رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني
يقولون أن الحب جنة، وما هو إلا بجحيم خادع، يجذبك تجاهه بكل إحتواءٍ وحنان، وعند إرتخائك به؛ تشتعل النيران تنبش بكل ذَرة في فؤادك، فتُصبح كالجسد بلا روح، مُجرد جثة هامدة تسير في الارض بلا هوية.
أمسكت أَهِلَّة بقلمها وعيناها مُثبتتان على الورقة البيضاء الفارغة أمامها، ستُشعل الوسط مِن حولها قبل ذهابها، تلك المهمة التي كلفها بها رئيس التحرير ما هي إلا بداية الهلاك، ورغم إنقباضة قلبها من القادم؛ إلا إنها بدأت بتدوين الكلمات التي ستُشعل المدينة بأكملها:.
وعلى المرة الثانية على التوالي في نفس الشهر. تم قتل الطبيب رفعت الأرماني بطريقة بشعة تُوحي بعدم آدمية القاتل، ومن قبلها تم قتل ابنه حاتم الأرماني بنفس تلك الطريقة، يبدو أن عائلة الأرماني الشهيرة مُستهدفة ولديها الكثير من الأعداء، لكن لما! هل تعمل العائلة بأعمالٍ غير مشروعة والقاتل ينتقم! أم هناك فردًا منهم يقوم بقتلهم واحدًا تلو الآخر للإستيلاء على ثروتهم المهولة! أم تتفق أجهزة الشرطة مع القناص للتخلص من أشخاص مُحددين بعينهم! الكثيرُ والكثير من التساؤلات، وحلقاتٌ مفقودة تُسبب حالة من الذُعر بين المواطنين، ومن بين كل هذا يبقى السؤال الأهم على الإطلاق، مَنْ القناص! .
مجهولة نارية.
هكذا وقَّعت بإسمها المُستعار أسفل كتاباتها، نظرت أهِلَّة للمقال الذي حضرته بابتسامة منتصرة، إن كان رئيسها يُريد التخلص منها؛ فلتتخلص هي منه قبل أن يفعلها، ذلك النكرة الحقير ستُذيقه من الويلات مثلما فعل، تعلم كُل العلم بأن ما دونته سيفتح أبواب الجحيم على الجميع، وهذا ما تُريده تمامًا.
انتفضت من مكانها ثم اتجهت إلى المرحاض بعدما خبئت الاوراق في الدرج الخاص بها، فتحت صنبور المياة ثم غسلت يدها، فركتهما بقوة شديدة، هي غسلتها منذ عدة دقائق، لكن بات وسواسها القهري يؤرقها بشدة تلك الأيام، اصبحت تشمئز من لمسات الجميع التي تُشعرها بالغثيان، اغلقت الصنبور مرة أخرى ثم نظرت لكفيها تتأكد من نظافتهم، وعندما هدأت قليلًا خرجت بهدوء وكأن شيئًا لم يحدث.
عادت لمكتبها فوجدت يمنى خلفها مُباشرة قائلة بإستعجال: يلا يا أَهِلَّة ماما اتصلت كذا مرة عشان اتأخرنا.
أومأت لها ثم أردفت بهدوء: رُبع ساعة بس يا يُمنى وهنمشي، هنزل أطبع الخبر.
حدجتها يُمنى بيأس على عِنادها ولم تتحدث، فلن يتغير شيء إن فتحت الأمر مرة أخرى، جلست على مقعدها قائلة بهدوء: تمام، وأنا هستناكِ هنا.
هزت أهلة رأسها بخفة، ثم انتشلت الأوراق التي كتبتها منذ عدة دقائق تنظر لها مُجددًا بنظرات سريعة، وبعدها خرجت من المكتب نهائيًا قاصدة غرفة الطباعة، طرقت الباب ثم دلفت بهدوء، فوجدت الموظف المسؤول عن الطباعة والنشر يجلس أمام الآلة، اقتربت منه ماددة يدها له قائلة بملامح مُبهمة وباردة: اطبع الخبر دا وانشره.
حدجها الموظف بقلق، فلطالما كانت مقالاتها تُثير الجدل في الأرجاء، أمسك بالأوراق ثم بدأ في قرائتها لتعديلها، فاتسعت عيناه مما هو مكتوب، يبدو أنها تريد الدمار للجميع، رفع حدقتاه له قائلًا بهلع: إيه اللي أنتِ كاتباه دا؟ أنتِ كدا هتودينا في داهية كلنا.
احتدمت عيناها بغضب، فصرخت بوجهه غاضبة: أنت تعمل اللي أنا بقولك عليه وخلاص، وخليك فاكر إن رئيس التحرير بنفسه هو اللي سمحلي أنشر أي حاجة وفي أي وقت.
قطب جبينه بضيق ثم وضع الأوراق أمامه على المكتب مُردفًا لها يُحاول إقناعها: يا ستي عارف، بس دا مش هيطولك منه غير الأذى، كل مرة بتنشري خبر أنقح من اللي قبله وبتفلتي بصعوبة.
تنفست أَهلة بعمق تُحاول السيطرة على إنفعالاتها، فتحدثت بنبرة حاولت بقدر الإمكان أن تظل هادئة: اعمل اللي طلبته منك يا رضا وخلاص، اطبع الخبر وعلى بكرا الصبح عايزاه يكون في كل الجرايد.
تركته وسارت عدة خطوات، ثم وقفت مُستديرة له تُقول بتحذير: المقال لو متنشرش يا رضا هتزعل مني صدقني، وأنا زعلي وحش أوي.
ألقت بكلماتها المُحذرة ثم تركته وغادرت تطرُق بكعب حذائها الحاد على الأرض السيراميكية اللامعة، تاركة رضا ينظر لأثرها بإحباط، عاد بحدقتاه تجاه المقال التي تُريد نشره وهو يُتمتم بحسرة: يا وقعتك المربربة يا رضا، هعمل إيه دلوقتي! لو منشرتوش هتهزق من أَهِلَّة، ولو نشرته هتهزق من ضياء بيه، يعني في الحالتين متهزأ.
وقف بيأس ثم بدأ بطباعة ذلك المقال التي كتبته، عالمًا في قرارة نفسه أن ذلك الخبر من المُمكن أن يُغلِق لهم الجريدة للأبد، لخطورة ما تحتويه كلماته المُغلفة بالإتهام تجاه الشُرطة وكِبار الأعمال.
أنا مش شمتان.
لكن من حقي إن أنا أفرح إنك زعلان.
أول ما ندمت عرفت إنك زينا إنسان.
بتحس وليك قلب يحاسبك ترجع ندمان.
سيبني أفرح فيك.
هكذا ردد قاسم كلمات الأغنية بإبتسامة عريضًا وإنتشاء كبير، سخر رائد منه ضاحكًا: يا راجل أنت مش شمتان! أومال لو شمتان هتعمل إيه!
حوَّل قاسم أنظاره له ثم أردف بضحكة عالية: قول يابني استغفر الله، احنا مش بنشمت في موت حد.
شاركهم چون المرح قائلًا بمشاكسة: وأنا أشهد على أخلاقك يا عزيزي.
غمز له قاسم بمرح وهو يقول بسعادة: أخويا وعم عيالي أقسم بالله.
قاطع فور لحظاتهم مُتحدثًا بتذمر: أنا جائع يا رفاق، لم آكل منذ نصف ساعة.
استدار له رائد يرمقه بسخرية، ثم أردف باستنكار: يا ساتر يارب! بقالك نص ساعة مكلتش!
أومأ له فور آسفًا، قائلًا بتأثر: نعم، أرأيت! كنت اتضور جوعًا وأنا جالس بين الرجال، حتى أنني تخيلت ذراع الرجل طعامًا وكِدت أن ألتهمه أُقسم.
انفجر الجميع في نوبة من الضحك مما يرويه، فأردف قاسم من بين ضحكاته: تخيلت شكلك وأنت ماسك دراع الراجل وعايز تاكله مسخرة.
قهقه رائد بقوة ضاربًا يده بكف قاسم مُتحدثًا: احنا نخاف على فخادنا بعد كدا بقى لياكلها.
حدجهم فور بضجر، ثم تحدث بما جعلهم يفتحون أفواههم ببلاهة بعدما أوقفتهم الصدمة عن الضحك: يا رِفاق! أتعرفون جارتنا التي تسكن جانب منزلنا! لقد سرقت منها دجاجة كبيرة ثم سلقتها وأكلتها وحدي دون أن أُخبر أيًا منكم.
انتفض جون صارخًا ينهره بغضب: يا رجل ماذا فعلت! لقد لوثت شرفنا في الطين أيها الأحمق، نحن لا نسرق بل نقتل فقط.
جعد فور وجهه بسخط، ثم أجابه بضيق: لقد كنت جائعًا، ماذا كنت أفعل حينها! أتريدني أن أموت جوعًا!
جاءه صوت رائد متحدثًا بإستنكار: لأ ياخويا متموتش من الجوع، اسرق عشان ربنا يودينا النار.
تلك المرة وجَّه قاسم حديثه له وهو ينظر من المرآه الأمامية له متشدقًا بغضب: يعني تسرق الفرخة ومتأكلناش معاك! تصدق إنك بجح وناكر للجِميل.
أيده جون ساخطًا: أخبره، ذلك الأناني الوقح يسرق الدجاجة ومن ثم يأكلها وحده.
شاركهم رائد هو الآخر صارخًا بوجهه وهو يسأله: ويا ترى بقى سلقتها ولا حمرتها! أنا بحب الفراخ المتحمرة أكتر.
أجابه فور بثقة: شويتها وأكلتها كلها، كانت لذيذة بحق.
تمتم قاسم بصوت حانق: تطفحها.
طالعهم فور بغيظ، ثم أردف صارخًا: أريدُ أن أقول لكم شيئًا فقط، تبًا لكم أيها الأوغاد.
أوقف قاسم السيارة أمام أحد المطاعم، ثم أجابه ساخرًا: والله ما فيه وغد غيرك.
هبط الجميع من السيارة عندما هبط قاسم أولًا، ليتسائل رائد بتعجب: وقفنا هنا ليه!
أجابه بهدوء تزامنًا مع إغلاقه لسيارته: هنتعشى هنا النهاردة.
بس أنا قولت لماما إن احنا هنتعشى في البيت النهاردة وهي عملت حسابها.
غمز له قاسم بمشاكسة: وماله، هناكل هنا وبعدين هناكل من إيد چيچي.
اتسعت ابتسامة الجميع بشراهة غريبة، فيبدو أنهم مُتفقين على عشق الطعام، و فور يعشق الطعام والنوم معًا، يعتبرهما أشياء مُقدسة في الحياة، لذلك تحدث بحماس: يعيش رائد يعيش، آه لو تعلمون أنني أحب الطعام كحبي لأطفالي.
ساروا معًا تجاه المطعم فتسائل چون متعجبًا: ليس لديك أطفال يا رجل.
أومأ فور قائلًا: أعلم، لكنني أحبهم كثيرًا منذ الآن، سأكون حنونًا عليهم، لن أكون قاسٍ مثل أمي.
قال الأخيرة بخفوت متألم ظهر في نبرة صوته، حدجه الجميع بحزن دفين لما مرَّ به من قبل، حدجه چون بأسى، فما كان عليه سوى الصمت، وبماذا يجب عليه أن يتحدث وهو كان يتعرض من والدته بنفس التعدي والضرب!
أشار قاسم ل رائد فأومأ له، ليُحيط قاسم بكتف فور قائلًا بمزاح: إذًا أنت حزين فلن تأكل، صحيح!
أجابه فور متذمرًا: ماذا تريد مني قاسم! أنا لا آكل كثيرًا، لِما هذا الظُلم إذًا!
قهقه قاسم بخفة مؤكدًا له وهو ينظر لمعدته التي امتلئت بالقليل من الدهون: أعلم أعلم، حتى إنك فقدت بعض الكيلوجرامات يا صاح.
بينما أحاط رائد بكتف جون بنفس الطريقة، ثم قال بتخطيط: ما رأيك عزيزي چون أن نسرق دجاجة غدًا مثلما فعل فور اليوم.
علم چون ما يُحاول فعله، لذلك شاركه في مرحه ليستطيع النسيان: ليس لدي أي مانع، لكن أنت الذي سيسرقها فأنا لستُ ب لِص.
لوى رائد شفتيه بإستنكار، ثم تشدق بسخرية: كم أنتَ شاب خلوق يا فتى! على أساس إنك لن تأكل منها!
رد عليه چون نافيًا يُحاول شرح ما يُفكر به: بل سآكل بالتأكيد، في النهاية أنت مَن ستسرقها لستُ أنا.
وصلوا إلى طاولة فارغة فجلسوا عليها جميعًا، وبعد ما يقرب من الدقيقة جاء لهم الجرسون ليُملوا عليه طلباتهم، تحدث قاسم بإبتسامة هادئة لهم: ها تاكلوا إيه! العزومة عندي النهاردة.
تحدث فور صائحًا بحماس: أريد دجاجة كاملة، وقطعة كبيرة من اللحم، ومعهم طبق كبير من الأرز الطازج، ونصف كيلو من الكباب، ويا حبذا لو تجلب لي صينية كبيرة من المحشيات.
حدجه الشباب بصدمة جليِّة ظهرت واضحة على تعابير وجههم، فصعد صوت الجرسون مُتسائلًا ببلاهة: الأكل دا للتربيزة كلها صح!
اعترض فور صائحًا بضجر: بالطبع لا، هذا الطعام يخصني وحدي، فلترى ماذا يريدون هم.
أردف رائد بصدمة: يابني معدتك هتنفجر من كُتر الأكل، يخربيت العته.
تأفف فور بضجر قائلًا: دَعك وشأنك، أنا سآكل ما طلبت.
هز قاسم رأسه بيأس، ثم نظر للجرسون متحدثًا بهدوء: هاتله اللي هو عايزه...
صمت ناظرًا للجميع بمكر، فرفع نظره مرة أخرى للجرسون طالبًا منه بمكر: وهات لكل واحد فينا زيه بالظبط.
حدجهم الجرسون بريبة بدأت تُسيطر على محياه، ما بهم هؤلاء! هل هُم حِفنة من مصاصي الدماء حتى يطلبوا طعامًا بكل تلك الكميات! وأخيرًا خرج صوته مُتمتمًا بخفوت: تحت أمرك يا فندم، عن إذنكم.
نظر رائد تجاه قاسم يسأله بتعجب شديد: في إيه يا قاسم! أنت اتفجعت زيه ولا إيه!
أجابه مُشاكسًا: يا جدع بقى متقطعش رزقك واقعد ساكت.
قاطعهم صوت فور موجهًا حديثه للجميع بسعادة: يا رِفاق أود إخباركم بشيءٌ هام.
انتبهوا له جميعًا منتظرين ذلك الحديث الهام الذي سيرميه على آذانهم، ليُكمل هو بسعادة واضحة: غدًا سأذهب للإعتراف بحبي لتلك الفتاة التي عشقتها سِرًا.
غمز له چون بمرح: أووووه وأخيرًا يا رجل! أنت تحبها تقريبًا منذ ثلاثة أشهر ولم تعترف لها حتى الآن.
أجل، كنت انتظر الوقت المناسب، وها قد فاض الشوق بي.
ضرب رائد على ذراعه ثم اقترب منه مُتحدثًا بوقاحة: قبل ما تتكلم بوسها على طول، الحاجات دي مفيهاش كلام.
ضرب قاسم على الطاولة بحدة من حديث رائد الوقح، ثم صرخ به بغضب: أنت بتقول إيه يا حيوان! بوسة إيه اللي يديهالها على طول!
حمحم رائد بحرج وكذلك فور، ليُكمل قاسم بمشاغبة: أنت تتكلم معاها الأول وبعدين تبوسها.
هلل جون صائحًا بضحكة عالية، ثم تشدق بمزاح: أُقسم أنك أوقح شخص بيننا، قد تبدو للجميع رجل بارد وغامض، لكن لا يعلم حقيقتك التافهة إلا نحن.
رفع قاسم حاجباه بدهشة مُشيرًا لذاته بعدم تصديق، ثم أردف بزيف: أنا وقح يابني! يا جدع اتقي الله أنا مفيش في احترامي.
رفع رائد يده مُضيفًا بسخرية: وأنا أشهد سيدي القاضي السافل.
جاء لهم الجرسون بعد ربع ساعة تقريبًا، يضع أمامهم الطعام بكافة أنواعه، صفق فور بحماس قائلًا بتأثر وهو يمسح على معدته الفارغة: اشتاق للطعام كثيرًا يا رجال.
رُسمت ابتسامة خفيفة على شفتي چون مُجيبًا إياه بحنان: بالهناء والشفاء يا أخي، لكن على مهلك حتى لا يتوقف الطعام بحلقك.
أجابه مُسرعًا وهو يبدأ بإلتهام الطعام: حسنًا حسنًا.
مرت الدقائق يأكلون صامتين، كُلًا منهم يلتهم طعامه بشهية مُنفتحة، فرغم عدم قتل أيًا منهم ل رفعت الارماني ؛ إلا إنهم سعداء للغاية، تلك العائلة قد سببت لهم أذى نفسي وجسدي كبير لم يتوقعه بشر، يظهرون على العلن كالملائكة، وفي السر؛ ما هم إلا شياطين سوداء تتفق مع إبليس، وبالنسبة لهم قد جمعهم القدر معًا للإنتقام، صدفة ربطت بينهم فأصبحوا كالأخوة، مترابطين بنسيج من الشر والخير معًا، تركيبة عجيبة لكن مثيرة للإهتمام.
رفع رائد رأسه ينظر تجاه قاسم الذي يأكل بشرود، فعلم أن ذاكرته قد أخذته لمكانٍ بعيد عنهم، كما كان حال الآخرون، خرج صوته بهدوء مُقاطعًا أفكاره وهو يتسائل بترقب: المهمة الجاية امتى يا قاسم؟
رفع قاسم عيناه له، وها قد عاد الجمود القسوة يُرسمان على وجهه، وضع الملعقة من يده ثم استند بظهره على كرسيه ببرود، وأخيرًا خرج صوته مملوء بعبق الحقد: بكرا.
نظر چون ل فور بقلق، وكذلك بادله الآخر نفس النظرات، قبل أن يخرج صوته متسائلًا: مَن سيُرسِل الرسالة تلك المرة للشرطة!
فور، تلك المرة المُهمة عليه.
تنفس جون الصعداء براحة، بينما انتفض فور هلعًا قائلًا بفزع: مَن فور هذا! بربك هل تريد الخلاص مني لتلك الدرجة!
أجابه قاسم بسماجة مُستمتعًا بإغاظته: لأ ذكي ونبيه ما شاء الله عليك، على الأقل لو اتقبض عليك هتوفر أكل.
طالع رائد صديقه قاسم قائلًا: بلاش فور، دا غبي وممكن يودينا في داهية.
صعد صوت فور صائحًا بإعتراض: هِاي يا رجل! ماذا تقصد بحديثك هذا!
أشاح رائد بيده بلامبالاة ثم تشدق بسخط: يا شيخ اتنيل بقى، دا أنا بقنعه إنه ميطلعكش المُهمة دي.
حدجهم قاسم بغضب، ليخرج صوته حادًا قاطعًا: أنا قُلت فور اللي هيطلع، خِلص الكلام.
وضع چون يده على قلبه يردف بارتياح: حمدًا لله، اشعر بأن روحي قد عادت لي مُجددًا.
صدمه قاسم بحديثه العابث والذي أردف به: لا تقلق عزيزي، فالمرة القادمة لَكَ أنت.
عادت كُلًا من أَهِلَّة ويُمنى من العمل بأجساد مُنهكة ووجه يظهر عليه التعب، ارتموا على الاريكة مغمضين أعينهم بتعب شديد، فطيلة اليوم كانا مُنكبين على الكثير والكثير من الأوراق، حتى تعبت ظهورهم، وجدتا المنزل هاديء وصوت تلك الغبية شقيقتهم لا يظهر في الوسط، حدجت يُمنى شقيقتها أَهِلَّة بتعجب، ثم أردفت بقلق: هما مش ظاهرلهم صوت ليه!
نظرت أَهِلَّة حولها بقلق علَّها تستمع لصوت أحد منهما، لكنها لم تجد سوى الصمت المُخيف، فأجابتها بريبة: تفتكري تكون ملك قتلت ماما!
عضت يُمنى على أصابعها تُجيبها: هي قادرة وتعملها، تعالي نشوفهم هما فين.
هبَّت كلتاهما من على الاريكة، ثم اتجهوا معًا نحو المطبخ، ليجدوا والدتهم تقوم بتقطيع ثمرة الطماطم بصمت وهدوء، دلفا لها فتحدثت يُمنى لوالدتها: خير اللهم اجعله خير، أنتِ و ملك مش بتتخانقوا!
لوت نبيلة شفتيها بتهكم بعدما رفعت رأسها تنظر تجاههم، ثم أردفت بسخط: لسه متخانقين طازة ياختي وهتلاقيها متلقحة في أوضتها.
هزت أَهِلَّة رأسها بيأس، ثم اتجهت ناحية والدتها تُقبل وجنتها بحنان: عاملة إيه يا بلبلة النهاردة!
ارتسمت ابتسامة مُحبة على ثُغر نبيلة، مُجيبة إياها بحب: أنا الحمد لله كويسة طول ما أنتِ واخواتك كويسين يا حبيبتي.
ذهبت إليها يُمنى هي الأخرى، فقبلتها من الناحية الثانية قائلة بحنان: ربنا يديمك لينا يا ماما.
ويديمكوا ليا يا حبايبي، يلا روحوا غيروا على ما أحط الأكل على السُفرة.
أومأ لها الاثنتان بصمت، فاتجهت يمنى لغرفتها لتبديل ثيابها، بينما اتجهت أَهِلَّة إلى المرحاض! تشعر بالقرف من كل ما حولها، حالتها أصبحت أكثر سوءًا عن ذي قبل، فتحت الصنبور وظلت تفرك في يدها بقوة حتى جرحت أظافرها لحم كفها، أغمضت عينيها بأسى على حالتها، لما تريد التقيؤ الآن! هي مشمئزة من اللاشيء حقًا.
أمسكت بسائل غسيل اليد الخاص بها، ثم وضعته بكمية مهولة على كفها، لتظل تفركه بسرعة علَّ ذلك الشعور يذهب عنها، فعلت مثل ما تعلمت من أحد الدورات التعليمية على موقع اليوتيوب، وسحبت نفسًا عميقًا للسيطرة على شعورها، ظلت هكذا لبضعة ثوان ثم زفرته على مهل، فلتُبعد عن عقلها تلك الأفكار المُسوسة، هي تكره مرضها هذا، تريد أن تعيش حياة طبيعية، تريد المُصافحة بطريقة طبيعية، لكن الأمر صعب في حالتها.
هي ترفض رفضًا تامًا الذهاب لطبيب نفسي، حتى بعد محاولة والدتها وشقيقاتها للذهاب، لكن كانت تَصُر على رأيها بعدم الذهاب، ذهب شعور الغثيان عنها ناظرة ليدها النظيفة برضا، لذلك أغلقت الصنبور بهدوء، مُنتشلة عدة طبقات من المناديل الورقية لتُجفف بها يديها، وبعدها خرجت من المرحاض بوجه ثابت مُزيف كما اعتادت.
وجدت والدتها بدأت ب رَص الأطباق، والتي استدارت لها مُتذمرة: لسه مغيرتيش يا أَهِلَّة! أنا قربت أخلص رَص الأكل.
أجابتها مسرعة وهي تتجه نحو غرفتها: في ثواني يا بلبلة يا قمر وهكون مغيّرة وقدامك هنا.
اختفت من أمامها ودلفت إلى غرفتها لتُبدل ثيابها، أخرجت منامة جميلة من اللون الأسود وعلى جانبيها خط عريض من اللون الرصاصي، وهذان تحديدًا هُما لوناها المُفضلان، انتهت من ارتداء ملابسها وتركت شعرها الأسود الحالم مفرودًا على ظهرها كما تُحب دائمًا.
نظرت للمرآة بوجه ثابت، تنظر على ملامح وجهها، كم تعشق ذاتها كثيرًا! بدايةً من عيناها السوداء وخصلاتها التي تُشابهها في اللون، خاصةً لون بشرتها القمحية المائلة للسمراء قليلًا، حتى أنفها الكبير قليلًا تحبه، فهي واقعة في حب ذاتها لدرجة لا تُوصف، رسمت ابتسامة صغيرة على محياها تهمس لذاتها بشيء من زيادة الثقة بالنفس:
كدا أحسن يا هولا، كفاية تكشير.
استدارت تتجه نحو الخارج لتأكل مع عائلتها الجميلة واللطيفة، لم تجد سوى يُمنى الجالسة على المقعد بملل، لتسألها أَهِلَّة بإستغراب: قاعدة كدا ليه، أومال فين ماما!
أجابتها بهدوء وأعين تُوشك على الإنغلاق: جارتنا أم أسماء جَت نادتلها عشان تديها الحُقنة.
انكمش وجه أَهِلَّة بتقزز بدأ يتضاعف مرة أخرى، ثم هتفت بإشمئزاز: هي ماما مش هتبطل بقى! أنا مش عارفة هي مبقرفش!
نظرت لها يُمنى بيأس بمعني لا أدري، وهُنا تحدثت أَهِلَّة بإستغراب شديد: البت ملك فين مش ظاهرة! تتحسد بجد.
هبَّت يُمنى من على مقعدها، ثم حثتها قائلة: تعالي نشوفها، مش من عوايدها تفضل ساكتة كدا.
استحسنت أَهِلَّة اقتراحها، فاتجها كلتاهما إلى غرفة ملك طارقين على بابها بهدوء: ملك أنتِ صاحية!
هتفت بها أَهِلَّة بتساؤل، فأتاها صوت ملك المُتحشرج: تعالي يا أَهِلَّة ادخلي أنا صاحية.
دلفت يُمنى وأَهلة معًا، فوجدوا أعين شقيقتهم مُنتفخة ببكاء، هرعت يُمنى تجاه شقيقتها تجلس جانبها على الفراش وهي تتسائل بقلق: مالِك يا ملك بتعيطي ليه!
لم تُجيبها بل ظلت مُنهمكة في البكاء مُتحسرة على ما أصابها، اتجهت أَهِلَّة نحو الكومود ثم أمسكت بكوب الماء الموجود عليه، ماددة يدها نحو فم شقيقتها تحثها على تضجرع رشفة صغيرة منه حتى تهدأ: خُدي اشربي واهدي عشان نعرف إيه اللي حصل.
ارتشفت ملك القليل من الماء، مدت يُمنى يدها إليها تمسح دمعاتها الهابطة على وجنتها، ثم سألتها بحنان وقلق: مالك يا يمونة، ليه العياط دا كله! اوعي يكون من ماما!
هزت رأسها نفيًا ببكاء، ثم أردفت بصوت مبحوح: إ. إبراهيم سابني.
دا أي واحد فيهم!
هكذا أردفت أَهِلَّة بسخرية وغيظ، فأجابتها ملك وهي تمسح دموعها: اللي من اسكندرية.
دفعتها يُمنى غيظًا بعدما كانت مُتأثرة ببكاؤها، صارخة بها: بقى أنتِ بتعيطي عشان إبراهيم سابك! ياختي بركة إنه سابك أقسم بالله، ما هو لو يعرف عن دستة الرجالة اللي بتكلميهم كان فتح دماغك قبل ما يسيبك.
حدجتها ملك بسخط ثم هبت صائحة: في إيه يا يمنى! ما أنتِ عارفة إني بتضايق لما حد فيهم بيزعل مني أو يسيبني، مش بيهون عليا زعلهم ياستي.
هُنا وصعد صوت أَهِلَّة ينهرها: يا ملك الطريق اللي أنتِ ماشية فيه دا أخرته مش حلوة، صدقيني هتخسري كتير، مش عيب لما تحبي، لكن متروحيش تحبيلي 12 راجل وتقوليلي بحبهم كلهم! سيبتي إيه أنتِ للرجالة كدا بقى!
تأففت ملك بحنق تمسح أخر دمعة من على أهدابها: يوه بقى، أنا غلطانة إني قولتلكم بجد، دا بدل ما تهونوا عليا! كدا راجل من رجالتي نقصوا وبقوا 11، هجيب ال12 منين دلوقتي بقى!
نظرت لها يُمنى بسخط تاركة لهم الغرفة وذهبت، بينما طالعتها أَهِلَّة بضيق، هاتفة قبل أن تخرج من الغرفة: لو معقلتيش قسمًا بالله يا ملك هقول لماما وهي هتتصرف معاكِ بطريقتها بقى.
أغلقت الباب بقوة خلفها بغضب، فنظرت ملك لأثرها مُتمتمة بضيق مع نفسها: وأنا عملت إيه لدا كله يعني! فيها إيه لما أحب 12 واحد!
قاطع تمتمتها رنين الهاتف الذي صدح فجأةً، أمسكته لتتفحصه، وما هي إلا ثوانٍ وارتسمت ابتسامة عريضة على ثغرها قبل أن تُجيب بهيام: وحشتني يا معتز...
وصل الشباب إلى منزل رائد في حال أفضل بكثير، فصداقتهم تُعتبر ذلك الرابط المتين التي تجمع أربعتهم، الحب والود مُتشكل بينهم، وهذا ما يجعل صداقتهم تدوم لفترة أطول.
دلف الجميع للداخل، وكالعادة وجدوا محروس والد رائد يُغازل زوجته چيهان: جمالك يا أم رائد زي جمال البط البلدي السائد، ريشك خطفني، عينك جابتني، ودنك ادتني. من الأمل طاقة.
صفق الشباب عاليًا مُحيين إياه على هذا الشِعر الراقي العظيم، بينما صفَّر قاسم مُشجعًا بهتاف: الله أكبر، إيه الحلاوة دي، إيه الطعامة دي.
خرجت لواحظ من غرفتها بملامح ناعسة مُتهجمة الوجه، يبدو أنهم أيقظوها من نومتها، ويبدو أيضًا أنهم سيتلقوا توبيخًا لاذعًا، وحدث ما توقعوه عندما صاحت بحدة: مش عارفة أنام منكم يا ولاد ال يا شوية زبالة.
ابتلع رائد ريقه بقلق مُردفًا بإعتذار: حقك عليا أنا يا ستي، ادخلي نامي وارتاحي أنتِ.
طالعته بإشمئزاز، ثم بصقت عليه صارخة قبل أن تدلف وتُغلق الباب بوجههم: اتفوخس عليكم وعلى تربيتكم اللي تعر.
حمحم قاسم وهو يُعدل من ياقة ملابسه قائلًا: شكلنا غير مُرحب بينا هنا يا شباب، حيث كدا بقى أنا داخل المطبخ هشرب.
نظر محروس لأثره بإستنكار مُتحدثًا بسخط: وأنا اللي مفكر إن الواد عنده كرامة وهيمشي!
دلف قاسم للمطبخ، فوجد سهيلة تُمسك بكوب من النسكافيه الساخن تتذوق رشفته الاولى بإستمتاع، وما كادت أن ترتشف الثانية؛ حتى وجدت من ينتشل الكوب من بين يديها مُتحدثًا بسماجة: ثانكس يا هايلة، تسلم إيدك.
طالعته ببلاهة وهو يرتشف الكوب بإستمتاع، فتحول وجهها إلى الغضب تمد يدها لإنتشال الكوب من بين يده بسخط: هات يا عم النسكافيه بتاعي هي إيه البلطجة دي!
هددها قاسم ببرود وهو يشير لإتجاه ما: هتسكتي ولا أنادي ل چيچي وأوريها المواعين اللي متعملتش!
كزت على أسنانها بغيظ مُردفة: أنت. أنت. أنت بارد.
عارف يا أخت هايلة، المهم بقى قوليلي عملتي إيه مع البت اللي ضايقتك في الجامعة!
تحدثت سهيلة بثقة تزامنًا مع بدأها لغسل الأواني المُتراكمة أمامها: عيب عليك، سمعت كلامك طبعًا ولما جت تضايقني تاني قولتلها أمك رقاصة وجبتها من شعرها قدام صحابها اللي بتتفشخر بيها.
تحدث بإعجاب مُشجعًا: تربيتي.
غمزت له بمرح وهي تُجيبه: عيب عليك، بتعلم بسرعة.
جاء اليوم الثاني مُسرعًا، وقد نجح فور في إيصال موعد قتل القناص لأحد الأشخاص برسالة بريدية سلمها بنفسه لأحد العساكر بعدما أخفى وجهه بقبعة كبيرة حتى لا يتم كشفه، وعادةً ما يُسجل موعد القتل مُتأخرًا نصف ساعة حتى يكون انتهى تمامًا من ضحيته.
كانت الساعة الحادية عشر مساءً، بين الأشجار الكثيفة والجو المُعتم المُخيف، كان يقف هو بثبات يُطبق على الأنفاس، وأمامه ضحيته تأن بألم شديد من شدة الألم، لقد ضربه كثيرًا حتى خرجت الدماء من فمه، مال القناص أمام وجه ذلك المُمرض والذي يعمل لدى مشفى الأرماني بإبتسامة خبيثة أرعبته، ثم همس بشر: ها يا عبيد! يارب أكون مقصرتش في واجبي.
خرج صوت عبيد مكتومًا بألم يسأله بصعوبة: أنت. أنت عايز مني إيه!
قتلتوه ليه!
همسة خرجت من فمه بشر، سيفتح أبواب الجميع على الجميع لكن بالترتيب، وسيعلم ما يريد علمه، وعلى بُعد ليس بالكبير خلف أحد الأشجار، كانت تقف هي تقوم بتصوير كل ما تستطيع تصويره، لقد تمكنت منه، كانت تعلم بأنه يأتي قبل ميعاده دائمًا كما حدث في الجريمتين التي تسبق تلك، وها هي نجحت في الوصول إليه.
وبينما كانت تُصور، استمعت لصوت صراخ الرجل بقوة شديدة، وما كادت أن تصرخ؛ حتى انقطع صوتها عندما رأته يشق عنقه ببطئ وتلذذ شديدان، وما أوقف نبض قلبها لثوانٍ هو تثبيت بصره تجاهها بثبات وكأنه يعلم عن وجودها من قبل، تبعه قوله الغليظ والذي أصدمها بقوة: أهلًا أهلًا بالصحفية المجهولة النارية!