قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع

عاد قاسم إلى الحارة التي يقطن بها بعدما عاد حاملًا الكثير من الطعام والأدوية، نظر لواجهة المنزل الذي يقطن به مع أصدقائه بشمولية، فقد كان يتكون من ثلاثة طوابق مُجهزة كُليًا عدا الطابق الأخير، دلف للداخل ثم صعد على سلالم المنزل حتى وصل إلى الطابق الأول، وجد الباب مُغلقًا وصوت الشباب العالي يظهر من خلفه بوضوح، تخطاه وصعد للطابق الثاني حتى وصل إليه.

وضع الحقائب أرضًا، ثم أخرج سلسلة المفاتيح من جيب بنطاله فاتحًا الباب بهدوء، حمل الحقائب مرة أخرى ثم دلف للشقة النظيفة تمامًا، أغلق الباب بقدمه مُكملًا طريقه للداخل، وتحديدًا نحو المطبخ، فتح أنواره بهدوء، وبعدها وضع الحقائب على الرخامة اللامعة، وبدأ بتعبئته في الثلاجة.

بعد فوات عدة ثواني، انتهى أخيرًا من رَص الطعام داخل البراد، فأمسك بالأدوية وأخذها مُتجهًا إلى إحدى الغُرف، طرق مرتان ثم دلف بعدها بهدوء، وقفت المُمرضة التي كانت تجلس على المقعد المجاور للفراش تُحييه بإبتسامة بسيطة: اتفضل يا دكتور قاسم.
بادلها قاسم ابتسامتها ثم تسائل بود: عاملة إيه يا لوسيندا!
أجابته بهدوء وهي تتجهز لتركه وحده بالغرفة: كويسة الحمد لله، هسيب حضرتك تقعد معاها براحتك، عن إذنك.

حدجها بإمتنان ثم أفسح لها الطريق للخروج، أغلق الباب خلفها بهدوء، ثم اتجه ناحية الفراش بعدما جذب مقعد بلاستيكيًا أسود اللون، واضعًا إياه بالقرب منها، أمسك بكف يدها البارد بين يديه يُحيط بهما، ثم هبط عليه مُقبلًا إياه بحنان شديد، رفع عيناه لها مُمررًا إياها على وجهها الذي ازداد شحوبًا، قرَّب وجهه من وجهها ثم همس لها بألم: مش هتقومي بقى! أنا موحشتكيش طيب!

وكالعادة كان الصمت هو الإجابة، فلم يصدر منها أي ردة فعل سوى أنها صامتة، منذ ثمانِ أعوام وهي على تلك الحالة، تستفيق قليلًا، ثم تنام لأسابيع عِدة!

أخرج زفيرًا مُتحسرًا من بين شفتاه، هو اشتاق لها كصغير فقد حنان والدته، وبالفعل هو فقده، هذا ليس مجرد تشبيه، تسللت الدمعات إلى عيناه لتملأها بغزارة، فخرج صوته مُتحشرجًا بإرتعاش: المُمرض اللي اشترك في الجريمة دي أنا قتلته إمبارح، قتلته وناري لسه مطفتش ولا قلبي عايز يهدى، هخليهم يدفعوا التمن غالي على اللي عملوه فيكِ، أنا مش هسامحهم، عمري ما هسامحهم ولا هرحمهم بس اللي عملوه فيكِ أنتِ وأخويا الله يرحمه.

والغرفة خالية من أي أصوات سوى صوت تنفسه العالي، وهُنا انهارت حصونه عندما أخبرها بنبرة باكية يرجوها: قومي يا ماما خليكِ معايا، أنا محتاج وجودك ودعمك ليا زي ما كنتِ بتعملي معايا وأنا صغير، قومي أنا محتاج لدعواتك ليا عشان أعرف أكمل اللي بدأته.

وعندما لم يجد منها أي استجابة واضحة له؛ بكى، بكى شعورًا باليُتم وهي على وجه الحياة، حرموه منها ومن أخيه ليُصبح وحيدًا يُصارع الجميع وحده، شعر بأصابعها تضغط على يده المُمسكة بها بخفة ضئيلة، فرفع رأسه سريعًا لها ليجدها تفتح عيناها بوهن ناظرة للفراغ أمامها، اعتدل بغتةً قائلًا بعدم تصديق: ماما! ماما أنت كويسة صح!

وكعادتها لم يحصل على جوابًا منها، حولت أنظارها تجاهه بصمت ولم تتكلم، فيكفيه نظراتها التي تُطالعها به بإشتياق ظاهر في عيناها بعد ذهابها في غيبوبة مرضية لمدة شهران كاملان، مدَّ رأسه إليها يطبع قُبلة مُشتاقة أعلى جبينها، ثم تحدث بألم بعدما عاد بأنظاره لها: وحشتيني أوي، متناميش تاني، خليكِ معايا، أنا لوحدي.

قال الأخيرة بهمس خافت طرق له قلبها بعنف، لكنها لن تستطيع المواجهة، بل بالأحرى لن تستطيع العيش مجددًا، لقد فقدت الكثير ومازالت تعيش حياتها على حساب الماضي، تنام في غيبوبة مؤقتة وعند شعورها بحاجته إليها تستيقظ ثم تعود في حالة اللاوعي مرة أخرى، تاركة طاقة الإنتقام داخله تتجدد مع الوقت.

راقبها وهي تُغمض عيناها بهدوء، لذلك هبَّ من مقعده جالسًا جانبها على الفراش يقول برجاء: لأ عشان خاطري كفايا هروب، بقالك تمن سنين سيباني لوحدي وبتعذب، طيب أنا مصعبتش عليكِ.
وأنا مصعبتش عليهم ليه!
خرج صوتها ضعيفًا وهي تتسائل بخفوت شديد، استند برأسه على كتفها يُجيبها بشهقات: هجيبلك حقك منهم والله بس متسبنيش، القانون معرفش يجيب حقك بس أنا هجبهولك، خليكِ معايا حرام عليكِ بلاش تسيبيني كدا.

رفعت كفها بعد عناء طويل تضعها على خصلاته تهمس له بصعوبة: خليك عارف إن أنت وأخوك الله يرحمه كنتوا أغلى حاجة في حياتي، ضحيت علشانكم كتير بس صدقني مبقتش قادرة.
خرج من أحضانها يُحدجها بهلع، ودمعاته تتسابق على صفحة وجهه متحدثًا بفزع: ليه بتقولي الكلام دا؟ أنتِ تعبانة! حاسة بحاجة!

هزت رأسها بالنفي وصدرها يعلو ويهبط بنهيج حاد، لقد تحدثت كثيرًا اليوم، واستعادت الكثير من الذكريات المؤلمة، ذهب قاسم إلى حقيبة الدواء جاذبًا منها إبرة الدواء، ملئها بالسائل الخاص بها ثم دفعها في ذراعها ببطئ، مسح على وجهها بحنان ثم أردف واعدًا إياها: هتتعالجي وهتكوني أحسن من الأول، هسفرك بعد اسبوعين لروسيا، هتتعالجي في أحسن مستشفى وأحسن الدكاترة هناك، وأنا هكون متابع معاكِ، مش هسيبك أبدًا.

رسمت ابتسامة هادئة على ثغرها ثم عادت لتُغمض عيناها مُجددًا، سحبتها الهالة السوداء تحصرها بين حياة تنسجها من وحي خيالها هي، بعيدًا عن واقعها المرير، ورغم راحتها؛ إلا أن قلبها يخفق بقلق على فلذة كبدها الجريح، لكن رغمًا عنها لا تستطيع مساعدته كما لا تستطيع مساعدة نفسها.

بينما هو نظر إليها بحسرة وقلبًا يئن من التعب، لقد أنهكه الكتمان والخوف، يخاف أن يأتي يومًا ويفقدها كما الآخرون، أمسك بكفها ثم قبَّله بحنان شديد هامسًا جانب أذنها برجاء: حاولي عشاني، مش هقدر أعيش من غيرك.

أحاط بخصرها ثم وضع رأسه بين صدرها ليشعر بالأمان، هو بحاجتها الآن أكثر من أي وقت، لكن هي لا تُقاوم إلا قليلًا، وهو يفعل ما بوسعه ليُنهي سلسلة انتقامه ليذهب بها للخارج لعلاجها، دفن رأسه أكثر وكأنه يرجوها بأن تشعر به، لكن يعلم بأنها من الأساس تشعر بكل ردة فعل تصدر منه، لكنها لا تستطيع الحركة.

كدُمية يُحركها الجميع كانت هي، لكن الجميع بالنسبة لها هي والدتها، فقسوتها تُشعرها بالمقط والنفور تجاهها، وكأنها ليست من صُلبها، أنهت حبيبة إرتداء ثيابها ناظرة لمحياها في المرآة بشرود، لقد تغيرت كُليًا حتى باتت فتاة مجهولة لا تعرف هوية ذاتها.
دلفت في تلك الأثناء والدتها صوفيا دون استئذان، حدجتها باستنكار شديد لما ترتديه هاتفة بحدة: إيه اللي أنتِ لابساه دا! هتحضري التصوير بالمنظر المُقرف دا!

نظرت حبيبة لثيابها بهدوء، والتي كانت عبارة عن فستان من اللون الأسود يصل لبعد ركبتها بقليل، وحذاء يُماثله في اللون، كذلك رفعت خصلاتها على هيئة زيل حصان، ووجه أبيض خالي من أي مستحضرات التجميل، صعد صوتها يسألها باستغراب: ماله شكلي مش شايفة فيه أي حاجة غلط!
اقتربت والدتها من الخزانة الخاصة بها وهي تُصيح بعصبية: لأ دا أنتِ اتجننتي على الآخر، شكله موت أبوكِ أثر على دماغك مش على شكلك بس.

نحرت الكلمات في قلبها بقسوة وكالعادة لم تتحدث أو تُعبر عن شعورها، بل التزمت الصمت وتشكلت طبقة رقيقة من الدموع داخل عيناها، انتبهت على صوت طرق حذاء والدتها التي تقترب منها، والتي دفعت بوجهها ثوب من اللون الأحمر القاني، والذي يصل بعد منتصف فخذها بقليل، ثم أمرتها قائلة بحزم:
البسي الفستان دا يلا وعشر دقايق تكوني قدامي تحت، وحطي Full Makeup يليق مع الفستان بدل منظرك دا.

حدجتها حبيبة بصدمة، ثم تحدثت مشدوهة: أنتِ عايزاني ألبس فستان أحمر وبابا لسه مكملش أسبوع حتى على موته!
تأففت والدتها بنفاذ صبر ثم صاحت مُستنكرة: يوه، كل شوية بابا بابا! افهمي بقى أبوكِ مات وخلصنا، شغلنا مش هيتعطل أكتر من كدا عشان خاطر أبوكِ، واخلصي البسي مش فاضية للكلام الفاضي دا.

انهت حديثها مُتجهة للخارج بعصبية، تاركة ابنتها تنظر لأثرها بعدم تصديق من قسوتها تلك، هي كانت ومازالت قاسية، لكن ظنت بأن وفاة والدها سيُغيرها قليلًا، فلم يزيدها هذا إلا سوءً.

اتجهت ناحية الفستان الذي اختارته والدتها تُحدجه بألم، كيف عليها أن ترتديه! اتجهت إلى المرحاض بيأس وبدأت في تبديل ثيابها إلى ذلك الفستان القصير حد اللعنة، وبدأت بفك خصلاتها لتتركها حرة على ظهرها، كذلك وضعت مكياجًا خفيفًا أظهر جمالها أكثر، وكذلك كُحل العين الأسود الذي حدد إطار عيناها العسلية لتُصبح أكثر جاذبية عن ذي قبل.

قد تبدو للجميع جميلة، لكنها تشعر بالسوء في قرارة نفسها رغم أن كل ما بها بسبب والدتها، شخصيتها الضعيفة جعلت من السهل على والدتها أن تتحكم بها مثلما تشاء.

وضعت أمسكت بحقيبتها السوداء اللامعة ثم خرجت من غرفتها وفكرها شارد، تشعر بالأسى والحزن على ذاتها، تستحق الأفضل والأفضل لا يُريدها، فاقت من شرودها على اصطدامها بجسد عريض صلب، كادت أن تنزلق على الدرجات لولا لحاق صهيب بها مُمسكًا إياها من ذراعها مُسرعًا.

وضعت يدها على صدرها تتنفس بعنف، غافلة عن نظراته المُشمئزة التي يُحدجها بها على ما ترتديه مم ثياب ظاهرة لمعظم جسدها، ارتعدت على صوته العالي الذي صرخ بها ناهرًا:
إيه القرف اللي أنتِ لابساه دا! لو مش عاملة احترام للناس اللي عايشين معاكِ اعملي حساب لأبوكِ اللي ميت بقاله يومين دا.

ترغرت عيناها بالدموع، فأخفت وجهها عنه بألم بخفضه للأسفل، لتُخفي خصلاتها وجهها كُليًا، استشاط غضبًا ظنًا منه أنها تتجاهله، فرفع وجهها رغمًا عنها يمسكها من فكها يرفعه بقوة، ليرى تلك الدموع التي تُزين وجهها، خفض غضبه قليلًا ثم ابتعد عنها خطوتان للخلف يأمرها بحزم: ادخلي غيري القرف اللي أنتِ لابساه دا.
همست بإرتعاش ويداها تمسح وجهها: بس ماما هتزعقلي.

هي طفلة بدرجة لا تُوصف، تخاف من أقل الأشياء، وتُطيع جميع الأوامر حتى وإن كانت خاطئة، لعن بسره زوجة عمه الحقيرة والتي حكمت عليها أن تعمل بمجال الموضة والتصوير، فما له إلا أن يراها ترتدي ثيابًا أقل ما يُقال عنها قطع بالية من القماش تُظهر جسدها بسخاء، وهي كالبلهاء تسير خلفها دون أن تتحدث بكلمة واحدة.
استدار على صوت صوفيا التي تُنادي عليها من أسفل الدرج: يلا يا حبيبة هنتأخر.

استعادت حبيبة ثباتها، وما كادت أن تخطو أول خطوة للأسفل؛ حتى شعرت بمن يجذبها من معصمها بقوة، وصوته يصدح مُوجهًا حديثه ل صوفيا: حبيبة مش هتروح في أي مكان بالمنظر المقرف دا.
غلت الدماء في جسد صوفيا من معارضته وتحكمه في ابنتها: وأنت مالك أنت، بتدخل بيني وبين بنتي ليه! ابعد عن بنتي يا صهيب أحسنلك وملكش دعوة بيها.

أوقفها صهيب أمامه وهو يُشير ناحيتها: مليش دعوة بيها إزاي! أنتِ مش شايفة منظرها! أقل كلمة الناس هتقولها لما يشوفوا لبسها دا إنها عا رخيصة، وبنات عيلة الأرماني مش كدا، وآخر كلام حبيبة مش هتخرج من هنا بالمنظر دا.
صعدت الدرجات حتى باتت بالمقابل له هو وابنتها صارخة به: أنت بتتحداني في بنتي! هي عايزة تيجي معايا كدا أنت مالك!
أجابها بتحدي وأعين ينطلق منها الشرر: يبقى نسألها ونشوف هي عايزة تروح مع مين.

حوَّل صهيب نظراته نحو حبيبة المصدومة، ثم سألها بقوة: عايزة تروحي مع أمك ولا تفضلي هنا مُعززة مُكرمة يا حبيبة!
أصبحت في وضع مُتأزم الآن، لا تعلم ماذا تفعل أو مَن تختار، هي لا تريد الذهاب مع والدتها والبقاء بالمنزل مع صهيب وعمها، لكن إن عارضت حديث والدتها ستُحول حياتها لجحيم بمعني الكلمة، لذلك حكمت رأيها وقررت قائلة بصوت خفيض مُرتعش: ه. هروح مع ماما.

طالعت صوفيا الآخر بشماتة ظهرت جلية على محياها، واضعة يدها على ظهر ابنتها تقول لها بتشجيع: شطورة يا حبيبة ماما، يلا عشان منتأخرش على التصوير.
ورغم صدمته في البداية، إلا أنه أخرج صوتًا ساخرًا من فمه مُعلقًا بلذاعة شديدة: ما أنتِ زي أمك هتوقع منك إيه يعني!

رمى بكلماته المُهينة ثم ذهب من أمامهم مُحدجًا إياهم بنظرات مُحتقرة كارهة، بينما صوفيا كادت ان تنصهر محلها من وقاحته الدائمة معها، لذلك جذبت حبيبة من يدها تسحبها خلفها والغضب يُعمي عيناها، حتى إنها لم تشعر بتلك الباكية التي تبكي بصمت وأسى على حالها.

لقد كُسِر قلبي يا فتى، أشعر به قد تفتت لأشلاء صغيرة يَسهُل أكلها.
نطق فور بتلك الكلمات بحزن شديد أثناء تناوله الطعام للمرة السابعة عشر اليوم، حدجه رائد باستنكار من طرف عيناه ولم يُعقب، بينما أكمل فور حديثه قائلًا بتأثر: أشعر بأن شهيتي مُنغلقة من شدة حزني، أشعر بالجوع الشديد يا أخي.

ربت چون على قدمه يؤازره في محنته: اهدأ يا أخي، لا تفعل بذاتك هكذا، تناول الطعام الذي يكفيك للغد، أشعر بأنك قد فقدت بعض الكيلوجرامات من الحزن.
أومأ فور مؤكدًا: نعم أعلم، لكن قلبي يرفض أن أتناول طعامًا زائد عن الحد، قلبي حزين للغاية رائد.
قال الأخيرة موجهًا حديثه ل رائد الذي انتفض صارخًا: يا أخي جك وجع في قلبك أنت وأخوك المطبلاتي دا، كل دا ومكلتش! يا أخي دا أنت هتخلص على خزين مصر في شهرين.

امتعض وجه فور ساخطًا، لذلك هتف بعد أن هبَّ من مكانه مُشيحًا بيده في الهواء: ماذا بِك يا فتى لِما لا تُطيقني! أتغار مني لأنني وسيم!
تحول وجه رائد للشماتة وهو يُجيبه: وسيم آه، مش لما تملى عين الكائن اللي أنت كنت بتحبها! أديها خزوقتك وطلعت بتاعة بنات مش رجالة.
رد عليه فور بغضب: أتعلم! أنت أقذر شخص قد قابلته بحياتي، أُقسم أنني لم آكل.

أنهى جملته ثم سار عدة خطوات، وتوقف بعدها ثم عاد مرة أخرى ينشل طبقًا من اللحم من على الطاولة قائلًا: سأتذوق هذا فقط أثناء جلوسي بغرفتي، تبًا لك يا وغد.
تركهم ثم دلف للغرفة مُغلقًا بابها عليه حتى لا يُفسد أحدهم خلوته مع طعامه، بينما چون حدج رائد بنظرات مُغتاظة ثم صرخ به: هل ارتحت الآن! لقد احزنته يا رجل، كم أنتَ قاسي القلب.

دفعه رائد بضجر ثم جلس جانبه على الأريكة قائلًا: سيبك من أخوك الأهطل وقولي عملت إيه مع الحِتة!
قطب جون جبينه بتعجب مُتسائلًا بإستغراب: ماذا تقصد بالحِتة! لا أفهم مقصدك.
نفخ رائد بنفاذ صبر مُوضحًا له: قصدي لوسيندا يا بني آدم، اعترفتلها بحُبك ولا لسه!

وعلى ذِكر اسمها تحول وجه چون للهيام، حتى كادت أن تخرج قلوبًا حمراء من عيناه، لوى رائد شفتيه يمينًا ويسارًا كالعجائز، ثم تحدث ناقمًا: يعني هتموت على نفسك من مجرد إني قولتلك اسمها وأنت مش عايز تعترفلها! أنت أهطل يابني!

اعتدل چون من جلسته ثم وضَّح له سبب رفضه بالإعتراف لها: ثقافتنا مُختلفة رائد، بروسيا نحن نحتضن الفتيات اللواتي نُعجب بهن، لكن هُنا! بمجرد ما حاولت أن أُعانقها وجدت يدها تُصافح وجهي، يدها ثقيلة يا رجل.
قهقه رائد عاليًا أثناء قوله الضاحك: يعني أنت مشكلتك معاها إن إيديها تقيلة! ما هو طبيعي تعمل كدا، رايح تحضن واحدة مشوفتهاش غير مرتين وعايزها تقولك بالحضن يا بيبي.

هز رأسه بنعم مُوضحًا له بضجر: ماذا فعلت أنا! في دولتنا تحمل الفتاة بطفلها قبل الزفاف ببضعة أشهر، وأنا لم أكن أريد سوى عناق فقط، هي قاسية للغاية يا صديقي.
نفى له بحديثه قائلًا بمزاح: أنت اللي سافل يا حبيبي، ابقى حاول المرة الجاية بس تجر ناعم معاها، شوف هي حاسة بإيه ناحيتك.
أومأ له بحماس ثم صاح مُهللًا: حسنًا، غدًا سأراها وأفعل ما قُلت.
طالعه رائد بفخر قائلًا: تربيتي وعهد الله.

قاطع حديثهم هو دخول قاسم بملامح مُقتضبة حزينة ظهرت واضحة على وجهه، نظر كلاهما لبعضهم البعض فعلموا السبب وراء حزنه هذا، من المؤكد بأنه صعد لوالدته، وقف رائد أمامه يسأله بهدوء: كنت فين يا قاسم! اتأخرت أوي ليه كدا!
حدجه قاسم بقنوط ونفاذ صبر، مُجيبًا إياه بسخرية: متحسسنيش إنك مراتي وحياة أبوك، واوعى من خلقتي عشان مش طايق نفسي دلوقتي.

اقترب منه چون هو الآخر، فنفخ قاسم ظنًا منه بأنه سيتحدث كما فعل رائد، لكن قاطع تفكيره عندما احتضنه بقوة مُربتًا على ظهره بحنان، خرج صوت چون داعمًا له قائلًا: لا تقلق يا عزيزي، فوالدتك ستكون بخير أبشر، هي قوية مثلك تمامًا.

وكأنه بدون وعي قد ضغط على جرحٌ لم يتعافى بعد، أغمض قاسم عيناه بألم ثم بادله العناق، يشكر الظروف التي جمعته بهؤلاء الأصدقاء الداعمين، رغم أنهم يُثيرون حنقه أحيانًا؛ إلا إنهم مصدر السعادة الوحيد بحياته الكئيبة.
اقترب منهم رائد ثم أحاطهم بكتفه يقول بمزاح: تعالوا يا ولاد في حضني أنا زي أمكم.

خرج في تلك الأثناء فور من غرفته على بغتة، وصُدم عندما رآهم بوضعهم المُخِل هذا، وضع يده على صدره مُتحدثًا بدهشة حقيقية: لم تكن الفتاة هي الشاذة فقط، بل أنتم أيضًا! يا حسرتاه على أصدقائي.
نهره رائد ومازال يُحيطهم بذراعيه كالدجاجة الخائفة على صغارها: اخرس يا حقير، أنا بحضنهم حضن أخوي بريء.
اتسعت ابتسامة فور وهو يقول بسعادة: حقًا! إذًا خذوني معكم فأنا أحتاج للإحتواء أيضًا.

فتح چون ذراعه يحثه على القدوم متمتمًا: تعال يا صغيري، فنحن لن نكتمل بدونك.
اقترب منهم ثم دخل في دائرة الأحضان تلك، ليُصبح كُلًا منهم يُحيط الآخر بدعم قوي، هُم معًا وليس كُلٌ منهم على حِدة، فالقوة بالترابط وليس بالفكاك، وها هو الزمن قد جمعهم عن الطريق الصدفة، ليُصبحوا كالأخوة أو أكثر قليلًا، تربطهم صِلة أكثر من قوية، وما أقوى من رابطة الصداقة.

الهدوء يعم المكان من حولي، وقلبي مُعبأ بالصخب.

تلك هي الكلمات التي دونتها أَهِلَّة بمذكراتها قبل أن تضعها جانبًا، هبَّت من على الفراش مُتجهة ناحية شرفة غرفتها، نظرت للخارج بشرود والهواء البارد يضرب صفحات وجهها بعنف تتلذذ به، أغمضت عيناها تُحاول تجميع شتاتها، عادت بذاكرتها لصباح اليوم عندما أخبرت والدتها برغبة أحدهم لطلب يدها، وأوضحت عن رغبتها به، حينها صدحت الزغاريد من حولها من فم والدتها، تبعه قولها الضاحك:.

وأخيرًا وافقتي! دا أنا كنت شكيت إنك هتخللي جنبي.
ارتسمت بسمة صغيرة على فاه أَهِلَّة عند تذكرها لكلمات والدتها، وكذلك شقيقاتها اللاتي سعدن بذلك الخبر كثيرًا، كم امتلأ قلبها بالفرح عندما رأت سعادتهم، رغم أن الزواج لن يكون سوى إتفاق للإنتقام؛ إلا أن رؤيتها لهدفها يتحقق أمامها يُشعِرها بالإنتشاء.

خرجت من الغرفة مُتجهة ناحية المرحاض، فتحت الصنبور ببطئ ثم أمسكت بالسائل الخاص ليدها ووضعت منه كمية مُناسبة عليها، ظلت تغسلها لدقيقتان كاملتان دون كلل أو ملل لتتأكد من نظافتهم، غسلتها بالماء ثم جففتها بالمنشفة جيدًا، وأخيرًا نظرت لها برضا دون اشمئزاز.
سارت نحو المطبخ لتأكل بعض اللُقيمات من الطعام التي لا تتذوقه طيلة النهار، وبعد إنتهائها وضعت الصحون في حوض الغسيل تاركة إياهم ل ملك لتقوم بغسلهم.

عادت لغرفتها مرة أخرى غالقة الباب خلفها، ثم ارتمت على الفراش بإنهاك شديد، فذلك اليوم كان مُتعبًا للغاية، خاصةً أنها ذهبت لموقع الجريمة التي حضرتها بالأمس لتقوم بتصويره وأخذ كل البيانات الكافية التي ستنشر على أثرها الخبر غدًا، ستكون خِطبتها نعم، لكن في نفس الوقت سيكون موعد إغلاق تلك الجريدة التي تعمل بها.

استمعت لصوت رنين هاتفها فانتشلته من على الكومود جانبها بهدوء، نظرت لشاشته فوجدته رقم غير مسجل، وبلامبالاة قامت بالإجابة ببرود شديد جاهلة عن هوية المُتصل: يا نعم!
أتاها صوته يُحدثها بإستغراب: يا ساتر يارب! عايزة تفهميني إني هصطبح الكام شهر اللي هتعيشيهم معايا كدا!
عرفت هويته من صوته، فتحدثت بتأكيد: هي دي طريقتي لو تمشي معاك.

جاء صوته الهادئ يؤكد لها: يعجبني معجبنيش مش هطلعلك بطاقة، المهم قولتي للعيلة الكريمة إني جاي بكرا.
قولتلهم ياخويا.
ردد خلفها بصدمة قائلًا: أخويا!
ما أنا معرفش اسمك إيه عشان أناديلك بيه ياعم الغامض أنت.
همهم بتفكير متشدقًا: امممم شكل أيامك هتبقى عسل معايا بس لسانك السكر اللي عايز قطعه دا، اسمي قاسم يا خفة.

أجابته بمشاكسة وهي تعلم كل العلم بأنها تُثير حنقه: ماشي يا قاسم، بالسلامة أنت بقى يا قاسم ياخويا عشان عايزة أريح حبتين، تشاو يا عزيزي.
حدج الهاتف بصدمة وبفم مفتوح، هامسًا ببلاهة: دي قفلت في وشي! وحياة أمك ما هعديهالك.
رمى هاتفه على الفراش وهو يتوعد لها بسره، وما كاد أن يتمدد على الفراش ليخلد للنوم، حتى استمع إلى صوت إطلاق النيران يعم الأرجاء من حوله!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة