رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع عشر
قام قاسم بتوصيل أهلة إلى أسفل منزلها مُودعًا إياها بود وذلك بعد أن اشترى لها الكثير من الحلوى وكأنها طفلة صغيرة، صعدت الدرج لتنظر لما بين يديها بإبتسامة مُتذكرة حديثه عن شقيقتها ملك: وخُدي الحاجات دي لأختك أم نُص لسان، وهكون شاكر ليكِ جدًا لما تخليها تبطل تقولي يا أبيه تاني.
بينما عاد قاسم إلى منزله مُجددًا، وأول ما فعله هو صعوده لوالدته بالطبع كما اعتاد أن يفعل دائمًا، قطب جبينه بتعجب عندما وجد باب شقتها مُواربًا قليلًا، تسائل داخله بقلق عن هوية الدخيل! ف لوسيندا أخذت إجازة قصيرة لظروف خاصة حدثت في منزلها، إذًا مَن قام بفتح الباب والدلوف لوالدته المريضة؟
وضع يده على جيب بنطاله الخلفي ليتأكد من وجود ماديته بها، ثم دلف للداخل على مهل بخطوات بطيئة غير مسموعة بعد أن أغلق الباب خلفه ليُقلل فرصة هروب الآخر، انتفض قلبه من مكانه عندما وجد باب غرفة والده مفتوحًا على مصرعيه! ليُهرول إليها سريعًا بقلبٍ يخفق بشدة.
توقف مكانه بصدمة عندما وجد شقيقه صهيب يجلس أمام والدته التي تُطالعه بإبتسامة صغيرة، وهو يتحدث معها بحماس دون توقف: وبعدين أنا مسكتش، رُوحت مشوح بإيدي كدا وقولت كله إلا كرامتي يا شيماء وقبضت على المجرم السافل المُتحرش، أصل هقولك حاجة يا ماما؛ الناس اللي زي دي مش عايزة غير العين الحمرا والظابط القوي تربية الشوارع. زيي كدا، وبس بقى يا ستي. اترقيت وبقيت نقيب قد الدنيا بسبب شجاعتي.
تدخل قاسم في الحديث بعد أن تنهد بارتياح: أنت إيه اللي جابك هنا يلا؟
طالعه صهيب من أعلاه لأسفله بإشمئزاز، ثم تمدد بجانب والدته مُجيبًا إياه بغرور: جاي لمامتي حبيبتي أنت إيه اللي حشرك؟
تقدم منهم قاسم حتى وقف على الناحية الأخرى من والدته هابطًا على جبينها يُقبله بحنان، وبعدها رفع رأسه لشقيقه ثم ضربه على رأسه بقوة وهو ينهره: ومقولتش إنك جاي ليه يا أتنح خلق الله؟
مزاجي.
أجابه صهيب ببرود أثناء إحاطته لخصر والدته، ليغتاظ قاسم منه ومن بروده ثم دفعه عن والدته قائلًا بحنق: طب ابعد عن أمي بقى وملكش دعوة بيها.
طيب ما هي أمي أنا كمان! ولا أنا ابن البطة السودة يعني!
قالها صهيب بغيظ لتضحك حياة بخفة على مشاكسة أطفالها وتمتمت بخفوت واهن: خلاص يا قاسم يا حبيبي أنت الكبير.
اتسعت ابتسامة قاسم وفعل مثل شقيقه، حيث تمدد على الجانب الآخر لتُصبح والدتهم في المُنتصف وهُم يُحيطون إياها كالسد المنيع، دفع قاسم يد صهيب من على خصر والدته، ليتشدق بما أغاظه: شيل إيدك دي ياض دي أمي لوحدي.
نظر صهيب ل حياة بحنق مُشيرًا ل قاسم ولأفعاله المُضايقة له، ثم أردف بإستنكار وهو يشكو لها كطفل صغير: شايفة يا ماما بيشيل إيدي من عليكِ إزاي؟
بس يا ولد اتكلم كويس أنا أخوك الكبير!
نهره قاسم بجدية مصطنعة؛ ليضغط صهيب على أسنانه بغيظ وهو يُجيبه تزامنًا مع إحاطته لخصر والدته مرة أخرى: خليك أنا صابر عليك ومتحمل، يا إما وعهد الله هقوم أركب عليك أفطسك لحد ما تروح فيها.
ضحكت حياة بخفة ولسوء الحظ لم تستطيع التحدث بسبب آلام جانبها التي تشتد عليها من الحين والآخر، لذلك اكتفت بالصمت ومتابعتهم بأعين تلتمع من السعادة، لا تُصدق أن بعد كل تلك المُدة الكبيرة قد عادت عائلتها لها من جديد، عدا شريك حياتها ومحبوب روحها الذي توفى لحزنه الشديد عليها وعلى صغيرها، لكن المولى قد عوَّض صبرها خيرًا كما عوَّض سيدنا يعقوب ب يُوسُف.
ساد الصمت قليلًا قبل أن يقطعه صهيب ناظرًا لوالدته وهو يستند على ذراعه: ماما بتحبي مين فينا أكتر؟ أنا ولا قاسم؟
حدجه قاسم بغيظ، ثم استند على ذراعه كما فعل هو قائلًا بضيق واضح: بتحبني أنا طبعًا إيه السؤال دا؟
رد عليه صهيب مُستنكرًا بغيرة واضحة: والله؟ على فكرة بتحبني أنا أكتر، صح يا ماما؟
قال الأخيرة وهو يسأل والدته التي أغمضت عينيها بيأس، لتفتح عيناها مرة أخرى مُجيبة إياهم بحنان: بحبكم انتوا الاتنين طبعًا، وهي في أم مش بتحب ولادها كلهم أو تقدر تستغنى عن واحد فيهم؟
مط صهيب شفتيه للأمام بإقتناع، وبعدها تشدق قائلًا: معاكِ حق يا ماما، بس برضه بتحبيني أنا أكتر.
دا أنت غتت.
كلمة صعدت من فاه قاسم المُغتاظ من شقيقه، وما كاد صهيب أن يُجيبه؛ فوجد والدته تُغلق عينيها بنعاس لتعود إلى غيبوبتها المؤقتة مرة أخرى، أشار قاسم لشقيقه بهدوء ناحية للباب، ليفهم مقصده ويتحرك بعيدًا عن الفراش قليلًا قبل أن يُقبَّل جبين والدته بحنان ويودعها بنظراته المُشتاقة.
خرج معه قاسم وأغلق الباب بتروٍ حتى لا تستيقظ والدته وتأخذ قِسطًا كافيًا من الراحة، وما هي إلا ثوانٍ وأمسك بأخيه من ياقة ثيابه يهزه بعنف: بقى عايز توقع بيني وبين أمي ياض! دا يخربيت الندالة اللي في دمك.
أشار صهيب لذاته بصدمة مُصتنعة قائلًا بتقطع: أنا؟ أنا عايز أعمل كدا؟ حرام عليك يا أخي كفاية ظُلم بقى، كفاية قهر، كفاية ذُل، كفاية إستعباد، كفاية و...
قاطعه قاسم الذي دفعه بعيدًا تزامنًا مع قوله الحانق من تلك الدراما المُبتذلة التي قدمها له: خلاص خلاص غور، دا يخربيت اللي يتكلم معاك تاني.
اقترب منه صهيب مرة أخرى دافعًا إياه بدلال من كتفه وهو يتشدق بنبرة أُنثوية بحتة: وأهون عليك يا قاسي! دا أنا اللي حبيتك الأول.
طالعه قاسم بمقط فأردف باستنكار بعد أن دفعه بعيدًا عنه مرة أخرى: لو مبعدتش عني دلوقتي هقتلك أنت كمان وأخلص منك، ما أنا قتال قُتلة وأعملها.
صمت صهيب وتحول وجهه من المزاح إلى القنوط وهو ينهره بحدة: متقولش على نفسك كدا يا بني آدم أنت! هو إيه اللي قتال قُتلة! هو أنت بتقتل ناس كانت بتتعبد ليل نهار! ولا يكونوا كانوا مقضينها تبرعات وأحنا مش واخدين بالنا! دول عالم حقيرة دمرتنا كلنا، فاهم يعني إيه دمرتنا ومنعتنا من أبسط حقوقنا!
كان قاسم يُتابع ردة فعل أخيه المُنفعلة لأجله، كلمة خاطئة في حقه خرجت سهوة من فاهه تسببت في ثورته بتلك الطريقة، ابتسم قاسم بإتساع جاذبًا شقيقه نحوه في عناق أخوي قوي، عناق حُرِموا منه لأعوام كثيرة بسبب أشباه البشر، ولم يُمانع صهيب في مُبادلته لذلك العناق الدافيء، بل شدد من إحتضانه علَّه يشعر بالأمان.
خرج صهيب من أحضان شقيقه قائلًا بنبرة حماسية وأعين مُلتمعة: تعالى معايا بقى عشان تكون شاهد.
قطب قاسم جبينه بتعجب أثناء سؤاله: شاهد على إيه مش فاهم.
ما أنا هتجوز.
نطق بها صهيب سريعًا، ليُجيبه قاسم بسخرية واضعًا يده أسفل ذقنه كحركة شعبية مشهورة: يا راجل؟
أجابه صهيب مُبتسمًا بإتساع: وعهد الله.
ولا أنت هتستعبط! هو إيه اللي هتتجوز أنت جرى لمخك حاجة!
علم صهيب الآن بأنه على وشك دخول نقاش حاد مع شقيقه الآن، لذلك سحبه معه إلى الأريكة ثم وضَّح له وجهة نظره قائلًا: اقعد يا قاسم واسمعني، أنا عارف إن من حقك تضايق بس كل حاجة حصلت النهاردة أساسًا وانشغلنا في موضوع الإجتماع عشان كدا ملحقتش أقولك، يعني مخبتش عليك ولا حاجة.
كان وجه قاسم جامدًا مما بثَّ القلق في قلب صهيب، وما زاد من خوفه هو حديث شقيقه الذي أمره بإختصار: إحكي.
تنهد صهيب بعمق، ثم بدأ بقص كل الأحداث التي مرت عليه دون أن يترك تفصيلة واحدة، بدايةً من شجاره الحاد مع صوفيا حتى أخذه ل حبيبة إلى منزله بعيدًا عن براثن والدتها التي يُمكن أن تطالها أثناء غيابه، أنهى حديثه موضحًا سبب رغبته في الزواج منها:.
بعيدًا عن إني بحبها، بس أنا فعلًا عايز أتجوزها في الوقت الحالي عشان عارف إن أمها مش هتسكت وهتقلب الدنيا، خصوصًا إن حبيبة بالنسبالها عاملة زي الفرخة اللي بتبيضلها بيضة دهب، وهي مش هتفرط فيها بسهولة، وبالقانون هتطالب بيها وأنا عارف، عشان كدا عايز أسبقها بخطوة وأتجوزها عشان تكون في بيتي وليا كامل الحرية فيها.
كان قاسم يُتابع حديثه بجمود، وبعد أن انتهى صهيب من قصه للأحداث، أردف هو بشيء من السخط: بُص يا صهيب أنت أخويا وعارف إني بخاف عليك حتى من نفسي، وأنا عارف إن حبيبة ملهاش ذنب في اللي عيلتها عملته واللي لسه بيعملوه، بس في النهاية الدم واحد، الغدر بيمشي في دمهم زي الإدمان، وصدقني أنا لو شكيت فيها في يوم بنسبة 1% إنها معاهم وممكن تأذيك؛ أنا مش هتردد لحظة إني أنهيها من على وش الأرض.
اقترب صهيب من قاسم ثم احتضنه قائلًا: ربنا يخليك ليا يا قاسم، بس صدقني مفيش داعي لكل دا، حبيبة تُعتبر متربية معايا وعارف إن شخصيتها ضعيفة وغيرهم صدقني والله، وبعدين أنا مش عيْل صغير وبعرف أفرَّق بين الطيب واللي بيدَّعي الطيبة.
ابتعد عنه قاسم، وأخيرًا رسم ابتسامة مُحبة على ثغره وهو يُهنيء شقيقه: إذا كان كدا فألف مبروك يا حبيبي، وأنا هكون أول الشهود على جوازتك دي، وكمان هجيب الشباب عشان يشهدوا مع حبيبة لأنها لوحدها.
احتلت الحماسة وجه صهيب، فقفز منه مكانه صائحًا بتهليل: ربنا يخليك ليا يا أحلى أخ في الدنيا.
كان الجميع يجلسون على الأرائك ينظرون ببلاهة تجاه ذلك العريس المزعوم والذي أتى لخِطبة لواحظ؟ اعتدل رائد في جلسته ثم تحدث بسخرية موجهًا حديثه ل عبدالقادر: والأفندي معاه مؤهل إيه؟
وضع عبدالقادر يده على صدره مُتمتمًا بفخر: أنا خريج أولى إعدادي يا عمي.
عمك؟
نطق بها رائد بإستنكار، فأكد عليه الآخر وهو يقول بإحترام زائد: أيوا طبعًا، وكل طلباتكم أوامر من العين دي للعين دي، ولو عايزيني في أي مصلحة حكومية كمان أنا تحت أمركم
خرج صوت محروس الذي كان يغلي في مكانه وهو يقول بإستخفاف: ودا إزاي بقى إن شاء الله! هروح للظابط وأنا شايل في إيدي اتنين كيلو جزر؟
كان وجه عبدالقادر جادًا للغاية عندما أجابه بثقة: أنت مش عارف الاتنين كيلو جزر يعملوا إيه؟ وبعدين أنا مش هجيب جزر أنا هجيب تفاح.
تدخل رائد في الحديث مُردفًا بإقتناع زائف: لأ طالما تفاح يبقى كدا عداك العيب وأزح.
حوَّل محروس أنظاره تجاه والدته التي تنظر للأرض على استحياء سائلًا إياها بابتسامة صفراء يشوبها الحنق: وأنتِ رأيك إيه يا عروسة؟
أجابته بصوت خفيض ناتج عن خجلها: اللي حضرتك تشوفه يا أبيه.
مصمص رائد على شفتيه أثناء قوله المُتسنكر: لواحظ بتقول أبيه؟ الله يرحم.
كان كل هذا و چيهان وسهيلة يُتابعون المشهد بضحكات مكتومة، لا يُصدقون ما تراه أُذنيهم وتسمعه أعينهم! لواحظ تريد الزواج في سن الثمانين!
مالت سهيلة على أُذن والدتها قائلة بهمس ضاحك: إيه رأيك في اللي بيحصل دا يا ماما؟
أجابتها چيهان بهمس مُماثل في محاولة ألا تضحك: والله أنا شايفة إن سِتك من حقها تتجوز وتشوف مستقبلها.
مستقبل إيه يا ماما؟ تاتا رجليها والقبر أساسًا.
نكزتها والدتها في جانبها وهي تقول بحنق: اسكتي يابت إيش فهمك أنتِ بعد الشر عليها، وبعدين فيها إيه لما تتجوز وتملى علينا البيت بعيال صغيرة تجري هنا وهناك؟
ابتعدت سهيلة عن والدتها قليلًا مُحدجة إياها بريبة، ثم حوَّلت نظراتها لذلك العِراك الناشب بين أبيها وأخيها و عبدالقادر وهي تُتمتم بصوت غير مسموع: العيلة كلها باين عليها اتهطلت.
حاول عبدالقادر إقناعهم بفكرة زواجه من لواحظ، لكن محروس صاح بحدة وهو يهب من مكانه بغضب: لأ يعني لأ يا حَج معندناش بنات للجواز، ويلا اتفضل من غير مطرود.
هبَّ عبدالقادر من مقعده هو الآخر مُتسائلًا بضيق: يعني إيه يا عم محروس؟ أنت بتطردني؟
جاءه صوت محروس الغاضب قائلًا: آه بطردك يا حَج، ولو سمحت ابعد عن أمي خالص، بنات الناس مش لعبة.
أصلح له رائد حديثه متشدقًا بسخرية: قصدك أمهات الناس مش لعبة يا بابا.
صحح محروس مقصده وهو يقول بحنق: أمهات الناس مش لعبة يا حج عبدالقادر.
ضرب عبدالقادر بعصاه على الأرض الصلبة متشدقًا بغلظة: يعني دا آخر كلام عندكوا؟
تسائل هو، ليؤكد عليه محروس قائلًا: آه آخر كلام عندنا، شرفتنا يا حَج.
قطب عبدالقادر حاجبيه الكثيفين ثم اتجه ناحية الباب بخطوات غاضبة، نادته لواحظ التي أردفت ببكاء: استنى يا عبده.
اِلتفت إليها عبدالقادر والذي تحدث بهدوء يحمل بين طياته الحزن: حُبنا اتحكم عليه بالموت يا لواحظ قبل ما يبدأ، سلام يا سِت الكُل.
استدار هو ليذهب، بينما هي سقطت دموعها بأسى، حدجتهم جميعًا بغضب حتى صاحت بهم بغضب: هتجوزه يعني هتجوزه انتوا سامعين! محدش ليه كلام عليا انتوا نسيتوا نفسكم ولا إيه؟ بكرا هسيبلكم البيت وأغور ووقتها هتعرفوا قيمتي.
قالت كلماتها ثم هرولت إلى غرفتها لتستكمل وصلة بكاؤها، ضرب محروس كفه بالآخر مُتمتمًا بسخط: لله الأمر من قبل ومن بعد، ربنا يهديكِ ياما.
اتجه رائد نحو الحقائب البلاستيكية التي تحتوي على كل أنواع الفاكهة التي أتى بها عريس جدته إلى هُنا وفتحها بحماس، ليلتقط منها ثمرة من الموز الطارج أثناء قوله السعيد: أخيرًا طِلعنا بمصلحة من ورا الجوازة الشُوم دي!
قام بتقشير الموزة، وما كاد أن يلتهمها حتى استمع إلى صوت الباب مُجددًا يطرق بعنف، ذهب ليفتح بضجر مُتمتمًا ببعض الكلمات التي لم تكن واضحة بالنسبة للآخرين، لكن من تعبيرات وجهه كان يبدو بأنه يَسُب الطارق.
فتح الباب ليجد أمامه عبدالقادر والذي ما إن رآه حتى هتف بسخط: جرا إيه يا حَج عبده ما قولنا معندناش أمهات للجواز؟
دفعه عبدالقادر عن طريقه ثم دلف للداخل دون أن ينبث بكلمة واحدة، واتجه لحقائب الفاكهة التي أتى بها إلى هُنا ثم حملها واتجه للخارج مرة أخرى، وقبل أن يُغلق الباب انتشل ثمرة الموز من يد رائد وبعدها هتف ساخطًا: هات دي كمان، حَر ونار في جِتتكوا.
فتح رائد فاهه من الصدمة وهو يُتابع أثره الراحل، ثم هتف بحسرة وهو يُنادي عليه: طب هات الموزة طيب!
لم يُجيبه عبدالقادر وأكمل رحيله، ليُغلق رائد الباب بحنق مُتمتمًا بضيق: حسبي الله ونعم الوكيل، معرفش الناس بقت قلوبها سودة كدا ليه؟
نفخ محروس بحنق مُحدجًا ابنه بسخط، فالتفت إلى زوجته مُمسكًا بيدها قائلًا: تعالي ندخل جوا يا چيچي أصل أنا أعصابي تعبت النهاردة.
أجابته چيهان برقة وهي تتجه معه نحو الغرفة: تعالى يا حبيبي.
تابعهم رائد وسهيلة بتشنج وكاد أن يُعلق؛ لكنه وجد هاتفه يُنير بإسم قاسم، لذلك أجابه دون تردد: إيه؟
جاءه صوت قاسم الصارم: جتك أوه في جنابك، نص ساعة وألاقيك قدامي متتأخرش ورانا مشوار مهم.
لم ينتظر سماع إجابته أو اعتراضه، بل أغلق الهاتف بوجهه دون أن يُعطي له مساحة للرد، تأفف رائد بحنق ثم أعاد خصلاته المُشعثة للخلف وذهب للخارج مُتجهًا حيث يوجد أصدقائه.
بينما دلفت سهيلة إلى غرفتها وأحكمت إغلاق بابها، وكالعادة اتجهت نحو فِراشها مُمسكة بهاتفها بين يديها لتبدأ بقراءة رواياتها المُحببة إلى قلبها، لكن ليست كأي روايات طبيعية، بل إباحية!
بدأت بالقراءة حتى وصلت إلى مشهد مُعين لتتسع عينيها بحماس طاغي، أصبحت السطور تنتشلها لتُشدد من الضغط فوق رقبتها وهي لا تشعر بذلك، بل باتت تشعر بالتلذذ والإستمتاع عند قراءتها لذلك الحديث وتلك الأفعال الخادشة بلا حياء، ابتلعت ريقها بتوتر عندما أتبعت الكاتبة المشهد بصورة مُتحركة كانت أقل ما يُقال عنها أنها قمة في القذارة، وللعجب لم تخجل أو تُعطي أي ردة فعل سوى أنها ظلت تُعيدها وتنظر إليها بتمعن.
لقد ضاعت! ضاع حياؤها وبرائتنها بسبب تلك الكلمات المُخِلة، وهي مُراهقة ذات مشاعر ضعيفة هشة، ساقتها الحروف والكلمات لتُصبح سكيرة لها، مانعت وحاولت الإبتعاد في البداية ونجحت، وجاء أصدقائها ليَسحبونها لذلك المُستنقع مرة أخرى، وتلك المرة وقعت! وقعت وتسرب كل عالمها الوردي من حولها وتُسجن في بحور من الكلمات المُظلمة، وإن غرقت فلن تجد من يُنجدها.
انتهت من قراءة الرواية كاملة بكل ما بها من ألفاظ بذيئة وحروف مُنمقة بسُم مخفي، شعرت بوجهها يشتعل من حرارته عندما تتذكر تلك المشاهد الوقحة والصور المُتحركة التي وُضِعت بين الكلمات، وهُنا كانت الصدمة الكُبرى؛ عندما شعرت بنفسها تحثها على مشاهدة فيلم أو مقاطع رومانسية تحمل في طياتها تلك المشاهد، تريد رؤيتها تلك المرة وليست قراءتها فقط!
عضت على شفتيها تحاول إيجاد حلًا لتلك المُعضلة، تشعر بالذنب لكن في الوقت ذاته الأمر يُشغلها بقوة، أمسكت بهاتفها مرة أخرى ودلفت على المحادثة التي تجمعها مع أصدقائها وكتبت لهم الآتي:
عايزة فيلم أجنبي رومانسي يا بنات يكون حلو، حاسة بملل رهيب.
ورغم أن كلماتها كانت بريئة ولا يوجد بها أي شيء يُؤخذ بنية قذرة؛ إلا أنها كانت متأكدة أن صديقاتها سيجلبن لها فيلمًا غير لائق بتاتًا كما اعتادوا المُشاهدة، وكيف لا يُشاهدونها وهم مَن سحبوها للأعماق!
انتظرت قليلًا حتى وجدت إشعار للرسائل ففتحت هاتفها سريعًا، لتجد صديقتها ساندي قد أرسلت لها أحد الروابط، تبعها بقولها المُتحمس: الفيلم دا تحفة اتفرجي عليه هيعجبك أوي.
ابتسمت بإنتصار عندما شاهدت غلاف الفيلم، كان سيء، بل سيء للغاية! ورغم ذلك دلفت على الرابط لتُشاهد مُقدمته والتي كانت في قمة القذارة، نسيت تَعفُفها وتربية والديها وبدأت تسير على نهج الشيطان، زيَّن لها الأوساخ لتراه عالمًا عاديًا مليء بالمحرمات، وهي التي كانت تمقط تلك الأفلام!
مرت ساعة ونصف وكان الإدرنالين قد ارتفع في جسدها من قذارة ما تراه، بل كانت تُعيد المشاهد التي تعجبها أيضًا؟ وبعدما أنهته؛ شعرت برغبة عارمة في تجربة كل ما قرأته وشاهدته الآن، تجربة حسيَّة ملموسة!
تجمع الشباب أسفل العمارة التي يقطن بها صهيب ومعهم المأذون بالطبع، لكنهم لم يدلفوا من البوابة الرئيسية، بل دلفوا من الباب الخلفي للطواريء حتى يأخذوا إحتياطاتهم، صعدوا بالمصعد حتى وصلوا ودلفوا للشقة بعد أن فتح لهم صهيب الباب ورحب بهم للجلوس في غرفة المعيشة: اتفضلوا يا جماعة وأنا ثواني هجيب العروسة وجاي.
أومأوا له ودلف هو للداخل، طرق على الباب بهدوء ثم قال بخفوت: حبيبة افتحي الباب أنا صهيب.
انتفضت حبيبة من مكانها فور أن استمعت لصوته قائلة بنبرة مُرتعشة دون أن تفتح له: ن. نعم.
افتحي الباب يا بيبة عايزك ثواني.
قالها بنبرة حنونة، لتُنفي هي بوجهها وكأنه أمامها ويراها، ثم أجابته بخوف: ل. لأ. قول عايز إيه. من هنا.
استشعر خوفها وحساسيتها تجاهه فأردف بصوت حنون وصل لها: افتحي بس عايزك في موضوع مهم وأوعدك هخرج على طول والله.
قضمت أظافرها بتوتر تشعر بأنها على وشك البُكاء مُجددًا، وبتردد بطيء اتجهت ناحية الباب حتى باتت خلفه مُباشرةً، فتسائلت بإرتعاش ليؤكد لها حديثه: هتخرج على طول صح؟
ابتسم بحزن على خوفها الملحوظ مُجيبًا إياها بألم حاول إخفاؤه عنها قدر الإمكان: آه يا حبيبي هخرج على طول، أنا بس محتاج أتكلم معاكِ شوية.
شعر بصوت فتح قفل الباب ببطيء فاستعد لقول ما يريد بلطف حتى لا تهابه، فتحت حبيبة الباب على مهل، فظهرت هي من خلفه ووجهها متورم من البُكاء كذلك عيناها أصبحت أشد إحمرارًا مما كانت عليه من قبل، وما إن رأته حتى انفجرت باكية دون إهتمام بمظرها الذي أصبح مُشعثًا بدرجة كبيرة، انطلق إليها مُمسكًا بذراعها وهو يسألها بقلق: إيه اللي حصل يا حبيبة مالِك؟ حد جه هنا؟
هزت رأسها بالنفي إجابةً على أسئلته، وما كاد أن يسألها مُجددًا؛ حتى وجدها ترتمي بين ذراعيه تُعاتبه ببكاء ظهر الألم واضحًا بين طياته: افتكرتك سيبتني ومشيت، أنت قولتلي هتخرج ساعة وتيجي وأنت بقالك 3 ساعات برا، بحسبك زهقت مني وهتسيبني زيهم.
هدهدها كالطفلة الصغيرة وكم شعر بالأسى على حالتها، نعم. هي طفلة وتحتاج إلى الرعاية والإهتمام، تحتاج إلى أن تكون الوجهة الأولى لا المحطة العابرة، تحتاج أن تستعيد ثقتها بنفسها، وهو سيُساعدها في كل ذلك، خرج صوته حنونًا وهو يُخبرها: عمري ما هسيبك يا حبيبة، عارفة ليه؟
خرجت من أحضانه ووجها مُملتيء بالدموع، تنظر له بترقب وكأنها تسأله لِماذا؟ ليُكمل هو حديثه متشدقًا بشغف وأعين مُلتمعة بالعشق: عشان بحبك.
أردف بها ببطيء مما أدى إلى زيادة ضربات قلبها بعنف، أكمل حديثه بإبتسامة باهتة مُنتويًا بإخبارها بما أتى لأجله: ودلوقتي أنا عايز أتكلم معاكِ في موضوع مهم وعايزك تسمعيني للآخر من غير ما تقاطعين، تمام؟
وبالخارج، تأفف فور وهو يُصيح بضجر: لما تأخر هكذا؟
أجابه رائد بعبثه المُعتاد: سيبه ياعم يعيش دنيته متبقاش قطاع أرزاق.
يا رِفاق أنا جائع.
لا داعي بأن نُخمن مَن صاحب تلك الجُملة، نظر الجميع ل فور بإشمئزاز؛ ليبتلع ريقه بقلق قائلًا بنبرة غاضبة: لماذا تُحدقون بي هكذا يا أوغاد!
رد عليه چون ضاجرًا: ما بِكَ يا أخي لقد أكلتُ كثيرًا اليوم!
تحول وجه فور للسخط وهو يسأله بصدمة: أنا أكلت كثيرًا! هل تُمازحني! أنا لم آكل سوى سبع مرات عكس الليلة الماضية يا مُغفل.
مطَّ قاسم شفتيه قائلًا باقتناع: لا كدا معاك حق، حتى باين عليك خاسس وهفتان كدا.
قاطعهم صوت المأذون الذي أردف بملل: فلتنادوا للعروسين من فضلكم يا شباب، ورايا شغل.
جاء بتلك اللحظة صهيب ومعه حبيبة التي بدلت ثيابها لأخرى مُحتشمة جلبها لها ليلة أمس، جلست على المقعد البعيد نسبيًا عن الشباب تفرك كلتا يديها بتوتر شديد، تشعر بالخوف مما هي مُقدِمة عليه وبذاتِ الوقت تشعر بالأمان لوجود صهيب إلى جانبها.
بدأ المأذون بإلقاء كلماته المُعتادة وكاد أن يبدأ خُطبته الطويلة التي يُلقيها عادةً؛ فقاطعه قاسم الذي أردف بتملل: خُش في الموضوع على طول يا شيخنا الله يسترك.
طالعه المأذون بضيق وبدأ في حديثه بعد أن وضع قاسم يده بيد رائد الذي قرر أن يكون وكيلًا للعروس، مرت عدة دقائق قليلة حتى أنهى الشيخ حديثه قائلًا: بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.
استمع الجميع إلى صوت زغرودة عالية كان مصدرها رائد بالطبع، ضحك الجميع عاليًا فالتفت رائد إلى حبيبة الجالسة على مقعدها والتي كانت تُراقبهم بإبتسامة طفيفة فاتحًا ذراعيه لها تبعها بقوله المازح له: بنتي حبيبتي تعالي في حضن بابا.
كاد أن يذهب إليها وهو فاتحًا ذراعيه لها؛ لكنه وجد يد تمنعه تُمسك به من ياقة قميصه تهزه بعنف: رايح فين يا حيوان أنت؟
نظر رائد ل قاسم بضجر، وحاول الإفلات من بين يده وهو يقول بصخب: وسع يا عم، مش أنا كنت وكيلها! يعني في مقام أبوها! يعني مِحرم عليها!
تشنج وجه قاسم وهو يسأله بجهل: أنت اخترعت دين جديد ولا إيه؟ أنت أهبل يبني ولا دماغك تعبانة ولا لواحظ خرطت عليك ولا إيه النظام؟
وسع بس يا عم متبقاش قطَّاع أرزاق ورخم كدا.
دفعه قاسم ل صهيب الذي كان يّحدجه بسخط هو الآخر، وما إن أصبح بين يديه حتى ارتسمت إبتسامة شريرة على ثغره متشدقًا بخبث: تعالى بقى يا حبيبي وقولي كنت عايز تحضن مين؟
ابتلع رائد ريقه بتوتر مُجيبًا إياه بجهل: أحضن إيه يا أخ صهيب عيب كدا على فكرة، أنا واحد محترم ومليش في قلة الأدب دي.
هز صهيب رأسه بإقتناع زائف قائلًا: مصدقك يا حبيبي، مصدقك يا عين أمك.
أنهى حديثه وهو يتركه قائلًا بضجر له: روح وصَّل عم الشيخ لتحت ومش عايز أشوف وشك الحلو دا هنا تاني يا محترم.
رفع رائد رأسه بعنهجية مُردفًا بتكبر: أنت الخسران على فكرة، يلا تشاو يا بيبي.
ذهب رائد لإيصال المأذون للأسفل، بينما ظل الثلاثة الآخرون قليلًا مُعرفًا إياهم لحبيبة على أنهم مجرد أصدقائه بالعمل، فهي بالنهاية لا تعلم بأنه لا ينتمي لعائلتها الحقيرة، وأخيرًا جاء موعد الوداع، فاحتضن قاسم أخيه بقوة هامسًا له بحب: ألف مبروك يا حبيب أخوك.
أجابه صهيب بإبتسامة هادئة: الله يبارك فيك يا حبيبي.
ابتعد عنه وودع كُلًا من جون وفور وبعدها اتجه الجميع للأسفل حيث ينتظرهم رائد.
بعد ذهابهم، إلتفت صهيب إلى حبيبة التي تنكشف على ذاتها بخجل، اقترب منها حتى جلس بجانبها دون حتى أن يتحدث بكلمة واحدة، ظنت بأنه لربما قد تزوجها رغمًا بسبب تلك الظروف التي وضعت كلاهما في ذلك المأزق، فتحت فمها في نية للإعتذار منه؛ لكنه باغتها بإحتضانه لها مُشددًا من ضمها، وكأنه يعتذر لها عن قساوة العالم وما مرت به من آلام.
وجدت دموعها تهبط تلقائيًا دون أن تتحدث، ثوانٍ وكان صوت شهقاتها يعلو في الأرجاء، وهو تركها تُخرج تلك الطاقة السلبية التي تُخزنها بداخلها ولم يُمانع، فقط كان مُحتضنًا إياها وهي تبكي، تبكي مرارةً على ما مرت به بسبب والدتها، والدتها التي حولت حياتها لجحيم من أجل الشهرة والمال، كانت تستخدمها كسلعة رخيصة يمكن للجميع التعدي عليها، وهو جاء كالفارس المغوار يقف في وجه الجميع للمدافعة عنها، رغم قسوته معها من البداية لكنه أثبت لها حُسن نيته.
مرت الدقائق وربما الساعات وهما على نفس تلك الوضعية، حتى ابتعدت هي عنه بخجل، أراد أن يُمازحها فنظر إلى قميصه الأزرق المُبتل من دموعها قائلًا بأسى مُصطنع: ينفع كدا بوظتيلي القميص! دا أنا شاريه جديد من 2011 يا شيخة.
كادت أن تعتذر له؛ لكن ما إن استمعت إلى حديثه الأخير ضحكت بخفة من مزحته، ماسحة لدموعها بكف يدها بطفولية، تابعها صهيب بولهان دون أن يدري، أدركت إطالته في التحديق بها مما أدى إلى إشتعال وجهها من الخجل.
هبَّ من مكانه فجأةً وأمسك بيدها ليجذبها معه دون أن يتحدث بكلمة واحدة، سألته بصوت خفيض مُتحشرج من أثر البكاء: واخدني على فين؟
أجابها بحماس وهو ينظر لها: تعالي شوفي جبتلك حاجة حلوة.
احتلت الحماسة منها وذهبت معه بسرعة، حتى دلفا إلى غرفة غير تلك التي كانت تقطن بها، وجدت حقائب كبيرة بلاستيكية مُغلفة، فجلست هي على الفراش وهو جلس بجانبها ثم بدأ بفتح أحد الأكياس بحماس، أخرج من الحقيبة الأولى الكثير والكثير من الطعام والعُلب المُغلفة وزجاجات من الصودا الغازية، وأمسك بالحقيبة الأخرى والتي كانت تصغرها بكثير وقام بفتحها، لينتشل منها قطع المارشميلو ومربعات الشيكولاتة الفاخرة التي تعشقها هي، وضع كل ذلك على قدمها ثم رفع أنظارها يسألها بترقب وحماس: ها إيه رأيك عجبوكِ.
كانت تشعر بالسعادة تغزوها من أولها لآخرها، لقد جلب لها كل شيء تحبه دون أن يُفوت أي شيء، أكياس البطاطش المُقرمشة، والقهوة والنسكافيه، وقطع الحلوى بالبندق المُفضلة لها، وكذلك بعض التسالي كاللب والسوداني وغيرها، صرخت بحماس عندما وجدت ضالتها قائلة بسعادة جلية: الله سحلب؟
أومأ لها بتأكيد وابتسامته تتسع تلقائيًا عندما يرى سعادتها من أقل الأشياء، قفزت بحماسة عندما استمعت إلى صوت السماء تصدر صوتًا عاليًا، فاستدارت له قائلة بوجه صافي ونقي: الله بجد! الجو بيمطر، ومعانا سحلب ولب وشيبسي، فاضل بس نتفرج على فيلم رعب وهيكون دا أحسن يوم في حياتي كلها.
وقف صهيب من مكانه ثم غمزها قائلًا بمشاكسة: ومنعملش كدا ليه! يلا يا حبيبتي روحي اعملي أنتِ السحلب وأنا هجيب البطانية وأجهز اللب والشيبسي والفيلم الرعب اللي أنتِ عايزاه كمان.
أومأت له بسعادة ثم انتشلت بودرة السحلب من على الفراش وسارت عدة خطوات إلى المطبخ، لكنها توقفت واستدارت له ناظرة إليه بعمق، فتح فمه ليسألها عن سبب توقفها؛ لكنها فاجئته عندما عادت له مُجددًا مُحتضنة إياه بقوة، ثم همست له بإمتنان: شكرًا أوي. شكرًا بجد.
قالت جملتها ثم ابتعدت عنه وخرجت من الغرفة بخجل وصدمة مما فعلته، بينما تركته هو بعد أن بعثرت له مشاعره من ذلك العناق اللطيف، ازدادت ابتسامته وهو يحتضن كيس المقرمشات قائلًا ب وَله: يخرابي عليها وعلى جمالها يا ولااااد.
حمحم بجدية بعد أن انتبه للوضع المُضحك الذي وُضِع به الآن، ثم حمل اللحاف بيد وباليد الأخرى أمسك بالمقرمشات والتسالي وخرج بهم إلى غرفة المعيشة حيث يوجد التلفاز، وضع الحقائب على الطاولة وأفرغهم في أطباق من الزجاج المُزخرف، وقام بفرد الفراش على الأريكة الواسعة، وبعدها قام بجذب جهاز التحكم وظل يُقلب في القنوات حتى توقف على أحد الأفلام الأجنبية المُمتعة وجلس ينتظرها.
بعد دقائق قليلة. جاءت إليه وهي تحمل كوبين من مشروب السحلب الساخن، وضعت الصينية على الطاولة ثم جلست جانبه على الأريكة مُتحاشية النظر إليه، فهي ما تزال تخجل من فكرة وجودها وحدها بجانبه، بل وزوجته أيضًا.
قاطع شرودها عندما جذبها له لتُصبح محاصرة بين أحضانه، ذراعه مُلتف حول كتفها وبعدها وضع اللحاف الثقيل فوق جسد كليهما ليبثهما بالدفيء، ابتلعت ريقها بحرج شديد واغمضت عيناها تُحاول الحفاظ على ثباتها الواهي الذي يُبعثره هو بثوانٍ، شعرت بأنفاسه الساخنة تلفح بشرة عنقها، تبعه قوله الهامس: افتحي عنيكِ واتفرجي على الفيلم.
فتحت عيناها فوجدته قريب منها حد اللعنة مما زاد من توترها، قرر التخفيف عنها قليلًا فانحنى للإمام منتشلًا المشروب الساخن ثم أعطاه لها قبل أن يبرد، وبعدها أخذ خاصته وبدأ في إرتشافه هو الآخر.
وانقضت ليلتهم الأولى معًا في جو هاديء مليء بالحب والأُلفة، مشروبٌ ساخن، تسالي رائعة، فيلمًا مُمتعًا، وأخيرًا غطاءً يُحيط بأجسادهم الباردة لمنحهم الدفيء.
انقضى اليوم الآخر بهدوء كذلك، حتى أسدل الليل ستاره، وتجلببت السماءُ بجلبابٍ كثيفٍ من الظُلمة، وجاء اليوم المُنتظر.
تجمع الجميع بمكان فارغ أشبه بالصحراء يقفون كدائرة كبيرة، حيث كان يوجد قاسم، صهيب، رائد، فور، جون، يحيى، أهلة، يمنى، وأخيرًا ملك، الجميع يرتدي ثيابًا سوداء تُماثل الظلام من حولهم، عدا ذلك الضوء الساطع من مصابيح سيارتهم، هُنا وتحدث قاسم بجدية موجهًا حديثه ل أهلة: أهلة نفذتي اللي اتفقنا عليه؟
أومأت له بنعم مُجيبة إياه بثقة: أيوا. كلها نُص ساعة بالكتير والخبر هيتنشر والدنيا هتقوم بعدها.
وجَّه بعدها حديثه ل ملك متسائلًا بترقب: وأنتِ يا ملك عرفتي حاجة؟
أجابته بثقة: أيوا طبعًا يا أبيه، أنس الأرماني وأبوه جايين على طيارة الساعة واحدة النهاردة، يعني كلها ساعة وهيكونوا موجودين في مصر.
في البداية كز قاسم على أسنانه بغيظ، لكنه ابتسم بخبث عندما استمع لبقية حديثها مُتمتمًا بشر: كدا تمام أوي.
تحدث چون تلقائيًا مُوجهًا حديثه ل قاسم: وأنا قُمتُ بتهكير شركة الأرماني للأغذية، كذلك قد كشفتُ عن كل الصفقات الغير مشروعة التي قاموا بها ومعي منها نُسخة أصلية.
ربت قاسم على كتفه بفخر قائلًا: راجل.
تدخل يحيى في الحديث متشدقًا: وأنا هسهل دخولكم لشركة الأرماني وهنيم الأمن الموجودين فيها عشان يبقى سهل علينا الدخول والخروج.
وطبعًا مش محتاج أقولكم إن وجودي مهم بما إني ظابط هسهل ليكم الموضوع وحاطط الرجالة بتوعي على مسافة بعيدة من هنا عشان لو فيه أي عوق ولا حاجة.
أردف بها صهيب بثقة، وبعدها تمتمت يمنى بتخطيط: وأنا اللي هدخل ل مختار الأرماني المكتب بتاعه.
وأنا جائع يا رِفاق!
تأفف الجميع ليقول قاسم بنفاذ صبر: فيه ساندوتش جبنة في العربية خُده يا فور واسكت الله يكرمك.
بدأ الجميع في تنفيذ الخطة، جلست كُلًا من ملك وأهلة يراقبون الوضع بكاميرات المُراقبة التي قاموا بزرعها، بينما يمنى اتجهت نحو مدخل الشركة الرئيسي لمقابلة مختار الأرماني في مكتبه الشخصي، وعلى بُعدٍ قريبٌ منهم جلس چون داخل سيارته الخاصة وبجانبه صهيب يُراقبون الوضع بأكمله، و يحيى ذهب للأمن ليسهل الطريق على يمنى بالدلوف، أعطاهم كوبين من الشاي وهم أخذوه منهم لأنهم يعرفونه حق المعرفة، وبعد دقيقتين وقع الحارسان أرضًا، فدلفت يمنى مُهرولة للداخل، وجاء كلًا من قاسم وفور وأخذا الحارسان بعيدًا عن المكان، بينما چون قام بتعطيل كاميرات المُراقبة ببراعة.
وفي السيارة. هاتفت ملك المدعو أنس وبجانبها أهلة التي تُحدجها بعدم رضا، لم تهتم ملك لها كثيرًا، بل أكملت حديثها قائلة برقة: وحشتني يا أنس، كل دا في المطار؟
انتظرت قليلًا حتى هتفت بجزع: إيه! وصلت مصر! لا. لا طبعًا فرحانة بس اتصدمت شوية، مش أنت قولت إن هتيجي هنا على الساعة واحدة، آه طبعًا مفاجأة روعة، طب سلام بقى عشان ماما بتنادي عليا.
بينما وضعت أهلة يدها فوق رأسها مُتمتمة مع ذاتها بصدمة: يا نهار أبيض يعني إيه وصل مصر!
ردت عليها ملك بجزع: معرفش. معرفش. هو قالي إمبارح إنه هيجي الساعة واحدة. قالي هينزل على الشركة على طول.
انتفضت أهلة من مكانها والتي هتفت بهلع: يعني قدامه نص ساعة ويكون موجود هنا صح؟
أكدت عليها ملك حديثها وهي توميء بنعم وإمارات الخوف والهلع مُرتسمة على وجهها، بينما وجهت أهلة أبصارها تجاه الشركة الموجودة على مرمى بصرها، وكل ما يُشغلها هو وجود شقيقتها في الداخل وحدها مع مختار الأرماني؟
أخرجت أهلة هاتفها من جيب بنطالها طالبة رقم قاسم على عجالة، لكن لسوء حظها هو لا يُجيب، حاولت جاهدة مرة واثنان وثلاثة لكن كانت تأتيها نفس النتيجة، هو لا يُجيب!
وبالداخل. دلف قاسم من الباب الخلفي للشركة ومعه فور، أخرجا أسلحتهما والتي يُحيطها مانع الصوت، التفت قاسم على بغتة عندما شاهد ظل ثلاثة رجال يأتون نحوهم، لكن تكفل بهم هو و فور حيث أطلقوا الرصاصات على رؤسهم، أكملوا البحث عن ضالتهم فوجدوا ذاتهم داخل مكان مظلم يُشبه المُستودع، كاد فور أن يتحدث؛ لكن أوقفه قاسم الذي نظر حوله هامسًا بريبة: ششش. دا كمين.
سار كلاهما على مهل وبطئ، وأعينهم تدور في كل ذَرة في المكان، لمح فور طيف يأتي من خلف أحد الجدران، ليُشير ل قاسم دون التحدث، انتبه قاسم على ما يقصده وبالفعل وجد ظلين لرجلين ضخمين الجثة، اقتربا على مهل، وهم يرفعان أسلحتهم أمام وجوههم، خرج الآخران من خلف الجدران وكادوا أن يُطلقا، لكن سبقهم كلًا من قاسم وفور وأطلقا عدة طلقات على صدورهم.
شعر قاسم بإهتزاز في جيب بنطاله للمرة العاشرة تقريبًا لكنه لم يُبالي في البداية، ومع تكرار الرنين أجاب بسرعة عندما وجد اسم أهلة يُزين شاشة هاتفه: ألو!
جاءه صوت أهلة المُرتعب وهي تقول بهلع: قاسم أنت مبتردش ليه؟ أنس الأرماني ربع ساعة بالكتير وهيكون عندكوا.
نعم ياختي؟
أجابها بتلقائية، لتؤكد أهلة على حديثها قائلة بأنفاس لاهثة: يمنى يا قاسم، هات يمنى وأخرج من الشركة بسرعة، شكله كمين.
حكَّ قاسم وجهه بعنف قائلًا بإختصار وهو يُغلق معها: تمام. سلام أنتِ دلوقتي.
أغلق معها الهاتف وهرول لمدخل الشركة وبالفعل لم يجد أي رجال موجودة غير الأربعة الذين قاموا بقتلهم! إذًا هناك خطة دنيئة حيكت جيدًا عليهم، هناك خائن؟
صعد قاسم درج الشركة مُسرعًا وخلفه فور الذي لم يفقه أي شيء حتى الآن، وكل ما كان يشغل عقله الآن هو إنقاذ يمنى من براثن مختار الأرماني الآن.
وصل إلى الردهة الموجود به مكتبه، فأسرع راكضًا نحو الباب وقام بفتحه، وهُنا وقف مُتصنمًا، لا وجود ل مختار الأرماني ولا حتى يمنى! والمعنى لذلك هو أنهم قاموا بإختطافها، لقد تم إختطاف يمنى؟