رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثامن والأربعون
طعناتُ الفؤاد مؤلمة وخذلانه بشع، أن تضع كامل ثقتك في شخصٍ ما فتجده قد بعثرها؛ من أكثر أنواع الخيانة ألمًا، أن تبني حياتك على وعودٍ تكتشف فيما بعد بأنها واهية؛ فالأمر مُفزع، أن تعلو بسعادتك للسماء فتسقط على بغتة؛ فالنتيجة هي جسد بلا روح.
أول ما لاحظته هي نظراته التي يرميها لتلك الحية، بسمته التي تظهر قليلًا رأتها الآن، يداه! يداه تلتفان حول خصرها والأخرى تُحيط بعنقه، رفعت تلك الشقراء يدها لتتلمس بأصابعها جانب وجهه وهي تهمس بشغف: أفعل أي شيءٍ لأجلك آلبرت.
ابتسامة جانبية خبيثة تشكلت على ثُغر آلبرت، ولأن الأخرى كانت هائمة به؛ لم تُلاحظ ذلك، فتح فمه في نية للرد عليها، لكنه ابتلع حديثه عندما استمع إلى صوت صرخة أنثوية حادة والتي كان مصدرها مهرائيل التي اقتربت منهم وصاحت به بعنف:
وحياة أمك! بقى تطلب إيدي للجواز بليل وتخوني الصبح؟ عامل نبطشية بروح أهلك؟
ابتعدت الفتاة بفزع عن آلبرت ناظرة لها بتعجب، ثم حوَّلت أنظارها إليه وهي تتسائل: مَن تلك الدخيلة عزيزي؟
لم يُجيبها آلبرت، بل اكتفى بتسديد نظرات نارية نحو مهرائيل التي لم تُبالي به أو بنظراته المُحذرة، بل اقتربت أكثر وهي تُصيح بغضب مُوجهة حديثها له بلغته الأم: مَن تلك الفتاة آلبرت وماذا تفعل هُنا؟
للخارج مهرائيل.
نطق بها ببرود يُنافي غضب عيناه، لتُشيح أمام وجهه وصوتها بدأ يرتفع تدريجيًا: لن أخرج من هُنا قبل أن أعرف من تلك الحقيرة وما العلاقة التي تجمعكما.
وتلك المرة صاحت بها الفتاة التي اقتربت منها بهجوم ثم نكزتها في كتفها وهي تردف بنبرة حادة: أنتِ امرأة قذرة ولا يوجد سواكِ الحقير هُنا، لا يكفي بأنكِ عديمة الأدب ودخلتِ إلى هُنا دون حتى الاستئذان؟
نظرت مهرائيل إلى كتفها مكان ضربتها، ثم همست بفحيح: دا أنتِ يوم أهلك مش معدي النهاردة.
قالت جُملتها ثم هجمت عليها تضربها في أنحاء مُتفرقة في جسدها حتى أوقعتها أرضًا وجلست هي فوقها حتى تتحكم بها تمامًا، ولم تكتفي بذلك فقط؛ بل مدت يدها لجذب خصلاتها الشقراء بين يديها حتى أخرجت بضعة خصلات في يدها، كل ذلك في نفس الوقت الذي لم يكف به لسانها عن سبها بحقد، ولم تشعر بدموعها التي تهبط من بين جفنيها رغم غضبها.
تملك الغضب من آلبرت وشعر بصبره قد بدأ بالنفاذ، انحنى بجسده على مهرائيل ثم حاول ابعادها عن الفتاة المسكينة التي تصرخ أسفل قدميها لطلب النجدة، في البداية ظن أن الأمر سيكون سهلًا لإبعادها، لكن مهرائيل كانت مُهتاجة بطريقة غريبة جعلته يتعجب لها، وبقوة مقصودة منه قام بجذبها من خصرها حتى حملها عن الأخرى.
حاولت مهرائيل التملص من بين يديه بكل قوتها لكنه لم يتركها، بينما آلبرت نظر للفتاة قائلًا بنبرة جامدة تشوبها بعض الحدة: فلتذهبي الآن ريتاليا.
وقفت ريتاليا في مكانها بصعوبة وهي تتأوه بألم، وبعد أن سيطرت على توازنها أردفت بحقد وهي تُشير نحو مهرائيل: إن لم تجلب لي حقي من تلك الحقيرة؛ أقسم بأن أقتلها.
وتلك المرة صرخ بها آلبرت بصوتٍ مُهتاج غاضب بعد أن تخلى عن هدوئه: قُلتُ لكِ فلتذهبي الآن واللعنة.
ارتعش جسد ريتاليا بخوفٍ خاصةً وهي تعلم بأن غضب آلبرت لا يظهر إلا قليلًا، وإن ظهر يعني هذا بداية الهلاك، لذلك أومأت له بهدوء بعد أن ازدرقت ريقها بصعوبة حتى تستطيع التحكم بذاتها، ثم انحنت للأسفل والتقطت حقيبتها التي وقعت منها أثناء هجوم مهرائيل المُفاجيء عليها، وبعدها انطلقت للخارج واختفت من الغرفة بأكملها.
بعد ذهابها؛ دفعها آلبرت بعيدًا عنه بعنف حتى كادت أن تسقط على وجهها، استندت مهرائيل على المقعد قبل أن يصل جسدها إلى الأرض واستدارت له تُحدجه بغضب يشوبه الصدمة، اعتدلت في وقفتها تزامنًا مع اقترابه الهاديء منه وهمسه بفحيح: ما الذي فعلتيه الآن؟
حاولت أن تتملك غصة البكاء التي تكونت بحلقها في نفس الوقت الذي توقف فيه أمامها مُباشرةً، كان فرق الطول بينهما هائلًا؛ فهي بالكاد تصل إلى آخر صدره تقريبًا، ابتعدت عنه قليلًا حتى تستطيع رؤية وجهه ثم رفعت إصبع سبابتها وضربته عدة مرات في صدره وهي تقول بعنف: من المفترض أن تسأل ذاتك هذا السؤال، ما الذي فعلته الآن؟
احتدت عيناه غضبًا فجز على أسنانه مُحاولًا ألا يُلصِق جسدها في الحائط من خلفها، ثم تحدث بهدوؤٍ مثير للإستفزاز: لا تُخرجي أسوأ ما بي مهرائيل، أقسم إن تركتُ غضبي يتحكم بي سأقتلك.
ورغمًا عنها تجمعت الدموع داخل مقلتاها وهي تُجيبه بصوتٍ مُرتعش: أنتَ حقيرٌ آلبرت.
رد عليها بلامبالاة وهو يُعطيها ظهره: أعلم ذلك، والآن اخرجي من هُنا ولا أريد رؤية وجهكِ هُنا مُجددًا، لا تنسي بأنكِ مُجرد ضيفة هُنا.
رفعت أنظارها تُطالعه بصدمة، بينما هو أكمل حديثه ببرودٍ وهو ينظر لنقطةٍ ما: كل ما قُلته لكِ ليلة أمس انسيه، سأتزوج من ريتاليا الشهر القادم.
شعرت بالبرودة تتسلل إلى جسدها تدريجيًا وهي مُتصنمة مكانها، طالعته بأعين دامعة وإمارات الدهشة وعدم التصديق مُرتسمة ببراعة على معالم وجهها، وبعد عدة ثواني من الصمت؛ رفعت كفها لتمسح دموعها التي أغرقت وجهها، ثم أردفت بصوتٍ جامد: حسنًا، أنت مَن اخترت ذلك.
قالتها ثم سارت عدة خطوات نحو الخارج، لكن قبل أن تخرج من الغرفة كُليًا؛ لمحت بعينها قطعة من الأنتيكات الموضوع بجانب باب الغرفة، لذلك انتشلتها على عجالة ثم استدارت له وقذفتها في اتجاهه قبل أن تصرخ به باهتياج: اللعنة على مَن رباك يا حقير.
أردفت بها ببكاءٍ حاد قبل أن تستدير مُجددًا وتخرج من الغرفة بأكملها، لكنها لمحت حين خروجها ريتاليا وهي تبتعد مُهرولة عن الغرفة، يبدو بأنها كانت تستمع للحديث بأكمله!
بينما آلبرت نظر لأثرها الراحل بصدمة شديدة، كادت أن تقتله لولا انخفاضه للأسفل قبل أن تصطدم القطعة الأثرية برأسه! رمش بأهدابه عدة مرات قبل أن يهمس بيأس: جروٌ مُختل أُقسم بذلك!
تجمُع أربعة من الشباب يعني الهلاك، ماذا إن تجمع فوق العشرون رجلًا؟
وصل كُلًا من يحيى، رائد، وليد، وسيف إلى أسفل منزل هارون، نظر رائد نحو يحيى ثم تحدث بضجر: كلمه يا عم وشوف أبوه فوق ولا لأ.
ضحك يحيى بخفة واستدار للجهة الأخرى حتى لا يرى رائد ابتسامته ويتسبب في حنقه أكثر، ثم أخرج هاتفه وطلب رقم بادر وانتظر قليلًا حتى يُجيب، وعلى الناحية الأخرى كان وليد يُكمل قص حكايته ل سيف الذي يستمع إليه بانتباه شديد:.
أصلًا عمتي دي ولية حربوءة وطول عمرها مكانتش بتحب أمي عشان بتغير منها، وأنا آه كنت صغير بس عفريت وكله إلا أمي، جَت في مرة كانت ماسكة حوالي عشرة كيلو لبن وراحة عشان تعمل طفح ليها ولجوزها، قومت كعبلتها وطلعت أجري، أصل معلش كُله إلا أمي، متنامش هي زعلانة ودمعتها على خدها والحربوءة التانية تنام مبسوطة.
طالعه سيف بفخر ثم ربت على كتفه قائلًا بقوة: جدع ياض أنا فخور بيك، طب وإيه اللي حصل بعد كدا؟
كان يحيى يُتابعهم وهو يقلب عيناه بملل، طيلة الطريق لم يصمت وليد عن الحديث عن حياته ل سيف الذي عرفه منذ الأمس فقط! بل روى له أيضًا عن مختار الأرماني وقذارته وكأنه من بقية عائلته!
نظر رائد ل يحيى قائلًا بانتباه: ها رد عليك ولا لسه؟
أخفض يحيي بضجر وهو يُخفض الهاتف عن أذنه: لأ يا عم لسه مردش، تعالى نطلع وخلاص يعني هي هتبقى ضربة شبشب ولا أكتر!
نفخ رائد بغيظ ثم استدار نحو سيف ووليد وهو يقول: يلا يا حبيبي أنت وهو نطلع، مش هنقضي اليوم كله رغي في ماضيكم القذر.
رمى وليد عقب سيجارته التي انتهى من للتو، ثم رد عليه بهدوء: يلا يا باشا.
صعد الأربعة شباب نحو الأعلى حيث الطابق الثاني، ثم طرقوا جرس المنزل وانتظروا قليلًا حتى فُتِح بعد ثوانٍ من الانتظار، قطب يحيى جبينه عندما رأى شابان غريبان يقفان أمامه ثم تسائل ببلاهة: هو مش دا بيت الحاج هارون؟ هما عزلوا ولا إيه؟
ضيَّق أحد الشباب عيناه ثم تسائل بحذر: أنت يحيى صاحب بادر؟
لم يرتاح يحيى لهما وطالع إياهم بصمت، وزادت ريبته أكثر عندما استمع لصوت صراخ يأتي من الداخل، فازدرق ريقه بقلق قبل أن يُجيبه بالنفي: لأ مش إحنا، شكلنا جينا شقة غلط.
وبكل غباءٍ اعترض سيف نافيًا بقوة: في إيه يا يحيى؟ هو إحنا مش جايين ل بادر صاحبك.
طالعه يحيى بنظراتٍ حارقة وما كاد أن يفتح فاهه ليُوبخه، حتى شعر بمن يضحك عاليًا والذي أردف بمزاح: في إيه يا جدع أنت؟ مالك خايف كدا ليه؟
نظر رائد بريبة للشاب الآخر والذي تحدث لتوه، ثم تسائل بحذر: يعني انتوا مش عصابة؟
أجابه مؤكدًا: لأ طبعًا إحنا عصابة، وقطع لسان اللي يقول غير كدا.
تأفف وليد ساخطًا من سخافة الموقف بأكمله، ثم دفع الشباب واقترب مُصافحًا أحدهم وهو يقول بترحيب: أنا وليد سعيد فريد.
أجابه الآخر ضاحكًا: وأنا مدثر ريان الطحاوي.
وصافحه الآخر بدوره مُعرفًا عن ذاته: وأنا سليم يزن الراوي.
رد عليهم وليد مُبتسمًا: تشرفنا يا حضرات، فين الأخ بادر بقى؟
رد عليه مدثر حانقًا: أهو مرزوع جوا، عيل قفيل.
دلف وليد للداخل أولًا على الرغم من أنه لا يعرف أيٍ منهم، وتبعه يحيى الذي صافح الشابان أيضًا وتحدث ضاحكًا: معلش أصل إحنا مستنيين نتقتل في أي لحظة فبناخد بالنا.
رد عليه سليم وهو يُمازحه: ومالك بتقولها كدا ولا كأنك رايح دريم بارك؟
تنهد يحيى بدرامية وهو يُجيبه: أصل إحنا متعودين على كدا، وزي ما تقول كدا أكل العيش مُر يابني.
دفعه رائد من الخلف والذي تحدث بغيظ: ما تخلص أدخل يا حبيبي هو إحنا هنفضل واقفين على الباب كتير كدا؟
طالعه يحيى بقنوط قبل أن يتبع وليد للداخل، فصافح رائد وسيف الشباب بدورهما ثم تجمعوا جميعًا بالداخل، لكنهم تصنموا بدهشة عندما وجدوا الصالة مُمتلئة على آخرها بالرجال، ليصعد صوت وليد ساخرًا بوقاحة: دا حتى مفيش حِتة طرية تنعنش القاعدة؟
وفي تلك الأثناء شهق بادر والتي تحدث صارخًا: يعني كمان مشغلين أغاني، وكمان عايزين تجيبوا نساء؟
سخر منه إسحاق مُعاندًا إياه: اسمها نسوان يا أخ بادر.
طالعهم بادر بنظراتٍ حارقة ثم صرخ بهم بغضب: انتوا ناس مش متربية وأنا لا يمكن أقعد بينكم يا عالم يا فاسقة، أنا ماشي.
وقف في مكانه بغضب بعد أن كان جالسًا، ليُجلسه أخيه حمزة بالعنف وهو يهتف بحنق: أقعد يا أخي بقى ومتقرفناش معاك.
نفخ بادر بسخطٍ أثناء مُطالعته بغضب، فوجَّه رأسه نحو يحيى الذي أردف بهدوء: مش هتعرفنا يا بادر على الضيوف؟
وبعناد رد عليه قائلًا: لأ متتعرفوش على دول هيبوظوكوا.
رد عليه رائد بلامبالاة: لأ عادي، إحنا كدا كدا بايظين ولا يهمك.
جاء يعقوب من الداخل جالبًا صينية كبيرة من العصائر ثم وضعها على الطاولة، وبعدها اتجه نحو يحيى مُحيطًا إياه من كتفه وهو يقول: أنا هعرفكم عليهم، انتوا عارفين أخواتي من الزيارة اللي فاتت صح؟
كاد يحيى أن يُوميء له، فتدخل وليد الذي كان يستند بظهره على أحد المقاعد قائلًا بهدوء: أنا مش عارفهم.
يبقى نبدأ من الأول خالص وأعرفكم بينا كلنا.
قالها ثم بدأ للإشارة لكلِ واحدٍ منهم وبدأ بالتعريف عنهم: دا أخويا عمران هارون، ودا بدران هارون، ودا بدير هارون، ودا بادر هارون، ودا مصعب هارون، ودا حمزة هارون، ودا مدثر الطحاوي، ودا سليم الراوي، ودا إسحاق موسى، ودا سليمان محمود، ودا رياض الراوي، ودا عدي النويهي، وأنا يعقوب هارون.
رمش وليد بأهدابه عدة مرات عله يتذكر أي اسمٍ مما قاله، ليهتف بعدها ضاحكًا: ياريتني ما سألت.
أنا اللي كسبت، أنت حرامي يلا.
هتف بدير بتلك الكلمات مُوجهًا إياها ل رياض الذي هتف بمسكنة: إخص عليك بقى أنا حرامي؟ شكرًا يا عم.
التوى ثغر بدير بسخط والذي أمسكه من ياقة ثيابه وهو يقول: لأ حركاتك دي مش هتدخل عليا المرادي، أنا مش أهبل.
رد عليه رياض باستخفاف وهو يُحرك حاجبيه معًا: ما الحركات دي دخلت عليك المرة اللي فاتت!
أجابه بدير بإجابة مُقنعة: ما المرة اللي فاتت كنت أهبل، لكن المرادي لأ.
طالعه رياض بقنوط والذي أردف ضاجرًا: يعني عايز إيه أنت دلوقتي؟
هزه بدير من ياقة ثيابه وهو يقول بسخط: طلَّع الولاد اللي معاك كدا إما أشوف جبت الولد الخامس دا منين!
إن قيل بأنهم في عالم موازي فهذا خطأ، بل أنهم في عالم موازي للعالم الموازي بعيدًا عن عالمنا بأكمله، شخصان سخيفان اجتمعا معًا ماذا تظن منهم مثلًا؟ هل سيخترعان شيئًا يُفيد العالم؟
تدخل رائد في الحديث الذي اقترب منهم جالسًا القرفصاء: مما تلعبوني معاكم الله يستركم.
تزحزح له بدير قليلًا ثم أردف مُرحبًا: تعالى يا صحبي اقعد وهنفرق الورق من أول وجديد.
هز الجميع رؤوسهم بيأس على كم هذا الغباء المُتمثل في هؤلاء الثلاثة، بينما وليد طالعهم بضجر مرة أخرى وتسائل مرة أخرى بوقاحة: أيوا مقولتوش برضه فين النسوان؟
وتلك المرة رد عليه مدثر باحترام: استغفر الله يا أخ وليد نسوان إيه بس؟ إحنا رجالة متربيين ومحترمين ومتجوزيين وملناش في قلة الأدب دي.
تشنج وجه إسحاق تلك المرة والذي مال عليه هامسًا: ما بلاش أنت يا صاحب الأخلاق الخليعة.
نظر إليه مدثر بتحذير: ولد؟ أنت إزاي تتكلم معايا كدا يا قليل الأدب؟ أنت نسيت إني أكبر منك بسبع سنين ولا إيه؟
تجعد وجه إسحاق مُتشنجًا، ثم صاح باستنكار وهو يُشيح بيده أمام وجهه: ياخويا اتلهي، دا أنت أتفه واحد فينا أساسًا.
طالعه مدثر بطرف عينه دون أن يُجيبه، لكن وجهه كان مُضحك للغاية، كتم إسحاق ضحكته وأدار وجهه للناحية الأخرى، بينما بدران هب من مكانه قائلًا: اشربوا العصير يلا يا شباب لحد ما نشوف حاجة نعملها في ليلتنا دي.
وبالفعل التقط كُل منهم كأس من العصير، بينما سليم توجه نحو غرفة الشرفة ليُدخن سيجاره، ذهب خلفه وليد والذي وقف بجانبه مُستندًا بذراعيه على سور الشرفة، وقبل أن يعي سليم لمن يقف جواره؛ فوجيء ب وليد ينتشل سيجاره من بين اصبعيه ويضعها في فمه هو عند قوله: معاك سيجارة؟
التوى ثُغر سليم بابتسامة حانقة وهو يقول: ما شاء الله عليك، بتستأذن؟ ما أنت أخدتها خلاص.
نفخ وليد الدخان من بين شفتيه قبل أن يُجيبه بلامبالاة: لأ قصدي معاك سيجارة تانية؟ سجايري خلصت.
انتشل سليم السيجار منه مُجددًا وهو يقول: لأ مش معايا دي واخدها من واحد صحبي، أبويا بيزعقلي.
مازحه وليد بقوله الضاحك: يوغتي بطة بابا بيزعقلك يا بيضة؟
كان يظن بأنه سيغضب، لكنه وجد ابتسامة ساخرة تتشكل على ثغر سليم الذي نفخ دخان سيجاره بهدوء: ليك حق تقول كدا، ما أنت مش عارف مين يزن الراوي.
قطب وليد جبينه وتسائل بجدية: مين يزن الراوي؟ حاسس إني سمعت الاسم دا قبل كدا.
فتح سليم فاهه ليتحدث، لكنه صمت فجأة عندما استمع إلى صوت فرقعة عالية تأتي من الأسفل، يبدو أن الأطفال يلعبون بالمفرقعات، لكن ما حدث من وليد كان غريبًا، حيث أخرج سلاحه من جيب بنطاله بسرعة ظنًا منه بأنهم قد تبعوه إلى هُنا، لتتشكل ابتسامة ساخرة على ثغر سليم والذي أردف بترحيب: أهلًا! دا أنت شكلك حكايتك حكاية.
اطمئن وليد قليلًا بعد أن تأكد أن الصوت من الأطفال بالأسفل، ثم أدخل سلاحه مرة أخرى ونظر ل سليم قائلًا: بقولك بيدورا عليا عشان يقتلوني، والموضوع مش ضحك أو هزار، دا بجد.
ليه؟
تسائل بها سليم أثناء سحبه من عقب سيجاره، ليرد عليه وليد بهدوء وهو يعود لوضعه مُجددًا: خونت حِتة تقيلة في البلد.
جدع.
هتف بها سليم ددون أن يتطرأ لداخل الحديث أكثر، ليُطالعه وليد بتعجب من عدم فضوله والذي يظهر على المُعظم غالبًا، فاستمع بعدها لبقية حديثه والذي أردف به: لو عايز أي مساعدة قولي وأنا هقول لبابا يساعدك، وأكيد مش هيتأخر ثانية طالما أنت في السليم.
استدار له وليد بكامل جسده وتسائل بانتباه: وأبوك هيوافق؟
رد عليه سليم بثقة شديدة: طبعًا يابني، استنى هكلمهولك وخُد أنت كلمه.
أومأ له وليد بجدية، فأخرج سليم هاتفه وعبث به قليلًا حتى وصل إلى رقم والده ثم قام بالإتصال به، انتظر لثوانٍ حتى أتاه الرد، ليتحدث سليم باحترام مع والده كعادته: بابا كنت عايزك في حوار كدا.
لأ.
قالها يزن باختصار قبل أن يُغلق هاتفه في وجه سليم الذي نظر للهاتف مصعوقًا!
يعني إيه مش لاقيينه؟ إيه الأرض انشقت وبلعته؟
صاح مختار بتلك الكلمات بغضب جامح بعد أن أخبره الحارس بعدم عثورهم على وليد الذي اختفى كُليًا، فتح الحارس فمه للتحدث فأردف بتلعثم: يا. يا باشا دورنا في كل مكان بيروحه والله، ملهوش أثر في أي مكان.
احتدت عيني مختار بغضب عارم، فهب من مجلسه واستدار له بسرعة كبيرة حتى بات يقف أمامه مُباشرةً، أمسك بالحارس من تلابيب ثيابه بعنف ثم صرخ به بحدة: قسمًا بالله لو ملقتهوش لحد بكرة ما هيطلع عليك نهار.
ارتعدت أوصال الآخر برعب ثم أومأ له مُسرعًا حتى يتجنب غضب سيده، وبتلعثم واضح قال: ح. حاضر يا باشا. اللي تؤمر بيه.
دفعه مختار بغل آمرًا إياه: اطلع برا ومتورنيش وشك غير وهو معاك.
أومأ لها الحارس ثم استدار وخرج من المكتب بأكمله وهو يرتعش خوفًا، يعلم بأن الرجال مثيلة مختار الأرماني لا يعرفون الرحمة أو التهديد، بل يُنفذون مهام القتل دون حتى أن يرف لهم جِفن.
بينما مختار الأرماني ظل يدور في الغرفة ذهابًا وإيابًا وعقله يكاد أن ينفجر من فرط التفكير، لقد أصبحت سيرته على المحك وسط رجال الأعمال، حتى أمواله! استثمرها جميعًا في شركة ميلانو شيفت التي انفجرت بروسيا، ضاعت ثروته وضاع كل شيء كان يُخطط له، حتى صهيب الذي قام بإنقاذه من الموت منذ أن كان صغيرًا قام بخيانته.
جز على أسنانه بحقد وهو يتذكر ردة فعل شقيقه نادر على الكارثة التي هبطت فوق رؤوسهم، لقد هدده بفض شراكته معه وفضحه إن لم يأتي بأمواله التي وضعها معه، وبالطبع تلك الأموال قد وضعها في استثمار شركة شيفت، جلس على المقعد خاصته وظل يهتز للأمام وللخلف وهو يُفكر بتمعن في كيفية جلب الأموال بطريقة سريعة لتعويض الخسائر، وبالطبع عقله لم يهديه إلى خيارٍ واحد، وهو تجارة الأعضاء.
غدًا ستكون عملية لشابٍ في ريعان شبابه محجوز بالمشفى منذ أسبوع تقريبًا، وطيلة ذلك الوقت لم يجد مَن يأتي لزيارته، وفي العادة يختار ضحاياه إما من الطبقة الفقيرة الجاهلة، وإما الأشخاص من دون عائلة حتى يضمن نجاح عمليته دون وجود أي عوائق، وللأسف الشديد وقع الإختيار على الشاب المسكين.
نفخ بغيظٍ عندما تذكر أمر الأوراق التي يُدين بها صهيب طاحون، لكن ولسوء حظه لم يجدها، بل وجد خزنته فارغة ومعها اختفت أوراق الشُحنات التي كانت ستتم بروسيا ومصر، لذلك قام بتأجيلها على الفور، كل شيء من حوله خرب تمامًا ولم يتبقى سوى القليل الذي بالكاد سيُساعده، لقد مات صفوت وترك له ابنتان لا يراهما على الأغلب، وتبقى نادر والذي يقوم بتهديده، ومعه ابنه أنس الذي ترك عمله بعد أن خسرت شركته جميع أموالها، بعد أن تم سحب الأموال من قِبَل المُستثمرين بسبب أعماله الغير شرعية.
شعر بالدوار يُصيبه من فرط التفكير، فاعتدل في مكانه ثم التقط كوب المياه وارتشف منه القليل قبل أن يهمس بحقد: ماشي. ماشي يا وليد.
وعلى الجانب الآخر في نفس ال يلا، وخاصةً في الطابق الثاني حيث غرفة أنس الأرماني، كان يقف أمام حوض المرحاض يتقيأ كل ما في جوفه شاعرًا بمعدته تكاد أن تتفتك من قوة الألم الذي بها، استند على صنبور المياه وكلتا يديه مُستقرة على معدته من الخارج وصوت تأوهاته يعلو بالتدريج، لم تكن تلك هي المرة الوحيدة التي يشعر بها بهذا الألم ويتقيأ، لكن تلك المرة مُختلفة تمامًا، حيث كان تقيؤه مصحوبًا بالدماء التي امتزجت مع جُرح حنجرته فتسببت في نزيفها هي الأخرى.
مرت دقيقة كاملة وهو على حالته تلك، يقف مُستندًا أمام حوض المرآة وصدره يعلو ويهبط بألم، رفع رأسه للأعلى فلاحظ ملامح وجهه التي تحولت للشحوب والاصفرار فجأة، عيناه باتت لونها مُماثلًا للون الدماء، وقل ألم معدته قليلًا بعد تقيؤه.
استند على الحائط ثم توجه نحو الخارج وسار عدة خطوات أخرى وارتمى على فراشه الوثير، نظر إلى ساعة الحائط فوجد أن الرؤية باتت مشوشة أمام عيناه ولا يرى بطريقة سليمة، لذلك قرر استشارة الطبيب غدًا ليُعلمه عن سبب حالته ويُعطيه دواءً لتخفيف ذلك الألم.
أغمض عيناه لكي يرتاح قليلًا، لكنه استمع إلى صوتِ الباب تلاه دخول الخادمة التي أردفت بصوتٍ مُتوتر لم يُلاحظه بسبب تعبه: اتفضل يا أنس بيه كوباية العصير دي، حضرتك تعبان من الصبح ومحطتش حاجة في بطنك.
ولعدم وجود شيء بمعدته اعتدل قليلًا مُستندًا على ذراعه، ثم مد يده ليلتقط كوب العصير وهو يقول بانهاك: هاتي يا دلال.
مدت دلال يدها له بكاسة العصير وهي ترتعش خوفًا، خاصةً وهي تعلم بأن حالته تلك بسبب العصير الذي تُعطيه لها ريماس بعد أن تضع له بعض الحبوب المجهولة بالنسبة لها، انهى أنس ارتشاف العصير بأكمله لشعوره بالعطش الشديد، ثم همس لها بعد أن ارتمى بجسده للخلف بإنهاك: اخرجي واقفلي الباب وراكِ كويس يا دلال.
أومأت له المدعوة دلال بسرعة وهي تلتقط من الكوب الفارغ، ثم هرولت للخارج وهي ترتعش خوفًا من أن يُصيبه أي مكروه وتُسجن هي.
باتت الساعة الثانية عشر صباحًا، لقد ناما كلاهما بعمقٍ يتمتعان بدفئ بعضهما البعض، تململت أهلة في نومتها بكسل فشعرت بأحدهم يُقصر من حركتها، فتحت عيناها بتروٍ فقابلها وجه قاسم النائم بثباتٍ عميق، تحول وجهها للغيظ عندما تذكرت آخر ما حدث بينهما وتركه لها والذهاب دون حتى أن يُواسيها، لكنها لم تعلم أنه فعل هذا بسبب صدمته ليس إلا.
حاولت الفكاك من بين ذراعيه التي تُحيطان بخصرها لكنها لم تستطيع، فلقد كان يمسكها وكأنها ستذهب بعيدًا، كما لو كان سيُدخلها داخل أضلعه، عناقه كان بمثابة اعتذارٍ لها لكنها لن تُسامح بسهولة، وبعنفٍ مقصود قامت بالصراخ بجانب أذنه تمامًا مُنادية عليه: قاسم.
انتفض قاسم مُبتعدًا عنها بفزع فتسائل بتيهة وصعوبة في فتح عينيه: إيه في إيه؟
ردت عليه أهلة باستفزاز وهي تبتعد عن الفراش: مفيش حاجة يا عسل، أنا قولت أصحيك أصلك طولت في نومتك أوي.
رمش بأهدابه عدة مرات وهو يُطالعها بعدم تصديق، لتبتسم هي بانتصار شديد ثم استدارت في نية للتوجه نحو المرحاض، لكنها شعرت بشيء ثقيل يصطدم في ظهرها تبعها صراخ قاسم بغيظ: لأ بقى ما هو أنا مش عشان كنت طيب وبقولك كلام حلو الأيام اللي فاتت تهيصي فيها، هتسوقي العوج هسوقلك العربية وأنا في السواقة معنديش يامّا ارحميني.
مسدت على ظهرها بألم وهي تُطالعه بحقد، ليجدها تتحدث بفحيح وهي تقترب منه: أنت قد اللي أنت عملته دا؟
ورغم نبرة التحذير التي كانت بصوتها، رد عليها مُجيبًا إياها بتحدٍ: آه قده، هتعملي إيه يعني يا بتاعة أنتِ.
أنا هوريك البتاعة دي هتعمل فيك إيه.
قالت جُملتها ولم تُعطي له الفرصة للإستيعاب، حيث عادت مُهرولة له ثم قفزت على الفراش ودفعته للخلف بقوة أدت إلى سقوطه على ظهره، ولم تكتفي بذلك فقط، بل مالت على كتفه وغرزت أسنانها به لتعضه بحقد، علت صرخاته بألم؛ فأمسكها من خصلاتها بغضب وأبعدها عنه، وبعدها أمسك بكفها وقام بغرز أسنانه به مثلما فعلت هي في ذراعه، لتتعالى صرخاتها هي الأخرى بألم، لكنها لم تصمت، بل أمسكت بخصلاته وجذبتها لها وهي تصرخ فيه بتحذير:.
أنا مش عايزة أتغابى عليك وربنا!
عض على أسنانه بغيظ بسبب جذبها لخصلاته الطويلة فصرخ بها بدوره: يمين بالله يا أهلة مما هعديهالك.
استشعرت تهديده وغضبه الحقيقي لذلك خففت من قبضتها وأردفت بنهيج: خلاص سيب وأنا أسيب.
تركها قاسم وقامت هي بتركه هي الأخرى، وما إن أبصرت وجهه؛ رأت عيناه كادت أن تُخرِج شررًا من شدة الغضب، ابتعدت عنه بقدمها ثم تشدقت بتوتر: في إيه؟ أنا. أنا بهزر معاك على فكرة و.
شهقت بفزع وابتلعت بقية حديثها عندما جذبها من قدمها وقرَّبها منه على بغتة، ابتلعت ريقها بتوتر وكالعادة رسمت ابتسامة بلهاء على ثُغرها لتُقلل من حدة الموقف، اقترب منها بوجهه ثم همس بفحيح: أنتِ عارفة لو حد غيرك اللي عمل العملة دي أنا كنت هعمل فيه إيه؟ قسمًا بالله كنت هكسر إيده اللي فكرت تتمد عليا.
رمشت أهلة بعينيها عدة مرات وردت عليه قائلة: ما هو أنت اللي غلطان وأنا متغاظة منك ومش طايقاك، أنت كنت حلوف معايا وأنا زعلت منك أوي.
تركها ثم اعتدل في وقفته قائلًا وهو مُقطب الجبين: ما تحطي نفسك مكاني، أنا جالي وقت لا عرفت أتكلم ولا حتى أتحرك، وعلى ما فوقت لنفسي لقيتك دخلتي الحمام فخرجت أنا من الأوضة، كان فيه مليون سؤال في دماغي ولو كنت فضلت أكتر من كدا مكنتش هسيبك قبل ما أعرف كل حاجة، وأنتِ حالتك مكانتش تسمح بدا.
انتفضت من مكانها بحدة قائلة بدورها: مش مبرر على فكرة.
تشنج وجهه وهو يتسائل بسخط: والله؟ وهو فيه مبررات أكتر من كدا؟ بقولك أنا من الصدمة تنحت، تنحت ومبقتش عارف أقول إيه.
تزعزع ثباتها لعلمها الشديد بحقيقة حديثه، الصدمة كانت كبيرة عليه وعلى الجميع، لكنها وبالرغم من ذلك أردفت بعناد: مش مُبرر برضه.
اغتاظ أكتر من تحديها وعناده، فلم يجد سوى رفعه لكفه ودفعها للخلف لتفترش السرير بظهرها، تركها تنظر إليه بصدمة ثم تمتم بسخط: دا أنتِ غتتة.
تجمع الشباب حول الطاولة الكبيرة التي اتسعت إليهم جميعًا مُستمعين بانتباه نحو وليد الذي أنهى حديثه مُتنهدًا: وبس يا شباب، هو دا كل اللي حصل معايا.
نعم فما تُفكرون به حدث بالفعل، لقد قص لهم وليد ما حدث في حياته بأكملها كعادته عندما يجد أصدقاء جُدد، مصمص مصعب على شفتيه قائلًا بمسكنة: عيني عليك وعلى شبابك يابني! يعني أنت كدا المفروض تتقتل؟
أكد له وليد وهو يُوميء برأسه في حسرة: للأسف شديد آه.
وكعادة مصعب المُتنمرة أردف بصراحة مُغلفة بالوقاحة: وأنت هتلاقي قبر يلمك بكرشك دا؟
تشنج وجه وليد باستنكار شديد وحوَّل أنظاره تلقائيًا نحو معدته المُنتفخة بالفعل، ليُصيح به بسخط وهو يصرخ: دا مش كرش ياض دا القاولون، أنا لما اتعصب أو أتوتر بطني بتتنفخ وببقى شبه الست اللي في السابع.
أيده رياض الذي دعم حديثه بحسرة: وأنا زيك والله يا وليد يا صحبي، لكن الأوباش اللي شبه مصعب مش بيسيبوا المساكين اللي زينا في حالهم.
طالعه مصعب بتشنج، ليُحمحم رياض مُصححًا قوله: مش مساكين أوي يعني، بس المهم إننا مساكين.
كان مدثر صامت يُفكر في حلٍ لتلك المُعضلة الكبيرة، ليضرب كفيه ببعضهما البعض بعد أن أنار بعقله فكرة ذكية للغاية: إحنا نكلم يزن الراوي وهو اللي هيحللنا الموضوع.
رد عليه سليم ساخرًا: كان على عيني بس اتهزقنا والتليفون اتقفل في وشنا ولا ولاد الشوارع.
نفخ يعقوب بيأس والذي وضع كفه أسفل ذقنه وهو يقول بسخط: طب وهنعمل إيه دلوقتي؟ الواد حياته على المحك وهيموت لو لقوه.
وتلك المرة تدخل رائد ساخرًا: وحُط معاه يحيى كمان، لو عرفوا إن هو عايش هيتصفى معاه.
نظر يحيى ل وليد بابتسامة واسعة، ثم مال عليه واحتضنه وكذلك بادله وليد الاحتضان وهو يضحك بصخب أثناء قول يحيى الأبله: هنموت سوا ياض.
ربت وليد على ظهره والذي أردف بمزاح: وهندفن سوا كمان.
وببلاهة شديدة تحدث سيف حانقًا: طب وأنا؟
رد عليه عمران بتشنج: أنت كمان إيه؟
أجابه سيف ببساطة: عايز أموت معاهم.
دعمه رياض بابتسامة واسعة: خدوني معاكم يا اخواتي.
فتدخل بدير متحمسًا: وأنا وأنا.
انتفض الجميع بفزع عندما استمعوا إلى ضربة غاضبة من يدٍ قوية هبطت على الطاولة، نظر الجميع للفاعل فوجدوه مدثر الذي يقطب جبينه بغضب مُعاكس لشخصيته الحقيقة، لكن ثوانٍ ما انمحى تعجبهم وحلَّ محله الخبث عندما تشدق مدثر بنبرة عابثة: طب وليه نستناهم لحد ما يلاقونا في حين إن ممكن إحنا اللي نروحلهم بنفسنا!
تبادل الجميع نظرات خبيثة كانت تكفي لمعرفة ما سيحدث بعد ذلك، فذهاب سبعة عشر رجل من أجل القتال يبث الرعب في القلوب، خاصةً وإن كانوا من نوعية الشباب العابثة مثلهم تمامًا!
مد مدثر يده للأمام ووضعها بالمنتصف ثم تسائل بنبرة ماكرة: ها يا رجالة موافقين؟
وما إن وضع يده حتى وجد الجميع يضعون أيديهم فوق خاصته مُرددين بصوتٍ جهوري قوي: موافقين طبعًا.
وهُنا صعد صوت بادر الذي ردد برفضٍ وإصرار: لأ طبعًا مش موافق على المهزلة دي.
قاطعه شقيقه حمزة والذي تشدق بصرامة: هتيجي ورجلك فوق رقبتك يا شيخ بادر، أنا أخوك الكبير يا قليل الأدب ولا بُد إنك تسمع كلامي.
خرج قاسم من المرحاض وهو يُجفف خصلاته المُبللة بالمنشفة بعد أن أخذ حمامًا دافئًا ليُريح به أعصابه المُتوترة، لمح بطرف عينه أهلة التي وقفت أمامه بطريقة طفولية بعض الشيء وهي تُطالعه ببراءة، رفع حاجبيه باستخفاف ورسم على شفتيه ابتسامة جانبية ساخرة وهو يتسائل: خير يا أستاذة؟
شبكت أهلة كفيها معًا وجسدها يهتز للخلف وللأمام بهزات رتيبة وهي تقول: متزعلش مني.
تصنع قاسم الجمود وربَّع ذراعيه معًا أمام صدره وهو يسألها بصرامة: يعني ينفع اللي أنتِ عملتيه دا؟
شعرت بالخجل من ذاتها فهزت رأسه بالنفي دون أن تتحدث، فعاد هو ليتسائل مرة أخرى بنفس الصرامة: فيه واحدة مؤدبة ومحترمة تعمل في جوزها كدا؟
وللمرة الثانية تهز رأسها بالنفي وهي تُطالعه ببراءة، فتسائل مُجددًا وهو يقطب جبينه بحذر: هتعملي كدا تاني؟
وكانت إجابتها نفس الإجابة، حيث هزت رأسها بالنفي وهي تقول بصوتٍ خفيض: لأ مش هعمل كدا تاني.
تبدد الوجود من على وجهه وحل محله ابتسامة صافية من برائتها التي لا تظهر إلا معه تقريبًا، ففتح ذراعيه لها أثناء قوله المُشاكس: حيث كدا بقى تعالي في حضن عمو.
اتسعت ابتسامتها على آخرها فذهبت لإحتضانه وهي تضحك بخفة، بينما هو أحاط بها بقوة ثم قبَّل جانب عنقها وهو يقول بتنهيدة عاشقة: هحبك أكتر من كدا إيه بس؟
ردت عليه أهلة بمشاكسة: حبني وأنت ساكت بقى علشان إحنا بنتحسد.
أجابها قاسم بسخرية: دا إحنا ياريتنا بنتحسد بس، دا إحنا بنتهان وعهد الله.
أومأت له أهلة بضحك وهي تدفن ذاتها أكثر بين أحضانه لتتمتع بدفئ جسده، لكنها شعرت بجسدها يبتعد عن خاصته ونظراته الحارقة تُسدد إليها بعدما انمحت ابتسامته وجاء بدلًا منها الوجوم: هي مش دي هدومي؟
وكعادتها أجابتها بمشاكسة وهي تحرك حاجبيها معًا: تؤتؤ، دي هدومنا.
لوى شفتيه بسخط وهي يدفعها بعيدًا أثناء قوله: طب روحي ياختي البسي طرحتك عشان هننزل تحت.
قطبت جبينها بتعجب وهي تتسائل: هننزل تحت نعمل إيه؟
أجابها بهدوء: هننزل نعمل أي أكل وناكل عشان مفطرناش، وكمان صهيب ومراته مستنينا تحت عشان عايزينكوا في حوار كدا.
ضيقت أهلة عيناها بشكٍ، فوجدته يُزمجر بها قائلًا: يلا يا حبيبتي البسي حجابك عايزين ننزل.
أومأت له رغم القلق الذي بدأ ينهش بفؤادها، ثم اتجهت نحو الخزانة وأخرجت حجاب من اللون الأسود ليليق مع التيشرت الذي كانت ترتديه من اللون الأبيض وتتوسطه كلمة كبيرة في المنتصف من اللون الأسود.
بعد خمس دقائق، هبط كُلًا من قاسم وأهلة إلى المطبخ، ليجدوا صهيب يُشاكس حبيبة بوضعه لبعض الدقيق على وجهها مُستمتعًا بحنقها منه، رفعا أنظارهما عندما لمحا الآخران يدلفان إلى المطبخ، لتتسع ابتسامة حبيبة فور رؤيتها ل أهلة، فتحركت من مكانها وذهبت لإحتضانها، عانقتها أهلة بحب ثم تسائلت باهتمام: عاملة إيه يا بيبة؟
ردت عليها حبببة بود: الحمد لله كويسة.
بينما صهيب نظر لشقيقه وهو يُحرك شفتيه يمينًا ويسارًا كحركة شعبية شائعة تدل على الخوف والإستنكار.
حمحم صهيب بجدية ثم جلس على المقعد بجانب شقيقه قائلًا: تعالوا اتفضلوا اقعدوا انتوا الاتنين جنب بعض عشان عايزينكم في موضوع ضروري.
نظرت كُلًا من أهلة وحبيبة لبعضهم البعض بريبة، فأمسكت أهلة بيد حبيبة ثم اتجهوا نحو الطاولة الاي يجلسون عليها، وجلسوا بجانب بعضهم وفي المقابل للرجال، وهُنا بدأ صهيب حديثه بجدية: طبعًا اللي إحنا هنقوله دا هيكون صدمة بالنسبة ليكم بس انتوا لازم تعرفوا الحقيقة.
حقيقة إيه؟
تسائلت بها أهلة، ليُجيبها قاسم بدون مُراوغة: أنتِ و حبيبة أخوات مش ولاد عم.
رغم تأخر الوقت؛ خاصم النوم جفنيها ولم تجد راحتها بالنوم، لذلك قررت ارتداء ملابس ثقيلة والهبوط إلى حديقة المنزل الواسعة، لفح الهواء البارد بشرتها البيضاء فتسبب في احمرار خديها بطريقة لذيذة، أغمضت عيناها الزيتونتان الحمراوتان لتستمع بالأجواء من حولها، ورغم هدوئها وصمتها كان يكون ضجيج كبير بفؤادها، تنهدت مهرائيل بثقل وعقلها لا ينفك في طرد حديثه الذي ضرب فؤادها بقوة آلمته، كانت تظن بأن الأمر سيمر خلال ساعات، لكن يبدو بأنه أكبر من ذلك بكثير!
شعرت بمن يأتي وقف بجانبها فوجدته هو! ذلك المُتسبب في دموعها وألم فؤادها، طالعته بحقدٍ وبنظراتٍ هجومية لم تُقلل من برودة وجهه، طالعت جانب وجهه بغضب ولم تشعر سوى بدموعها الساخطة التي هبطت على وجنتيها، ابتلعت ريقها بصمت ثم قررت الذهاب والابتعاد عن مصدر ألمها، وما كادت أن تفعل؛ حتى وجدته يمسك بكفها طالبًا منها بصوتٍ هامس لم تستطع تحديد ماهيته:
لا تفعلي مهرائيل.
جذبت كفها من بين يده بعنف ثم صرخت به وهي ترفع إصبع سبابتها أمام وجهه: إياك ولمسي مُجددًا، أسمعت؟
ظلت ملامحه ثابتة فابتعدت هي بظهرها قائلة بنبرة مُنكسرة: أنا مُجرد ضيفة فقط كما قُلت، سأرحل عندما يحين الوقت وأُخلصك من إزعاجي.
قالت جُملتها الأخيرة بألم شديد ولم تعي لنبرتها المُرتعشة التي تحدثت بها، وما إن أنهت حديثها حتى هرولت من أمامه وسمحت لذاتها بالبكاء مرةٍ أخرى، لم تكن تعلم بأنه قد تسلل لفؤادها دون أن تعي، يبدو بأنها ستُعاني فيما بعد لنسيانه، ستُعاني لنسيان حُبه!
نظر هو لأثرها بصمتٍ وجمود، وما إن اختفت عن الأنظار؛ حتى همس راجيًا مُكررًا جُملته السابقة: لا تفعلي مهرائيل.
وبمكانٍ آخر مليء بالصخب والموسيقى والأجساد العارية، تجلس ريمانا الأرماني على إحدى الطاولات وهي ترتشف من كأس نبيذها، ذهب عقلها ولم يتبقى منها شيء سوى جسدها العاري الذي يتمايل بكل فجور بين أجساد الرجال الراقصة.
جذبها أحد الشباب نحو طاولة يرتص عليها الكثير من الفتيات والشباب ذو الأخلاق المُنحطة، منهم من يشرب نبيذ، ومنهم من يشرب سيجارًا، ومنهم من يستنشق العقاقير المُخدرة!
جلست ريمانا بجسد مُتمايل غير واعٍ، فمد أحد الشباب يده لها بمادة وهو يغمز لها بعبث: خدي يا ريمو جربي النوع دا خطير وهيعجبك، بس متكتريش منه.
أخذته منه ريمانا وهي تضحك بخلاعة قائلة: متخافش يا برو أنا متعودة.
وضعت تلك اللفافة المليئة بمادة بيضاء غريبة على الطاولة الزُجاجية والتي كانت مليئة بكل أنواع الخمر والمُحرمات، ثم ظلت تستنشق منها بعنف، شعرت بمن يجذبها من يدها ليمنعها من استنشاق أكثر من ذلك لكنها دفعت يده بقوة وأكملت في فعلتها، ولسوء حظها كُتِم صدرها بتلك المواد وظلت تسعل كثيرًا حتى احمر وجهها وباتت لا تستطيع التنفس بطريقة طبيعية، توترت معالم أصدقائها وتلبسهم الخوف والرهبة، وزادت صرخاتهم وفزعهم عندما سقطت ريمانا أمامهم بوجهٍ شاحب وأنفاسٍ مُنقطعة تمامًا، فيبدو بأنها لقت مصرعها!