قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني والأربعون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني والأربعون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني والأربعون

كان قاسم جالسًا على المقعد الوثير الموجود بالشُرفة يُحيط جسده بشرشف ثقيلٍ ليحميه ولو قليلًا من برودة الأجواء أثناء تلاوته للأياتِ بصوتٍ خاشع، لقد أهمل وِرده اليومي الأيام الفائتة، يُحافظ على صلاته لكن الغُبار تكون على مصحفه، فقرر العودة لمأمنه وراحته ويتلو آيات الرحم ن ليشعر بعدها بالطمأنينة تختلج فؤاده المُتزاحم، فيأتي القرآن ويُزيح هذا الازدحام ويُعيد ترتيب راحة فؤاده من جديد.

يَ أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَا ءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَا ءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا وَءَاتُواْ الْيَت مَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَاْكُلُو اْ أَمْوَالهم إلى أَمْوَالِكَمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا.

كان فور يقف مُتابعًا إياه بصمت عندما علم بشأن ما حدث لزوجته من مهرائيل، ليُصادف حينها بتلاوته لتلك الأيات التي انتبهت لها كل حواسه وخاصةً آذانه، لقد استطاع قاسم بصوته الآخاذ أن يبث القشعريرة في جسد ذلك الصامت، وبدون أي حديث اقترب منه فور حتى قام بالجلوسِ بجانبه يستمع لبقية الأيات، ليُكمل قاسم قراءة بقية الأيات دون أية مُقاطعة:.

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَ لِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا.

أنهى قاسم قراءة تلك الآية ثم صدَّق ليستدير ل فور مُطالعًا إياه بابتسامة خافتة صغيرة، بادله فور الابتسامة وبعدها تسائل بفضول وهو يعتدل في جلسته: لِمَ عليكم الزواج من أربعة نساء؟

وضع قاسم مصحفه جانبًا وهو يهز رأسه نافيًا ما يقول، ليبدأ بشرح الآية له بكلِ تفصيل: ليس واجبًا لكنه يجوز، لكن لم يستطيع أن يعدل بين أربعتهم، بمعنى أصح ألا يُفضِّل واحدة عن الأخرى، ألا يُشعِر إحداهما بأنها باتت هَم ثقيل على قلبه أو غير مرغوب بها، فإن استطاع ألا يعدُل بينهما فيكتفي بزوجة واحدة.

هز فور رأسه باقتناع وهو يُقَلِّب حديثه داخل عقله ويرى صحته، لكن تحولت نظرات فور للعبث وهو يسأله بمشاكسة: وهل ستتزوج أخرى غير زوجتك؟
هامت نظرات قاسم الذي أجابه بتنهيدة عاشقة: زوجتي بالنساء كُلهن.
اتسعت ابتسامة فور بحب على تلك العلاقة الزوجية المثالية من وجهة نظره، ليُربت على قدم صديقه مُتحدثًا بحنان: أتمنى أن تجد بها مأمنك وسكينك أخي.

ابتسم له قاسم بامتنان وهو يقول: وأنت كذلك فور، أتمنى أن تصل لما تبغاه ويُشغلك.
تنهد فور بثقل كما لو أن هُناك حِملًا ثقيلًا يقبع فوق صدره، وبعدها أردف بتمني: أتمنى ذلك حقًا، وبالمناسبة! لقد بدأت في البحث حول الدين الإسلامي أكثر.
احتلت الدهشة وجه قاسم الذي صاح بتفاجئ: ماذا؟ هل تتحدث بصدق أم أن هذه مُجرد مزحة سخيفة لا أكثر؟

هز فور رأسه بالنفي ضاحكًا وهو يقول: لا أمزح أُقسِم لك، بدأت بالفعل البحث عن الأمر.
نال ذلك إعجاب قاسم وبشدة، الأمر رائع لدرجة أنه شعر بالسعادة تتسلل إلى فؤاده رغمًا عنه، لكنه ضيَّق عيناه بشك وهو يتسائل: هل تفعل هذا فقط من أجل سهيلة؟ أم أنك بالفعل تريد البحث لتقتنع به؟

طالعه فور بصمتٍ لعدة ثواني قبل أن يزفر بيأس وهو يُجيبه: لا أُنكِر بأنني فعلت هذا في البداية من أجل هايلة، لكن حينما تعمقت في البحث انتابني الفضول الشديد حول قصص المعجزات التي تُروى بينكم كمسلمين، بِتُ مُنبهرًا حقًا وأنا أبحث عن تلك القصص التي أثارت ذهني، خاصةً قصة النبي يونس حينما سُجِن في بطن الحوت، لا أُصدق نجاته ولا كيف حدث هذا، دعاءٌ واحد فقط ظل يُردده كان السبب في نجاته! لم أُفسِّر ذلك سوى بأنه مُعجزة جميلة تركت أثرًا على فؤادي.

خوفه وخشيته كان من إعلانه لإسلامه من أجل الزواج من فتاة، لكن أعيُن فور المُلتمعة وانفعالات جسده الظاهرة أثناء قصُّه لِمَا توَّصل إليه جعله يُتقن بأن الله زرع حُب الدين تلقائيًا داخل فؤاده، احتلت الابتسامة وجه قاسم الذي اقترب على بغتة ضاممًا فور إليه بحب أُخوي شديد وهو يهمس له:.

إن أردت أن أروي لك كل يوم قصصٍ عن الأنبياء ومُعجزاتهم فسأكون أكثر من سعيد صدقني، رؤيتك تسلك الطريق الصحيح يجعلني يائسًا عن الرد أو الحديث، يمكنني أن أرشدك إلى الصواب ولن أمِّل منك أبدًا فور.

بادله فور العناق بحب وهو يُربت على ظهره بحنان قائلًا بصوتٍ مُتأثر: لم أكن أعلم بأنك ستسعد هكذا! سأحتاجك كثيرًا الأيام المُقبلة قاسم، أريد منك أن تشرح لي الكثير من الأشياء التي أرسلها لي رائد، لقد أثار ريبتي يا رجُل حقًا.
ابتعد عنه قاسم مُقطَب الجبين وهو يتسائل: ماذا أرسل لك هذا المُغفل؟

انفلتت ضحكة خافتة من فاهِ فور وكاد أن يتحدث، لكنه ابتلع جُملته عندما استمعوا إلى صوتِ صراخ صاخب يتبعه تكسير قادم من غرفة قاسم!
انتفض قاسم من مكانه ثم هرول مُسرعًا نحو غُرفته وهو يقول مُوجهًا حديثه ل فور: خليك هنا يا فور.

أومأ له فور بالإيجاب رغم قلقه الشديد، لكنه احترم رغبة صديقه في عدم الدخول خاصةً عندما تَبيَّن أن الصراخ قادم من أهلة، لذلك وقف أمام الباب المُنغلق مُنتظرًا كلمة واحدة من قاسم حتى يتمكن من مساعدته.

وبالداخل. كانت صوت صرخات أهلة تعلو في الأرجاء، دموعها تهبط بكثافة ويديها لا تكفان عن تدمير كل ما تطاله، ذُهِل قاسم من حالتها فاقترب منها بسرعة في نية لاحتضانها وتهدأتها، لكن لم يجد سوى يد أهلة تدفعه بعنف وهي تصرخ به بعدم مُلامسته لها، وبالفعل ابتعد عنها قاسم ليترك لها الحُرية لإخراج كل ما تدفنه داخلها، والذي تدفنه بداخلها لم يكن بالهين، وانعكس ذلك على تدميرها لكل أثاث الغرفة وتمزيق كل الثياب، تصره وتبكي بآنٍ واحد وفؤادها يطرق بصخب، ظلت هكذا قرابة النصف ساعة، لا تفعل شيئًا سوى الصراخ، الصراخ الذي امتنعت عنه لأعوامٍ عديدة حتى شعرت بالإنهاك وجلست لتبكي أرضًا!

انتهز الفرصة واقترب ببطئ حتى جلس على مقربة منها مُتربعًا على الأرض السيراميكية الباردة، كانت شهقات أهلة تعلو تدريجيًا وهي تهز رأسها بهزات مُتريثة ثابتة، حتى شعرت بيدٍ تُوضع على كتفها فدفعتها بعنفٍ وهي تصرخ بهستيريا: سيبوني في حالي بقى! أنا بكرهكم، ربنا ياخدكم سيبوني في حالي.

اختنق قاسم وشعر بتلك الغصة العالقة في جوفه تكاد تُهلكه، ألمها يُتعبه بل يكاد يقتله، لكن عليه التحمل من أجلها، تركها تصرخ وتنفعل كما تشاء، جعلها تُدمر وتكسر كل ما تمسكه، ترك لها الحرية في الصراخ والبكاء، حتى أنه ابتعد عنها بمسافة لا بأس بها جالسًا خلفها مُتربع الأقدام خافضًا رأسه للأسفل، يمنع دموعه من الانهمار بصعوبة شديدة، اللعنة على كُل مَن سبَّب لها الدمار، لكن مهلًا! سيُذيقهم من نفسِ الكأس لا محالة.

بينما هي تعبت من البكاء والصراخ، شعرت بالخواء يُمزق فؤادها، أردات عناقًا دافئًا يُزيل عنها همومها، رغبت بالاختفاء عن العالم بأكمله، وبدون تردد دارت بنظرها في الغرفة لتبحث عنه، وكأنه هو ملاذها وطوق نجاتها الوحيد، وأخيرًا وقعت عيناها عليه جالسًا بعيدًا عنها مُطأطيء الرأس، لم تستطيع قدماها حملها للوقوف والذهاب إليه، لذلك استندت على ركبتيها وسارت عليهما حتى وصلت إليه مُلقية ذاتها بين ذراعيه وهي تهمس بضعف: قاسم.

التقطها قاسم بين ذراعيه يُحيط بها بحنانٍ شديد، بينما هي تركت له زمام أمورها وظلت تبكي داخل أحضانه، تشعر بقلبها يبكي كحالِ عينيها، بما أخطأت هي لتحصد زرع سام هي ليست بصاحبته؟ كانت طفلة تنتظر من الحياة أن تُدللها، لكن الحياة أخذت بيدها ثم أبرحتها ضربًا على غفلة، كانت تجلس على قدم قاسم تُحيط خصره بقدميها كالطفلة، بينما هو ظل يهتز بها للأمام وللخلف بحركات مُتريثة ويتلو على آذانها آياتٍ من القرآن لتهدأتها، ولأسفها الشديد لم تستمع لهمسه، بل طغى صوت بكاؤها على صوت كل ما حولها، والآخر لم يمل منها، بل هبطت عدة دمعات من عينيه حسرةٍ على حالتها، ومن الحين للآخر يطبع قُبلة صغيرة على جانب عُنقها ويعتذر إليها.

هي تلك المرآة المُنكسرة التي لم تجد مَن يُعيد تصليحها، وكما يُقال دائمًا؛ ما كُسِر لا يمكن إصلاحه، لقد تهشمت المرآة ولم يبقى منها سوى فُتاتٍ يُغرز في أقدام الذاكرة؛ فيجرحها، حلقاتٌ من الماضي تدور حول عنقي فتتسبب في اختناقي ومُعاناتي، تلك المُعاناة التي ظللت أُخزنها حتى باتت ذاكرتي مُمتلئة بها، وحين أعلنتُ استسلامي؛ انتشرت شظايا الذكريات بمُعاناتها لتقضي على الباقي من روحي المُعَذبة.

وتلك المرة لم يتركها قاسم لتغرق داخل شواطيء ماضيها المُلوثة، فظل يُنادي عليها بصوتٍ هاديء حتى استفاقت أخيرًا لذاتها، كانت في تلك الأثناء تستند على كتفه وذراعيها يلفان حول عُنقه، خرجت من أحضانه على صوته المُلِّح ناظرة إليه بوجهٍ أحمر بشدة وكذلك عيناها الحمراوتان، كانت تظن بأنها ستجد نظرات شفقة أو تألم، لكنها لم تجد سوى ابتسامة صغيرة تُزين ثُغره ثم رفع كفيه وجفف به وجهها المُمتليء بالدموع أثناء وجه المُمازح:.

لو خلصتي ممكن ناكل دلوقتي ورق العنب اللي أنا سهرت فيه طول الليل عشان أعملهولك؟
حنانه يُبكيها أكثر فانفجرت باكية وهي تُصيح به بصراخ: أنت ليه كدا؟ ليه مُصِّر تعيطني أكتر؟
ابتلع تلك الغصة المؤلمة التي تشكلت في حلقه، ثم أجابها بهدوءٍ أثناء ارجاعه لخُصلاتها المُشعثة خلف أُذنها: عشان أنا مش زيهم ومش هأذيكِ، وأنا بحبك، واللي بيحب مش بيجرح يا أهلة.

ردت عليه من بين شهقاتها التي تُحاول السيطرة عليها: هما. هما عملوا كل حاج تأذيني يا قاسم، أنا كنت بتوجع قدامهم ومحدش كان حاسس بيا، كنت بتحايل عليهم يسيبوني في حالي بس عياطي ووجعي كان بيضحكهم، أنا بكره الناس أوي، بكره الناس كلهم.
اقترب منها قاسم بوجهه واستند بخده على خاصتها قائلًا بهمس: راحتك في إيدك، ابعدي عن الكل، البشر مؤذيين ومش بيجي من وراهم غير الوجع.
وهعمل إيه بعد كدا؟ هفضل لوحدي؟

قالتها بهمس ضعيف، فابتعد بوجهه ناظرًا إليها بحبٍ قبل أن يقول بابتسامة صغيرة زينت ثُغره:.

هتصلي، هيكون معاكِ ربنا اللي خلقنا كلنا، هتستنجدي بيه هيزرع في قلبك الهدوء والطمأنينة والسلام النفسي، هتبعدي عن الكل وهتكتفي بنفسك، وأنتِ بعيدة عن الناس هتدعيه إن ربنا يلهمك الصواب ويقرَّب منك الصُحبة الصالحة زي حبيبة وسهيلة ومهرائيل ولوسيندا كلهم بيحبوكِ وبيخافوا عليكِ، ولو هما مش صالحين ادعي ربنا إن هما يصلح ليهم حالهم ويهديهم، هتدعي ربنا إنه يحفظلك أخواتك ووالدتك، وهتعيطي وتشكيله وجعك وحزنك، ومن هنا هتبدأي تقربي منه أكتر، وربنا لما يلاقي العبد محتاجه مش بيرده غير وهو مجبور الخاطر، ربنا بيحب يختبرنا ويختبر صبرنا ولازم ننجح في الاختبار دا، مشوارك هيبقى طويل بس أنا هفضل معاكِ ومش هسيبك.

وإن قالت أن حديثه قد بثَّ الراحة والطمأنينة داخل صدرها لن تُبالغ، فهذا هو قاسم بالنسبة لها، كالبلسم يُوضع على جروحها ليمحوها، شروخ فؤادها عادةً ما يُرممها.
هزت رأسها بالإيجاب له ثم هبطت على ثيابه لتمسح وجهها وأنفها من المياه الموجودة عليها، تشنج وجه قاسم والذي سألها باستنكار: أنتِ بتعملي إيه لمؤاخذة؟
اعتدلت في جلستها أثناء مُحاولتها في عدم البكاء ثم أجابته بارتعاش: بمسح وشي.

قالتها ثم انفجرت في البكاء مرةً أخرى مما جعله يفتح فاهه بدهشة وهو يقول بهلع: طب خلاص، وعهد الله أجيبلك هدومي كلها تمسحي فيها بس كفاية عياط.
كانت شهقاتها تعلو تدريجيًا أثناء استنادها بجبينها على صدره وهي تقول بضعف: أنا تعبانة أوي يا قاسم ومش عارفة أبطَّل عياط، متزهقش مني أنا أسفة.

تحولت معالم وجه قاسم إلى اللين عقب استماعه لصوتها الواهن الضعيف، لذلك ضمها إليه وهو يتنفس بعمق قائلًا: وهو في حد بيزهق من روحه؟
قال جُملته ثم هبَّ واقفًا حاملًا إياها على ذراعيه حتى لا يؤذي قدمها المجروحة أثر ليلة أمس، وهي لفت ذراعها حول عنقه ودفنت وجهها في صدره، بينما اتجه هو للمرحاض وهي مازالت على ذراعيه، أجلسها على طرف البانيو ثم قام بتشغيل الصنبور على المياه الدافئة أثناء قوله الحنون:.

أعصابك مشدودة يا روح قاسم وجسمك عايز يرتاح، عشان كدا أنتِ محتاجة شاور خفيف كدا عشان تفوقي.
كان الصداع يفتك برأسها في هذا الوقت؛ لذلك هزت رأسها بالرفض وهي تقول بدوار: لأ مش قادرة دلوقتي أنا تعبانة.
انحنى بجسده قليلًا ثم قبَّل جبينها بحب وهو يقول: هساعدك أنا متقلقيش.

اِحمَّرت وجنتاها خجلًا وهي تنظر له بارتياب، بينما هو حاول بقدر الإمكان عدم النظر إلى وجهها حتى لا ينفجر ضاحكًا على معالمها المُمتلئة بالصدمة.
هزت أهلة رأسها بالنفي قائلة برفضٍ تام: لأ. مستحيل. لأ بجد مش هينفع. إيه قلة الأدب دي؟
استدار لها قاسم بجسده وهو يقول ببراءة: في إيه يا أهلة يا حبيبتي عادي يعني! وبعدين أنتِ هتكوني لابسة هدومك عادي.

طالعته أهلة بشكٍ وريبة، وها هو نجح أخيرًا بخبثه وعبثه أن يُلهيها عن البكاء ولو قليلًا، يشعر بأن أحبالها الصوتية قد جُرِحَت من صراخها لذلك قرر التخفيف عنها بمشاكستها.

وبالخارج.
كان الجميع يقف على أعصابه بعدما استمعوا إلى صوت الصراخ قادم من غرفة قاسم، وازداد التوتر بينهم أكثر عندما أخبرهم فور أن صوت الصرخات تأتي من أهلة تحديدًا.
بكت حبيبة داخل أحضان صهيب الذي أحاطها مُربتًا على ظهرها بحنان، لكن عقله مُنشغل مع أخيه الآن، خرجت حبيبة من أحضانه مُبتعدة عنه وهي تقول بقلق: هي. هي أهلة مالها؟

طالعها صهيب بقلة حيلة وهو يرى خوفها الشديد على الأخرى، لقد أخبرته من قبل أن أهلة أخذت مثابة جميع العائلة والأصدقاء لحنانها الشديد معها، لذلك لن يستطيع اقلاقها أكثر، لذلك تحدث بحنان أثناء تجفيفه لدموعها:
متقلقيش عليها يا بيبة ههي هتبقى كويسة، وبعدين أهلة اتعالجت وبقت تعيط أهي! يعني اللي بيحصل دا ضروري عشان مرحلة علاجها.

ارتعشت شفتي حبيبة بحزن وهي تُجيبه: بس هي عمَّالة تعيط أوي، أنا بحبها ومش بكون عايزاها تزعل.
ربت صهيب ععلى ظهرها بحنان وهو يهمس برجاء: هتبقى كويسة صدقيني، و قاسم كمان معاها متقلقيش.

وبالتوجه نحو مهرائيل، كانت تجلس بصمتٍ على غير العادة، الحزن يرتسم على وجهها ببراعة وأنظارها مُتعلقة بالأعلى حيث غرفة أهلة، لم يكن هذا هو السبب الوحيد المِتسبب في أحزانها، لكنها أخذته حِجة للتعبير عن تعاستها المخفية خلف قناع المرح والضحك.

جلست بجانبها لوسيندا بملامح وجه عابسة حزينة، تعلم ما يدور بخلدها من صمتٍ وصراعاتٍ كثيرة، لذلك اقتربت منها لتُعانقها بحنان وهي تهمس: كل حاجة بتعدي، وكل حاجة وليها آخر، حتى أهلة هتبقى كويسة متقلقيش.
كان آلبرت جالسًا على المقعد مع الجميع مُدعيَّا البرود واللامبالاة، لكن في الحقيقة هو قَلِق بشأن صديقه، ومن الناحية الأخرى قَلقًا على تلك المُصيبة الصامتة على غير عادتها!

استفاق على صوت الجَلبة القادمة من الخارج، فانتظر قليلًا حتى ظهر أخواته المُزعجين أخيرًا، ستيفن وإيغور في الأمام، وفي الخلف آندريه مُستندًا على ذراع شقيقه ليونيد بسبب إصابة قدمه، وما إن لمح آندريه أخيه آلبرت جالسًا؛ استدار برأسه نحو ليونيد مُتحدثًا بحزنٍ مُبتذل:
انظر ليونيد! لقد كاد أخي أن يقتلني يا فتى! ماذا ترك هو للغريب بحق الله إن فعل هو هكذا؟

مصمص ليونيد على شفتيه قائلًا بمواساة: لا تحزن أخي العزيز، ف آلبرت ورغم قسوته حنونًا.
هز آندريه رأسه بالنفي وهو يقول ببكاء زائف: لا يا أخي لا، لقد جرح قلبي هذا القاسي، انظر إلى قلبي المجروح.
أين؟
قالها ليونيد ببلاهة وهو ينظر موضع قلبه كما طلب، ليدفعه آندريه غيظًا من غبائه عندما وصل إلى الأريكة حتى يجلس عليها مُتحدثًا بهمس مُغتاظ: أيها الأحمق هل أنت أبله أو ما شابه؟

التوى ثُغر آلبرت بسخرية أثناء قوله الساخر: صدقني عزيزي آندريه إن كنت أريد قتلك لصوَّبتها نحو رأسك، أعلم جيدًا أن الزجاجة لم تستقر في قدمك وإنما هو خدش بسيط.
حمحم آندريه بقلق ثم اعتدل في جلسته قائلًا بابتسامة متوترة: ك. كنت أمزح معكَ أخي.
طالعه آلبرت بطرف عينه ثم أدار وجهه للناحية الأخرى وهو يُحاول إخفاء ابتسامته التي كادت أن تظهر من بلاهة شقيقه، ليس هو فقط، بل باقي أشقائه أيضًا.

ها يا خميس؟ مين اللي مسلطك عليا؟
كانت تلك كلمات مختار المليئة بالشر مع نظراته الحارقة التي يخترق بها الآخر، ليأخذ الآخر أنفاسه بنهيجٍ مُتعب وهو يُجيبه بأسف: ق. قاسم طاحون.
اسمه خرج من بين شفتيه بارتجاف، ليتحول وجه مختار إلى الحقد وهو يهمس اسمه بكلِ حقد، وسؤالٌ واحد بدأ يدور بخُلده: هل وليد كاذب؟

استفاق من شروده على سقوط رجاله صَرعى أرضًا بعد أن أصابت الطلقات رؤوسهم مُباشرةً، فتح مختار عيناه بفزع والذي أخرج سلاحه وهو يدور حول نفسه بهستيريا للبحث عن الفاعل، لكن يبدو أن الفاعل مجهول ولا يظهر من أي مكان يُطلِق هو، لذلك هرول للخارج يسير خلف الأشياء الخشبية والمعدنية ليتفادى الرصاصات الطائشة التي تُبادل بين رجاله والفاعل، وبالفعل صعد إلى سيارته وانطلق بها مُسرعًا، بينما رجاله سقطوا جميعًا أموات أمام ذلك المدعو ب خميس، والذي كاد أن يُبلل سرواله من شدة الخوف.

عمَّ الصمت المكان فجأةً، وبعد ثوانٍ معدودة ظهر الفاعل يرتدي قناعًا أسود اللون على وجهه ليخفي معالمه، بينما يحمل على ذراعه بُندقية كبيرة مليئة بالرصاصات، ابتلع خميس ريقه بخوفٍ شديد ثم تحدث بتلعثم: أنا. أنا م. معملتش حاجة.
رفع الرجل يده ثم أزال بها قناعه القماشي على بغتة، لتتسع عينيّ خميس بدهشة وهو ينطق اسمه بعدم تصديق: وليد؟

طالعه وليد بخيبة وهو يُعنفه: ليه يا خميس ليه؟ ليه تخون قاسم طاحون اللي بيحميني وبيحميك؟
أنزل خميس رأسه بخزي قائلًا: غصب عني والله، كان هيقتلني وهيقتل ابني لو متكلمتش.
ابتسامة مُتعصبة ارتسمت على ثغره وهو يُجيبه بضحكة حاقدة: ما هو كدا كدا كان هيقتلك، أنا لو كنت استنيت ثانية واحدة كمان أنت كنت زمانك دلوقتي في خبر كان، بس أنت جبان، جبان ومش راجل وبوظتلنا كل اللي إحنا بنخططله دلوقتي.

قال جُملته الأخيرة وهو يشد على خصلاته الطويلة بغيظ، بينما شعر خميس بالذنب الشديد عقب خيانته، لذلك صعد صوته مُتوترًا بخجل: أنا. أنا أسف، مكنتش أقصد أقسملك بالله بس أنا خوفت، أنا عارف إنه كان هيقتلني بس لو مكنتش اتكلمت كان هيجيب مراتي وابني وهيقتلهم قدامي وبعدها يسيبني محسور العمر كله.

طالعه وليد بعصبية لكنه هزَّ رأسه بيأس وهو يسب الحقير الآخر، لقد نُزِعت منه كل معاني الإنسانية والرحمة، والآخر معه حق، إن لم يكن قد تحدث؛ فكان سيُقهر قلبه على عائلته الصغيرة، لذلك اتجه وليد إليه بُخطى رتيبة حتى توقف خلفه، ثم فكَّ عنه الحبال كلها.
وقف خَميس من مكانه ثم نظر إليه آسفًا قائلًا باعتذار: سامحني. بس أنت عارف إن مختار الأرماني مبيرحمش، ومكانش هيرحمني لا أنا ولا ابني ومراتي.

هدأ غضب وليد قليلًا لعلمه بحقيقة حديثه، لذلك رفع كفه مُربتًا بها على كتفه وهو يقول بهدوء يشوبه الصرامة: أنت غلطت يا خميس بس أنا مقدَّر سبب اللي عملته كويس، عشان كدا خُد الفلوس دي واطلع برا البلد خالص، احمي نفسك واحمي ابنك ومراتك.
هز خميس رأسه بالنفي قائلًا برفض تام: لأ أنا مش هاخد حاجة، كفاية اللي أنا عملته، ابني ومراتي أنا متكفل بمصاريفهم، تسلم يا صاحبي.

طالعه وليد بيأس، ورغم علمه بخطأه؛ اقترب منه لاحتضانه قائلًا بود: خَلي بالك من نفسك يا خميس، ولو عوزت أي حاجة كلمني أنا أخوك.
ربت خميس على كتفه بامتنان ثم تركه وذهب من أمامه، بينما وليد طالع أثره بإحباط مُفكرًا بأنه عليه تبليغ قاسم بالأمر الآن، وإلا لن يمر الأمر مرور الكِرام.

إن الفؤاد يصرخ تهللًا، بالسعادةِ فَور رؤيته لضحكاتك.
بقولك لِف وشك يا قاسم.

قالتها أهلة التي تقف مُستندة على خزانة الملابس وهي تُطالعه بغيظٍ ارتفع على أثره ضحكاته بصخب، ليستدير بالفعل ويُصبح ظهره مُطالعًا لوجهها المُمتعض على هذا الخبيث الذي استغلها وقام بخلع ثيابها، لتظل هي ببلوزة ذات أكمام قصيرة للغاية، وبنطال يصل لما بعد ركبتيها، ورغم أنها كانت ترتدي ثيابها؛ إلا أنها خجلت منه وبقوة، خاصةً مع نظراته العابثة التي يُسددها لها من الحين للآخر.

نفخت أهلة بغيظ وهي تُبدل ثيابها المُبللة، حتى انتهت وأخيرًا بعد عشر دقائق كاملة، صاح قاسم بنفاذ صبر والذي سألها بضجر: ها؟ أبُص ولا لسه.
جائه صوتها الحانق وهي تخبره: بُص ياخويا بُص.
ارتسمت ابتسامة واسعة على ثغره واستدار لها، لكن ثوانٍ ما انمحت عندما رأى ما ترتدي! ليقطب جبينه بضيق ثم تحدث ساخطًا: هو مش الدولاب مليان بهدومك أهو؟ لابسة هدومي ليه بقى؟
سددت له أهلة نظرة باردة وهي تُجيبه باستفزاز: مزاجي.

عض على شفتيه بغيظ وود لو يذهب إليها ويشد خُصلاتها المُبللة بين يديه حتى يُهدِّيء من روعه، وما أثار غيظه أكثر هو حديثها الهاديء بقولها: تعالى اسندني عشان رجلي بتوجعني.
رسم ابتسامة صفراء على ثغره ثم ذهب إليها مُمسكًا إياها من قُبعة ثيابها قائلًا وهو يهزها بقلة حيلة: قوليلي أعمل فيكِ إيه وأنتِ فيكِ كل العِبر؟

تبددت نظراتها الباردة وطالعته ببراءة أهلكته وهي تقول: يعني شوية هدوم وتشيرتات هيخسرونا بعض يا قاسم؟
قالت الأخيرة ببعضٍ من الدلال الذي أطاح به وبفؤاده المسكين، ليزفر يعنف أثناء انحناءه لحملها: لأ طبعًا يا قلب قاسم، دا قاسم وهدومه ليكِ يا عيوني.
أنهى حديثه تزامنًا مع وضعها على الفراش، وبعدها انتفض على صوت صراخها الحانق وهي تقول: وطالما كدا عاملك فيلم من الصبح ليه؟ ولا هي حرقة دم وخلاص؟

فرغ قاسم فاهه من تحولها المُفاجيء والذي أفزعه في البداية، لكنه استفاق لنفسه فاقترب منها مُمسكًا بأُذنها بين إصبعيه يضغط عليه بقوة قليلة أثناء قولها الحانق: هو أنتِ عايزة تحرقي دمي وخلاص؟ يعني أنا سيبتلك هدومي يا شحاتة تلبسيها وفي الآخر مش عاجبك.
تأوهت وهي تنظر إليه بغيظ، وما كادت أن تتحدث حتى استمعت إلى صوته المُحذر يقول: مش هسيبك غير لما تقولي أنا أسفة.
علي جُثتي.

قالتها بقوة رغم تألمها، وبعد ما يقرب الدقيقتان كانت تهتف بوجع: خلاص. خلاص أنا أسفة.
ترك قاسم أُذنها وبسمة انتصار ترتسم على فمه ببراعة، مما زاد من حنقها وضيقها منه، لكنه بالطبع لم يهتم. حسنًا دعوني أخبركم بأنه مُهتم لكنه يُمثِّل اللامبالاة.

اتجه نحو دُرج الكومود وقام بفتحه بهدوء، ثم أخرج منه عُلبة كريم للتلطيف من وجع قدمها، وبعدها اتجه إليها جالسًا في نهاية الفراش أمام قدمها، مما جعلها تقطب جبينها بتعجب وتتسائل باستغراب: أنت هتعمل إيه؟
أجابها ببساطة أثناء فتحه للعُلبة: هحطلك مرهم عشان رجلك.
حاولت سحب قدمها وهي تقول برفض: لأ. هات أنا هحط لنفسي، مينفعش أنت تحطلي.

أمسكها من قدمها مانعًا إياها من سحبها، ثم تحدث بصوتٍ صارم وملامح وجه جدية للغاية: أهلة! لازم تعرفي إن أنا جوزك واللي هعمله دا مش هيقل مني، أنتِ مراتي وملزومة مني، يعني اللي بعمله دا هو الطبيعي والعادي.

صمتت أهلة تُطالعه بابتسامة صغيرة ولم تتحدث، بينما هو شرع في وضع الكريم على كف قدمها المجروح بكل حنانٍ وكأنها صغيرته، وهي بالفعل صغيرته الروحية التي لا يستطيع الاستغناء عنها، يغرق إن تركها وحدها ورحل، هي مصدر بهجته وسعادته ولن يستطيع التفريط بها بسهولة.

كانت تُطالعه بكلِ حُبٍ وامتنان، يهديها الحنان المسلوب منها دون مُقابل، لم ينتظر بديلًا بل يُعطي بلا اهتمام، حنانه وافر وحبه أكبر، ويبدو بأنها سقطت في بئر عشقه هي الأخرى، لكن لن تتفوه بما تشعر به الآن، ستنتظر الفرصة المُناسبة والقريبة وتعترف بما يختلج به صدرها.
أنهى ما يفعل ثم أغلق العُلبة ووضعها مكانها مُجددًا، ثم التف إليها مُقبلًا جبينها بحنان قبل أن يردف بحب: هنزل أجيبلك أكل وجاي تاني، ماشي؟

أومأت له بابتسامة شاكرة فتركها ثم هبط للأسفل ليجلب لها الطعام الذي حضَّره خصيصًا لها، بينما هي تابعت أثره بأعين مُلتمعة شغوفة، وعقب ذهابه رفعت ياقة ثيابها لتغوص بها وهي تُتمتم بسعادة: يخربيتك سُكر.

إن كفَّت الأصوات عن الحديث، فلن يكف الفؤاد عن التهليل بفرحة رمضان.
أنت يابني ناولني فرع الزينة دا، دماغي بتصفر من الهوا فوق.
تحدث رائد بتلك الكلمات بحنق شديد وهو يصرخ ب يحيى الذي يتركه ويقف جانبًا ليتناول سحوره للمرة المليون.
رفع يحيى أنظاره الحانقة له وهو يصرخ بفمٍ مُمتليء بالطعام: يعني متسحرش عشان حضرتك؟ ما أنا قولتلك علَّق أفرع النور حوالين رقبتك.

فاض الكيل ب رائد الذي صرخ به بنفاذ صبر دون أن يعي للنظرات التي التفت له: يا حيوان أنت بتتسحر من الضهر، أنت عايز تجلطني؟
تأفف يحيى بحنق لكنه أكمل تناول طعامه بكلِ نهم وتلذذ، لا يعلم كيف سيصوم غدًا وسيكف عن تناول الطعام لثلاث عشرة ساعة مُتتالية، بينما رائد كاد أن ينفجر من الغضب والغيظ من غباء صديقه.

استمع إلى صوت ضحكات تأتي من جانبه، ليجد سيف جاره والذي ساعده قاسم من قبل لسد ديونه يُناوله فرع الزينة اللامع وهو يقول ضاحكًا: خُد يا رائد ووفر طاقتك للصيام.
أخذ منه رائد الزينة ثم شكره قائلًا: تسلم يا سيف، نردهالك في الأفراح يا صحبي.

ابتسم له سيف ووقف مُتابعًا إياه بابتسامة خافتة، كم يرغب بصداقة كخاصة يحيى ورائد، صداقة مبنية على الحب، الثقة، الإحترام، بعيدًا عن المصالح والأنانية، لكنه حتى الآن لم يجد ذلك الصديق الذي سيُكمل معه الطريق دون كلل أو ملل.
أنهى رائد تعليق فرع الزينة والذي كان الأخير لحُسن حظه، لكنه استدار برأسه تجاه سيف طالبًا منه بأسف: معلش يا سيف ناولني الفانوس دا الله يكرمك لحد ما البغل التاني يخلص أكل.

طالعه يحيى بسخط من طرف عينه ثم حذره بصوتٍ صارم: اتلم ياض بدل ما أجي أقلبك بالسلم، أنا مش عشان طيب وابن ناس مفكرني هسكتلك.
تناول رائد الفانوس من سيف أثناء ترديده لجُملته الأخيرة بكل سخرية: طيب وابن ناس آه، ياض دا إحنا دافنينه سوا.
قالها ثم أشار ل سيف على الفانوس الآخر قائلًا: يارب تتجوز هات الفانوس اللي على يمينك دا.

ضحك سيف بخفة، فانحنى جاذبًا الفانوس ثم أعطاه له بكل مرونة، ليتحدث سيف بعدها بمشاكسة أثناء توجيهه لحديثه إلى يحيى: كُل يا يحيى يا حبيبي أصل باين عليك هفتان.
طالعه يحيى بمسكنة بعد أن أنهى الطعام، ثم أردف بتنهيدة ثقيلة تُعبر عن مدى الظُلم الذي يتعرض له: قوله يا سيف ياخويا قوله، الناس بقت ظالمة وقلوبها ظالمة، واللي تحسبه صاحبك يطلع جوز أمك.

هبط رائد من على السلم ثم دفعه وهو يقول بسخرية: طب يلا يا روح أمك عشان نكمل تعليق الزينة.
قالها وهو يُبعده بيده ليسير أمامه، بينما توقف سيف مكانه مُتابعًا أثر خطواتهم بابتسامة حزينة تُعبِّر عن خواء فؤاده.
بينما سار كُلًا من يحيى ورائد بجانب بعضهم البعض، فشعر يحيى بقلة عددهم، استدار للخلف فوجد سيف واقفًا في مكانه دون أن يتحرك، لذلك قطب جبينه بتعجب وهو يتسائل: واقف عندك كدا ليه؟ مش هتيجي معانا؟

نظر سيف حوله بزهول علَّه يُحدِّث أحدًا غيره، لكن لم يكن هُناك سواه لينظر إليه، لذلك أشار لذاته مُرددًا بدهشة: أنا؟
سخر يحيى قائلًا: لأ بكلم خيالك، يلا يابني تعالى معانا أنت هتعملي فيها مكسوف؟

اتسعت ابتسامة سيف كما لم يضحك بسعادة من قبل، ثم ذهب إليه بخطواتٍ سريعة حتى بات جوارهم مُباشرةً، أحاط يحيى المُمتعض رائد بالذراع اليُمنى، و سيف بالذراع اليُسرى، وسار هو بالمنتصف وهو يقول بمزاح: كدا خلوني أقولكم يا أخواتي إن رمضان في مصر حاجة تانية والسِر في التفاصيل.
سخر رائد بقوله الحانق: أي تفاصيل دي؟ قصدك السحور العشرين اللي أنت اتسحرته؟

قلب يحيى عيناه بملل من حنقه الذي لا ينتهي، فاستدار ناظرًا نحو سيف قائلًا بابتسامة مُتسعة: بقولك إيه يا سيفو يا حبيبي! عاملين إيه النهاردة على السحور؟
ضحك سيف بسخطٍ على صدمة رائد الظاهرة على وجهه، ثم أجابه بجهل: مش عارف والله، ممكن أقضيها بحتة جبنة ورغيفين عيش وخلاص.
استنكر رائد ذلك والذي تحدث بابتسامة واسعة: لأ مفيش الكلام دا، أنت هتيجي تتسحر معانا أنا و يحيى ويبقى سحور جماعي.

ابتلع سيف ريقه بحرج وهو يُجيبه: مش هينفع، عشان مكونش تقيل عليكم.
وهذا أكثر ما كان يُؤرقه في صداقاته مع زملائه، أن يكون غير مرغوب به أو حِملًا ثقيلًا فوق رؤوسهم، لكن رائد نفى ذلك قائلًا بقوة: لأ طبعًا تقيل دا إيه؟ أنت أخونا ياض، وياما جينا كَلنا من إيد والدتك من وإحنا صغيرين.
قطب يحيى جبينه بضيق قائلًا: إيه دا؟ أنا مكلتش حاجة من إيدك مامتك يا سيفو.

علت ضحكات سيف والذي رد عليه بمشاكسة قائلًا: تعالى كُل يا عم ولا تزعل نفسك، وبالمناسبة السعيدة دي أنا عازمكم بكرة على أول فطار في رمضان.
وللمرة الثانية يعترض رائد وهو يُولول ضاربًا على وجهه: نهارك منيل؟ أنت عايز جيجي تقتلنا ولا تبيعنا أعضاء؟ هات أمك يا عم وتعالى افطر معانا أنت، أنا كدا كدا كنت هعزمك.
أخفض يحيى ذراعه ثم صفق بكفيه قائلًا بحماس: كدا فُل أوي، يبقى كدا اتفقنا، هنفطر بكرة كلنا سوى.

أكدوا على حديثه، ليقول رائد بنبرة جدية زائفة بعد أن اعتدل في مكانه: بما إننا اتفقنا؛ ف يلا يا استاذ أنت وهو عشان نكمل تعليق الزينة.

هبط قاسم للأسفل فوجد الجميع مُتجمع يجلسون بالصالون يظهر على محياهم إمارات القلق والتوتر، وما إن رأته حبيبة حتى هرولت إليه مُتحدثة بقلق: أهلة كويسة؟
ابتسم لها قاسم ابتسامة صغيرة وهو يقول: أيوا الحمد لله بقت كويسة.
جاورها صهيب ثم وجَّه حديثه لشقيقه قائلًا: كله تمام ولا محتاج أي مساعدة؟
ربت قاسم على ذراعه مُتشدقًا بحب: لأ يا حبيبي تسلملي.

طالعته حبيبة بتردد أثناء قولها المُتوتر: ههو أنا ينفع أطلعلها عشان أطمن عليها؟
وافق قاسم بقوله: أكيد براحتك.
شكرته بامتنان ثم هرولت للأعلى حيث تقبع أهلة تلك الصديقة الودودة التي دعمتها في محنتها، بينما أتى آلبرت وفور وجميع أخواتهم ليقفوا أمام قاسم للإطمئنان على زوجته، فطمأن قاسم الجميع عن صحتها الجيدة، خاصةً الفتيات اللواتي كان القلق ينهش بأفئدتهم، وظهر هذا في قول مهرائيل المُرتاح:.

الحمد لله إنها بقت كويسة، وبكرة الصبح إن شاء الله هتطمن عليها عشان متعبهاش أكتر.
وافق قاسم مُبتسمًا للجميع بامتنان، بينما آلبرت أشار لجميع أخواته بنظرة واحدة من عينه بإشارة فهموها جميعًا بامتياز، وبعدها اتجهوا جميعًا للخارج حيث الحديقة وتركوا البقية يقفون معًا.

تركتهم لوسيندا وصعدت إلى غرفة زوجها للإطمئنان عليه، بينما قاسم اتجه نحو المطبخ ومعه شقيقه صهيب لأخذ الطعام ل أهلة، بينما مهرائيل وجدت نفسها تقف وحيدة ولا أحد حولها!
تنفست بعمقٍ وبدأت ظواهر الضيق والحزن تظهر ببراعة على وجهها، فاتجهت نحو الخارج حيث نسمات الهواء البارد ليضرب به وجهها، ثم جلست على المقعد الوثير مُمسكة بهاتفها لتعبث به.

فتحت تطبيقات التواصل الإجتماعي بأكملها وجميعهم يحتفلون بشيءٍ واحد، ألا وهو عيد الأم، الجميع يحتفلون بوالدتهن لكن هي كانت يتيمة! هي ليست سيئة، لكنها لا تستطيع السعادة من أجلهن، لقد فقدت والدتها في سنٍ صغير وتُرِكَت لجبروت أبيها حتى يفعل بها ما يشاء، وحين اشتد الألم بفؤادها؛ رمت الهاتف أرضًا ثم رفعت قدمها لتضم ركبتيها لصدرها ومن ثَم شرعت في البكاء.

هي أكثر مَن يحتاج إلى عناقٍ دافيء من والدتها الآن، تريد أن يُجبَر فؤادها بدلًا من آلامه المُتزايدة، وبفؤادٍ مكلوم وشهقاتٍ حادة همست بألم: وحشتيني يا ماما، وحشتيني أوي.
قالتها ببكاءٍ عنيف لم تستطيع إيقافه، وكيف تُوقفه وهي قد فقدت قطعة من روحها! لم تجد مَن يُحبها بصدقٍ مثلما كانت تفعل هي، دائمًا ما كانت تُعطي من دونِ مُقابل، والآن هي رحلت عن العالم بأكمله وتركتها تُعاني من الويلات.

شعرت بمن يجلس بجانبها لكنها لم ترفع عيناها له، لقد عرفته من رائحة عطره المُميزة، وكعادته الأخيرة؛ ققد شهد ضعفها مرة أخرى، أمسك آلبرت بكف مهرائيل يُبعده عن وجهها المليء بالدموع، وبأصابعه قام بتجفيف دموعها بحنوٍ بالغ وهو يتسائل:
ما بِكِ جروي الصغير؟

في تلك الأثناء كانت مهرائيل تُحاول السيطرة على ذاتها والكذب عليه، لكن مشاعرها طغت على لسانها وانفجرت في البكاء، جذبها آلبرت لأحضانه وهو يُربت على ظهرها بحنان أثناء قوله: ششش كفى عن البكاء عزيزتي، لا شيء يستدعي تلك الدموع كلها.
وهمسة واحدة خرجت منها بصوتٍ مبحوحٍ باكي: ماما. ماما وحشتني أوي.

والآن علم ما بها، لكن لم يجد سوى مواساة جيدة تُناسب هذا الموقف، أغمض عيناه بألم شاعرًا بكل ما يختلجها الآن، هو يعيش نفس شعورها، لكن الفرق الوحيد أن والدته على قيد الحياة، زفر بضيقٍ فمال على خصلاتها يُقبلهم بحنان وهو يقول:
هي الآن تراكِ، تسمعكِ، وتشعر بكِ، لا تجعليها حزينة لرؤيتها لدموعك بهذا الشكل.
أنا محتاجاها معايا، حاسة إني لوحدي.

همست بها بضعف، ليرفع رأسها مقابل وجهه ثم أردف بحنان: أنتِ لستِ وحدك، أنا هُنا معكِ وبجانبك.
طالعته مهرائيل بعدم فهم أثناء تجفيفها لدموعها بيدها، ثم تحدثت بحيرة: بس انتوا مسيركوا هتزهقوا مني وهمشي من هنا.
رد عليها آلبرت بقوله: ليس بعد أن أنهكتِ عقلي وتفكيري أترككِ تذهبين بكل تلك السهولة.
قطبت جبينها بعدم فهم رغم التوتر الذي أصاب محياها: مش. مش فاهمة!

اقترب منها آلبرت على بغتة ثم قبَّل وجنتها بحنانٍ قبل أن يقول بنبرة مُبهمة غير واضحة: ستعلمين ما أقصده قريبًا جروي الصغير.

كان صهيب واقفًا بجانب أخيه يرمي على مسامعه كلمات المواساة والطمأنينة حتى يستعيد هدوئه وراحته، حتى زفر قاسم صائحًا بضيق: يابني والله أنا كويس ومش زعلان.
نفى صهيب برأسه وهو يقول بصرامة: لأ أنت مش كويس إيش عرفك أنت؟

أغمض قاسم عيناه بيأس من عنادِ أخيه المُلازم لقلقه، بينما عاد صهيب لنفس الحديث الذي يُعيده منذ أكثر من نصف ساعة: المهم أنا مش عايزك مضغوط أو متضايق، أنا حاسس بيك ياض عشان أنت أخويا، يعني من لحمي ومن دمي، فلو في أي وقت من الأوقات حبيت تتكلم أو تحكي اللي مضايقك؛ هتلاقيني موجود على طول.
ضحك قاسم بيأس بعد أن أنهى رص الأطباق، ثم اقترب منه يحتضنه بحب شديد وهو يقول: ربنا يخليك ليا يا حبيب أخوك.

بادله صهيب العناق بسعادة، فابتعد عنه قاسم ثثم تشدق أثناء حمله لصينية الطعام: يلّا بقى نطلع للبنات ونشوفهم بيعملوا إيه.
وافقه صهيب على الفور ثم صعد بجانبه الدرجات، وحين اقتربوا من الغرفة تحدث صهيب بثقة: متقلقش، هتلاقي حبيبة فرفشتهالك دلوقتي وبقت 100 فُل وعشرة.

وحين وصولهم إلى أعتاب الغرفة، استمعوا إلى صوت حبيبة المبحوح والذي يظهر عليه أثار البكاء تقول: خلاص لو مش مرتاحة معاه اتطلقي منه طالما بيخليكِ تعيطي كدا.
طالع قاسم أخيه بتشنج والذي طالعه بضحكة غبية زادت من حنقه، ليجز قاسم على أسنانه هاتفًا بغيظ: تدخل تاخد مراتك ومشوفش وشكم تاني، مراتك جاية تخرب عليا بعد ما الدنيا هديت.
جعد صهيب جبينه وهو ينفي بقوة: لأ طبعًا، هتلاقيها كانت بتهديها بس التعبير خانها.

والله إيدي اللي هتخوني دلوقتي وهتنزل على وشك تعلم عليه.
قالها من بين أسنانه، ثم طرق الباب بهدوء وبعدها دلف للداخل واضعًا الطعام على الطاولة تزامنًا مع مسح حبيبة لدموعها ونظراتها الحارقة التي ترميها إليه وكأنه هو مَن تسبب في دموع صديقتها العزيزة!
همس قاسم لذاته مُتحسرًا: حسبي الله ونعم الوكيل على سوء الظن دا!

بينما ذهب صهيب إلى حبيبة يجذبها إليه وهو يُطلِق ضحكات صاخبة على هيئتها اللطيفة أثناء غضبها، ليقول من بين ضحكاته: يلا يا بيبة ننزل إحنا دلوقتي ونسيبهم على راحتهم.
أومأت إليه حبيبة بصمت، ثم استدارت نحو أهلة واحتضنتها بحب قائلة: أنا موجودة لو عايزاني ابقي ناديلي.
ربتت أهلة على كفها وهي تقول بامتنان: حاضر يا بيبة متقلقيش عليا.

سددت لها حبيبة نظرة حنونة قبل أن ترحل وتذهب مع زوجها، ولكن قبل أن ترحل رمت نظرات حانقة نحو قاسم الذي طالعها بدهشة حقيقية بالفعل! ما ذنبه هو في كل هذا ليُؤخذ به؟
ضحكت أهلة بصخب على قسماته المُتشنجة، ليستدير إليها قاسم مُتحدثًا بسخط: والله ياختي؟ يعني عاجبك اللي بيحصل؟

أتى الليل سريعًا، وقام قاسم بإطعام أهلة الطعام بيده بكل حنان وكأنها طفلته المُدللة.
ذهب آلبرت وأخواته إلى إحدى المهام المجهولة والتي لن تكون يسيرة بالطبع، دلفوا إلى أحد الغارات وغابوا بداخلها لبعض الوقت، وبعد نصف ساعة خرجوا منها مُهرولين و فور يحمل على ظهره حقيبة مليئة بالمواد الثقيلة، وبعدها وقفوا بعيدًا عن تلك الغارة، ولم تمر سوى ثوانٍ معدودة من خروجهم حتى وانفجرت الغارة بمن فيها بأكملها.

ضرب الأخوة كفهم بكفِ بعضٍ بغرور وبعدها قرروا العودة إلى المنزل، وبعد نصف ساعة وصلوا جميعًا إلى قصرهم الكبير.
لكن مهلًا! فالقصر مليء بكل أنواع الزينة في حديقته، أو بالأصح زينة رمضان، قطب آلبرت جبينه وهو ينظر حوله بتعجب مُتسائلًا: مَن فعل هذا؟

لم يأتي الرد من أحدٍ من أخواته بالطبع، بل أكملوا السير ليروا الفوانيس تملأ الأركان بألوانها الذهبية المُبهجة، وفروعٌ كثيرة من النور على شكل هلال أو نجمة مُعلقين في كل مكان، وعلى كِلا الجانبين يوجد عمودين من النور مُعلق بهما مصباحين يدور بكافة الألوان والأشكال، مما حوَّل الحديقة لقاعة ديسكو كما يُقال، دلفوا للداخل فكان المظهر كالتالي:
قاسم يُعلق بقية الزينة داخل القصر وكأنه منزل أبيه أو ما شابه.

صهيب يُساعده في تثبيت الفوانيس ووضعها كأنتيكات للتزيين.
حبيبة تجلس بجانب أهلة تُطالع القصر بانبهار بعد أن زادته ألوان الزينة جمالًا فوق جماله.
و مهرائيل تُغني بصخبٍ وهي تتمايل ببلاهة يمينًا ويسارًا: رمضان جانا. وفرحنا بُه. بعد غيابه. أهلًا رمضان. رمضان جانا. أهلًا رمضان. مرحب بهدومك. يا رمضان. ونعيش ونصونك. يا رمضان. أهلًا رمضان. رمضان جانا.

ارتفعت ضحكات الجميع بصخب ليتحدث قاسم ضاحكًا: أنا ليه حاسس إنك فرحانة أكتر مننا برمضان؟
أجابته مهرائيل وهي تُصفق بحنان: طبعًا فرحانة. هو رمضان بيجي كل شهر يعني؟
وتلك المرة تحدثت أهلة ضاحكة: يا بنتي فوقي أنتِ مسيحية وأقسم بالله! تعالي بس أقعدي هنا واتهدي لحد ما يخلصوا تعليق الزينة.
هبط قاسم من على الكرسي مُنفضًا كفيه معًا وهو يقول: أنا خلصت تعليق الزينة وكله بقى تمام.
حقًا؟

صعدت تلك الكلمة من فاه آلبرت الذي نطقها باستنكار، فاستدار له قاسم مُتفاجئًا بوجوده ثم أردف ضاحكًا: معذرةً عزيزي آلبرت، رمضان بكرة وكل سنة وأنت طيب بقى، وطبيعي إحنا مش في مصر فمش هنلاقي الأجواء دي هنا، عشان كدا قررت أعملها بنفسي.
كاد آلبرت أن يتحدث لكنه قاطع حديثه أثناء قول مهرائيل المُتحدث بحماسة: بما إننا كلنا متجمعين ف يلا نتسحر.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة