رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الحادي والأربعون
تلك المشاعر المُنبثقة بصدقٍ من الفؤاد ما هي إلا رياحٍ من الحب تُذبذب الجسد، شخصٌ يَعِد ويَفي بوعوده، والرجال هُم مَن يَفوا بالعهود، أحيانًا تأتي مرحلة بالغة في الخطورة تُسمى تبجيل الحُب، وإن لم يكن الحب مُبجلًا صادقًا؛ فلا نريده، الأمر أشبه بنسماتٍ من الهواء العليل الذي يلفح أنسجة وجهك ليُعيده للحياة، وما تسير الحياة إلا بشريكٍ يُدعى شريك الروح.
بحس إني مش مرغوبة.
غريبة، مع إن قلبي راغبك!
هتبعد؟
كان على عيني، بس قلبي المُغفل حَبِّك.
صُعِقت مما استمعت إليه في ذروة حُزنها، ورغم آلامها التي تطفو على محياها شعرت بشروخٍ داخلها تُرَمم تلقائيًا، بضعة كلماتٍ كان لها أثرًا كالبلسم يُربت على جروحها بحنانٍ لتلتئم، ومع ذلك، ابتلعت ريقها بصدمة مُرددة:
إيه؟
ولم يصدر منه سوى ابتسامة صغيرة زيَّنت محياه عقب رؤيته لردة فعلها، ليقترب منها خطوتان بعد أن وقفت بصدمة وابتعدت عنه حتى بات يقف أمامها مُباشرةً، فقام برفع كفيه ليُحاوط به وجهها بحنان أثناء همسه العاشق لها بكلمةٍ واحدة أكدت لها حدسها:
بحبك.
سرت القشعريرة في أنحاء جسدها خيفةً من أن يكون ما استمعت إليه خيال من عقلها الباطن، لكنه لم يرأف بحالتها المسكينة تلك، بل أكمل حديثه بأعين مُلتمعة لم يستطيع مُداراتها:
أنا كنت بخاف من الحبُ وحُزنه وجرحه، ودلوقتي أنا مستعد أدوق وجع الحب بس يكون معاكِ أنتِ.
قاسم!
همسة خافتة خرجت منها بألمٍ، ليستند على جبينها وهو يُجيبها بعاطفة جياشة: حياته كلها.
ردت عليه بنبرة أشبه إلى البكاء ولكنها لم تبكي: مش هينفع.
قطب جبينه بتعجب فابتعد قليلًا برأسه وهو يقول باستغراب: هو إيه اللي مش هينفع؟
تلك المرة بادرت هي بالابتعاد عن مُحيط جسده، فوقفت أمامه مُتحدثة برفضٍ وملامح الضعف مُرتسمة ببراعة على وجهها: مش هينفع تحبني، أنا نار بتحرق كل اللي حواليا، مش عايزة ناري تطولك.
آلمه وجعها وكم يعز عليه حُزنها! تحول وجهه للحنان ثم اقترب منها على بغتة ليُحاصرها بين ذراعيه مُدخلًا إياها على بغتة بين أحضانه، ثم همس لها قائلًا أثناء تشديده من عناقها: لو حُبك نار هتحرقني، فأهلًا بجحيم حضنك.
تلك الجُملة كان قد سمعها من أحد الشعراء، وتلك الجملة تحديدًا هي ما علقت بذهنه، لم يكن ليتوقع أن يتفوه بها بيومٍ من الأيام، بل لم يكن يتوقع من الأساس أن يركع فؤاده للحب، لكن كل شيء خرج من تحت سيطرته، حتى فؤاده ثار وهاج وأحبها رغم أنف الجميع.
كان يتوقع منها نبذًا أو سخطًا، لكنه وجدها تلف ذراعيها حول خصره تدفن جسدها داخل خاصته، تطلب منه بطريقة غير مباشرة أن يخفيها عن العالم بأكمله، أن يرفق بقلبها ولا يقوم بأذيته كيفما فعل الجميع، هي من الخارج فتاة قوية شامخة، لكن ها هي تلك! فتاة هشة ضعيفة تخاف الفراق والوحدة، تخاف الانعزال والبكاء، وعلى ذِكر سيرة البكاء فهي من الأساس لا تبكي.
دفن رأسه داخل خصلاتها المُلملمة لبعض قطراتِ الندى أثناء قوله المُحِب: قوليلي حاسة بإيه دلوقتي يا أهلة؟
هزت رأسها بالنفي وهي تُجيبه: مش عارفة، حاسة إني تايهة.
وإيه اللي متوهك؟ إيه اللي شاغل بالك؟ احكيلي وارمي همك على كتفي أنا، شوفي إذا كنت هعرف أخفف عنك ولا لأ.
قالها بعد أن أنهكه تعبها ووجعها، ذلك الضعف الذي يحتل صوتها يُهلِك من روحه ويُعذبها، لا يعلم متى وقع بها، لا يعلم متى عشقها، لا يعلم متى تخللت لأوردته لتحتل كيانه بأكمله، كل ما يعلمه هو أنه أصبح سجينًا لهواها، أسيرًا لعيناها، وخاضعًا لمحياها.
وهُنا صعدت الإجابة منها بعد برهة من الصمت: مش عايزة أحكي دلوقتي، مش جاهزة صدقني وقلبي مش هيستحمل.
قبَّل رأسها من الأعلى قائلًا جُملة باتت مُلازمة له دائمًا: سلامة قلبك.
ارتسمت ابتسامة صغيرة على ثُغرها لكن لسوء حظه لم يراها، ليقول بعدها بنبرة حانية مُشاكسة بعض الشيء وهو يبتعد عنها بضعة خطوات وهو يفتح ذراعيه بمرح: عرض مش هيتكرر تاني يا هولا، شُبيك لُبيك. قاسم بين إيديك، ليكِ 3 أمنيات هيتحققوا حالًا سينيوريتا أهلة.
علت الضحكة تُضيء وجه أهلة مُجددًا، لتقول بدهشة: إيه الجنان دا يا قاسم؟
غمزها قاسم بمشاكسة: الوقت يضيع سيدة أهلة، أرجو منكِ الإسراع رجاءً.
رفعت أهلة أنظارها للأعلى تُفكِر في عرضه الأكثر من مُغري، وبعد ثوانٍ من التفكير نظرت إليه مُجددًا مُتحدثة برجاء يشوبه الحنين: متسبنيش.
رد عليها غامزًا: لكِ هذا يا كُل فؤادي.
فكرت مرة أخرى لتتشدق بعدها بنبرة مُترددة قليلًا: مخبية عليك أسرار كتير، متزعلش مني لما تعرفها.
أجابها بحنان: وهل تحزن السماء من القمر؟
ابتلعت ريقها تُحاول أن تُوازي حنانه الذي يُغدقها بها، فأكملت طلبها الثالث وهي تقترب منه: اعملِّي محشي ورق عنب عشان نفسي فيه.
ضحك بصخبٍ فاختصر المسافة مُتقدمًا منها يحتضنها بحب: أوامركِ واجبة التنفيذ يا مُخضعة فؤادي.
تنفست هي براحة بين أحضانه وكأنها وجدت ملاذًا بعد تشردها، رفعت أنظارها تُطالعه عن كُثب وهي تقول بمشاكسة: لأ بس أنت شاطر في الشِعر والغزل وحاجة آخر عظمة من الآخر.
ضحك بخفة على حديثها فسحبها معه نحو الصخور ليجلسا معًا عليها أثناء قوله المُمازح: أول حاج تعالي نقعد عشان أنا صحتي على قدي.
قهقهت بشدة فأدارها لتستند بظهرها على صدره وقدميها مُرفوعتان بموازاة جسدها تستند على الصخور الأخرى، وهو خلفها يسند جسدها وأعيُنهم ترى مشهد المدينة المُنيرة بأكملها في مشهد قابض للأنفاس.
رفعت رأسها للأعلى تُطالع عيناه عندما طال صمته، فقالت بحنق: مجاوبتنيش ليه.
نسيت.
قالها ببراءة لتلوي شفتيها ساخطة ثم عادت بنظرها نحو الفراغ الذي أمامها، اتسعت ابتسامته على فعلتها فهبط بوجهه مُستندًا بذقنه على كتفها قائلًا: كنت بحضر ندورات شِعر كتير لما كنت باخد إجازة، دا غير إني كنت في وقت ما كنت بحس إني لوحدي كنت بكتب اللي حاسس بيه بس بكلمات عميقة شويتين تلاتة، دا غير إني كنت بحب اللغة العربية أوي وأنا صُغير.
ردت عليه بحماس هي الأخرى: وأنا كمان كنت بحب العربي أوي.
التوت شفتي قاسم بحسرة وهو يقول: بس للأسف كنت فاشل في النحو، دا أنا لحد دلوقتي مش بعرف أعرب.
علت ضحكات أهلة بصخبٍ ليُشاركها قاسم في ذلك، لتُسيطر أهلة على ذاتها وهي تقول بشغب: طب ما تسمعنا حاجة كدا ولا كدا على ذوقك.
هز قاسم رأسه بالنفي وهو يقول: لأ مش دلوقتي لما يجي الوقت المُناسب، أنتِ مينفعش فيكِ بيت شِعر ولا اتنين، أنا لو عليا أكتبلك قصيدة كاملة.
طالعته أهلة بنظراتٍ مُلتمعة مُمتنة، لو ظلت حياتها تشكره على معروفه معها لن تنتهي، أخفضت رأسها ناظرة للأمام حيث المناظر الطبيعية وعلى ثُغرها ترتسم عريضة، كانت منذ قليل تأن بألم، والآن تشعر بالسعادة تختلج جسدها بشراسة في وجوده، شعرت بقُبلة صغيرة تُطبع أعلى رأسها فسرى الاطمئنان بأوردتها، وفي ذلك لم تجد ما تقول سوى أنها تمتمت قائلة بهمس:
الحمد لله.
مرَّ أسبوعٌ كامل لم يحدث به أي شيء جديد، سوى أن الشباب أوقفوا انتقامهم لأيامٍ معدودة حتى يستطيع وليد بمهارته أن يرفع شك مختار عن قاسم وصهيب.
بينما الطبيب مايكل أخبر قاسم أن يُبطيء قليلًا في رحلة علاج أهلة حتى لا يشهدوا انهيارًا عظيمًا منها يؤدي إلى انتكاستها، وبالطبع وافق قاسم مُسرعًا طالما أنها ستكون بخير.
و حياة كما هي بالمشفى، حالتها مُستقرة ولم يجدوا أي تطورًا سيئًا قد يدعو للقلق، هي فقط مسألة وقت وتستفيق تدريجيًا.
و لوسيندا مازالت تقبع بغرفة چون الذي لم يستيقظ حتى الآن، حالته جيدة لكن يبدو أن حالته النفسية سيئة فهرب من واقعه بغيبوبته المؤقتة كما أخبرهم قاسم بذلك، والذي كان مُشرفًا على حالته في الفترة الأخيرة.
ازداد حقد الستة أبناء تجاه والدتهم وزوجها، خاصةً عندما توصلوا إلى الفاعل، والذي لم يكن سوى ذلك الحقير عشيق والدتهم مُحاولًا تحذيرهم بطريقة غير مُباشرة، لكنه لم يفعل شيئًا إلا أنه زاد من غضب هؤلاء الوحوش الذين عزموا على تدميره كُليًا، لكن ينتظرون فقط استيقاظ شقيقهم حتى يأخذ بثأره معهم ويرى تدميره بعينه.
الفتيات يُحاولن بشتى الطُرق أن يُخرجن لوسيندا من قوقعة حزنها التي دفنت ذاتها بها بعد ما حدث لزوجها الحبيب، لكنهم فشلوا في ذلك، فروح لوسيندا مُتعلقة ب چون كالغِراء، ورؤيته بذلك المظهر مؤلم لقلبها وبشدة.
بينما فور بدأ بالبحث أكثر عن الدين الإسلامي!
صعد آلبرت للطابق الموجود به غُرفة أخيه چون، وما كاد أن يرفع يده ليطرق على باب غرفته حتى وجد باب الغرفة يُفتح ويخرج منه فور بمعالم حزينة وأعين حمراء بشدة تعكس ما كان يفعله منذ قليل.
طالعه آلبرت الذي اقترب منه بحنان ثم عانقه دون أن يتحدث بكلمةٍ واحدة، شدد فور من عناقه بشدة أثناء محاولته لإبتلاع تلك الغصة المؤلمة التي علقت بجوفه، ليستمع إلى صوت آلبرت يواسيه بحنان: سيكون بخير أقسم لك، لا تخف عزيزي.
ابتلع فور ريقه بصعوبة قائلًا بصوتٍ مرتعش: لستُ خائفًا عليه، لقد استعار مني عشرة دولارات أخشى أن يموت قبل أن يُسددهم لي.
ارتسمت ابتسامة مُتألمة على ثُغر آلبرت الذي يعلم كل العلم بمحاولة أخيه في تخفيف ألمه، لكن لم تمر سوى ثواني معدودة حتى وجده ينفجر في البكاء قائلًا بشهقاتٍ عالية:
أنا خائف عليه بشدة يا أخي، أُقسِم أن أموت خلفه إن حدث له شيء.
أغمض آلبرت عيناه بغضبٍ جامح وحقدٍ يزداد تجاه والدته لإيصال أشقائه لتلك الحالة من البؤس، شدد من احتضانه لأخيه قائلًا وهو يُربت على ظهره:.
لن يموت عزيزي فور، لقد أخبرني قاسم بأن حالته أكثر من جيدة، هي فقط مسألة وقت.
وما كان من فور سوى أنه تمتم بألمٍ وقلبٍ مُتصدع بقشوعٍ عميقة: أنا أكرهها أخي، أكرهها هي وعشيقها النكرة، أقسم إن حدث شيء لأخي سأقتلها بيدي.
تمتم آلبرت بنبرة غامضة: سنقلتهم أخي لا تقلق، لكن أولًا أريد رؤيتهم وهم يتعذبون كالحيوانات أمامي.
صمت فور بعجزٍ ولم يجد ما يُضيفه من الحديث، يشعر أن فؤاده يبكي كمدًا حُزنًا على توأمه الحبيب، لطالما كان چون هو روحه الأخرى وعيناه المُنيرة له في الظلام، خرج من أحضان آلبرت بعدما أخذ كفايته من الحنان لجعله يُكمِل ما سعى خلفه طويلًا، وبعدها رسم ابتسامة مُمتنة على وجهه وهو يقول: شُكرًا لوجودك جانبنا أخي، شكرًا لك حقًا.
ضربه آلبرت بمزاحٍ على صدره وهو يقول: إن أردت شُكري حقًا فاترك لي طعامًا بدلًا من أكله يا مُغفل.
مسح فور دموعه ثم فكَّر بجدية شديدة أدهشت آلبرت الذي طالعه بعدم تصديق، وبعد صمته لعدة ثواني تحدث قائلًا بشفقة: أعدك أن أترك لك قدم الدجاجة المرة المُقبلة، لقد أثرت شفقتي حقًا.
لوى آلبرت شفتيه بسخرية مُجيبًا إياه: أوووه شكرًا على كرمك عزيزي فور، لولاك لكنت مِتُ جوعًا أقسم.
أجابه فور بحنان وهو يُربت على كتفه قبل أن يذهب: لا شُكر بيننا، أنت شقيقي يا فتى علام تشكرني؟
تشنج وجه آلبرت أثناء مُتابعته لرحيل شقيقه الذي كان يتحدث بجدية بالغة، هل حقًا سيترك له قدم دجاجة فقط رفقًا به!
هز رأسه وهو يبتسم بيأس ثم عدَّل من ثيابه واتجه نحو الداخل حيث يقبع شقيقه العزيز، أغلق الباب خلفه قبل أن يسير نحو الفراش ويجلس على المقعد المُقابل لجسد چون المُوصل بالكثير من الأسلاك والأجهزة، ابتلع آلبرت غصته المؤلمة تباع رؤيته لأخيه بهذا الشكل المؤلم لفؤاده، وببطئٍ شديد مدَّ كفه ليُمسك بخاصته بحنانٍ بالغ قبل أن يرفعه ويُقبله بود.
وعقب فعلته ابتسم آلبرت باشتياق أثناء تمتمته الضاحكة بقوله: هل تتذكر تلك الفِعلة چون؟ لطالما كنت تخجل حينما أُمسِك بكف يدك وأُقبله بحنان، كنت كصغيري الخجول ومازلت.
هبطت دمعة حارقة على وجهه عقب تذكره لأيام طفولتهم الجميلة، وبعدها ابتسم ضاحكًا وهو يقول: كنت أكثرنا خجلًا و فور أكثرنا فجعًا، لك أن تتخيل أنه استمع لحديثي هذا؟ سيأتي ويُوبخنا معًا.
أنهى حديثه وهو يضحك لكن عيناه تأبى الضحك مُسقطة دموعًا كثيفة، ارتعشت شفتي آلبرت ببكاء قبل أن يرجوه بقوله: استيقظ أخي وكفى هُراءً، أتُعجبكَ حالتنا تلك؟ نحن بدونك لا شيء، لقد وُلدنا سبعة وسنظل حتى الممات، لا يُمكنك فعل هذا بنا.
في تلك الأثناء كان فور قد عاد مُجددًا لأخذ مفاتيح سيارته، وبدون قصدٍ استمع لبكاء شقيقه ولكلماته الحزينة، لتهبط دموعه كالشلالات أثناء استناده بجبينه على باب الغرفة، وقف يُتابع انحناء رأس آلبرت مُجددًا يُقبِّل يد چون بحنان، فهمس حاقدًا:
فلتذهبي إلى الجحيم إيلينا أنتِ وعشيقك الحقير.
قالها ثم ابتعد عن الغُرفة مُسرعًا مُتجهًا نحو غُرفته يُغلقها عليه قبل أن يُمسِك بالفازة الزجاجية ضاربًا إياها في الحائط بكل قوته، ارتفع صدره هبوطًا وصعودًا تزامنًا مع تصاعد درجة حرارته بقوة نتيجةٍ لغضبه، لا يعلم ما يمكن فعله حتى يُخمد النيران المُشتعلة بداخله، يود قتل شخص ما لإفراغ شُحناته السلبية، دائمًا ما كان العنف آخر همه، لكن الآن. يشعر بطاقة عنيفة تقبع داخله.
جلس على الفراش وكتفيه مُتهدلان بيأسٍ عارم، ليهبط تدريجيًا ليجلس على الأرض الباردة الصلبة وعيناه غائمتان بحزنٍ يظهر للعِيان، أعاد رأسه للخلف أثناء إغماضه لعينيه قائلًا بصوتٍ حمل تعب الكون بأكمله:
لِمَ فعلتِ هذا بنا إيلينا؟ نحن لا نستحق ذلك، أُقسِم نحن لا نستحق.
وقبل أن تبتلعه موجة أحزانه التي غرق بها منذ أسبوعٍ تقريبًا؛ استمع إلى صوت إشعار يأتي من هاتفه، كان الهاتف يقبع على الكومود الماثل بجانبه مُباشرةً، لذلك مد يده بلامبالاة ثم قام بفتح الرسالة عندما رأى أن الراسل هو صديقه رائد، وللعجب كان قد أرسل إليه روابط عديدة لفيديوهات غبية بعض الشيء! ليقرأها فور بتعجب وهو يقطب جبينه بعدم فهم:
انظر سبحان الله! رجل يتحول إلى ضفدعة لأنه لم يتزوج حبيبته.
وفيديو آخر بعنوان: ديكٌ لا يَكُف عن الصياح، وعند الكشف عن الأمر ظهر بأنه رجل تم سخطه ليتحول إلى ديكٍ دائم الصياح بسبب حبيبته.
وآخر يُماثلهم: شاب يتحول إلى طائرة تصطدم في السحاب؛ فتنفجر، لأن حبيبته قد دعت عليه في ليلة مُمطرة عِند عدم الزواج منها.
قطب فور جبينه بتعجب وهو يتسائل مع ذاته بغباء: هل تصطدم الطائرات في السحاب حقًا!
فقط هكذا؟ ترك كل شيء وهذا ما لفت انتباهه لا أكثر؟
نظر فور للعناوين مُجددًا حتى انتفض من مكانه مستوعبًا الأمر أخيرًا، ليبتلع ريقه بريبة وهو يقول بهمس: يا ويلي؟ هل من الممكن أن أتحول إلى ديكٍ حقًا؟
صمت قليلًا ليتحدث بعدها حانقًا: لكنني لا أُحِب الديوك، أُفضِّل التحول إلى عِنزة تأكل ليل نهار بدلًا من ديكٍ دائم الصياح.
وقف من مجلسه ثم اعتدل مُتربعًا على فراشه بعد أن خلع حذائه، وبترددٍ واضح قام بإرسال رسالة قصيرة إلى سهيلة يسألها بريبة: هايلة هل يمكنني السؤال عن شيء؟
في تلك الأثناء، كان هاتف سهيلة قابعًا بين يديّ رائد الذي ما إن رأى رسالة فور حتى ابتسم بانتصارٍ شديد، وبأصابع مَرنة دوَّن: بالطبع أخي فور.
اهتز الهاتف بين يديّ فور يُعلمه بوصول رسالة له منها، فكَّر قليلًا في ما يُريد سؤاله عنه، يشعر بالضيق لظنه بأنه يخون صديقه، ورغم ذلك سأل بتردد: هل. هل تُحبينني؟
كانت سهيلة تجلس بجانب أخيها تشعر بالبرودة تسري بأوردتها، طالعها رائد بحاجبين مرفوعين وهو يستدير برأسه لها مُغتاظًا: بيقولك بتحبيني؟ والله لو كان قدامي لكنت كسرت دماغه، آه يا ناري.
همس بالأخيرة بضجر وشقيقته تُطالعه باستنكار، وما كادت أن ترد عليه حتى استمعا إلى صوت إشعار رسالة أخرى منه مُدون بها: أنا أسف. أعتذر حقًا على سؤالي هذا، لكن أريد إجابة واحدة، وبعدها أُقسِم لكِ بألا أُحادثكِ مرة أخرى.
هدأ غضب رائد قليلًا ونظر لشقيقته التي تنظر للرسالة بحنانٍ شديد، تكاد تُقسم بأنه كتب تلك الرسالة وعيناه مُمتلئة بكل كلمات الاعتذار كطفلٍ صغير يشعر بالذنب، وفي تلك اللحظة انتشلت الهاتف من يدِ أخيها تكتب له بكلِ الحب:
إن كان القادم من عمري معك؛ فعُمري بأكمله لك.
كان فور ينتظر إشعار رسالتها بنفاذِ صبر ونيرانٍ كادت أن تحرقه، حتى ظهرت له رسالتها التي جعلته يقفز من مكانه صارخًا بسعادة جليَّة، شعر بالرؤية تتشوش داخل عيناه بسبب تلك الدموع التي تكونت لاإردايًا، فأمسك بالهاتف جيدًا بين أنامله المُرتعشة كاتبًا:
فهنيًا لي بعمرك، وهنيئًا لقلبي بكِ.
كتب تلك الكلمات ثم قفز بجنونٍ واندهاش، لكنه توقف عن القفز بسعادة هاتفًا بصدمة واضحة عندما أرشده عقله إلى نُقطة سوداء: تبًا! هل هذا يعني أني سأتحول إلى ديك دائم الصياح إن لم أتزوج بها؟
وعلى الناحية الأخرى، هجم رائد على سهيلة يجذبها من خصلاتها وهو يهتف بغيظ: هو أنتِ يا بت محدش مالي عينك؟ أباجورة أنا جنبك يا اللي تنشكي في جنابك؟
تأوهت سهيلة بقوة ثم دفعته مُبعدة إياه عنها وهي تهتف بحنق: يوه بقى يا رائد سيب شعري يا جدع.
ترك رائد خصلاتها فأمسك بها من أُذنها بدلًا من ذلك وصاح باستنكار: سيرة فور لو جت على لسانك دا هقطعهولك، سامعة يابت أنتِ ولا لأ؟
التوى ثُغر الأخرى بسخرية أثناء تمتمتها الساخطة: ما أنت فِضِلت تقولي متقلقيش، هحللك الموضوع، حُطي في بطنك بطيخة صيفي، وأنت رايح تعملي لينكات لفيديوهات هبلة عشان تخوفه بيها!
دفعها على الفراش بعيدًا عنه وهو يُشيح بيده أمام وجهها: متعرفيش أنتِ الفيديوهات دي هتعمل فيه إيه.
هبت من مكانها مُتخصرة من مكانها وهي تقول: وهتعمل إيه يا عين أمك؟ هو إيه شاب يتحول إلى ديك لأنه لم يتزوج حبيبته؟ إيه حبيبته كانت من أولياء الله الصالحين؟
جعد رائد جبينه بضيق من سخريتها الواضحة على مجهوداته العظيمة، ليدفعها مرة أخرى من وجهها لترتمي على الفراش من خلفها وهو يُصيح حانقًا:.
ابعدي عن خِلقتي يا بومة يا وِش الفقر أنتِ، ما البعيدة لو كانت حَبَّت كائن من فصيلتها كُنا هنقول ماشي، لكن راحة تحبيلي واحد لو اتقلبتلكوا قرد أو شمبانزي مش هعرف أجوزكوا غير ما يأسلم.
قال كلماته الحانقة ثم اتجه نحو الخارج بعد أن دفعها بالوسادة في وجهها، صرخت سهيلة بغيظ من عُنفه الغير مُبرر معها بالمرة صائحة بصراخٍ بعد أن ترك الغرفة بأكملها وذهب: وهو أنا عملت إيه يعني؟ مش بمزاجي يا شوية أوباش.
هبط آلبرت من غرفة أخيه بعد أن تحدث بما يجيش به صدره، كان على أول درجات السُلَم فوجد أخواته الأربعة يصعدون الدرج بسرعة كأنهم مُجندين على وشك الهجوم، مما جعله يقطب جبينه بتعجب فتسائل باستغراب: إلى أين تذهبون؟
أجابه إيغور ببساطة: ل چون.
احتل النُكران وجه آلبرت الذي أشار لهم بسبابته وهو يقول بتشنج: مَن يراكم يظن بأنكم ذاهبون للانتقام، ليس لزيارة مريض.
رد عليه آندريه ببراءة: وماذا فعلنا نحن؟
أيده ليونيد وهو يُمصمص على شفتيه كما تعلم من العجائز وهو يقول: أخبره يا أخي، يظننا همجيين!
نظر لهم ستيفن قائلًا باغتياظ: قُلت لكم بأن أصعد له أولًا، لكنكم حمقى أوغاد.
كان آلبرت يُتابع حديثهم ببرود أثناء وضعه لكفيه داخل جيب بنطاله، وحين انتهوا أمرهم بثباتٍ مُشيرًا للخلف: إلى الأسفل.
وكاد الأربعة أن يعترضوا، لكنهم لمحوا يد آلبرت التي استقرت على كتفي اثنين منهم مُكررًا حديثه بتهديد: قُلتُ إلى الأسفل أيها الحمقى.
ابتسم ليونيد باهتزاز أثناء هبوطه للأسفل وهو يقول بغباء: ل. لم أكن أريد الصعود معهم من الأساس.
تبع ليونيد أخواته الآخرين، بينما آلبرت تبعهم بابتسامة ساخرة وهو يهز رأسه بيأس: يُريدون الصعود معًا لزيارته! إن لم يمت بالطلقات فسيموت بذبحة صدرية بالتأكيد.
قالها ثم هبط الدرج بتروٍ يرى تجمع أخواته على المقاعد بغرفة الصالون مع الفتيات، وكالعادة يتشاجرون! دفع إيغور ذلك اللزج ليونيد صارخًا بغضب: ابتعد عن مكاني أيها اللزج المُخادع، هذا المكان خاص بي.
اعتدل ليونيد في مكانه بأريحية وهو يُجيبه ببرود: هل موضوعٌ عليه أوراق ملكية بإسمك يا هذا؟
دفعهم آندريه معًا وهو يصرخ بهم: ابتعدا أيها المُغفلون، أنا مَن جلس أولًا.
تلك الأريكة تنتمي لي، أريد التمدد عليها براحة.
قالها إيغور غاضبًا، ليأتيه صوت آندريه المُستفز: إن أردت التمدد اصعد إلى غرفتك، أشخاصٌ أوغاد.
اشتعل الغضب بعينيّ ليونيد الذي اقترب منه للكمه وهو يقول: أنا أكبر منك سنًا أيها الوقح الصغير، عليك احترامي وإفساح المكان لي.
سيطر الحقد على آندريه، وفي ثوانٍ رد إليه لكمته صارخًا: أنت هو الوقح يا عديم الأخلاق والشرف، يا مُحبي العجائز.
وفي اللحظة التي تلتها كان إيغور يلكمهما معًا وهو يقول بصخب: أنا أكبركما يا وقحان، لذلك عليكم ترك أريكتي لأرتاح.
كان ستيفن يُتابعهما بلامبالاة عندما اختار أن يخرج من كل هذا النزاع والجلوس على مقعد مُنفصل، انحنى قليلًا ثم أمسك بزجاجة المشروب الغازية مراقبًا إياهم باستمتاع وكأنه جالسًا أمام أحد العروض السينيمائية المُضحكة، ليس وأن أشقائه يتعاركون معًا مثلًا!
وفي وسط هذا الصخب والجو المليء بالفوضى، استمع الجميع إلى صوت طلقة عالية صنمتهم، والتي خرجت من سلاح آلبرت الذي بدوره صرخ باهتياج: أُقسِم أيها الأوغاد إن استمعت لصوتِ أحدٍ منكم؛ سأُفرِغ طلقاتي داخل رؤوسكم العفنة اللعينة تلك.
ساد الصمت بين الجميع ولم يجرؤ أحد على الاعتراض، ففتح آندريه فاهه مُعترضًا بقوله: لكن أخ، آاااه.
قطع حديثه مُتأوهًا بعنف عندما باغته آلبرت بضربة قوية من إحدى الزجاجات استقرت في قدمه وعلى وجهه يرتسم السخط والتشنج.
ابتلع آندريه باقي جُملته قائلًا بخفوتٍ متألم: لكَ ما شئت أخي الحبيب.
كل هذا وكانت الفتيات يُتابعن ما يحدث بصدمة جلية، عدا آهلة و مهرائيل التي كانت تفتح فاهها بانبهار!
بينما لوسيندا ارتعدت أوصالها خوفًا ووقفت مُهرولة للأعلى حيث غرفة زوجها للإحتماء بها، بينما حبيبة انكمشت على ذاتها بجانب أهلة التي أحاطتها بحماية وهي تُربت على ظهرها بحنان.
أتى بتلك اللحظة كُلًا من قاسم وصهيب ليروا مصدر تلك الطلقات، وعِند رؤية قاسم لمظهر أندريه وقدمه النازفة؛ استدار ليُطالع آلبرت بضيق وهو يقول: إيه اللي أنت عملته دا يا آلبرت؟ مش شايف البنات قاعدين وخايفين إزاي؟
استدار آلبرت برأسه إلى الفتيات ثم عاد بنظره إليه ساخرًا بقوله: أي خوف هذا بحق الله؟ تقصد زوجتك التي لم تتحرك من مكانها حتى؟ أم تلك البلهاء التي تفتح فاهها مُنبهرة بكل ما يحدث؟
كان يقصد بحديثه الأخير مهرائيل بالطبع، بينما أكمل حديثه قاصدًا حبيبة: لا يوجد سوى زوجة شقيقك هي الخائفة، وأظن أمرها سهل لذا لا تُهَوِّل الأمر.
هزَّ قاسم رأسه باقتناع وهو ينظر لزوجته التي لا تُبالي بشيء، بينما صهيب اتجه نحو زوجته آخذًا إياها بين أحضانه مُربتًا على ظهرها وهو يقول بغيظ: متخافيش يا بسكوتة أنا معاكِ، حسبي الله ونعم الوكيل في الناس الظالمة اللي مبيحسوش.
كانت حبيبة ترتعش بين ذراعيه خوفًا وبكاءً، لقد رأت ذلك المُتوحش أثناء إطلاقه للنيران على الآخر، هل يوجد أُناس بمثل تلك الوحشية والعنف!
طالعه آلبرت باستخفاف ثم حوَّل أنظاره نحو مكان أخواته الذين اختفوا من الأرجاء فجأةً وكأنهم غير موجودين من الأساس! بينما مهرائيل هبت من مكانها مُقتربة منه قائلة بعدم تصديق وانبهار:
آلبرت علمني إزاي أمسك السلاح وأضرب نار.
تشنج وجه آلبرت الذي تسائل باستنكار: ما هذا الهُراء! لِمَ تَودين تعلم شيئًا كهذا؟
أجابته ببساطة وكأنه تهز رأسها: فيه واحدة كانت بتضايقني في الجامعة فعايزة أخوفها بالمسدس.
فقط!
تسائل بها، لتؤكد له بحماسة وهي تقول بحالمية أثناء إغماضها لعينيها: ياه! تخيل كدا أمسك المسدس في إيدي وموقفة الجامعة كلها على رِجل واحدة خوفًا مني! ياه على المُتعة ياه!
انتظرت حديثه وموافقته على حديثها لكنه لم يتحدث، فتحت عيناها مرة أخرى لتتحدث فوجدت المكان حولها فارغ تمامًا و آلبرت غير موجود بالمرة! هل يُعقَل بأنه قد مَلَّ منها وذهب؟
هزت رأسها بلا اهتمام ثم قررت الخروج إلى الحديقة والبحث عنه حتى تُقنعه بتعليمها، تلك البلهاء لن تصمت حتى يقتلها هي الأخرى دون شَك.
بينما قاسم اتجه نحو أهلة التي تُراقب شقيقه باستنكار، والذي أخذ زوجته إلى مكانٍ مخفي عن الأنظار بعيدًا عن الجميع، مما جعله يُطلق ضحكات عالية وهو يجذبها إليه قائلًا بمشاكسة: نفسي أعرف بينك وبين صهيب إيه! دا يا شيخة لو كان عدوك كنتِ عاملتيه أحسن من كدا.
ردت عليه أهلة بحنق: أنا مش مرتاحة لأخوك، البت دي خسارة فيه والله وهو ح.
قاطعها قاسم بتحذير ليّن: ها! قولنا اللي هتتكلمي عنه دا أخويا.
نفخت أهلة بغيظ وهي تُربع ذراعيها أمام صدرها، لتستمع إلى ضحكة قاسم الخافتة والذي سألها بيأس: مش دي هدومي؟
قالها وهو يُمسِك بالتيشرت الذي ترتديه، فطالعته بطرف عينها قبل أن يُصحح هو حديثه بقوله: قصدي هدومنا!
احتلت الابتسامة وجه أهلة والتي أجابته بمزاح وهي تفرد ذراعيها لتُريه الثياب: أيوا دي هدومنا الجميلة اللذيذة، إيه رأيك فيها؟
غمزها بعينيه العابثة قبل أن يردف بمشاكسة: كفاءة.
رفعت رأسها بعنهجية قبل أن ترد عليه: كنت عارفة على فكرة.
مدَّ يده ليجذب بها من قُبعة ثيابها ثم قرَّبها إليه مُحذرًا إياها ببعضِ العنف الزائف: هدومي يا أهلة اتقي الله، مش كل ما آجي ألبس حاجة ألاقيكِ لابساها يا ماما.
تأففت أثناء مُحاولتها للتخلص من بين يديه وهي تقول: يا جدع ما هدومك هي اللي حلوة، وبعدين الجواز إيه غير إني هدومك هدومي، وتيشيرتاتك تيشيرتاتي!
هو دا كل مفهومك عن الجواز؟
تسائل بتشنج، ليجدها تستدير له بكامل جسدها ثم باغتته هي تلك المرة بالإقتراب منه حتى بات وجهها مُوازيًا لخاصته، وبحركة جريئة منها رفعت ذراعيها تُمسك بياقة قميصه مُتحدثة بدلالٍ سلب لُبه للمرة المليون: لأ طبعًا مش دا بس.
هو سُحِر. بل فُتِن في عينيّ المها التي تُقابل حدقتاه، ليتسائل بصوتٍ آجش وهو يُحيط بخصرها: وإيه كمان!
ابتسمت برقة وهي تُجيبه بما جعل هذا المشهد الشاعري يُزال من فداحة قولها: وأعرف كمان إن الزوج الصالح بيعمل لمراته محشي الورق عنب اللي هي نفسها فيه.
تبخرت ابتسامته رويدًا تزامنًا مع تَشكُّل نظراتٍ مُغتاظة على وجهه وهو يُجيبها: تصدقي وتؤمني بالله! أنا غلطان إني واقف أتكلم معاكِ، وهدومي لو لمحتك لابساها تاني مش هحلك.
أبعدها عنه ثم اتجه للخارج حيث الحديقة المليئة بالثلوج، لترتفع ضحكاتها بصخبٍ وهي تقول بمشاكسة أثناء مُلاحقتها له: يوه كنت بهزر معاك يا قاسم الله!
مقدور الحب لا يقل سوى بانسحابِ الأنفاس، مقيتٌ هو العشق يُذلل الإنسان، لكن في الوقت ذاته لذيذٌ يرتعش من خلاله الأبدان، فكيف يكون الفؤاد بذلك الهيام، وهو الذي ذاق طعم المرارة والحِرمان!
طرقَ كُلًا من يحيى ورائد باب المنزل الخاص بالفتيات ولم يحملوا أصابعهم من على زِر الجرس ولو لثانية حتى، اتسعت ابتسامتهم فجأة عندما شعروا به يُفتَح، لكن ثوانٍ ما انمحت تلك الابتسامة عندما رأوا نبيلة بملامح وجهها الغاضبة والتي صرخت بهم بدورها:
انتوا إيه اللي جابكم هنا؟ إحنا مش هنخلص بقى!
حكَّ يحيى رقبته من الخلف مُرددًا بابتسامة غبية: إزيك يا حماتي؟
سددت له نبيلة نظرة نارية وهي تقول: أحسن منك ياخويا.
فبادر تلك المرة رائد بالحديث قائلًا بمشاكسة: كل سنة وأنتِ طيبة يا طنط نبيلة يا قمر.
قطبت نبيلة جبينها بعدم فهم وهي تتسائل: كل سنة وأنا طيبة ليه مش فاهمة؟
طالعه يحيى بغباء، وكذلك كانت تُتطالعه نبيلة باستفهام، ليُخرِج رائد من خلف ظهره وردة حمراء ذو رائحة نفاذَّة ليُقدمها إليها أثناء قوله الحنون المُبتذل من وجهة نظر يحيى: كل عيد أم وأنتِ وسطنا يا ست الكل.
اهتزت معالم نبيلة بتوتر وحاولت بقدر الإمكان السيطرة على ذاتها ومشاعرها الأمومية التي ظهرت عقب اهتمام رائد بها، مما جعل رائد يبتسم بانتصار على ذكائه النبيل.
جز يحيى على أسنانه غيظًا قبل أن يهتف بهمسٍ حانق: يابن الغدارة! مقولتليش ليه يلا أجيب معاك وأنا جاي؟
همس له رائد له بصوتٍ غير مسموع: تجيب إيه يا عم؟ دي وردة أنا سارقها من الفازة المحطوطة قدام الشقة بتاعتهم.
فتح يحيى عيناه بصدمة هامسًا: يعني غدار وبجح وحرامي كمان!
غمزه رائد بمشاكسة وهو يقول: اللي ميجيش معاك بالزق، خُده بالحنية وهيلين.
مدت نبيلة يدها تأخذ هديته البسيطة منه، ثم شكرته بخفوت: شكرًا يا حبيبي تسلملي.
اتسعت ابتسامة رائد الذي عدَّل من وضعية ثيابه بغرور، لكن ابتسامته خفتت تدريجيًا عندما استمع إلى قولها الساخر: بس لما تيجي تسرق وردة ابقى اسرقها من قدام شقة حد تاني، مش من قدام شقتي يا خفيف.
قالتها ثم دفعتهم للخلف غالقة باب الشقة بوجه كليهما تاركة إياهم ينظرون لبعضهم البعض بذهول، نظر رائد ل يحيى بعدم تصديق، ليُبادله يحيى النظرات بأخرى مُشابهة له، ولم تمر سوى ثواني وعلت ضحكاتهم العالية تدوي لها الأرجاء بصخبٍ من غبائهم، ضرب يحيى كفه بكف رائد وهو يقول من بين ضحكاته:
دا يخربيت التخلف والغباء اللي في دماغك، جاموسة طايحة في البلد.
أمسك رائد معدته التي آلمته بقوة من كثرة الضحك وهو يقول: وأنا اللي قُولت دي صدقت وهندخل! طِلعت عارفة اللي فيها.
ظلوا يضحكون دون القدرة على التوقف، فانتظروا لدقائق أخرى حتى تحكموا بأنفسهم ثم اعتدلوا واقفين، رفع رائد ذراعه يلفها حول كتف يحيى أثناء هبوطهم للدرج قائلًا بمزاح:
أقولك نُكتة ياض؟
أومأ له يحيى مُوافقًا بضحك، ليردف رائد قائلًا: مرة حنفية دمها خفيف كانت بتنزل المية نكتة نكتة ههه.
انكمش وجه يحيى اشمئزازًا، ليهتف رائد مُسرعًا: مرة سمكة مش عارفة تخرج عارف ليه؟ ضهرها كان A fish.
دفعه يحيى بقرف وهو يصرخ به: ابعد يلا يخربيت سماجة أهلك.
قهقه رائد عاليًا فهرول خلفه في الشارع دون أن يلقي بالًا للأشخاص الذين يُطالعونهم بتعجب: طب استنى والله هقولك واحدة تانية حلوة.
لحق به حتى وصل إليه ليسير جواره ثم قال بغباء: مرة مهندس زراعي اترفد عشان عمل مشاتل ههه.
تلك المرة استدار له يحيى بكامل جسده ثم لكمه بقوة في وجهه وهو ينهره: أنا حذرتك مرة يا غتت يا حيوان.
قالها ثم صعد لسيارته ورحل بها تاركًا رائد يضع يده على وجهه مكان لكمته وهو يُطالع أثره بحقدٍ شديد وتوعد: وحياة أمي لأعرفك يا يحيى، النُكت اللي مش عاجباك دي بكرة تيجي وتتذلل عليا عشان أقولك غيرها.
تجهز كُلًا من قاسم وأهلة للذهاب إلى الطبيب، تلك هي الجلسة السادسة تقريبًا، وحتى الآن لم تتحسن حالة أهلة ولو بمقدار صغير! لقد قصت كل ما عانته في تلك الجلسات، روت بؤس حياتها ولحظاتها الصعبة مع ذلك المُستبد الذي كان يتلذذ بتعذيبها وتألمها، كانت تشمئز كثيرًا أثناء تذكرها، بل وتتقيأ أكثر! لكن رغم ذلك لم يتركها قاسم ولو للحظة واحدة، أصرَّ على البقاء والاستماع إلى ما يؤرقها ويُحزنها، وكان يُنصت بصدرٍ رحب، وكأن الكون بأكمله توقف عن الحديث ولا يظل سواها هي!
وقفا أسفل البناية المقصودة، وقبل أن يصعدا؛ أوقف قاسم زوجته مُديرًا إياها في اتجاهه، ثم أمسك بكفيها معًا يضمهما إليه وهو يقول بحنان:
كدا يبقى بقالنا أسبوعين بالظبط بنيجي هنا عشان تتعالجي، ويشهد ربنا إني لا في مرة تعبت ولا مليت منك، بالعكس أنا كنت بستمع ليكِ ولا كأنك حِتة من روحي، ورغم حُزني على تعبك ومُعاناتك؛ إلا إني عايزك تتعالجي عشان تعيشي حياتك الطبيعية.
كانت تستمع إليه بانتباه وهي على يقين تام بأن القادم لن يعجبها، وقد صدق حدسها عندما أكمل حديثه قائلًا:.
الدكتور النهاردة قالي إن علاجك هيكون صعب، خصوصًا بعد ما فشل في إنه يستفز مشاعرك العاطفية ويخليكِ تعيطي، حتى التنويم المغناطيسي اللي عمله ليكِ الجلستين اللي فاتوا مجابش معاكِ نتيجة، والحل الأخير هنستخدمه النهاردة، أنا مش عارف هو قصده إيه ولا العلاج ممكن يكون عامل إزاي، بس كل اللي عارفه إني لا يمكن أتخلى عنك أبدًا، خليكِ واثقة ومتأكدة إنك مكان ما تكوني هتلاقيني، ووقت ما تعوزيني هتلاقيني جواكِ ومعاكِ، هكون معاكِ خطوة بخطوة، بس أنا عايزك تستحملي النهاردة بس، عايزك تحاولي علشاني.
حديثه بثَّ الخوف بداخلها، لكن ما يُطمئنها هو أنه جوارها! رسمت ابتسامة صغيرة على ثُغرها أثناء تشديدها على أصابعه، ثم تسائلت بحذر: هتكون معايا مش كدا؟
جائها الرد سريعًا دون تفكير: ومش هسيبك لحظة.
لترد عليه بضحكة صغيرة: يبقى مش قلقانة.
زفر قاسم يائسًا قبل أن يجذبها له داخل أحضانه بعنف: بس أنا قلقان.
أغمضت أهلة عيناها بإرهاق قبل أن تُحاوطه وهي تقول: أنا مطمنة بوجودك فمتضعفش.
دفن قاسم وجهه بين خصلاتها مُجيبًا إياها بهمس: روحي بقت متعلقة بيكِ وقلبي بيوجعني على حُزنك، ليكِ دوا لقلبي؟
هزت رأسها بالنفي فأخرجته من أحضانها واضعة كفها على جانب وجهها هامسة أمام وجهه: أنت دوايا يا قاسم، وزي ما أنت بتدوايني فأنا هحاول أداويك.
ارتسمت ابتسامة صغيرة على ثُغر قاسم قبل أن يهبط على جبينها مُقبلًا إياه بعاطفة جياشة، وبعدها همس قائلًا: يلا بينا يا هولا.
أمسك بكفها يُحيطه بتملك، يخشى ما هو مُقبل عليه وما ستتعرض له بعد قليل، تُرى كيف ستكون خطوتها الأخيرة؟ إلام ستُجَهز وكيف سيتم علاجها؟ هل ستتألم أم أن الأمر سيمر بسهولة؟ ماذا ستكون ردة فعلها وكيف ستستقبل علاجها؟ العديد والعديد من الأسئلة تزاحمت بعقله أثناء صعودهم لى الدرج، وحتى الآن لم يجد لها إجابة، لكن الآن سيرى!
صعدوا إلى الأعلى ثم دلفوا للداخل لتستقبلهم السكرتيرة التي أدخلتهم على الفور بأمرٍ من طبيبها، أجلسهم مايكل أمامه مُحييًا إياهم بابتسامة صغيرة وهو يقول: أهلًا بيكم اتفضلوا.
جلس قاسم وبجانبه أهلة التي رفضت تركه والجلوس بالمقعد المقابل له، ليبدأ مايكل حديثه بعملية شديدة وهو يُشبك أصابعه أمامه معًا:.
طبعًا يا مدام أهلة أنتِ عارفة كل اللي حصل في الأسبوعين اللي مروا، المرض النفسي مش بيتعالج في أسبوع أو اتنين أو حتى شهر، لكن على الأقل طول الفترة دي بيكون فيه تحول أو تغير بيكون ملحوظ على الأقل بنسبة صغيرة جدًا، لكن في حالتك مفيش أي تغيير نهائي، وكأن القنوات الدمعية اللي عندك جفت من قلة العياط، ودا طبعًا نظرية غبية لكن بتوضح الضغط اللي أنتِ اتعرضتيله، ولأسفي الشديد حالتك دي مش نافع معاها أي علاج، حتى التنويم المغناطيسي مجابش نتيجة معاكِ، ويؤسفني أقولك إننا هنضطر نستخدم العلاج الأخير.
كانت أهلة تستمع إليه بانتباه شديد، والأكثر منها هو قاسم الذي انتظر أن يقول الحل الذي آرقه لعدة أيام، ليبدأ مايكل في التوضيح والشرح بعملية:.
الكتمان المُزمن هو مش مرض مُباشر بيتعالج، بس هو عَرَض من أعراض الكبت ودا اللي أنتِ اتعرضتي ليه وبقوة نتيجة للعنف والضرب، وبسبب كتمانك لألمك وبكائك فأنتِ فقدتي القدرة على البكاء والتعبير عن مشاعرك بالطريقة اللي كل الناس بتتعامل بيها من وأنتِ طفلة، والمدة مكانتش صغيرة اللي هو سنة أو سنتين علشان نعرف نعالجها بسهولة، بل كانت لمدة 13 سنة، يعني الأنسجة عندك في حالة خمول شديدة، وعلشان ننشط الأنسجة دي لازم ننشط أنسجة الجسم كله بإنه يحس بالوجع، ولما أنسجة الجسم عندك تتنشط بالتالي القنوات الدمعية عندك هتتنشط لكن بطريقة مش هتكون لطيفة نوعًا ما، والعلاج محذور في الدول العربية لعدم آدميته، بل اللي بيعالج بالطريقة دي ممكن يتعاقب كمان.
زفر قاسم بضيق وهو يتسائل: وإيه هو العلاج يا مايكل؟
وقف مايكل من مجلسه طالبًا منهم أن يتبعوه، وبالفعل وقف كُلًا من قاسم وأهلة ثم ساروا خلفه حتى وصلوا إلى مقعد الشازلونج، أشار مايكل ل أهلة حيث المقعد ثم طلب منها: اتفضلي اقعدي يا مدام أهلة، اقعدي مش تنامي.
سارت أهلة ببطئٍ ثم جلست على المقعد وقدماها مُمددتان على الأرض كما تجلس على المقعد العادي، بينما انحنى مايكل قليلًا ثم سحب آلة غريبة بعض الشيء ومُخيفة ليضعها أسفل قدمها، لكن قدمها لم تطلها بعد!
انكمشت قدم أهلة قليلًا وها قد بدأ الادرنالين يرتفع بجسدها تدريجيًا، بينما قاسم صُعِق مما يرى وهو يتسائل: إيه دا؟
عدَّل مايكل من وضعية نظارته الطبية ثم رد عليه بهدوء: دا لوح من المسامير المُدببة المريض بيقف عليها لمدة نص دقيقة تقريبًا لحد ما يصرخ ويطلَّع كل الألم اللي جواه.
في تلك اللحظة ثار به قاسم صارخًا: يا أخي عن أبوها ما حست بالألم، أنت فيه في دماغ أهلك حاجة! أنا عُمري ما هوافق على حاجة زي كدا.
علم مايكل بأنه من الممكن ألا يُوافق وهذا حقه، لكنه تحدث بجدية شديدة يُحاول ردعه عن قراره: يا قاسم صدقني هو دا الحل الوحيد، وأنت شوفت بنفسك إننا جربنا معاها كل حاجة ومنفعش.
هز قاسم رأسه بالنفي وهو يقول بإصرار قوي: دي ممكن تموت فيها، لأ. لأ أنا مش موافق، هي عجباني كدا أنا مش عايزها تتعالج.
ناقشه مايكل بكل هدوء وظل الرفض مُرتسمًا بقوة على وجه قاسم الذي يرفض تعرضها لشيءٍ مؤلم حد الجحيم كهذا، هل حقًا سيجعلها تقف على لوحٍ مليء بالمسامير المُدببة حتى تبكي؟
بينما أهلة كانت تراقب اللوح بنظراتٍ زائغة، حياتها مُتوقفة على دهسة واحدة من قدميها، وإن كان الألم سيشتد بقدمها، فإن ألم قلبها أكبر ولا يُحتمل، وفي لحظة تهور هبطت بجسدها لتقف بقدميها على هذا اللوح المُدبب!
صنم جسديهما تلك الصرخة المدوية التي صعدت من فم أهلة دون أدنى إرادة منها، ليُهرول إليها قاسم كالبرق ساندًا إياها وهو يصرخ بها بعدم تصديق: إيه اللي أنت عملتيه دا؟
أغمضت أهلة عينيها بقوة شديدة وهي تتمسك في ثيابه بشدة، تشعر بنيران تخترق كف قدمها حتى كادت أن تُغرَز بها وتمر للداخل! أمسك بها قاسم من خصرها وكاد أن يُبعدها؛ فوجد كف مايكل يمنعه بقوة: صدقني هو دا الحل الوحيد متضيعهاش.
سبة بذيئة خرجت من فم قاسم الذي صرخ به باهتياج، بل سبها أيضًا ولعن غبائها وتهورها الذي آلم فؤاده.
ثانية. وثانيتان. وعلت صرخات أهلة تملأ الأرجاء، الألم حارق وجسدها بات لا يحتمل، صوتها يصعد لكن ذكرياتها غشت على الآلام، كل مشهد عنف، ضرب، إهانة، يمر الآن بخاطرها، طفولتها المُنتهكة كانت تتغنج أمام حدقتاها الغائمتان، تلك الأيام المُغتصبة بها جميع حقوقها لم ترحمها ولو لثانية واحدة، صرخاتها تصم الأذان لكنها لم تستمع إليها، بل تستمع لصوته المقيت وهو يصرخ عليها، تستمع لضرباته القاتلة في منتصف جسدها، تستمع لصوت بكائها المكتوم، تستمع لآناتها في منتصف الليل حينما يشتد الألم بجسدها، تستمع لصوت بكاء والدتها حينما تجلس بجانبها تُداوي بها جروحها، كل تلك الأصوات كانت تخفي أصوات صُراخها، لكن انهيارها لم يدوم طويلًا حينما هبطت دموعها وتحررت من سجنها، كان هبوطها كشلالًا مُحتبس لآلاف السنين، وحينما تحرر أحدث الخراب في المكان، وتلك المرة امتزجت صرخاتها مع بكائها، وامتزج الماضي مع الحاضر وانشق الفؤاد تألمًا.
أشار مايكل ل قاسم بسرعة أن يحملها، لينحني هو بسرعة ويُبعدها عن مصدر الأذى، بينما مايكل جذب اللوح من أسفل قدمها ووضعه في مكانه، جلس قاسم أرضًا يضم جسدها له بقوة شديدة بعدما قرر مايكل ترك الغرفة لهم لتركهم على راحتهم.
كان قاسم مُستعدًا أن يشهد بكاؤها وصراخها، لكنه لم يكن يعلم بأنه سيجد انهيارًا عظيمًا يُوشم بقلبه لن يُمحى بمرور الزمن، دفعته أهلة بكل قوتها في حالة اهتياج حتى يتركها لكنه أبى تركها والابتعاد، بينما هي كانت تبكي وتصرخ كما لو فقدت عزيزًا، وقد كان! لقد فقدت روحها وبرائتها، فقدت ذاتها ولم يعلق ببالها سوى الألم، وها هي! بعد مرور أكثر من ثلاثة عشرة عامًا استطاعت البكاء بعد أن تعرضت لأكثر الطُرق بشاعة، تشعر بسكاكين تُغرز داخل قدماها وهي ليس لها القدرة على التعبير سوى بالبكاء، البكاء الذي فشلت في إخراجه منذ أمد.
هبطت دموع قاسم مقهورًا على حالتها، هو لم يعتاد البكاء كثيرًا لكن رؤيتها بهذا الشكل يستفز دموعه وبقوة، ليس دموعه فقط. بل رغبته في تعذيب كل من ساعد على أذيتها تزداد أيضًا، كانت أهلة تدفن وجهها داخل صدره بعدما وعت لما حدث، تتدفق دموعها من عينيها بقوة بعد أن لقت حُريتها، صوتها يعلو أحيانًا ويخفت أحيانًا، روحها مُتعبة وجسدها مُنهك، حتى عيناها الحبيبة تعبت من دموعها أيضًا.
ظلا جالسان على الأرض الباردة لمدة ساعة تقريبًا، هي بين أحضانها وهو يُحيطها بحماية وكأنها كل عائلته، ومن الحين للآخر يُردد أسفه لها ليعتذر منها عن بشاعة العالم، ساعة كاملة تبكي دون توقف حتى شعرت بجسدها يهمد تدريجيًا، لتُحاول إخراج صوتها بصعوبة بالغة وهي تقول بصوتٍ مبحوحٍ باكٍ يندمج مع نهنهاتها المُتألمة: ع. عايزة أم. أمشي.
لبى رغبتها على الفور حينما حمل جسدها بين ذراعيه وخرج بها من الغرفة بأكمله، ليُقابله مايكل الذي هب من مكانه ما إن رآه ثم ربت على كتفه قائلًا باطمئنان: متقلقش عليها هتكون كويسة والله.
أومأ له قاسم بهدوء دون أن يتحدث بكلمة واحدة، ثم أخذها وهبط للأسفل حيث سيارته، وجهها كان مدفونًا بصدره، دموعها تملأ ثيابه، وصوت شهقاتها يصم آذانه، لا يوجد شيئًا أكثر ألمًا من ذلك، شخصٌ بمثابة روحٍ يتألم أمامك وأنت مُكتف الأذرع لا تعلم ما عليك فعله، خاصةً إن كان ألمه هو بداية الطريق لشفائه!
فتح باب السيارة بتروٍ ثم أجلسها على المقعد بحرصٍ شديد، أرجع ظهر المقعد للخلف لتُسهل لها نومتها، بينما هو انتشل عدة مناديل ورقية كثيرة ثم جلس القرفصاء أمامها خارج السيارة، وأمسك بقدمها بهدوء شديد ثم بدأ بتجفيف الدماء العالقة بقدمها، لكنه وجدها جافة بالفعل!
زفر باختناق فاعتدل من مكانه ثم استدار ليجلس بالمقعد الذي يُجاورها، استدار لها بجسده مُقتربًا منها ثم أبعد خصلاتها المُلتصقة بدموعها عن وجهها، ليميل بثغره على جبينها مُقبلًا إياها بعاطفة جياشة قبل أن يهمس بألم:
حقك عليا، يعز عليا تعبك وبُكاكِ يا نور عيني.
الليل يطفو في الأرجاء والظلام يعم قلوب الجميع، رائحة المكان الكريهة تكتم على الأنفُس من بشاعتها، وهُنا حيث يوجد ذلك المقعد المُتهالك، يجلس عليه رجل في أواخر العشرينات مُكبَّل بالحبال القوية، وأمامه يقف ذلك الطاغي المُسمى ب مختار الأرماني يرميه بسهامٍ من داخل عيناه الحارقة وهو يتسائل بفحيح:
ها قولي يا خميس مين اللي وراك؟
رفع خميس أنظاره المُتورمة له ووجهه مليء بالكدمات العديدة بعدما قضى رجال الآخر ليلتهم في ضربه دون أي شفقة أو رحمة، سعل خميس بقوة ثم أجابه بصوتٍ لاهث وأنفاسٍ هاربة: س. سيبني يا باشا أبوس إيدك.
وضع مختار يديه خلف ظهره وهو يقول بنبرة قاتلة: مين اللي باعتك؟
لم يُجيبه خميس في البداية، فأشار مختار لأحد رجاله الذي ما إن رأى إشارته حتى هبط على وجه الآخر يُبرحه ضربًا، وبعد وقتٍ صاح خميس ببكاء وهو يصرخ بألم: خلاص. خلاص هقول يا باشا. هقول.
أشار مختار لرجله بالتوقف فتسائل بعدها بحذر: ها! مين اللي وراك!
صعد صدر الآخر صعودًا وهبوطًا مُجيبًا إياه بنهيج: ق. قاسم طاحون.