رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع والأربعون
إن كنت تظن أن المعاناة ستنتهي حين زوال المصدر الأساسي؛ فأنت مُخطى، سيظل هناك وشوم محفورة داخل فؤادك بسنٍ حاد لن تُمحى بسهولة، تلك الأيام الحالكة التي مرت على قلبك أخذت حيزًا لا بأس به بين ثنايا فؤادك، صرخاتك المُتألمة لم يسمعها أحد سوى نفسك المُنكسرة، إن كنت تظن أن الأمور جيدة، فلا شيء جيد.
أنتِ و حبيبة أخوات مش ولاد عم.
جُملة نطق بها قاسم بهدوء لكن نتيجتها كانت كالصاعقة بالنسبة لكلتيهما، نظرت حبيبة ل أهلة بصدمة، بينما أهلة نظراتها كانت مُتجمدة في الفراغ من هول ما وقع على مسامعها، وكانت أول من تخرج عن الصمت هي حبيبة التي تسائلت بصدمة: إ. إيه؟ إزاي؟
حمحم صهيب وحاول التوضيح لها بطريقة بسيطة: اللي أنتِ متعرفهوش يا حبيبة إن أهلة هي بنت مختار الأرماني.
رمشت حبيبة بأهدابها عدة مرات ومازالت لا تستوعب الحديث بأكمله، وللمرة الثانية تُحوِّل أنظارها نحو أهلة التي ألجمتها الصدمة، وبتلعثم وغبطة تسائلت حبيبة: طب. طب إزاي؟ عمي. عمي مختار كان عنده بنت واحدة بس و. وماتت، إزاي هي تبقى بنته وأنا أختها؟ أنا مش فاهمة حاجة!
كانت نظرات قاسم ترتكز على أهلة المُتصنمة في مكانها، دارت نظراته نحو صهيب الذي بدأ بالحديث عند محاولته بقدر الإمكان في انتقاء كلماته حتى لا يجرح زوجته وزجة أخيه: والدتك صوفيا كانت بتخون رفعت مع مختار، الموضوع كان مستمر تقريبًا من قبل جوازهم، ودا اللي سمعته منهم بالصدفة وأنا رايح لمكتب مختار الأرماني لما كنت عايش معاهم.
هبطت دموع حبيبة بعدم تصديق وهي تهز رأسها بالنفي، لا يكفي بأن والدتها كانت قاسية للحد الذي جعلها تكرهها، بل كانت خائنة أيضًا لوالدها، أو للذي كانت تظنه والدها! التوى ثُغرها بضحكة خافتة تعكس مقدار الألم الذي ينمو تدريجيًا داخلها وهي تقول: أنت. أنت أكيد بتهزر صح؟
ابتلع صهيب ريقه بصعوبة ولم يجد الإجابة المناسبة للرد عليها، يريد أن ينفي كل ما قاله ويذهب لها ويأخذها بين أحضانه ليُداوي جُروحها، لكن لا بُد أن تعلم الحقيقة، بينما حبيبة أكملت حديثها برجاء وهي تبكي بعنف: عشان خاطري يا صهيب قولي إنك بتهزر وإن دي كدبة، متوجعش قلبي أكتر من كدا.
مدَّ صهيب كفه ليُمسك بكفِ حبيبة ثم تشدق بحنان: اهدي يا حبيبة عشان خاطري.
أخذت حبيبة أنفاسها بصعوبة ثم تسائلت بتيهة: طيب. طيب إزاي حبيبة بنت مختار؟ إزاي أنا مش فاهمة حاجة! طب هي بتنتقم منه ليه؟
زفر صهيب باختناق وهو يُجيبها: إزاي وليه بقى دي أهلة اللي هتجاوبك عليها.
انتقلت حبيبة بأبصارها نحو أهلة والتي قررت أخيرًا تحرير الدموع المُنهمرة داخل مقلتاها، يبدو بأن الألم لن يزول أبدًا، يبدو أن الذكريات لن تتركها وشأنها، يبدو أن الحياة بأكملها تتفق ضدها، وهي المسكينة المُحتجزة بين كل هذا، ترتطم بين أمواج الماضي والحاضر وفيما بعد المستقبل، المشاهد القديمة تلتف حول عنقها فتتسبب في اختناقها، فلم تجد مفرًا من اللاشيء سوى بالبكاء الصامت، تحررت دموعها كشلالاتٍ تتسابق على صفحة وجهها، ورغم بأنها دموع سائلة فهي تتسبب في إحراقها.
شعرت بمن يقترب منها ويُحيط بها من خصرها أثناء وضعه لرأسها على صدره موضع قلبه، ربت قاسم بحنان على ظهرها وشفتيه تستقر على خدها الأيمن يُقبلها بحنان، لم تصدر صوتًا أثناء بكائها، بل كانت عبراتها تصعد على هيئة شهقات خافتة وكأنها تصعد من فم طفلٍ صغير، ارتعش جسدها حينما كانت تتذكر رؤيتها لوالدها في وضع مُخِل مع زوجة عمها، كانت صغيرة ولا تفقه شيء لكن الأمر حفر داخلها ألمًا لم يزول حتى الآن.
وعلى عكسها تمامًا طالعتها حبيبة ببكاء وحزنًا لحزنها، استدارت ل صهيب الذي يُطالع الوضع بأكمله بألم شديد، ثم انطلقت إلى أحزانه تبكي بعنفٍ وكأنها لم تبكي من قبل، كانت تتحدث من وسط بكائها بكلماتٍ غير مفهومة، لكن الجُملة الوحيدة التي وصلت إلى مسامعه هي قولها الحاقد: أنا بكرههم أوي، بكرههم ونفسي كلهم يموتوا.
احتضنها صهيب بقوة وهو يهمس لها: كلنا بنكرههم أوي ونفسنا يموتوا، ربنا هيجيب حقنا كلنا منهم.
نظر الشقيقان لبعضهما البعض بقلة حيلة، كُلًا منهم يرى ضعف زوجته وآلامهم، آلامٌ لا يستطيعوا محوها بسهولة كما كانوا يظنون، لكنها محفورة بجدارة داخل أفئدة كل منهم.
خرجت حبيبة من أحضان صهيب بعد أن مرت دقائق كثيرة في البكاء، ثم اتجهت نحو أهلة التي يُحيط بها قاسم بعناية ليُهدأها بعد أن زادت في البكاء، راقب صهيب زوجته التي وقفت خلفها بيأسٍ ولا تعلم بما تتحدث أو تقول، كل الذي فعلته هو أنها وضعت كفها على ظهر أهلة وتطلب منها برجاء: خلاص متعيطيش.
كان جسد أهلة يهتز بخفة نتيجة لبكائها الصامت، فاستكملت حبيبة حديثها بنبرة مُرتعشة: أنا. أنا مليش ذنب، مليش دعوة بيهم.
هدأ بكاء أهلة قليلًا وخفت تدريجيًا، وعندما طال صمتها سحبت حبيبة كفها وعادت الدموع لتتشكل داخل مقلتاها مُجددًا، ضمت قبضتها وأبعدتها وهي تشعر بالعجز، جميع الحروف قد توقفت على طرف لسانها، نست جميع كلمات المواساة وشُلَّ لسانها عن الحديث، عادت خطوتان إلى الخلف فاصتدمت بصدر صهيب الذي أحاط كتفها بحنان، رفعت أنظارها الدامعة إليها ثم تسائلت بصوتٍ مبحوح مُرتعش: هي مبقتش تحبني؟
هز صهيب رأسة بالنفي على الفور وهو يقول: لأ طبعًا، هي بس لسه مصدومة والصدمة كانت شديدة عليها.
ارتعشت شفتي حبيبة وهي تُجيبه بنبرة باكية: بس أنا مليش دعوة.
الأغلب سيظن بأن ردة فعلها مُبالغ بها بعض الشيء، لكنها كانت طبيعية للحد الذي يبث الرعب في كل مَن ذاق مرارة الوحدة طيلة حياته، لقد عانت كثيرًا حينما كانت تُحتبس بين جدران غُرفتها الأربعة ولا تجد رفيقًا يُهوِّن عليها رحلتها، و أهلة هي مَن قامت بهذا الدور ببراعة منذ أن تعرفت عليها، كانت تُعاملها كطفلة رقيقة تخشى خدشها، والآن مُرتابة من فكرة تغيرها أو ابتعادها عنها.
اقترب منها صهيب أكثر ثم قبَّل جبينها وهو يقول بصوتٍ حنون: أنتِ ملكيش دعوة يا بيبة، متقلقيش يا حياتي.
مرت خمس دقائق أخرى وهم على نفس الوضع، قاسم يعمل على تهدئة زوجته التي خفت بكائها قليلًا، فيما تقف حبيبة بجوار زوجها تُراقبها بأعين دامعة، وأخيرًا قررت أهلة قطع هذا الصمت والابتعاد عن أحضان قاسم أثناء تجفيفها لوجهها، انتقلت بأبصارها نحو حبيبة التي ابتعدت عن صهيب فور رؤيتها والتي تفرك كفيها بتوتر وإمارات وجهها تدل على البكاء، ظلت تنظر إليها بصمتٍ لعدة ثوانٍ قليلة ثم خطت بأقدامها إليها حتى وقفت أمامها، ابتلعت حبيبة ريقها بتوتر وشُلَّ لسانها عن التحرك أو الحديث، فتحت فاهها للتحدث؛ لكنها شهقت بخفة عندما جذبتها أهلة إلى أحضانها بقوة شديدة، وهُنا انفجرت كلتاهما في البكاء معًا.
علت صوت شهقاتهم في المكان كُلٍ منهن تُعانق الأخرى وكأنها آخر أمل لها في الحياة، حبيبة تبكي على الموقف بأكمله ويزداد حقدها على عائلتها الحقيرة، و أهلة تبكي حسرةً على كل ما مرت به، لا يكفي بأن الحياة أعطتها دروسًا قاسية من قبل! بل مازالت مُستمرة في إعطائها حتى الآن، وهي الضعيفة الهشة التي نفذت قدرتها ولم يعد بوسعها التحمل، والطريقة الوحيدة التي ستُطفيء من نيرانها المُشتعلة؛ هي احتضانها لشقيقتها التي اكتشفتها للتو!
اقترب صهيب من قاسم الذي يُراقب بكاء عزيزته بأعيُن دامعة مُتألمة، ربت على ظهره بحنان وهو يُسدد له ابتسامة صغيرة أثناء قوله الداعم له: متقلقش كل حاجة هتعدي وهيكونوا بخير.
آمن قاسم على حديثه برجاءٍ نابع من قلبه، ليستمع بعد إلى استكمال شقيقه للحديث بنبرة مازحة: وبعدين احنا المفروض نخاف منهم مش عليهم، أنت عارف اجتماع مراتك ومراتي مع بعض يعني إيه؟ يعني بالصلاة عالنبي مش هنشوف وشوشهم تاني غير ما ربنا يفرجها.
ضحك قاسم بخفة وهو يقول: ربنا يسترها علينا والله.
وبالعودة إلى الفتاتين، ابتعدتا عن بعضهما البعض، فمدت أهلة يدها لمسح دموع حبيبة بحنان، وبعدها أردفت بصوتٍ مبحوح مُرتعش من أثر البكاء: خلاص كفاية عياط، هما ميستاهلوش إننا نعيط عليهم.
استمعت حبيبة إلى حديثها وهي تهز رأسها بالإيجاب تُوافقها على كل كلمة تتفوه بها، وبعدها مدت يدها هي الأخرى تمسح عبراتها وهي تقول بألم: وأنتِ كمان متعيطيش، ومتزعليش مني.
أدمعت عيني أهلة التي حاولت السيطرة على ذاتها بقدر الإمكان وعدم البكاء مُجددًا، فسحبت نفسًا عميقًا ثم زفرته على مهلٍ، وابتلعت ريقها بصعوبة حتى استطاعت أخيرًا العودة إلى حالتها الطبيعية، نظرت إليها حبيبة بترقب وكأنها طفلة تنتظر حُكم والدتها عليها بعد أن أخطأت دون قصد، لتجد أهلة قد طالعتها بابتسامة هادئة قبل أن تقترب منها مرة أخرى وتقوم باحتضانها، لكن تلك المرة لم يكن حُزنًا، بل اشتياقًا!
وبعدها خرج صوت أهلة تُخبرها بصوتٍ حنون: أنا مش زعلانة منك، أنا مبسوطة إنك طلعتي بعد دا كله أختي ومن دمي بعد الوجع اللي مرينا بيه دا كله، دا بعيدًا إن مصدر الدم دا فاسد أصلًا.
قالت الأخيرة بمزاحٍ، لتضحك حبيبة بخفة وهي تُشدد من عناقها أكثر، كان المشهد يُشبه احتضان الأم لصغيرها، وازدادت واقعيته خاصةً وأن أهلة تفوق حبيبة في الطول بحوالي سبعة سنتيمترات كاملة، فكانت تقوم بدور الأمِ وببراعة.
في تلك الأثناء؛ دخلت عليهم بوجه أحمر وعينان مُنتفختان من شدة البكاء، ابتعدت أهلة عن حبيبة وطالعتها باستغراب، ثم اتجهت نحو مهرائيل تسألها بقلق: مالك يا مهرائيل بتعيطي ليه؟
مسحت مهرائيل دموعها ثم طالعت الأربعة بملامح حانقة وهي تقول بغيظ: انتوا بتعملوا إيه هنا؟ هو الواحد ميعرفش يعيط في مكان براحته؟
طالعوها بعدم فهم، لتتقدم منها حبيبة هي الأخرى وتسألها: بتعيطي ليه مالك؟
عادت أعيُنها لتدمع من جديد ثم أجابتها بصوتٍ خافت وهي تنفي بوجهها: لأ مفيش حاجة، دا بغل دخل في عيني.
ضيَّق قاسم عيناه بشك وهو يتسائل بعبث: أي بغل قصدك؟
ردت عليه بنبرة مُتعصبة لتُداري بها حزنها: بغل حقير ربنا يهده، المعفن الجربان اللي يحمد ربنا ويبوس إيده ليل نهار إني عبرت اللي خلفوه.
التوى ثُغر قاسم بابتسامة ماكرة وهو يقول: طيب خلي بالك عشان البغل واقف وراكِ.
وتلقائيًا التفتت مهرائيل بسرعة لتنظر خلفها، فوجدت آلبرت يستند على باب المطبخ بكتفه واضعًا كفيه داخل جيب بنطاله ويُطالعها بنظراتٍ باردة، جعدت وجهها بقرف وهي تُطالعه باشمئزاز، ثم أشاحت بيدها أمام وجهه وهي تصرخ به: أنت إيه اللي جابك هنا؟ مكفاش اللي أنت عملته جاي تنكد عليا كمان؟
رد عليها آلبرت بنبرة باردة بعد أن اعتدل وتقدم عدة خطوات، ثم أزاحها بيده جانبًا وهو يُجيبها باستفزاز أثناء تحدثه بلغتهم الطبيعية: ياختي اتلهي على عينك أنا جاي أشرب.
رمشت مهرائيل بأهدابها عدة مرات بعدم فهم، ثم ضربت بقدمها في الأرض وهي تصرخ به بغضب: طيب بما إن الحلو طِلع بيفهم عربي مش جاموسة زي ما كنت فاهمة، فخليني أقولك إنك بني آدم حلوف وقليل الذوق وبارد، والحمد لله إن ربنا عرفني حقيقة إنسان حقير وعديم المشاعر زيك، وحقيقي أنا ندمانة على كل لحظة قضيتها معاك.
أنهى آلبرت تجرع المياه الموجودة في الكأس ثم وضع الكأس مكانه مرة أخرى، وبعدها أجابها بهدوء بعد أن طالعها بنظرات ثاقبة تسببت في توترها: ماشي.
اكتفى بكلمته تلك ثم توجه نحو الخارج بوجهٍ جامد، بينما هي نظرت لأثره بدموعٍ عادت لتتشكل مرة أخرى داخل مقلتاها وهي تهمس: آه يا جرو يا حقير!
اقتربت حبيبة من مهرائيل ثم ربتت على ظهرها بخفة وهي تواسيها بقولها: متزعليش يا ميهو، أكيد هتلاقي حد أحسن منه.
طالعتها مهرائيل بضعف ثم أجابتها بغباء وهي تهز رأسها بالنفي: أنا مش عايزة حد أحسن منه، أنا عايزاه هو.
ضربتها أهلة على ظهرها بقوة ثم صرخت بها: أنتِ كدا مش مُخلصة، أنتِ كدا عديمة الكرامة.
نفخت مهرائيل بغيظ وهي تُجيبها: بقولكوا إيه سيبوكوا مني وقولولي انتوا كنتوا بتعيطوا ليه انتوا كمان؟
هز قاسم رأسه عدة مرات بالرفض من حديث النساء الذي لا ينتهي، فجذب ذراع أخيه خلفه ثم خرج من المطبخ نهائيًا وهو يقول: تعالى يابني نمشي احنا أصل رغي الستات دا مش بيخلص.
وافقه صهيب في الحديث وهو يتبعه، لكن قبل أن يخرج نهائيًا؛ غمز ل حبيبة بمشاكسة فابتسمت بخجل على أثرها، وبعدها جلس الثلاث الفتيات حول الطاولة الموجودة في المنتصف، وكلٌ منهم بدأت بقص حكايتها البائسة للأخرى.
أومال فين أبوك يا يعقوب؟
تسائل رائد بتلك الكلمات وهو يدور بأنظاره في أرجاء المنزل، ليُجيبه يعقوب الذي يأكل من طبق الحلويات خاصته: راح هو وأمي يزوروا قرايبنا، صلة رحم بقى وكدا.
تنهد رائد بارتياح هامسًا: طب الحمد لله.
تثائب بادر وهو يميل برأسه على الأريكة، ليتشدق يحيى مازحًا: أتمنى نكون مش متقلين عليكم يا جماعة، دول هما أربع خمس ساعات اللي قعدناهم معاكم.
رد عليه مدثر نافيًا: لأ يا حبيب أخوك خُد راحتك البيت بيتك.
قذفه بدران بالمزهرية البلاستيكية في وجهه وهو يقول حانقًا: بيت أبوك هو يلا صح؟
التقط مدثر المزهرية قبل أن تصل إلى وجهه، ثم طالعه بنظرات غاضبة بعد أن انتفض في مكانه صارخًا: كانت هتيجي عليا وتبوظ وشي الوسيم يا حيوان!
وكالعادة تنمر عليه مصعب ضاحكًا وهو يقول بمكر: وسيم إيه يا عنيا؟ دا أنت تحمد ربنا إن مراتك رضيت بواحد شبه القرد زيك.
وتلك المرة لم يصمت مدثر عن حقه وأصرَّ على ردع حقه بعد أن أخطأ في وسامته، هجم عليه لاكمًا إياه في وجهه بقوة، ليُطلق عمران صفيرًا عاليًا وهو يُشجِع: إديله كمان المُتنمر اللي مترباش دا.
طالعه مصعب بغضب أثناء ضرب مدثر له، ثم صرخ به ينهره بحدة: أنا أخوك يا حيوان قوم انقذني.
أشاح عمران بيده بلامبالاة ثم استدار جهة أخيه يعقوب ومد يده تجاه طبق الحلوى التي يأكل منها، لكنه انتفض بفزع عندما صرخ به يعقوب بغضب: إيدك يا حرامي.
تشنج وجه عمران والذي تشدق بغيظ: لأ ما هو مش كل ما نجيب بسبوسة أو أي حلويات تاكلها لوحدك، حضرتك معاك بني آدمين غيرك.
رد عليه يعقوب بفظاظة أثناء حمله للطبق وأخذه بين أحضانه: غور يلا من هنا، مش مكسوف على دمك وأنت جاي تاكل معايا وبجح كمان؟
رفع عمران حاجبيه بدهشة وهو يردد بعدم تصديق: وهو أنا لحقت آكل حاجة يا عم أنت؟
طالعه يعقوب بقرف وابتعد عنه ذاهبًا لأريكة أخرى، فرغ عمران فاهه بعدم تصديق أثناء تثبيته لنظراته على شقيقه، لقد وصل مع الأمر إلى درجة إدمان الحلوى، فحين يجلب لهم أباهم عُلبة كبيرة؛ يقوم بإلتهامها بأكملها، وإن اعترض أحد يقوم بتوبيخه كما لو أنه لص سارق.
نفخ سليمان والذي يتمدد على الأريكة ويضع رأسه على قدم عدي الذي غلبه النوم: يا جدعان إحنا هنروح المُهمة دي إمتى، أنا بنام على نفسي وعهد الله.
رد عليه يحيى الذي يجلس بجانب سيف وبدير اللذان يُشاهدان فيلمًا من الرعب: لما الساعة تيجي اتنين كدا، عشان لما نهجم؛ نهجم بقلب جامد وناخدهم على غفلة.
هبَّ حمزة من مكانه والذي أردف بتثاؤب وهو يفرد ذراعيه كُل منهم في جهة: على كدا احنا قدامنا ساعتين! هدخل أريَّح أنا شوية بقى.
خُدني معاك.
هتف بها رائد الذي ذهب خلفه، ليضحك حمزة بصخب وهو يلف ذراعه حول كتفه: تعالى يا حبيبي، ما أنت بقيت صاحب بيت بقى.
وبالفعل دخل معه رائد ليتنعما بنومٍ هاديء بعيدًا عن هؤلاء الثيران.
أمسك سيف في ذراع بدير الذي ينكمش على ذاته رعبًا، ثم همس له بخوف: اقلب يلا الفيلم دا وهاتلنا كرتون ولا أي نيلة تانية.
ورغم خوف بدير وفزعه، إلا أنه هز رأسه بقوة قائلًا: انشف ياض متبقاش طري كدا! خليك راجل زيي ومتخافش.
ابتلع سيف ريقه بريبة وهو يُشدد الإمساك في كُم ملابسه، وفجأة فتح عيناه بفزع عندما رأى ذلك البشري يأكل لحم صديقه! وبعدها قام بإخراج أمعائه ثم قام بطهيها وتلذذ في أكلها وهي ساخنة!
صرخ كلاهما بفزع عندما انغلقت أنوار الشقة بأكملها، لينتفض سيف لاطمًا على وجهه وهو يُولول: هياكلونا، هياكلونا.
أمسك بدير في ثيابه بقوة وهو يصرخ بعلو صوته: يا يعقوب يا عمران إلحقونا.
انتظر الاثنان قليلًا علهما يستمعا إلى صوت أحد الشباب، لكنهما ابتلعا ريقهما برعب عندما لم يسمعا سوى الصمت الذي يغلب على المكان، اقترب منه سيف ثم همس له برعب: تفتكر هيكون ماتوا ولا هياكلوهم؟
أجابه بدير بارتعاش: افرض كانوا اتلبسوا؟
يا مصيبتي؟
هتف بها سيف بفزع، بينما أكمل حديثه بنبرة باكية: أنا عايز ماما.
ليهتف بعده بدير مباشرةً بنفس النبرة: وأنا كمان.
كتما أنفاسهما برعبٍ عندما استمعا إلى صوت يأتي من جانبهم، عادا للخلف وبالطبع لم يروا بسبب العتمة فاصتدما بجسد عضلي ضخم من خلفهم، صرخ بدير عاليًا وهو يهتف برعب: إلحقوني، يا أم رفعت، يا ست حليمة.
دفعهما ذلك الجسد على الأرض والذي لم يكن سوى يعقوب الذي هتف بتأفف: يا جدع غور من وشي بقى جتكم البلا.
وقع سيف أرضًا من أثر الدفعة وفوقه وقع بدير، وفي تلك اللحظة أنارت الأنوار وظهرت فضيحتهم أمام الجميع!
لوى رياض شفتيه يمينًا ويسارًا وهو يتحدث بصوت خافت: إخيه على رجالة اليومين دول، عليه العوض ومنه العوض.
هبَّ بدير من مكانه واقفًا وهو يصرخ به: اتلم ياض واحترم نفسك، أنا بدير آه بس راجل أوي.
مصمص يحيى على شفتيه والذي أردف بحسرة: حتى أنت يا سيف؟ شكلنا اتخدعنا فيك يا صاحبي.
ترك وليد ذلك الاجتماع التافه ثم هبَّ من مكانه هاتفًا: أنا نازل أجيب سجاير، دا انتوا عالم دماغكم تعبانة.
سار من وسط ذلك الحشد الكبير حتى وصل إلى أعتاب المنزل أخيرًا، وقبل أن يخرج كُليًا استدار نحو سليم وتسائل: تيجي معايا؟
تؤ.
حركة خرجت من فمِ سليم الذي أجابه بلامبالاة ونعاس، فأومأ له وليد بصمت قبل أن يهبط لشراء ما يُريد.
جلست يمنى على الفراش بانهاك بعد يومٍ طويل قضته مع شقيقتها لاستذكار دروسها، ولكم أثارت غضبها بسبب غبائها الذي لا تنفك عن إظهاره، تثائبت مكانها بنعاس لكنها حاولت المقاومة حتى آذان الفجر لتقوم بتأدية فرضها وتنام براحة.
لكن تلك المرة غلبها نعاسها وأغمضت عينيها وذهبت في ثُباتٍ عميق، وهذه المرة لم ترى حُلمًا أو كابوسًا، بل رأت حقيقة بشعة لاتزال تلحق بها حتى الآن، مرت ذكرياتها مع أبيها ووالدتها بكلِ لحظة حتى أنها شعرت بأنها حقيقة!
عاد شاهين من العمل وعلى وجهه يظهر الإنهاك بوضوح، لكنه ورغم تعبه لم ينسى حلوى صغيرته الجميلة والتي طلبتها منه، دخل للمنزل ولكن تلك المرة كان هادئًا على غير العادة! قطب جبينه بتعجب ثم دار بأنظاره في المنزل عله يلمح زوجته أو حتى ابنته، لكن لم يجد شيئًا.
ذهب نحو غرفة نومه ثم فتحها وكانت النتيجة ذاتها، فذهب نحو غرفة صغيرته لكن كما سبق لم يجد أحد، لكنه لاحظ حركة غريبة بالغرفة! تقدم أكثر حتى بات في المنتصف، وفجأة عاد للخلف خطوتان بفزع عندما وجد صغيرته تخرج من الخزانة صارخة بوجهه وهي تُقهقه بطفولية.
وضع يده على صدره بخضة ثم تشدق بعتاب: كدا يا يُمنتي تُخضي بابا؟
انطلقت يمنى الصغيرة مُهرولة إلى أحضان والدها وهي تضحك بسخط، فالتقطها أبيها حاملًا إياها بين أحضانه وهو يُقبلها بحب: حبيبة قلب بابا، فين ماما راحت فين؟
قبَّلته الصغيرة من وجنته بحب ثم أجابته بطفولية: خرجت.
قطب شاهين جبينه بضيق ثم ردد بهمس لم تفهمه حينها: خرجت إزاي؟ أنا قايلها 100 مرة متخرجش وتسيبك لوحدك.
لم تُبالي الصغيرة بحديثه، بل جعدت وجهها مُتسائلة بحنق طفولي لذيذ: بابا فين الشيكولاتة؟
تصنع شاهين الصدمة وهو يقول بنسيان زائف: يا خبر! دا أنا نسيت!
نظرت له عدة ثواني وكأنها تُقلب حديثه داخل عقلها، وبعدها تحدثت مُبتسمة بعد أن قبلت وجنته بحب: مش هزعل منك المرادي عشان أنت بتجيبلي كل يوم وأنا بحبك.
احتضنها شاهين بقوة مُقبلًا جانب وجهها، تلك الكُتلة من اللطافة يُريد أن يلتهمها لبرائتها، ابنته حنونة ولديها من الحب ما يكفي للجميع، وهذا ما حاول جاهدًا أن يزرعه داخلها طيلة سنوات عمره، أطال فترة عناقها فاستعجبت يمنى حالة والدها العجيبة لذلك تسائلت وهي تُربت على ظهره بحب: مالك يا بابا أنت كويس؟
أخرجها شاهين من أحضانه واضعًا إياها أرضًا واستند هو بركبتيه أمامها ثم أخرج قطع الحلوى من جيب حلته التي يرتديها وهو يقول: بابا حبيب يُمنته مستحيل ينسى حاجة بنته قالتله عليها أبدًا.
التمعت عينها بشغف واتسعت ابتسامتها بقوة، ثم قفزت داخل أحضان والدها وهي تُقبله في جميع أنحاء وجهه وهو يضحك بصخب، لطالما كان والدها هو حبها الأول ومصدر بهجتها الذي سيظل عالقًا داخل ذاكرتها طيلة حياتها، فكيف لأبٍ عاش حياته بأكملها يُدافع عن عائلته أن يُمحى بتلك السهولة؟
في تلك الأثناء دخلت عليهم هبة والدة يمنى وزوجة شاهين وهي تحمل بين يديها حقيبة بلاستيكية بيضاء، وقف شاهين من مكانه واعتدل واقفًا أمامها وهو يردف بضيق: كنتِ فين يا هبة؟ مش قولتلك متسيبيش يمنى في البيت لوحدها تاني!
أخذت هبة أأنفاسها والتي كان يبدو عليها بأنها أخذت الطريق بأكمله بخطوات سريعة، وبعدها أجابته بيأس: واللهِ كانت نايمة وأنا سيبتها وروحت أجيبلها العلاج علشان الكُحة اللي عندها دي.
تصنع شاهين الضيق فأردف بملامح مُقتضبة: مش مُبرر لأ يا هبة، وغير دا كله أنتِ بقيتي مُهملة البت وأبو البت ودا غير مسموح أبدًا.
ابتسمت هبة بخفة عندما علمت بأنه يمزح، فاقتربت منه مُحيطة خصره بذراعيها ثم وضعت رأسها على صدره وهي تقول بحب: البت وأبو البت في عيوني من جوا، حقكم عليا والله عارفة إني مقصرة اليومين دول بس مبقتش ملاحقة على شغل البيت.
أحاط بها شاهين بعد أن قبَّل رأسها بحنان، ثم أردف بحب: متقوليش كدا يا غالية، دا بسبب اللي بتعمليه دا أشيلك فوق راسي العمر كله.
وعقب حديثه شعر شاهين بضربة خفيفة على ركبتيه من الأسفل، نظر فوجدها يمنى تنظر إليهم بملامح واجمة وهي تقول بغضب: وأنا يا بابا؟
قهقه شاهين بمرح وشاركته هبة في الضحك قبل أن ينحني قليلًا ويحملها على ذراعيه أثناء تقبيله بقوة لخدها المنتفخ، وبعدها تشدق بحنان: أنتِ روح قلب بابا من جوا يا يُمنتي.
اتسعت ابتسامة الصغيرة بسعادة، وهكذا مرت عليهم الأيام حتى مرَّ عام كامل تعيش مع عائلتها الصغيرة بسعادة شديدة، كان منزلهم مليء بالدفئ والحب حتى أتى ذلك اليوم الذي رحل عنه الدفئ تمامًا، وذلك اليوم كان يوم وفاة والدتها الحبيبة!
حينها رأت ظهر أبيها قد انحنى بضعفٍ، تسمع بكائه الذي كان يُمزق نياط فؤادها رغم صغر عمرها، وكعادتها منذ وفاة والدتها كانت نائمة بجانب والدها، حينما أُصيبت بانهيار وهي ترى رحيل غاليتها أمام عيناها الدامعتان، لكن تلك المرة كانت رحيلًا للأبد ليس بضعة دقائق كما اعتادت، وقتها استمعت إلى حديث أبيها والذي كان يهمس ببكاءٍ خافت وهو ينظر لصورة والدتها:.
حقك عليا يا هبة، حقك عليا يا حبيبتي سامحيني، أنا عارف إن أنا السبب بس وغلاوتك عندي حقك هيجي لحد عندك، هتوحشيني لحد ما أجيلك يا نور عيني.
لم تكن تفقه شيئًا سوى أن أبيها كان السبب فيما حدث لوالدتها بطريقة غير مُباشرة، سنواتها العشر لم تُسعفها في فهم ما يدور من حولها، لكنها أرادت معرفة كيف ماتت والدتها، نعم أعوامها كانت قليلة للغاية، لكنها كانت من نوعية الأطفال شديدي الذكاء وهذا ما أتعب والدها معها كثيرًا.
مرَّ عامان آخران وأتى ذلك اليوم المشؤوم، حينما أخذها والدها معها ليلهو معًا كإعتذارٍ منه على انشغاله بعمله عنها، وفي طريق العودة شعروا بالكثير من السيارات المُصفحة تُحيط بهم، وبعدها قاموا بخطفهم معًا دون النظر إلى صراخ شاهين لترك ابنته، وبكاء يمنى خوفًا منهم، تم أخذهم لمكان قديم أشبه بالمخزن وقاموا بربط قدم ويدي شاهين، لكنهم استخفوا بوجود الصغيرة وتركوها دون رباط.
انكمشت يمنى بخوف وظلت نائمة على صدر والدها تبكي بصمت، ناداها شاهين بفزع فطالعته هي بأعين دامعة، فأمرها بصوتٍ منخفض: يمنى بُصيلي يا حبيبة بابا متخافيش أنا معاكي.
نظرت يمنى لأبيها بارتعاش فاستمعت إليه يُكمل حديثه: هاتي أي خشبة وافتحي الشباك الصغير اللي فوق دا، واجري بسرعة واستخبي ورا أي حاجة المهم محدش يشوفك.
هبطت دموع يمنى فارتمت بين أحضانه وهي تهتف ببكاء عنيف: طيب وأنت يا بابا؟
اقترب منها أبيها مُقبلًا جانب وجهها بحنان، ثم أردف بسرعة: أنا معاكِ يا روح بابا، المهم يلا بسرعة روحي اعملي اللي قولتلك عليه.
تحاملت الصغيرة على ذاتها ثم وقفت مُسرعة ونفضت الغبار عن فستانها الوردي الجميل، ثم أمسكت بعصى خشبية وفتحت الشباك الموجود على بعد ضئيل منها، وبعدها هرولت لإحدى الأركان واختبئت خلف أريكة مُتهالكة بعد أن أشار إليها والدها، ولم تمر سوى دقائق واستمعت إلى صوت خطوات تبعه صوت غليظ يهتف بحدة:
فين بنتك يا شاهين؟
رد عليه شاهين بابتسامة مُستفزة وهو يُشير نحو الشباك المفتوح: هربت.
أجابه الآخر بغلاظة بعد أن سحب زناد مسدسه: قولتلك يا شاهين إن اللعب معايا وحش، وأنت شوفت غضبي من سنتين لما مراتك اتسممت ومعرفتش تثبت أي حاجة ضدي.
اشتعلت عينيّ شاهين بنيران الحقد ثم أجابه بغضب: هيجي اليوم اللي هنتقم فيه منكم يا مختار، صدقني هتندموا أشد الندم.
ابتسم رجلٌ آخر معه بخبث وهو يقول: دا لو عيشت لحظة واحدة بعدي دي يا شاهين، اللي يقف في سكة صادق مهران و مختار الأرماني يستاهل الموت.
ومن بعدها شهقت يمنى بفزع والتي كانت تُتابع كل ما يحدث بأعين مُرتعبة، هبطت الدموع من عينيها بكثافة عندما رأت جسد والدها يقع صريعًا عندما سدد له صادق طلقة غادرة استقرت في منتصف رأسه أنهت حياته على الفور!
انتفضت يمنى من نومتها وهي تشهق بفزع، وضعت يدها على وجهها لتفركه فوجدت الدموع تُبلل وجنتاها بقوة، يبدو بأنها لم تبكي في كابوسها فقط! ارتعشت شفتيها ببكاء وحاولت السيطرة على ذاتها، لكنها ولأسفها الشديد لم تستطيع، فعلت صوت شهقاتها بحسرةٍ على فقدانها أغلى الغاليين على فؤادها، وقفت من مضجعها ثم اتجهت إلى شرفة غرفتها وفتحتها، فتركت نسمات الهواء الباردة تضرب وجهها علها تُخفف من وجعها.
كل الذكريات الجميلة التي مرت مع أبيها وأمها تتأرجح أمام عيناها، فتُزيد من لوعة قلبها ونزيف عيناها، شعرت بجميع جدران الغرفة تطبق فوق صدرها، أرادت أن تشكي لشقيقتها أهلة الآن لكنها خافت من فكرة كونها نائمة، لذلك قررت اللجوء إلى مصدر أمانها الثاني وهو يحيى، أمسكت بهاتفها ومازالت دموعها تهبط بصمت، وكأنها فقدت القدرة على السيطرة على عينيها، أتت برقم هاتفه وقررت الاتصال به مرة واحدة فقط حتى لا تُزعجه إن كان نائمًا، ولم تمر سوى ثانتين واستمعت إلى صوته الذي تحدث باشتياق:.
يمونة قلب يحيى.
ابتسمت شفتيها عكس بكاء عيناها، وبصوتٍ مبحوح نادته بقهر: يحيى؟
انتفض يمنى بفزع وترك مجلس الشباب مُبتعدًا عنهم، حتى وقف في الشرفة هو الآخر وتسائل بقلق بالغ: يمنى مالك يا حبيبتي بتعيطي ليه؟
ابتلعت يمنى ريقها بصعوبة ثم تشدقت بهمس باكٍ: بابا. بابا وحشني أوي يا يحيى.
تأثر يحيى من على الجهة الأخرى ولم يعرف بما يواسيها، لم يجد سوى الكلمات المُعتادة التي تُقال في مثل تلك المواقف، لكن كانت كلماتٍ من نوعٍ خاص:.
حبيبتي ربنا يرحمه يارب، وأكيد هو في مكان أحسن، كفاية إنه سايب بنت عظيمة زيك فاكرة كل ذكرى ليه ومش بتنساه في دعائها، حقيقي يا يمنى أنا نفسي يكون عندي بنت زيك تفتكرني حتى بعد موتي، أنا فخور بيكِ أوي يا يمنى، وأكيد باباكِ فخور بيكِ هو كمان، متقضيش ليلك في البُكا يا عيوني، خففي على قلبك وهوني على نفسك وروحي صلي ركعتين لله وادعيله.
وهذا كل ما كانت تحتاجه، دعمه المُغلف بالحب والاحتواء، لقد أحسنت الاختيار عندما انتقته من وسط ملايين من الرجال، هو رجلها الثاني الذي حصل على كلِ الحب بعد وفاة والدها، جفت دموعها وابتسمت بحب وهي تقول: أنا مش عارفة أشكرك إزاي يا يحيى؟ حقيقي أنا محظوظة بوجودك وعايزة أقولك إني بحبك أوي ومن كل قلبي.
ابتسم يحيى باتساع ورغم طرب قلبه قرر مُشاكستها والابتعاد عن أحاديث الحب والغرام حتى حين زواجهم، فقال بعبث: أقولك نكتة؟
تصنمت الابتسامة على شفتيها وهي تتذكر نكاته البائسة والثقيلة، فأردفت بتثاؤب مصطنع: لأ خلاص مش قادرة أنا هروح أنام.
ضحك بصخبٍ وأردف من بين ضحكاته: ماشي هعديهالك المرادي ها؟ يلا سلام يا حبيبي.
ردت عليه بابتسامة مكتومة: سلام، خلي بالك من نفسك.
أجابها بهيامٍ بعد أن تنهد بعشق: نَفسي معاكِ فخلي بالك أنتِ مني.
هبط وليد درجات السلم وهو يُدندن ببعضِ الألحان، خرج من البناية بأكملها ثم مدَّ يده في جيب بنطاله وانشغل في اخراج الأموال منه، ولم يعي لذلك الجسد الضعيف الذي اصطدم به إلا عندما صاحت به الفتاة بنبرة غاضبة: ما تُبص قدامك يا اخويا هو انتوا ماشيين تخبطوا وخلاص في خلق الله؟
قطب وليد جبينه بتعجب فرفع عيناه ليرى صاحبة ذلك الصوت المُزعج والنبرة العالية، رأى أمامه فتاة ذو بشرة بيضاء شاحبة وجسد نحيل، عيناها سوداوتان واسعة وكحيلة، يوجد أعلى شفتيها شامة (حَسَنة) سوداء صغيرة أضافت مظهرًا رائعًا لوجهها، بالإضافة إلى طابع الحُسن الذي كان يُزين ذقنها، في النهاية هي جميلة.
ارتسمت ابتسامة جانبية صغيرة على ثُغر وليد الذي اعتذر منها باحترام أحرجها: بعتذر منك يا آنسة مكنش قصدي.
حمحمت بجدية وهدأ غضبها بسبب احترامه المُبالغ به، ثم تشدقت بنبرة هادئة: ولا يهمك يا أستاذ، عن إذنك.
قالتها بُسرعة ثم ذهبت مُسرعة عندما استمعت إلى نداء زوجة أبيها تُناديها بغلظة: بت يا نرجس اخلصي يا بت.
ظل وليد مُتابعًا لأثرها حتى اختفت عن أنظاره حينما دخلت إلى أحد المنازل، لوى شفتاه بمكرٍ وهو يُهمهم بتفكير: مممم. نرجس؟
انتفض في وقفته عندما شعر بيد غليظة توضع على كتفه من الخلف فجأةً، استدار بسرعة فوجد سليم يُطالعه بنظراته الخبيثة وهو يقول بمشاكسة: بتعمل إيه يا وليد يا حبيبي؟
أجابه وليد بثبات وهو يهز كتفه بلامبالاة: بجيب سجاير.
وعقب إجابته تسائل سليم بشغب: وحلوة السجاير؟
غمزه وليد بضحك: قمر السجاير.
قهقه سليم بصخب أثناء ضربه لكفه بكف وليد الذي بادله المُصافحة وهو يُشاركه الضحك، فتسائل وليد بعد أن أخذ أنفاسه قليلًا: إيه اللي نزلك مش قولت مش جاي؟
وتلك المرة غمزه سليم أثناء قوله المُشاكس: مهانش عليا أسيبك تنزل لوحدك ياض.
ابتسم وليد بامتنان وكاد أن يتحدث؛ لكنه قطع حديثه عندما استمعوا إلى صوت مدثر المُغتاظ يأتي من خلفهم: يعني انتوا نازلين وسايبني لوحدي مع شوية التيران اللي فوق دول؟
أحاط به سليم من كتفه ثم سار ثلاثتهم بجانب بعضهم البعض في طريقهم نحو الكشك، ثم أردف سليم بخبث: تعالى أحكيلك على حلاوة السجاير بتاعة وليد.
تشنج وجه وليد بغيظ، فضربه على صدره بقوة هاتفًا: ما تتلم يلا إيه بتاعة وليد دي؟
وصلوا إلى الكُشك الصغير فأعطى وليد الأموال للبائع وطلب مطلبه، وبعد دقيقة عادوا من نفس الطريق الذي أتوا منه، وطيلة الطريق كان سليم يروي ل مدثر عن (حلاوة السجائر الخاصة بوليد)، و وليد يُتابعهم بملامح حانقة.
أخرج سيجارتان من العُلبة فمد يده بواحدة ل سليم الذي أخذها منه، والأخرى ل مدثر الذي رفض هاتفًا باشمئزاز: لأ يا عم مش بحب القرف دا.
أشعل وليد سيجاره وهو يقول بلامبالاة: براحتك، دي مزاج.
طالعه مدثر باستخفاف وهز رأسه بيأس وهو ينظر إليهم، فكيف لإنسانٍ عاقل أن يحب السجائر ويستلذ بها؟ فهي بالرغم من سوء رائحتها يوجد عليها إقبال كبير بشكلٍ مُخيف من الشباب، ولحُسن حظه هو ليس منهم.
انشغل وليد للمرة الثانية بسجائره ولم يعي لذلك الجسد الذي اصطدم به للمرة الثانية، شهقت الفتاة بخفة ليرفع وليد يديه باستسلام وهو يقول بمشاكسة: مش ذنبي المرادي، أنتِ اللي كنتِ بتجري.
تأففت الفتاة بضيق أثناء قولها الساخط: لأ أنت اللي غلطان، ولو سمحت وسَّع من وشي بقى بدل ما أطلَّع غُلبي كله عليك.
ضيَّق وليد عيناه بخبث وهو يستنشق من سيجارته ثم نفخ دخانها في وجهها أثناء قوله العابث: طب ما تطلعي غُلبك عليا وناخد ونِدي بشكل وِدي لحد ما نوصل لحل سِلمي.
طالعته باشمئزاز من رأسه لإخمص قدمه، ثم قررت تجاهله والابتعاد عن طريقه كُليًا حتى لا تصعد الأقاويل عنها خاصةً وأنها في حارة شعبية، خطت خطوتان بعيدًا عنه؛ لكنها صرخت بفزع عندما استمعت إلى صوت طلقات النيران تصعد في الأرجاء!
أمسك وليد بكف نرجس ثم هرول بها إلى أقرب بناية له ثم دفعها بها وهو يصرخ: يخربيت فقرك يا بومة، اليوم كله كان تمام ولما قابلتك كشفوني.
فرغت نرجس فاهها بصدمة وهي تُطالعه بعدم تصديق، أغلق باب البناية الرئيسية عليها ثم عاد إلى سليم ومدثر، لكنه لم يجد سوى سليم يقف حوله بتيهة بعد أن تركه مدثر وهرول إلى المنزل؟
لاحظ وليد وقوف سليم وحده، فهرول إليه بأنفاس ناهجة ثم جذبه راكضًا إلى طريق بعيد عن المنطقة بأكملها وهو يقول: تعالى نبعد عن هنا عشان محدش يتأذي.
أومأ له سليم موافقًا إياه، وبالفعل هرولوا بعيدًا خلف البيوت حتى وصلوا إلى منطقة زراعية يغشيها الزرع والأشجار من كل مكان، وقفوا يلتقطون أنفاسهم عدة ثوانٍ، فاستدار وليد ل سليم مُتسائلًا بجدية: بتعرف تمسك سلاح.
ورغم عدم فهم الآخر إلا أنه أومأ بالإيجاب، ليجد بعدها وليد قد أخرج سلاحين من جيب بنطاله وأعطى له واحدًا وهو يغمز له: هنلعب في وشهم خريطة يا حبيب أخوك.
التوى ثُغر سليم بابتسامة ماكرة أثناء قوله العابث: أبويا هيفرح بيا أوي لما يعرف.
اختبأ كلاهما خلف الأشجار كُل منهم خلف واحدة مختلفة والتزما الصمت، شعرا بصوت أقدام تدهس على القش فُتسبب صوت خفيف يتسبب في التوتر، لكن بالنسبةِ لكلٍ من سليم ووليد؟ فالأمر لم يؤثر بهم بالمرة!
أشار وليد ل سليم بإشارة للهجوم، فأومأ له سليم بثقة قبل أن تمر ثلاث ثواني ويخرجا من خلف الأشجار موجهين أسلحتهم نحو أجساد المُلثمين الضِخام، لكن مهلًا؟ أعدادهم تفوق العشرة وهم اثنان بسلاحين فقط! الأمر محسوم ونهايتهم قد قاربت لا محالة!
جاء خبر وفاة ريمانا صفوت الأرماني إلى مختار الذي لم يؤثر به الأمر بأي شكل من الأشكال، فلقد جائه منذ قليل جواب من البنك يُخبره بتسديد الأموال التي قام بقرضها، والتي من المُفترض أن يُسددها من أموال الشُحنات التي قام بتأجيلها بسبب كشفه لهم!
صرخ مختار بانهيار وهو يُدمر كل ما تطوله أيديه في المكتب، لقد أصبحت ثروته ومركزه كرجل أعمال على المحك، وكل ذلك بسبب قاسم وصهيب طاحون ومَن معهم؟ احمرت عيناه بحقد وهو يهمس بفحيح: آه يا ولاد ال، وديني لأقتلكم واحد واحد.
دخل عليه في تلك الأثناء شقيقه نادر الأرماني والذي صاح به بغضب: فلوسي فين يا مختار؟ قولتلي استنى يومين وأديني استنيت اسبوع بحالهم ومفيش جديد.
طالعه مختار بحقدٍ قبل أن يُصيح به بصراخ: سيبني في حالي يا نادر أنا مش ناقصك.
ذهب إليه نادر بخطواتٍ سريعة ثم لكمه في وجهه بعنف وهو يصرخ به باهتياج: فلوسي يا مختار، ضيعت شقى عمري؟
طالعه مختار بنظراتٍ زائغة وكلمات شقيقه تتردد داخل أذنه كالسوطِ دون أن ترفق به، لقد ضاع كل شيء من بين يديه بالمعنى الحرفي، عالمه ينهار أمام ناظريه ولا يستطيع فعل شيء، أفعاله القديمة تُرَد إليه الآن بعد أن أفنى حياته بأكملها في تجميع الأموال بطريقة غير شرعية، بعد أن سرق، نهب، وقتل، واستباح أجساد النساء! وليس هو فقط. بل جميع أشقائه أيضًا طالتهم تلك اللعنة، ف رفعت الأرماني قد قُتِلَ، و صفوت الأرماني مات بذبحة صدرية، وهو فقد جميع أمواله وأوشك على إعلان إفلاسه، بينما عقاب نادر ظهر مُسرعًا عندما وجد الخادمة تدخل عليهم الغرفة وتتشدق برعب:.
إلحق يا نادر بيه! أنس بيه ابن حضرتك أُغمى عليه فوق وقاطع النفس.
ابني؟
صرخ بها نادر برعب ومن ثَم هرول إلى غرفة ابنه بسرعة مهولة!
بينما مختار نظر لأثره بصمتٍ وهو يُفكر في أقذر خطة قد يفعلها إنسان طيلة حياته ليجلب الأموال، وهو أخذ جُثة ابنة شقيقه ريمانا وبيعها لتجار الأعضاء!
كان محروس، جيهان، وسهيلة يجلسون على الأريكة يُشاهدون إحدى البرامح الدينية التي تُعرَض على التلفاز، لتخرج لواحظ من الغرفة ثم وقفت أمامهم لتمنع عنهم الرؤية، جعدت سهيلة جبينها بضيق وهي تهتف قائلة: ابعدي شوية يا تيتا عايزة أتفرج!
لم تُبالي لواحظ بحديثها، بل قررت إخبارهم عن شيءٍ أثار حُزنها، لقد كُتِبَ على حُبهما الهلاك لذلك أردفت بصوتٍ خافت مُتأثر: أنا و عبده فركشنا الخطوبة.