح باب الغرفة ببطئ ثم اتجه نحو الداخل فوجد والدته نائمة بسلام، لم يتركها لترتاح أو تُكمل نومها، بل جلس على الفراش بجانبها ثم هز كتفها مُناديًا عليها: ماما! ياما! أُما! يام!
كان يُناديها بأسلوبٍ سوقي بعض الشيء يظهر كلما يغضب أو يكون حزين ليُخفي من وجعه، تململت والدته في مكانها بضيق وفتحت عيناها ببطئ حتى تعتاد على الضوء، وحينما رأته تسائلت بصوتٍ مُتحشرج: في إيه يا قاسم؟
سألها قاسم ببلاهة: أنتِ نايمة؟
نظرت والدته له لبضعة ثوان بصمتٍ قبل أن تتزحزح من مكانها قليلًا لتُفسح له المكان، ثم مدت ذراعها له وهي تقول بحنان: تعالى يا قاسم نام على دراعي واحكيلي مالك يا حبيبي.
نظر إليها قاسم بعينٍ مُمتلئة بالألم وقد صدق حدسها، طفلها لا يأتي إليها مُهرولًا إلا عندما يهلكه الكتمان ولديه رغبة بالبوح عن آلامه، خلع قاسم حذائه ثم صعد على الفراش مُتمددًا بجانبها، ووضع رأسه على ذراعها التي أحاطت رأسه بحنان، وباليد الأخرى كانت تعبث بخصلاته لتُهدأه من صخب رأسه.
عم الصمت لمدة خمس دقائق تقريبًا، حتى خرجت حياة عن صمتها تسأله بانتباه: ها احكيلي مالك بقى.
زفر قاسم بثقل جعل والدته تتيقن من ما شعرت به، انحنت على رأسه تُقبل رأسه بحنان ثم تسائلت مرة أخرى: مالك يا حبيبي؟
بدأ قاسم يقص لها ما حدث وعقله يكاد أن ينفجر من فرط التفكير، كَم الحقائق التي هبطت فوق رأسه دُفعةً واحدة أوقفت لسانه عن الحديث أمامها، خاصةً عندما رأى الضعف يرتسم داخل عيناها وهي لا تجد مفرًا من قَص الحقيقة، إن أخفتها الآن ستُحسَب مُذنبة، لقد أرادت أن ترمي حِملها من فوق كاهلها وهو لم يستطيع حمله معها من فرط مفاجأته، كانت والدته تستمع إليه بإنصات حتى انتهى، وبعدما صمت تسائلت هي بترقب:.
يعني أنت عايز تسيبها وتطلقها دلوقتي؟
رفع رأسه يُطالع والدته بتشنج بعدما انتفض من مكانه وهو يقول باستنكار: أطلقها دا إيه! ما صهيب متجوز ومراته من نفس العيلة ومتكلمناش، هتيجي على البت اللي حيلتي وأطلقها؟
ابتسمت والدته بعبث بعدما توصلت إلى ما تريد، ثم تشدقت بمشاكسة: طالما كدا يبقى إيه اللي مزعلك؟ زعلان إنها من عيلة الأرماني ولا من إنها بنت راجل خسيس وحقير؟
ابتلع ريقه بتفكير ثم أجابها وهو يهز كتفه بلامبالاة: أنا مش زعلان أصلًا، أنا بس مصدوم والصدمة كتمتني فمبقتش عارف أواسيها ولا أتكلم ولا أعمل أي حاجة.
قوم كدا!
قالتها بجمود، ليقطب جبينه بتعجب وهو يجلس بالفعل، وبعدها اعتدلت والدته جالسة بتروٍ وساعدها قاسم على ذلك، طالعت حياة ابنها بنظراتٍ نارية ثم أمسكته بياقة ثيابه وهزته بعنف وهي تُوبخه: أنت قولت إيه؟ سيبتها بتعيط ومنهارة وجيت ومرزوع هنا؟
ابتلع قاسم ريقه بحذر وهو يُجيبها: آه.
ولم يشعر بشيء بعد ذلك سوى دفع والدته له فوقع من الفراش على ظهره مما جعله يتأوه بعنف، تبعه صراخها عليه وهي تُشير نحو الباب: قوم يا حيوان يا عديم الإحساس روح لمراتك ومتجيليش المرة الجاية غير وهي معاك.
فتح قاسم فاهه بعدم تصديق أثناء تسطيحه على الأرض، ثم أشار لنفسه بصدمة وهو يقول بعدم تصديق: أنت بتطرديني؟ يا ماما أنا اللي ابنك مش هي!
قال جُملته الأخيرة بحنق، لتُوبخه بحدة وعيناها ترميه بنظراتٍ غاضبة: ابني أقف جنبه لما يكون مظلوم، لكن سايب مراتك زعلانة وبتعيط في البيت وجاي تتمرقع هنا يبقى كدا أنت متربتش، دا أبوك عُمره ما سابني في يوم زعلانة ولا متضايقة، تيجي أنت تخرج وتسيب مراتك زعلانة لوحدها في البيت وأنت عارف ظروفها إيه وبتمر بإيه؟
تربع قاسم على الأرضية الصلبة وظل يُفكر جديًا بكل كلمة قالتها، هو بالفعل تركها وحدها تُعاني من صراعاتها الداخلية، لكنه يُقسِم بأنه فعل هذا من صدمته ليس إلا، هو يعشقها، بل يهيم بها عشقًا لكن الحقيقة كانت مريرة، انتفض من مكانه واقفًا وقرر الذهاب والعودة حيث ملجأه، وقبل أن يذهب اتجه نحو والدته وقبَّل خدها بقوة وهو يقول: بحبك.
قالها ثم هرول راكضًا نحو الخارج ليعود مُسرعًا إلى المنزل، بينما حياة نظرت لأثره بحنان وهي تهز رأسها بيأس أثناء تمتمتها: ربنا يهدي سِرك يابني.
وللمرة الثانية على التوالي يتجمع الشباب معًا على سطح المنزل الخاص ب رائد، كان الجو باردًا والهواء العاصف يضرب أجسادهم فيتسبب في برودتهم، أشعل يحيى بعض الأخشاب وساعده وليد في ذلك، بينما رائد جلب ركوة اسطوانية (كنكة) ووضع بها بعض المياه والسكر والشاي ووضعها على الأخشاب بعد أن تفحمت وهدأت نيرانها قليلًا، جلسوا على شكل دائرة حول النيران فأخرجهم سيف من الصمت وهو يتسائل بتعجب:.
مين مختار الأرماني اللي عمالين تشتموا في سلسبيل أهله دا؟
رد عليه وليد بلامبالاة: دا واحد عايز يقتلني عشان اكتشف إني بخونه.
وببلاهة شديدة تسائل سيف: هو انتوا كنتوا مرتبطين؟
تشنج وجه وليد باشمئزاز مُطالعًا إياه بقرف، ثم رد عليه بقوله الحانق: مرتبطين إيه بس يا عم؟ من قلة الستات هروح أبص لراجل قد أبويا؟
تسائل يحيى مُستفسرًا: يعني لو مكانش قد أبوك كان هيبقى عادي؟
قذفه وليد بحجر صغير كان موجود بجانبه ثم صرخ بهم بحنق: ما تبطلوا سفالة وقلة أدب بقى، أنا مش هصوم أصوم وأفطر على أشكال نتنة زيكم.
ربت رائد على صدره وهو يقول بجدية: حبيبي والله تسلم.
التوى ثُغر وليد بابتسامة جانبية وهو يهز رأسه بيأس، فاستمع بعدها إلى سؤال يحيى الذي أردف بجدية شديدة تلك المرة: طيب وأنت عملت إيه من إمبارح؟
أجابه وليد بهدوء وهو يتنهد بثقل: ولا حاجة، كلمت قاسم وحكيتله الحوار من أوله لأخره قالي أنسحب فورًا عشان معرضش حياتي للخطر.
طالعه رائد بتفكير ثم تسائل بشك: بس أنت عرفت إزاي إن هو كشفك ياض يا وليد؟ ما هو أنت أكيد مش مكشوف عنك الحجاب عشان تعرف لوحدك.
ضحك وليد بخفة ثم رد عليه بدهاء: ودي هتفوت عليا برضه يا رائد يا حبيبي؟ يلا مختار الأرماني متزرعة بأجهزة تنصت وخصوصًا في مكتبه وأوضة نومه، كل حركة بتحصل في ال يلا أنا على علم بيها.
ربت سيف على فخذه بفخر قائلًا: جدع ياض أنا فخور بيك.
ضرب وليد كفه بخاصته أثناء قوله المُشاكس: صحبي وحبيبي وعم ولادي وعهد الله.
سخر منهم رائد الذي يقوم بصب أكواب الشاي: انتوا لحقتوا؟ دا انتوا لسه متعرفين إمبارح.
أخذ منه وليد قدح الشاي مُجيبًا إياه وهو يضحك: متعرفش أنت الشوية دول اتكلمنا في إيه ولا عملنا إيه.
ارتشف الجميع من الشاي بتلذذ وعم الصمت لدقائق، أيديهم تلف حول الأكواب الساخنة لتبث لأجسادهم الدفيء، قطع هذا الصمت صوت وليد الذي رفع رأسه ل رائد مُتسائلًا: صحيح يا رائد أنت بتنتقم من عيلة الأرماني ليه؟
صوت ابتسامة ساخرة صعدت من فم يحيى، فطالعه رائد بغيظ وهو يرتشف من كوبه بصمت، ضيَّق سيف عيناه بحذر وهو يتسائل: دا سر ولا إيه؟
رد عليه رائد نافيًا بقوله: ولا سر ولا حاجة، كل الحكاية إني مبنتقمش أصلًا وهو معملش فيا حاجة.
قطب وليد عينه باستغراب فاستفسر: إزاي مش فاهم؟
أجابه رائد ببساطة: يعني أنا مليش علاقة أساسًا بحوار الانتقام دا، أنا و قاسم صحاب من زمان أوي من لما كان بيدرس في الجامعة، وعرفت كل حكايته وقررت أساعده، بس المساعدة مش إني أقتل معاهم بالاتفاق مع الشرطة، بس بساعدهم بطريقة غير مباشرة، يعني بجيبلهم الأخبار عن طريق ناس صحابي شغالين في شركة الأرماني.
مصمص سيف على شفتيه قائلًا: وأنا اللي كنت فاكرك عميق ووراك حاجة! طِلعت عبيط.
قهقه الرجال عاليًا، ليُطالعه رائد بغيظ قائلًا وهو يدفعه من قدمه: ههه لأ خفة ياض أنت وهو.
كتموا ضحكاتهم رغمًا عنهم، فهتف يحيى مُتحمسًا: إيه رأيكم نروح عند الواد بادر نكمل عنده السهرة؟
اعترض رائد حانقًا: لأ يا عم مش رايح، أبوه المرة اللي فاتت حدفني بالشبشب لحد ما ساوى مناخيري بوشي.
علت ضحكات يحيى بصخب وكذلك سيف الذي تذكر ما حدث المرة السابقة، لكن قاطعهم صوت وليد االذي تحدث بملل: لأ أنا مش رايح في مكان.
طالعه يحيى بضيق وكاد أن يفتح فاهه ليتكلم، لكن قاطعه صوت هاتف وليد الذي ارتفع صوت رنينه، أخرج هاتفه من جيب بنطاله ثم أجاب بهدوء: ألو!
جاءه صوت الطرف الآخر يهتف بفزع: أيوا يا وليد؟ مختار الأرماني قالب الدنيا عليك وحالف لهيخلص عليك النهاردة.
أغلق وليد الهاتف ثم نظر إلى يحيى مُتحدثًا بغباء: يلا نروح نكمل سهرتنا عند صحبك.
علت ضحكات الثلاثة بصخب وكأنه قال مزحة، ليس وكأنه سيُقتل مثلًا! وبالفعل قام يحيى بمهاتفة بادر وأخبره بقدومه، فرحب بادر بالأمر كثيرًا مُخبرًا إياه أن يأتي ويجلس معه ومع أخواته وأصدقائه الضيوف، لكن مَن سيكون الضيوف يا تُرى!
وصل قاسم إلى القصر ووصل مُسرعًا إلى غرفته، فتح الباب بهدوء شديد فوجد الصمت يعم الغرفة بأكملها، قطب جبينه بقلق ثم اقترب أكثر بعد أن أغلق الباب من خلفه فوجد جسد متكوم على الفراش ويحيطه غطاء يُغطيه بأكمله، شعر بالذنب يتآكله فاقترب أكثر واستمع لنهنهات بكاء طفيفة، هل يُعقل بأنها ظلت تبكي لمدة ثلاث ساعات مُتواصلة ومازالت؟
خلع حذائه ثم صعد على الفراش من خلفها وجذب الغطاء ليُحيط بجسد كليهما، لم تتحرك أهلة بل ظلت مُتكومة ثابتة على ذاتها دون حتى أن تستدير له أو تُعطيه أي اهتمام، تألم فؤاده لحالتها وعلم بأن كل كلمة قد قالتها والدته فهي مُحقة بها بنسبئة مئة بالمئة، مسد قاسم على خصلات أهلة أثناء مُناداته لها بصوتٍ حنون: هولا؟
ظلت على حالتها الصامتة تُخفي وجهها عنها وتُعطيه ظهرها، لكنه لم يمل أو يصمت، بل استند بذراعه بجانب رأسها وباليد الأخرى مسد على خصلاتها المُشعثة بحنان وهو يقول بحزن على حالتها: متزعليش مني، مش قصدي أسيبك والله وأنتِ في حالتك دي، أنتِ أكيد حاسة بيا وحسيتي بصدمتي لما عرفت منك الحقيقة، حقك على قلبي والله.
ارتفعت شهقاتها تدريجيًا مما زاد شعوره بالذنب بداخله، ورغم اعتراضها ودفعه إليها؛ قام بجذب جسدها إليه وأدارها له حتى تُصبح في مواجهته، ولسوء حظه صُدِم بكم الدموع التي تُغرق وجهها، ناهيك عن وجهها وعينيها المتورمتين من كثرة البكاء، هبط على عينيها يُقبلهما بحنان وهو يقول باعتذار: حقك عليا والله، متزعليش مني مش هيهون عليا زعلك.
دفعته قائلة بعصبية لكن بصوتٍ مُتحشرج: ابعد عني وملكش دعوة بيا.
التوى ثُغره بابتسامة جانبية وهو يتحدث بتشنج: لأ ما أنا مش هبقى متخزوق وكمان هتهزق!
دفعته أهلة بعيدًا عنها لكنه ما كان ليتركها، وعندما نفذت قواها انهارت باكية وسقط قناع قوتها الباكية، تركها قاسم تُخرج ما بها من آلام وقرر تخفيفه، تارةً يُقبِّل رأسها وتارةً أخرى يُهدهدها كالأطفال، وهي كانت تتشبث به رغم مقتها له منذ قليل، مر الوقت ومرت الدقائق حتى همست هي بألم: مش ذنبي. والله ما ذنبي.
طمئنها قاسم بقوله الحنون ويده تتحرك صعودًا وهبوطًا على ظهرها: أنا عارف. عارف.
بينما هي أكملت حديثها بكلِ ألمٍ وشهقات تتصاعد تدريجيًا: مش سهل عليا إني أكون عايزة أنتقم من أبويا وأقتله، والله العظيم كل دا ما سهل عليا، كل دا مش ذنبي، أنا. أنا.
قاطعها جاذبًا إياها لأحضانه أكثر حتى باتت قطعة منه تقريبًا، فلقد وضع ذراعه أسفل رأسها وباتت مُستقرة على صدره، ويداه تُحيط بخصرها لتُقربها منه، والغطاء موضوع فوق جسد كليهما، ومن الحين للآخر يضع قُبلة رقيقة على خدها يتبعها حديث هاديء وحنون يُهديء من روعها.
مرت نصف ساعة وهو يُحاول بشتى الطُرق صرف عقلها عن التفكير في كل ما هو بشع، لذلك سألها بمزاح وهو يعبث بخصلاتها: أحكيلك حدوتة؟
ردت عليه بصوتٍ مُهاجم: مش عايزة أسمع منك حاجة.
فكَّر قليلًا ثم عاد ليتسائل مُجددًا: طيب أحكيلك عن طفولتي البريئة؟
وللمرة الثانية ترد عليه بنفس الهجوم: قولتلك مش عايزة أسمع منك حاجة.
ليُجيبها قاسم بعبث: يبقى هحكيلك.
رفعت أنظارها إليه تُطالعه بغيظ، بينما هو تجاهل نظراتها الغاضبة وبدأ بقص ذكريات طفولته البريئة كما يقول:.
زمان كُنا عايشين في منطقة ريفية وسط فلاحين من جيراننا وكدا، المُهم إن في الوقت دا السرقة كانت زايدة جدًا، فبابا دايمًا كان بيقولي إني أنا راجل البيت في عدم وجوده، كنت باخد الكلام جد أوي وبنفذ الكلمة بالحرف الواحد، لحد ما في يوم بابا اتأخر في الشغل أوي، طبعًا ساعتها أنا كنت سهران علشان أحرس ماما وأخويا، تقريبًا كانوا عايزين يشغلوني غفير، في الوقت دا سمعت صوت باب البيت بيتفتح براحة خالص، فأنا من ذكائي ونباهتي فكرت إنه حرامي، قومت مسكت الخشبة الكبيرة ووقفت ورا الباب عشان استخبى، وأول ما الباب اتفتح والحرامي دخل نزلت فوق دماغه ضرب، أصل بعيد عنك كنت شجاع حبتين، فين وفين بقى على ما استوعبت إن الحرامي دا بابا الله يرحمه، ووقتها اتخيط أربع غُرز وحلف عليا إني أنام من المغرب بعد كدا.
تناست أهلة غضبها وحزنها وصمتت لتستمع إلى قصته الشجاعة، لكن شعرت برغبة عارمة في الضحك عندما استمعت إلى الجزء الأخير من قصته، لاحظ قاسم هذا فأردف بعبث: طب والله عايز تضحكي، اضحكي بقى!
وبالفعل اتسعت ابتسامة أهلة وصاحبها صوت قهقهات خفيفة منها، ليُبادلها قاسم الضحك ثم هبط على خدها يُقبله بحنان وهو يقول: روح قلبي والله، مشوفتش أجمل من ضحكتك دي.
أخفضت أهلة رأسها بخجل منه ومن كلماته التي تُثير مشاعرها، بينما هو طالعها بابتسامة حنونة ثم قبَّل خصلاتها بحب وهو يقول: غمضي عينك وارتاحي عشان أنتِ تعبتي أوي النهاردة.
تحركت مهرائيل خارج غرفتها وقررت التوجه إلى مكتب آلبرت لتراه، وإن تسائلتم عن السبب فهي قد اشتاقت له ولمشاكسته!
ابتسمت بخفة عندما تذكرت طلبه للزواج وموافقتها عليه بنفس الطريقة العابثة، حتى نظراته الماكرة التي يرميها إليها من الحين للآخر تُشعرها بأنها في كوكب آخر غير الذي به!
وصلت إلى مكتبه ورفعت كفها لتطرق على الباب؛ لكنها وجدت الباب مفتوحًا أو بمعنى أصح مُواربًا بفتحة صغيرة، قطبت جبينها بتعجب فدفعته على مهل لتتصنم بعدها مكانها بعد ما رأته! فتاة شقراء ترتدي ثيابًا تكاد تكون جلدًا آخر على جلدها مُقتربة من آلبرت الذي يُحيط خصرها بامتلاك، وتلك النظرة اللامعة التي يُسددها لها هو ما أصابها في مقتل!