رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الخامس
انتفض قاسم من مكانه عندما استمع لصوت الطلقات تصدح في الأرجاء بصوت عالي، خرج من الغرفة مُسرعًا دون النظر لما لا يرتديه من ثياب علوية، فوجد الثلاثة شباب هم الآخرون يخرجون من غرفهم بقلق.
صعد صوت رائد يتسائل بقلق: إيه اللي حصل، في إيه!
هز قاسم كتفه بجهل مُتجهًا ناحية باب الشقة بثبات ليرى ما يحدث وما مصدر تلك الطلقات التي صدحت في الأجواء، وقف فور أمامه يمنعه أثناء قوله المفزوع: لا تفتح الباب يا رجل، سيتم القبض علينا، حسرةً على شبابنا يا رفاق.
دفعه قاسم بعيدًا بضجر وتأفف قائلًا بنفاذ صبر: يا أخي ابعد بقى هي ناقصة عته!
نظر فور لظهره ساخطًا، ثم تشدق بغضب: فلتذهب إلى الجحيم قاسم، كم أنت رجل قاسي القلب جاهل التعامل مع أشخاص أبرياء مثلي.
حدجه قاسم بسخرية من طرف عيناه، ثم فتح باب المنزل بعد أن انتشل قميصًا كان موضوعًا على المقعد الموجود بغرفة المعيشة، خرج والثلاثة شباب خلفه، فوجد سكان المنطقة جميعهم يقفون ينظرون لسيارة الشرطة التي تأخذ أحد الشباب تضعه قِصرًا داخلها، ومن خلفهم صوت والدة ذلك الشباب تصرخ ببكاء لترك وليدها.
مصمصت إحدى النساء التي كانت على مقربة منهم على شفتيها بأسى مصطنع وهي تتصنع الحزن: يا عيني عليك يا ابني، شبابه ضاع بسبب الديون اللي عليه.
أجابتها المرأة الأخرى بحزن حقيقي يخرج من أعماقها، والتي تُدعى حفيظة: ربنا يفك أسره يارب، لسه شباب في عز الورد ولولا الفقر ما كان اتحوج لحد، ربنا يعديه منها على خير.
آمنت السيدة الأخرى على حديثها، وكل هذا وكان الشباب يستمعون إلى حوارهم بدون قصد، كاد قاسم أن يعود للمنزل مرة أخرى، لكن لمح بطرف عيناه صهيب الأرماني يقف واضعًا كلتا يداه في جيب بنطاله مُحدجًا الجميع ببرود.
التمعت عيني قاسم بالمكر وجالت فكرة خبيثة داخل عقله عزم على تنفيذها، عدَّل من وضعية قميصه المُشعثة، ثم اتجه ناحيته ببطئ شديد، رمى صهيب سيجاره التي كان ينفثها، وما كاد أن يصعد للسيارة؛ حتى لمح قاسم يتجه إليه وعلى ثغره ابتسامة مقيتة.
تحول وجهه من البرود إلى الغضب عندما تذكر ما فعله من كيد المرة الماضية، يبدو كشخص عابث غير مُريح بالمرة، خاصةً تلك الابتسامة الخبيثة التي ترتسم على شفتاه باستمرار، اقترب منه هو الآخر حتى بات كلاهما في مواجهة بعضهم البعض.
صعد صوت قاسم مُحييًا إياه بترحيب زائف: أهلًا أهلًا صهيب باشا، وحياتك يا جدع وما ليك عليا حلفان المنطقة كلها نورت بوجودك، حتى شايف النور!
أنهى حديثه وهو يُشير للمنطقة المُظلمة من حوله، لا يوجد سوى الإضاءات الخفيفة ومصابيح سيارات الشرطة، أخرج صهيب صوتًا ساخرًا من بين شفتيه، ثم حك جانب أنفه بإبهامه وهو يُجيبه بطريقة مُستنكرة أثناء تربيته على صدره بخفه: لأ وأنت الصادق يا قاسم كفايا نورك.
نظر قاسم لموضع يده التي تُلامسه بحاجب مرفوع، أرجع بيده خصلاته المُنسابة على وجهه مُجيبًا إياه: نوري ونورك واحد يا باشا، المهم محدش فينا ينطفي.
أكد صهيب على حديثه مردفًا: بالظبط، المهم محدش فينا ينطفي، والبقاء للي يفضل منور أكتر.
قهقه قاسم عاليًا على دعابته المقصودة، ثم أردف بكلمات ذات مغزى: معاك حق، بس حاسب لأحسن لمبتك تتحرق.
اقترب منهم رائد عندما طال حديثهم مُوزعًا نظراته عليهم، فوجد نظرة التحدي مُرتسمة على وجه كليهما، يبدو أن الأمر لن يمر مرور الكِرام، خاصةً أن قاسم ذو عقل عنيد وشخصية باردة بذاتِ الوقت، ويبدو أن صهيب يأخذ نفس صفاته.
وقف جانب قاسم ثم أردف موجهًا حديثه تجاه صهيب: اتفضل يا صهيب باشا معانا.
حوَّل صهيب أنظاره له بعدما قاطع تحديه مع الآخر، ثم أردف ببرود لم يؤثر على هدوئهما: هتفضل بس مش دلوقتي، بس أوعدكم قريب أوي.
خرج صوت قاسم ضاحكًا: في أي وقت والله. احنا صحاب واجب برضه.
طالعهم صهيب بنظرات مُتفحصة، ثم أشار للشرطي الذي يقف جانبه منذ البداية لإتباعه، ابتعد عنهم مُستقلًا سيارة الشرطة من الأمام، وأنظار كُلًا من قاسم ورائد تتبعناه ببرود، انفض الجميع من حولهم بعد دقائق قليلة، ولم يتبقى سوا الأربعة شباب الذين ينظرون لبعضهم البعض بنظرات ذات مغذى، وبعد ثوانٍ من الصمت؛ صعد صوت چون مُتحمسًا:
يا شباب هل تفكرون فيما أُفكر به!
اتسعت ابتسامة قاسم حتى برزت أنيابه، ثم أجابه بتأكيد: أجل عزيزي، ما تُفكر به هو الصحيح، لدينا مهام كثيرة غدًا.
قفز فور سعيدًا والفرحة تغزو معالمه: كم أعشق هذا، أنا لن أنام تلك الليلة من شدة الحماس أُقسم لكم.
أحاطه قاسم بذراعه من كتفه أثناء عودتهم للمنزل مرة أخرى، ثم تحدث ضاحكًا: بل عليك النوم جيدًا عزيزي، فلدينا غدًا يومًا طويلًا للغاية.
كانت يُمنى جالسة على المقعد المُخصص لها أمام حاسوبها، كانت تكتب وتُدون عليه بكل براعة وتخطيط، عيناها تجولان على الكلمات أمامها بفخر فيما كتبته وسيُنشر في الصحف، يبدو أن أهِلة لم تكن وحدها فقط التي تعشق التحدي وإثارة الجدل، بل هي تُماثلها في الخبث والتفكير أيضًا، لكن بطريقة تظهر للأخرين أنها مجرد صدفة لا اكثر.
قاطع تفكيرها رنين هاتفها الذي صدح يعلو في الأرجاء، انتشلته ناظرة لإسم المتصل بهدوء، وما إن رأت الإسم المُدون؛ حتى ارتسمت على شفتاها ابتسامة عابثة وخبيثة، فتحت الهاتف ثم أجابته بهدوء زائف ناهيك عن تلك الضجة التي تحدث دواخلها:
كنت مستنياك تتصل من زمان، بس للأسف اتأخرت.
جاءها صوته البارد يُخبرها بجمود: كان ورايا شغل، المهم إيه الأخبار؟
أجابته بثقة وعقل مُدبر: كل حاجة ماشية زي ما احنا عايزين، وقريب آوي هنوصل، بس عايزة أقابلك بكرا؛ عشان عندي معلومات مهمة جدًا هتفيدك وهتفيدنا كلنا.
قطب جبينه أثناء ارتشافه لقهوته الداكنة مُتسائلًا: بخصوص إيه!
أجابته على بغتة وصوت هامس خبيث: القناص.
انتفض من مكانه يسألها مُجددًا بعدم تصديق: بتقولي مين!
لوت شفتيها بسخرية متشدقة باستهزاء: مالك اتبرجلت كدا! لتكون خايف لسمح الله!
لأ لأ خايف إيه، أنا بس استغربت، على العموم متسنيكِ بكرا في شقتي زي ما متعودين، سلام يا يمون.
أغلقت الهاتف ثم وضعته على المكتب مُجددًا وهي تنظر أمامها بشرود، لن تنسى اعتراف أَهِلَّة لها عن هوية القناص، فهم ورغم أنهم شقيقتين؛ إلا أنهم يُعتبران مركز أسرار لبعضهم، ويبدو أن يُمنى تلك المرة لن تفي بوعدها.
تمددت ملك على فراشها بنعاس شديد، لكن صوت إصدار هاتفها لرسالة نصية أثار انتباهها، انتشلت الهاتف من على الكومود جانبها ثم نظرت به، لتتسع ابتسامتها تدريجيًا عندما رأت رائد قد أرسل لها رسالة نصية كان مُحتواها:
يا مساء الأناناس على أحلى الناس.
ضحكت بخفة قبل أن تضغط على شاشة الهاتف مُراسلة إياه، فسألته بجهل زائف: مين حضرتك! .
جاءها الرد منه بعد ثوانٍ: مُعجب وعايز يتعرف، ممكن ولا إيه النظام!
أنهى جملته بإيموچي يغمز بعبث، مما زاد من الحماس داخلها، فاعتدلت مُستندة على الفراش وكأن النوم قد ذهب من عيناها: اسمك رائد محروس الجعان! .
أيوا. عندك اعتراض في اسمي ولا إيه!
أجابته ضاحكة دون كذب: الصراحة اسم عيلتك مضحك أوي.
جعد جبينه بضجر مُجيبًا إياها: طول عمره اسم عيلتي عاملي مشكلة دايمًا، المهم أنتِ منين! .
أنا من مصر.
كتب بسخرية وضحك: لا إله إلا الله دا بجد! .
أرسلت له بعض الأشكال الضاحكة، ثم ظلوا يتحدثوا طيلة الليل دون ملل، فهو مستمتع بالحديث معها، وهي كذلك مُنبهرة بوسامته، ليست قاتلة لكنها جذابة، غافلين عن كبر الذنب الذي يفتعلانه، ومن خلفه سيواجهان الكثير من المشاكل.
الذنب يجذبنا نحوه كالمغناطيس، فيكون من الصعب علينا الفكاك منه إلا بأعجوبة، فإن انتصر إيمانك على ضعفك؛ فأنت إذًا من الناجين، لكن هناك من يعجبهم الذنب مُفتعلين إياه بكل صدر رحب دون أدنى مقاومة تُذكر، والاثنان من خلف وسوسة نفسك الضعيفة، فإما أن تُقاوم وتنجو، وإما أن تظل عالقًا بالقاع وسط مستنقع الذنوب.
مسحت سهيلة دموعها بصمت، فمنذ أن سلكت ذلك الطريق ولا تستطيع الخروج منه، منذ آخر شيء قامت بقراءته وهي تقرأ الكثير من تلك النوعية من الروايات، لقد غرقت وسط تلك السطور المُغلفة بالكلمات الساكرة، فنبشتها الأيادي المُلطخة بالأوساوخ ليُصبح عقلها ملوث هو الآخر، ولسوء حظها أصبحت مدمنة للروايات الإباحية.
انزوت على ذاتها بالفراش تضم قدمها إلى صدرها تبكي بصمت، هي وقعت ضحية لفريسة مجهولة تكتب خلف شاشة إلكترونية، حتى أصبحت مُحاصرة داخل دائرة من نار، كلما قررت الإبتعاد تجذبها نحوها مرة أخرى.
هبت من مكانها فجأة ثم همست لنفسها وهي تتحدث بهستيريا: لأ يا سهيلة لأ، لازم تفوقي قبل ما تضيعي نفسك، لازم تبعدي عن الطريق دا، أنا كدا بظلم نفسي وبظلم أهلي معايا.
أنهت حديثها ثم انفجرت تبكي على ما فعلته، تشعر أن الأمر لن يتوقف عن ذلك، فأحيانًا عقلها يحثها على مشاهدة أفلام غير لائقة لإرضاء فضولها، هي تقرأ فقط، وشيطانها يحثها على المشاهدة أيضًا، وهي مُحاصرة بين نفسها الضعيفة وضميرها الذي يرجوها للإستيقاظ.
وضعت يدها على قلبها تُسيطر على ضرباته، تخاف الهلاك، لكن ماذا عليها أن تفعل! أنارت بعقلها فكرة استحسنتها للغاية، وهي أن تطلب السماح من المولى عز وجل، هو سيُجيها، ستطلب المغفرة حتى تستطيع الإبتعاد.
خرجت من الغرفة مُتجهة ناحية المرحاض تنظر حولها بترقب، تخاف أن يراها أحد بتلك الحالة من الإنهيار، حمدت ربها أن رائد يبيت عند أصدقائه الليلة ثم بدأت بالتوضأ، ومع كل قطرة ماء تهبط على وجهها تختلط بها دمعاتها بحزن على ما وصلت إليه في لحظة ضعف.
كانت تُردد أثناء وضوءها ببكاء خفيض اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين.
انتهت من وضوءها ثم عادت إلى غرفتها مُجددًا، جففت وجهها بالمنشفة ثم ارتدت اسدال الصلاة الخاص بها، وقفت على مصليتها أمام القِبلة، ثم بدأت بأداة صلاة التوبة، ظلت تُصلي وتقرأ آيات قصيرة من القرآن ودموعها تنهمر كشلالات المياة الغزيرة على وجهها، كانت تبكي بين يدي خالقها كما لم تبكي من قبل، تشعر بفداحة ما فعلته وما كانت تنتوي أن تفعله، تخاف أن تعود إليها تلك الوساوس الشيطانية مرة أخرى، تخشى أن تضعفها نفسها مجددًا وإعادتها لقراءة لتلك الأشياء، وهُنا رفعت يدها للخالق تدعوه برجاء:.
اللهم اغفر لي كل ذنب أذنبته، وكل خطيئة أخطأتها، اللهم إني أتقرب إليك بذكرك، وأستشفع بك إلى نفسك، وأسألك بجودك أن تدنيني من قربك، وأن توزعني شكرك، وأن تلهمني ذكرك، اللهم إني أسألك سؤال خاضع متذلل خاشع، أن تسامحني وترحمني، وتجعلني بقسمك راضيًا قانعًا، وفي جميع الأحوال متواضعًا، اللهم وأسألك سؤال من اشتدت فاقته، وأنزل بك عند الشدائد حاجته، وعظم فيما عندك رغبته، اللهم عظم سلطانك وعلا مكانك، وخفي مكرك وظهر أمرك، وغلب قهرك وجرت قدرتك، ولا يمكن الفرار من حكومتك، اللهم لا أجد لذنوبي غافرًا ولا لقبائحي ساترًا، ولا لشيء من عملي القبيح بالحسن مبدلًا غيرك، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ظلمت نفسي، وتجرأت بجهلي وسكنت إلى قديم ذكرك لي ومنك علي.
رددت ذلك الدعاء بخشوع شديد، ذلك الدعاء الذي علمته إياها جدتها لواحظ منذ الصغر، شعرت بحاجتها للدعاء والبكاء على سجادة صلاتها، لكم ارتاح قلبها، ولكم شعرت بالسكينة، رفعت عيناها للسماء بعدما وقفت للذهاب بشرفة غرفتها، ثم دعت مُتمنية: اللهم أرِح قلبي وابعدني عن الشهوات، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على ديني واغفرلي وارحمني يا ارحم الراحمين.
انتهت ثم سحبت نفسًا عميقًا وزفرته على مهل، لقد غزتها الراحة والطمأنينة الآن، أغلقت النافذة التي تُلفح وجهها بالهواء البارد ثم اتجهت إلى الفراش، تمددت عليه وعلى ثغرها ابتسامة مُرتاحة، وبعدها غطت في نوم عميق.
ليس من الخطأ أن تُذنِب، لكن من الخطأ أن تظل على معصيتك دون توبة.
اليوم هو اليوم المنتظر، وهو خِطبة كُلًا من قاسم وأَهِلَّة، ولكن قبل أي خطوة سيخطوها قرر الذهاب للمشفى أولًا لمُباشرة عملياته الهامة، تجهز قاسم وارتدى ثيابًا عادية؛ والتي كانت عبارة عن بنطال من الجينز الأزرق الغامق يعلوه قميصًا من اللون الأزرق السماوي، مشط خصلاته الطويلة نسيبًا، ثم ارتدى حذائه وخرج من الغرفة.
كانت الساعة السابعة صباحًا فبالطبع لم يكن مستيقظًا أيًا من الشباب سوى چون الذي يتجهز للذهاب إلى عمله، حيث يعمل موظفًا في إحدى الشركات الخاصة والعالمية وذلك لبراعته وقدرته للتحدث على أكثر من خمس لغات مشهورة، وبجانب عمله فهو مهووس بالبرمجة وكل ما يخص الإختراق والسوشيال ميديا.
رسم چون بسمة خفيفة على ثغره عندما رآه، فأردف بود: صباح الخير قاسم، كيف حالك عزيزي!
أجابه قاسم بابتسامة خفيفة مُربتًا على كتفه: بخير جون، هل نمت جيدًا عزيزي!
أجابه جون مبتسمًا: نعم.
سأله مجددًا بمكر ومشاكسة لعلمه بمضايقته: هل أكلت طعامك قبل أن تذهب!
نعم.
سأله للمرة الثالثة وهو بالكاد يُسيطر على ضحكاته بسبب تعابير وجهه التي بدأت تتحول للضجر من كثرة إهتمامه: حسنًا، ارتدي ثيابًا ثقيلة عزيزي چون حتى لا تُصاب بالبرد.
رد عليه چون ضاحكًا بنبرة يشوبها الحنق: بربك قاسم ماذا تفعل! تُعاملني وكأنك أمي.
قهقه قاسم بخفة، فأمسك بالكوب البلاستيكي الذي بجانبه يقذفه بوجهه أثناء قوله الضاحك: وأنت تطول يا معفن يكون عندك أم عسل زيي كدا؟
أمسك چون بالكوب قبل أن يصل لوجهه مُجيبًا إياه بعبث: إن جئت للحق فلا، لكن لا تُعاملني كالصغار، يتبقى فقط أن تُرضعني لترتاح.
ضحك قاسم عاليًا قبل أن يهب من مكانه قائلًا: حقير وسافل أقسم بالله، يلا أنا همشي عشان متأخرش، وأنت كمان متتأخرش عشان نلحق نروح نتقدم ونخلص من الحوار دا.
أومأ له چون بالإيجاب ثم خرج معه من البناية، فوجدوا المنطقة فارغة إلا من عدد صغير من الأشخاص، أحاط چون بكتف قاسم أثناء سيرهم ثم أردف بمرح: رغم أن تلك الخِطبة من تخطيطك أنت إلا أنني سعيد بك وكأنك صغيري يا فتى.
رسم قاسم ابتسامة صغيرة على ثغره، ثم تنهد بعمق قبل أن يُردف مُتمنيًا: أتمنى أن ينتهي كل هذا قريبًا چون، تلك الأيام ثقيلة على قلبي بشكل لا يُطاق، أشعر بي أنطفيء شيئًا فشيئًا.
دعمه چون مُمسكًا يده بقوة، ثم أكمل تشجيعه بحديثه الحنون: كل هذا سيمر يا رجل أُقسِم لك، هي فقط بضعة أشهر المُتبقية ومن بعدها سينتهي كل هذا الألم القابع بداخلنا.
طالعه قاسم بإمتنان لحديثه المُفعم بالدعم، متحدثًا بحب أخوي شديد: شكرًا لك چون، شكرًا لك ولأخيك الأحمق و رائد الأبله.
تحدث چون ضاحكًا بقوة: آه يا رجل لو استمع فور لحديثك هذا! أقسم أنه سيأكل أكثر من خمسون مرة لينسى بها أحزانه.
أيده قاسم مُقهقهًا بصوت عالي مُردفًا بعد أن سيطر على ضحكاته قليلًا: معك حق، إما أنه سينام وإما سيأكل، أخشى أن يأكلنا ونحن نيام ليلًا من كثرة طعامه.
علي الجانب الآخر كان فور مستيقظًا على غير عادته، لكن يسعُل بشدة! وقف أمام مرآة المرحاض ينظر لوجهه الأحمر بتعب، وضع يده على رقبته يُدلكها برفق مُتمتمًا مع ذاته: ما بِكَ فور! ما الذي أصابك يا رجل! يبدو أنني مُصاب بالبرد أو ما شابه.
هكذا أقنع ذاته عندما اشتد الإحتقان عليه يُؤلم حنجرته، خرج من المرحاض مُتجهًا إلى غرفة رائد لعلمه بذهاب كُلًا من قاسم وچون إلى عملهما، اتجه إليه بعدما فتح الباب ببطئ، ثم صعد على الفراش يهزه برفق وكأنه طفل مريض يحتاج إلى الإعتناء: رائد استيقظ، حنجرتي تؤلمني ولا أعلم ماذا أفعل، أشعر بأن الموت يُداهمني.
دفعه رائد بضجر بعيدًا عنه وهو يُتمتم بنعاس: يا عم روح موت بعيد عني ومتقرفنيش بقى.
هزه فور مرة أخرى ولكن بشدة يصرخ به بصوت مختنق: أنت عديم الإحساس يا رجل، استيقظ هيا فأنا حقًا أشعر بالإختناق.
أنهى حديثه ساعلًا مرة أخرى بقوة، فاعتدل رائد يُحدجه بقلق مُتحدثًا: واد يا فور أنت تعبان بجد!
هز رأسه بالإيجاب يؤكد حديثه أثناء تدليكه لعنقه ببطئ، رفع رأسه ينظر ل رائد عندما طال صمته، فوجد ابتسامة بلهاء مُتشكلة على شفتيه، قطب فور جبينه بغضب يسأله بحدة: ما بِك تضحك كالنعجة يا وغد!
تغاضى رائد عن توبيخه له مُتحدثًا بنفس الابتسامة البلهاء: يا فرحة قلبي، يعني مش هتاكل النهاردة وتخلص خزين البيت!
جعد فور وجهه مُتسائلًا وشعور الظُلم بدأ يُسيطر على مشاعره: أتقصد بأنني آكل كثيرًا! بل وأنهي طعامكم أيضًا!
وضع رائد يده على صدره وباليد الأخرى يُشير لذاته بصدمة زائفة: أنا قولت كدا يا جدع! لا إله إلاّ الله يخربيت الظلم!
حدق به فور بضجر ثم هبَّ من جانبه من على الفراش صائحًا أثناء توجهه للخارج: تبًا لك يا وغد، أكرهكم وأكره معرفتكم السوداء تلك، أنتم أُناس حُقراء دائمًا ما تظلمون مسكينًا مثلي.
تابع رائد أثره بسخط، ثم تمدد مُجددًا على ظهره ساحبًا الغطاء فوقه ليُغطي به جسده البارد: جتك داهية أنت كمان، الواحد مش عارف ياخد راحته في البيت دا؟
اليوم هو يوم خِطبتي، يوم بداية النهاية لأعدائي، سأُنفذ انتقامي على الجميع، انتقامًا سيكون بمثابة نقطة في بحر ما فعلوه بي، أنا لستُ المُذنبة، بل أنا الضحية، ضحية قُتلت روحها منذ الصغر وأصبحت جسدًا لا يهوى للجميع سوى الهلاك، سأُنهي حديثي بأن البشر هم أقذر المخلوقات على الكوكب، لذلك هُم يستحقون كُل هذا الكُره القابع بقلبي.
أغلقت أَهِلَّة دفتر مذكراتها بتنهيدة قوية قابعة بين جنبات صدرها، كل يوم حالتها تزداد سوءً، وكُرهها يستد أكثر فأكثر، ومرضها النفسي يُنهيها بالتدريج، فكرت هل اتحادها مع القناص سيكون مُربحًا لها؟ وكانت الإجابة نعم، فهدفهم واحد وانتقامهم مُحدد من أقذر عائلة موجودة على البشرية، عائلة الأرماني.
انتبهت على فتح الباب فجأةً ودخول كُلًا من يُمنى وملك فأوجه مُبتسمة تُزين محياهم، طرقت ملك على الطنجرة المُمسكة بها بمرح وهي تُغني:
النهاردة هكلم أبوكِ قالها وروحي راحت ياني، قال إيه خدودك كسفوكِ بقى لونهم برتقاني...
كانت تهز جسدها وتميل على ألحانها تحت أنظار أخواتها الضاحكة، قذفتها أهلة بالوسادة في وجهها ضاحكة: اخرسي بقى. أنا أصلًا مش هعمل فرح.
توقفت ملك عن الرقص ناظرة إليها بصدمة، فصعد صوتها بعد أن أطلقت شهقة عالية: نعم نعم! جرا إيه يا بت أنتِ هو إيه اللي مش هعمل فرح! لتكوني مفكرة القرار دا قرارك والجوازة دي جوازتك لوحدك، لأ دا أنا اخرب البيت فوق دماغك أنتِ وأختك العرة دي.
جعدت يُمنى وجهها بإشمئزاز وهي تقول بقرف: ياي بيئة.
روحي استحمي يا يُمنى وبطلي عفانة.
صعدت تلك الكلمات من فم ملك التي أطلقتها بغضب، ثم حولت نظراتها ل أَهِلَّة التي تُتابعها بضجر: سيبك من أنثى الحمار دي وخليكِ معايا هنا، فرحك هيتعمل يعني هيتعمل، أومال أنا هشقط رجالة منين أنا!
أشارت يمنى ل أَهِلَّة بقلة حيلة مُتحدثة بيأس: شوفي يا ستي! يعني الهوليلة اللي عملتها دي كلها عشان مش هتشوف رجالة في فرحك ومش هتعرف تشقط.
اعتدلت أَهِلَّة على فراشها تُوجه حديثها بعناد ل ملك التي تُتابعهم بسخط: طيب وحياة أمك عشان خاطرك ما أنا عاملة فرح، يخربيت القرف اللي أنتِ فيه، دا الواحد بيقرف من الرجالة وبيحاول يبعد عنهم وأنتِ عايزة تكوشي على كله.
نفخت ملك على طلاء أظافرها الأحمر الذي وضعته اليوم قائلة بغرور: لأ ما أنا مش هكلم رجالة زيادة تاني، أنا لقيت الراجل ال12 الحمد لله وقفلتهم الدستة.
يا ماما.
صعد ذلك النداء من فم أَهِلَّة تُنادي على والدتها، فزعت ملك بشدة فهرولت إليها تُكمم فمها برجاء: يخربيتك يخربيتك أنتِ بتعملي إيه هتفضحيني! اخس على الأخوة وقلة الأدب.
دفعتها أَهِلَّة بعيدًا عنها وهي تهتف بضجر أثناء مسحها محل لمس شقيقتها لها بإشمئزاز: ما هي فعلًا قلة أدب يا قليلة الرباية، دا لو أمك كانت فضيت تربيكِ 3 ثواني بس كنتِ هتكوني محترمة أكتر من كدا.
أتت في تلك الأثناء نبيلة التي كانت مُنهمكة في أعمال المنزل، نظرت لهم بتعجب مُتسائلة بترقب: خير يا أَهِلَّة بتنادي ليه!
وما كادت أن تُجيبها، حتى سارعت ملك بمقاطعتها بتوتر وهي تقول: لأ يا ماما أبدًا دي كانت بتسأل عن صحتك.
انكمش وجه نبيلة بسخط مُردفة بضجر: وحياة أمك أنتِ وهي مناديين ليا عشان تسألوني عن صحتي!
تحدثت يمنى تلك المرة لإخراج شقيقتها من هذا المأزق: آه يا ماما يا حبيبتي. واحنا عندنا مين أغلى منك يعني.
أكدت لها أَهِلَّة هي الأخرى توافق على حديثهم تُكرر حديث يمنى: بالظبط كدا، واحنا عندنا مين أغلى منك يا مامتي!
طالعتهم نبيلة بسخط قبل أن تنخفض وتلتقط نعلها المنزلي وهي تصرخ عليهم: طيب يلا روح أمك أنتِ وهي عشان تساعدوني في الطبيخ طالما معندكوش أغلى مني، يلا يا بت أنتِ وهي قدامي.
قالت جملتها الأخيرة وهي تهبط على ذراع ملك التي صرخت بضجر أثناء هرولتها مع شقيقاتها للخارج: آه يا ماما. أنتِ دايمًا بتيجي عليا عشان غلبانة كدا! يخربيت القهر.
أجابتها نبيلة التي تُطالعهم بشماتة من الخلف: غلبانة آه ما أنا عارفة، يلا يابت أنتِ وهي الناس جاية العصر وانتوا قاعدين بتتمرقعوا كدا؟
وصل قاسم للمشفى التي يعمل بها والخاصة لعائلة الأرماني، طالعها بنظرات كارهة مُستحقرة تقبع من جوف عيناه بحرقة، سحب نفسًا عميقًا ليتحكم بإنفعالاته، فإن ترك غضبه سيحرق كل ما حوله.
دخل صاعدًا الدجات قاصدًا مكتبه، دلف للداخل ثم ارتدى زي المشفى الخاص به وانطلق يفحص الحالات التي قام بمعالجتها، وصل إلى الحالة الأولى والتي كانت تخص طفل صغير لم يتخطى العاشرة، والذي باشر بنفسه لإجراء العملية الحرجة له بعد أن أُصيب بنزيف داخلي جِراء حادث سيارة كبير.
طرق على الباب بهدوء ثم دلف بعد أن استمع لإذن الدخول، تشكلت تلقائيًا ابتسامة بسيطة على ثغره عندما رأى حالة الطفل التي تحسنت كثيرًا عما كان به من قبل، اقترب منه بتروي قائلًا بمرح: لااا دا احنا بقينا جامدين خالص أهو، عامل إيه يا بطل!
التمعت عيني الطفل بسعادة عندما رأى زيه الطبي، ثم أجابه بخفوت وفرحة ظهرت جلية على محياه: الحمد لله بقيت كويس يا عمو.
وقف قاسم أمام فِراشه مُباشرة بعدما القى التحية على والدته بوجه بشوش، ثم انحنى عليه مُقبلًا جبينه بحنو: ألف سلامة عليك يا حبيبي، ها قولي بقى إيه سر الضحكة الكبيرة أوي دي.
ضحكت والدته بخفة وكذلك هو، فأجابه الطفل بأعين يلتمع فيها الحماس: عشان نفسي أبقى دكتور زي حضرتك كدا وأنقذ حياة الناس وربنا يحبني.
خفتت ابتسامة قاسم تدريجيًا مُجيبًا إياه أثناء جلوسه جانبه على طرف الفراش: لأ طبعًا متتمناش تكون زيي، اتمنى تبقى أحسن مني، وأكبر دكتور في العالم كله.
جعد الطفل جبينه بضيق ولم يُعقب، ولم تمر سوى ثوانٍ قليلة إلا وهو يفتح عيناه بتذكر: على فكرة أنا شوفتك في الحلم وكنت عسول أوي.
قطب قاسم جبينه بتعجب شديد، هو لم يرى الطفل من قبل، كيف له أن يحلم به! تسائل مشدوهًا مُنتظرًا إجابته بترقب: حلمت بيا إزاي يعني؟
شرح له الصغير بيده السليمة مُشيرًا لموضع قلبه: كنت عمال تعيط كتير أوي وماسك قلبك من هنا، وأنا كنت عمال أقولك متعيطش يا عمو بس أنت مش كنت بتسمع كلامي، وفيه واحدة ست كبيرة جت وقعدت جنبنا ولما شوفتها سِكت ومش بقيت تعيط.
ما هذا الهراء التي يتحدث به! هكذا همس لنفسه مُتعجبًا، فكيف لطفل لم يراه من قبل أن يراه في حلمه بل ويتحدث معه أيضًا! تجاهل حديثه ظنًا بأنه طفل صغير فتحدث بابتسامة جذابة: اممممم لا دا حلم كبير أوي بقى، عشان كدا لازم آخد بالي من نفسي عشان معيطش.
أكد على حديثه بنظرات بريئة للغاية مما جعل ابتسامة قاسم تتسع أكثر، أمسك بالملف الخاص بالطفل يُراجعه، وبعد ما يقرب من الدقيقة تحدث بمشاكسة: لأ دا احنا بقينا عال خالص الحمد لله.
وجهت والدته حديثها له تسأله بلهفة: بجد يا كتور بقى كويس خلاص.
أومأ لها مؤكدًا بابتسامة خفيفة مُتجنبًا النظر لها: ايوا يا مدام الحمد لله، هو بس المفروض يتحجز هنا كمان عشر أيام حفاظًا على الجرح وتجنبًا لأي مشكلة تحصل معاه، لكن غير كدا فأنا بطمنك عليه.
شكرته بدموع تلتمع في عيناها وهي تُحيط برأس ابنها بسعادة: الحمد لله يارب، مش عارفة أشكرك إزاي يا دكتور بجد.
أجابها بعملية أثناء اتجاهه للخارج: الشكر لله وحده، ألف سلامة يا بطل، عن اذنكم.
خرج من الغرفة وعلى ثغره ترتسم ابتسامة سعيدة، يشعر بالنقاء مع الأطفال حقًا، يمكنهم بكل سهولة سلب الطاقة السلبية داخلك بضحكة واحدة سعيدة منهم، وهذا ما هو حدث معه الآن.
توجه للغرفة التي تُجاورها، والتي ما إن وقف أمامها حتى انمحت ابتسامته لتحل محلها الجمود والقسوة، طرق على باب الغرفة بهدوء ليُفتح له الباب بواسطة شاب صغير نسبيًا، أفسح له الطريق عندما أدرك هوية الطارق، ليدلف قاسم بعدها بملامح باردة، رأى ذلك المُعلم المتُسطح أمامه يُحدجه بإستنكار، لا يكرهه؛ لكن لا يحبه أيضًا، فذلك القابع أمامه كان سببًا من الأسباب التي أثرت عليه بالسلب في يومًا من الأيام، كان صغيرًا لكنه لا ينسى الإهانة التي تعرض لها على يده.
تفحص أجهزته الحيوية وبدَّل له المحلول المُعلق بيده، ثم كتب أدوية جديدة تتماشى مع حالته المُتعافية نسبيًا، انتبه لصوته عندما صدح يسأله بتفكير: أنا حاسس إن أنا شوفتك قبل كدا.
نظر له قاسم بطرف عينه ولم يُجيبه، مما زاد من تعجب الآخر تحن أنظار عائلته، أنهى قاسم ما يفعله وكاد أن يذهب، فاستوقفه الآخر مرة أخرى يسأله بإلحاح بعد أن رأي نظراته المُعادية تجاهه: مش هتقولي شوفتك فين قبل كدا!
التفتت له قاسم بملامح قاسية، ثم أردف ببرود حاد قبل أن يذهب ويترك ذلك المنُصدم:
معاك دكتور قاسم طاحون.
تحججت يُمنى من والدتها عن وجود عمل هام للغاية لذلك يلزم الذهاب الآن، طالعتها أَهِلَّة بتعجب شديد من حديثها، عن أي عمل تتحدث هي! لقد أخذت كلتاهما إجازة لمدة يوم واحدة للخِطبة، إذًا ما الأمر، وما الذي تُخفيه!
ارتدت يمنى ثيابها على عجالة ثم اتجهت للخارج تحت حنق من والدتها، غافلة عن نظرات شقيقتها التي تُطالعها بشك وعقل مشوش.
هبطت يمنى من البناية ثم أوقفت إحدى سيارات التاكسي وبعدها أملته العنوان المُتجهة إليه.
مرت نصف ساعة ووصلت لوجهتها، أعطت للسائق أمواله ثم هبطت من السيارة، لتجد ذاتها تقف أمام بناية شاهقة في منطقة راقية للغاية، صعدت للدور الرابع الموجود به غايتها وابتسامة خبيثة بدأت تتشكل على ثغرها، ضغطت على جرس الباب وانتظرت قليلًا حتى فُتح الباب.
طلَّ صهيب بعدما فتح لها، والذي أردف بابتسامة عابثة بعد أن رآها: نورتي يا يمون!