رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث
جميعنا مُحاصرون بالشر، تطولنا الأيدي الخبيثة لتُلوثنا، وما عليك سوى المُجازفة للهرب، والنتيجة؛ إما أن ننفد بجلودنا غير مدنسين بما ألقوه علينا من تعاويذ مُهلكة، وإما أن نُحصر في دائرة لا يمكننا الخلاص منها فيما بعد، والخيار الثاني هو الأكثر شيوعًا.!
قتله بدم بارد دون أن يرف له جِفن، هو مُذنب كما الآخرين، بل وقاتل أيضًا، نفذ قاسم مهمته بقتل المُمرض الذي يعمل بمشفى الأرماني، بعد أن شفى غليله منه واقتص لحق ذاته، ليلمح بطرف عيناه تلك الدخيلة التي اقتحمت سكونه، كان يعرفها جيدًا، فتصريحاتها الخطيرة المُخبئة خلف اسمها المُستعار كانت تنال إعجابه بشدة، وكأنها تُساعده بطريقة غير مُباشرة، لذلك بحث خلفها المجهولة النارية، حتى توصل إلى هويتها بعد بحث دام لعشرة أيام كاملة، وها هي قد جاءت إليه وحدها دون مجهود يُذكر منه.
التفت إليها ينظر لظلها المعكوس بخبث، التوى ثغره بابتسامة ساخرة قبل أن يصعد صوته المليء بالمكر: أهلًا أهلًا بالصحفية المجهولة النارية!
تصنم جسدها من الصدمة، وآخر شيء كانت تتوقعه أن يُكشف أمرها بواسطة هذا القاتل، ارتعشت أطرافها بقوة، وشعور الغثيان بات يُهاجمها بقوة، لقد رأت دماء ذلك المُمرض تتناثر من حوله على الأرض بعدما شق عنقه، مشهد مُخيف ومثير للإشمئزاز.
لم يجد منها أي استجابة، لذلك خرج صوته ساخرًا يحثها على الإستجابة: قربي قربي يا شيخة، دا احنا بقينا أهل خلاص.
خرجت من خلف الشجرة الكبيرة المُختبئة خلفها تجر قدمها بصعوبة، ما هذا الدوار الذي يُداهمها الآن! اقتربت منه ناظرة للجثة من خلفه بأعين مُتفحصة، لتستمع إلى صوته يسألها بهدوء: إيه رأيك في العرض! بذمتك مش كان حلو!
رفعت أنظارها إليه تُطالعه بجمود، التوى ثغرها عن ابتسامة ماكرة وهي تُجيبه مؤكدة على حديثه: كان حلو، لأ وعجبني، بس تقدر تقول كدا إني بقرف.
تعجب من قوتها وبرودها المثير للأعصاب هذا، فقد ظن بأنه سيجد خوفًا بدلًا من تلك القوة التي تُظهِرها في عيناها، اقترب منها خطوتين ثم شبَّك كِلتا يديه معًا مُتسائلًا: جاية هنا ليه! أظن الأخبار وصلتك إن العملية هتم 11 مش 10.
أجابته ساخرة وهي تهز كتفها ببرود: مزاجي، وطالما مزاجي قالي إني آجي بدري يبقى أعمل اللي على كيفي أنا مش على كيفك أنت.
لوى شفتيه بإعجاب مُبديًا يثني على حديثها: لأ عجبتيني، بس للأسف لسانك الحلو دا مش هيدوم كتير.
قال جملته الأخيرة أثناء إخراجه لسلاحه من جيب بنطاله الخلفي، مُوجهًا إياه نحو رأسها بنظرات تحولت للقسوة والشر، لا تنكر بأنها خافت للحظات، لكن عاد برودها يُسيطر عليها من جديد، وكأن مُتأكدة أن الذي أمامها لن يستطيع إيذائها:
نزَّل اللي في إيدك وخلينا نعمل إتفاق، عجبك كان بها، معجبكش تقدر تعمل اللي يريحك.
أنزل سلاحه ضاغطًا بيده على أنفه وعيناه مُثبتتان على خاصتها وكأنه يقرأهما، خرج صوته مُتسائلًا وهو يُحدجها بجمود: إيه اللي مخليكِ واثقة كدا!
التوى ثغرها بعبث قبل أن تُجيبه بمكر يُشابهه: هدفنا واحد يا قناص، عيلة الأرماني تخلص واحد ورا التاني.
صدر من بين شفتيه صوتًا مستنكرًا متحدثًا بما جعل الدماء تفور إلى وجهها: إيه دا هي عيلة الأرماني علموا عليكِ أنتِ كمان؟
ورغم أنها كانت تستشيط غضبًا من كلماته، إلا أنها ردت له نفس الحديث بتهكم صريح وقوة: زي ما علموا عليك أنت كمان.
توقعت أن يغضب، يثور، أو على الأقل يُلقي على مسامعها الكثير من الكلمات اللاذعة، لكنه خالف توقعاتها عندما علت ضحكاته المكان عقب جملتها، حدجته بدهشة ظهرت على محياها، ورغم القلق الذي تلبسها؛ إلا أنها أردفت بلامبالاة زائفة: إيه اللي يضحك في كلامي!
توقف عن الضحك مُجيبًا إياها وهو يأخذ أنفاسه اللاهثة: ولا حاجة متشغليش بالك.
صمت قليلًا ثم اقترب منها على بغتةً بعدما تحول وجهه للقسوة مُتغيرًا إلى إنسان آخر عن الذي كان يتحدث منذ ثوانٍ معدودة، أمسك بذراعها لاويًا إياها خلف ظهرها بقوة آلامتها لكنها أظهرت الثبات، ثم أردف بإنفعال ممزوج بالقسوة: أنا محدش يقدر يعلم عليا، أنا بس اللي بعلم على الناس، والدليل قدامك أهو.
أردف بجملته الأخيرة وهو يُشير إلى جثة عبيد المُلقاه بجانب إحدى الأشجار بعشوائية، ثم استطرد حديثه هامسًا لها بشر: وعندي استعداد أخليكِ مكانه في أي وقت وأي لحظة أنا عايزها، بس زي ما قولتي هدفنا واحد، وبما إنك صحفية فأنا عايزك الأيام اللي جاية دي، هتفيديني كتير.
شعرت بالإشمئزاز من لمساته، نظرت ليده التي تُمسك بذراعها بقرف شديد، وكأنه كائن لزج مليء بالفضلات، لم تسمع أو تفقه أي شيء مما تحدث به، بل ظلت تتلوى بين يديه ليترك بها، وكان هو يظنه خوفًا لا اشمئزازًا، تركها عندما زادت مُقاومتها، وما كاد أن يتحدث حتى طالعها باستغراب عندما وجدها تمسح مكان لمساته بهستيرية شديدة.
ضيق عيناه بتعجب من أفعالها الغريبة عليه تلك، ظن أنها تُعاني من حالة نفسية من الرجال، لكن هرولتها من أمامه لتختبئ خلف أحد الأشجار واستماعه لصوت تقيؤها جعله يُخمن بأن لديها وسواس قهري، هو ليس بطبيب نفسي لكنه درس الأمراض النفسية كفروع ثانوية بجانب دراسته الأساسية.
انتظر قليلًا حتى تستعيد ثباتها ليُحافظ على مساحتها الشخصية، عداوته ليست معها، بل مع كل مَن له دخل في أذيته، لذلك ليكون رؤوفًا بها قليلًا، تابع سيرها المُتمهل تجاهه ومسحها بمنديلها الورقي مكان لمساته بإشمئزاز، قرر التخفيف عنها قليلًا لذلك تحدث مُوجهًا حديثه لها بمشاكسة:
متخافيش لسه مستحمي قبل ما آجي، يعني مش معفن.
طالعته بغل ولم تُجيبه، تكره رؤية أحدهم لها بهذا الضعف، لكن لم تتحمل لمساته التي أصابتها بالغثيان وتقيأت، استمعت إلى صوته الذي عاد لحالة جموده مرة أخرى وهو يردف:
يلا عشان البوليس زمانه على وصول.
قالها ثم سبقها بعدة خطوات بطيئة، جاعلًا إياها تنظر لأثره بصدمة، هل هو أبله أم ماذا؟ كيف يتحول بتلك السرعة! فتارةً تشعر وكأنه رجل طبيعي، وتارةً أخرى تراه غامض لا يمكنها قراءته.
تبعته بهدوء وظلت تسير خلفه على الأوراق المُتساقطة لمدة عشرون دقيقة تقريبًا حتى وصلا إلى الطريق العام المليء بالمارة، وقف ينظر لها بطرف عيناه، ثم تحدث بهدوء حاد: تعالي امشي جنبي عشان محدش يشك فينا.
التوى ثغرها باستنكار وهي تُجيبه: وهياخدوا بالهم إزاي إن شاء الله! وبعدين الجو ليل والطريق فاضي.
وضع يداه بجيب بنطاله الأسود مُردفًا بنفاذ صبر: اسألتك كتير وأنا دماغي بتوجعني، يعني إيه الجو ليل! ما فيه كاميرات متنيلة مزروعة في كل حِتة، اخلصي اتنيلي وامشي جنبي أنا مش هاكلك.
أشاحت بيدها أمام وجهه هاتفة أمام وجهه بصوتٍ عالٍ: لأ لا بقولك إيه. أنا مسمحلكش، أنت تقف عِوج وتتكلم عِدل عشان مزعلكش، وأنا زعلي وحش وهيضايقك.
احتدت عيناه غضبًا، فاقترب منها خطوتين وابتعدت هي مثلهما بفزع، فصعد صوته حادًا غليظًا: صوتك الحِلو دا لو عِلي تاني أنا هقطعلك لسانك بالسكينة القمر اللي معايا دي، أنتِ فاهمة!
ارتعشت أطرافها مع صراخه الأخير بها، وبتلقائية أومأت له مُوافِقة على حديثه رغم غضبها من صراخه عليها، لكن غضبه يُثير خوفها حقًا من بشاعته، ارتسمت ابتسامة مُجامِلة على وجهه، ثم أردف بتشجيع: أيوا كدا شطورة وتعجبيني.
في تلك اللحظة أقسمت أن لديه انفصام، هذا الرجل يُثير فضولها حقًا، كانت تظن أن شخصية القناص ما هي إلا شخصية غامضة، مثيرة، وقحة، حادة، قاتلة، ومجرم، لكن لم تكن تعلم بانفصامه أيضًا، حتى ذلك الجزء العابث به لم تكن لتتوقعه.
استفاقت على صوته وهي تسير بجانبه لكن مع الحفاظ على مسافة مُناسبة وهو يُردد بهدوء وتفكير: البوليس دلوقتي زمانه وصل لمكان الجريمة، عايزك بكرا تجهزيلي خبر محترم من اللي قلبك يحبه زي بتاع الأسبوع اللي فات.
ارتسمت ابتسامة خبيثة على شفتيها وهي تُجيبه بمكر: فيه خبر بكرا لسه هيتنشر طازة هيقلب الدنيا، كان المفروض يتنشر النهاردة بس حصل عُطل، بس دا ميمنعش إني أكتب عن الجريمة اللي حصلت دلوقتي.
غمز لها مُبديًا إعجابه بعملها: كفاءة.
ابتسمت بخفة على قوله ثم سارت جانبه صامتة طوال الطريق، تُفكر في مستقبلها المجهول والمُبهم، وكأنه كان يُشاركها ويفكر فيما تُفكر به، لمع في عقلها سؤالًا لم تتردد لحظة واحدة في طرحه، لذلك تحدثت على بغتة وهي تسأله: ليه عايز تنتقم من عيلة الارماني!
ظل واضعًا لكفيه في جيب بنطاله ولم يُجيبها، ورغم غيظها من بروده، إلا إنها كانت مُتيقنة من أذى عائلة الأرماني له بأي شكل من الأشكال، كما أذوها هي.!
وقفا على مقدمة الشارع التي تسكن بها أَهِلَّة، ثم استدار لها مُفجرًا مفاجئته التي صنمتها في مكانها قبل أن يذهب ويتركها: اعملي حسابك هاجي اتقدملك بكرا، الاتفاق اللي بينا مينفعش بمجرد كلام، لازم حاجة تربطنا عشان محدش يشك فينا، سلام يا كفاءة.
قال الأخيرة بغمزة مُشاكسة، تاركًا إياها في صدمتها تنظر لأثره بصدمة واضحة على ملامح وجهها الأبله، رمشت بجفنيها عدة مرات عندما اختفى أثره من أمامها، مُتمتمة مع ذاتها بحماقة أثناء عودتها لمنزلها: هو. هو قال إيه! يتجوز مين!
تمطعت ملك على معدتها أثناء تقليبها في هاتفها على إحدى وسائل التواصل الإجتماعي، المُسمى ب فيسبوك، ظلت تتفحص المنشورات بملل شديد وهي تنفخ بنفاذ صبر، حتى توقفت فجأة وهي ترى اقتراحات الصداقة المعروض عليها، ارتسمت ابتسامة واسعة على ثغرها عندما رأت الكثير والكثير من الشباب رائعين المظهر.
انقطعت أنفاسها عندما وجدت شخصًا منهم قد أرسل لها طلب صداقة، كم كان مظهره وسيمًا ولائقًا نال إعجابها، قرأت اسمه بتمعن حتى توقفت عند اسم عائلته للحظة، ثم انفجرت في الضحك، حاولت كتم ضحكاتها بصعوبة حتى لا تستمع والدتها إليها، وبعد صعوبة بالغة نجحت في ذلك، قرات الإسم مرة اخرى بابتسامة واسعة مُرددة بصوت هامس رائد محروس الجعان!
وبدون تفكير قامت بقبول طلب صداقته نظرًا لشخصيته الوسيمة، فلتضع اسمه المُضحك جانبًا الآن، همست مع نفسها بسعادة طاغية: وأخيرًا كملت ال12 راجل تاني! لِم علينا عبيدك يارب.
وضعت الهاتف جانبًا ثم تمددت على ظهرها تسحب الغطاء فوقها بإرتخاء، في نية لتخلد إلى النوم، وهي مُتأكدة بقوة بأنها ستستيقظ وتجد منه رسالة ترحيب ليبدأ في تبادل الأحاديث معها.
لتعلم أن مقدار جهادك يكمن في قوتك وقوة إيمانك، سيأتي الشيطان من جميع النواحي لإيقاعك في ذنبٍ لست بقاصده، ذنب سيأخذك لطريقٍ أنت كارهه، تحبه في البداية، وفي نهايته تكره ذاتك لوقوعك في مثل ذلك الإثم العظيم.
استندت سهيلة على ظهر فراشها تحمل هاتفها بين يديها فاتحة إحدى التطبيقات برتقالية اللون، موقع كبير يحتوي على الكثير من القصص والروايات يُسمى الواتباد، ظلت تبحث عن رواية تجذبها لقرائتها، حتى وجدت رواية بغلافًا واسمًا جذَّابين للغاية، فتحته بهدوء ثم بدأت بقرائتها بتروي.
كانت القصة في بدايتها ذات طابع قوي من حيث أفكارها وحوارها، وهذا ما جذبها بها للغاية، لتنغمس في قرائتها دون أي شعور بما حولها، قرأت الفصل الأول، وبعدها الثاني، يليه الثالث، حتى وصلت للرابع والأحداث الشيقة تجذبها نحوها لإنهائها.
وأثناء انغماسها بالقراءة، توقفت عند أحد المشاهد التي تحمل وصفًا رومانسيًا عميقًا، حاولت تجاهله مثلما تفعل في كل قصة قرأتها من قبل، لكن تلك المرة تحديدًا غلبتها نفسها الضعيفة لتبدأ في قراءة المشهد بالكامل، وأثناء انتقال عينيها بين الكلمات تشعر بسخونة خجلة تسري في أوردتها من وقاحة المشهد، لقد قبَّل البطل لزوجته بطريقة حقيرة جعلتها تتخيل المشهد كاملًا، ابتلعت ريقها بتوتر مما قرأته، فهي ولأول مرة تقرأ مشهد بكل تلك الجرأة!
المسكينة تظن أن الأمر توقف لهُنا! لا تعلم بقية القصة، انتهى المشهد ومعه شعرت بالدوار يُداهمها، ذلك التخيل أصاب رأسها بصداعًا حادًا، وعقلها مازال يدور ويُعيد تلك الكلمات في ذاكرتها مُجددًا، لتبدأ في تخيلها مرة أخرى.
قررت إلهاء نفسها عن التفكير بقراءة بقية القصة، وياليتها لم تفعل ذلك، فقد جذبتها أحداث القصة مُجددًا، وبعد قرائتها لما يقرب من خمسة فصول أخرى وصلت للفصل ما قبل الأخير، ويا ليتها نامت لم تقرأه، ظلت تقرأ حتى وصلت لمشهد رومانسي آخر، كادت أن تتجاهله لكن غلبتها نفسها الخبيثة مرة أخرى وبدأت بقرائته بهدوء شديد.
ومع كل كلمة تقرأها تتعالى ضربات قلبها كالأمواج الهائجة من حِدة المشهد ووقاحته، فلم يتوقف على قُبلة وبعد اللمسات فقط، بل كان يصف مشهد حميميًا كاملًا، جعلت الإدرينالين يتصاعد لرأسها وجميع جسدها لتُصيبها حرارة شديدة، رغم برودة الجو من حولها، ارتعشت أصابعها المُمسكة بالهاتف ولم تستطيع الإمساك به، ليسقط على الغطاء فوقها، وعقلها يُخيِّل لها جميع المشاهد القبيحة بطريقة أقبح.
عضت على شفتيها تَمنع ذاتها من الإسترسال في خيالاتها، ولأول مرة تكتشف أعماق الواتباد، الكثير والكثير من القصص الوقحة الخادشة للحياء تُدون به، ورغم سوءها إلا إنها لديها إقبال كبير لعدد كبير من القُراء المُراهقين والغير مُراهقين.
وضعت هاتفها جانبًا ثم استلقت على ظهرها بوهن، لقد قرأت عن أشياء لم تكن تعلم عنها شيء برغم كبرها، وضعت يدها على وجنتها لتجدها شديدة السخونة، وكذلك قلبها يطرق كالطبول ولا تعلم لماذا، أغمضت عينيها ببطئ تظن بأنها ستنام سريعًا، فعادت التخيلات مرة أخرى تحوم في عقلها دون رحمة.
وها هي ضحية جديدة وقعت تحت براثن فتاة تظن بأنها كاتبة، تُدون بعض الكلمات الوقحة بجانب بعضها وتُطلق عليها اسم رواية، لا تعلم بأن تلك الكلمات البسيطة التي دونتها ضيعت مستقبل كثير من الفتيات، ومن ضمنها هي!
فراق، كلمة مُكونة من أربعة أحرف، بين طياتها الكثير من الألم والمُعاناة، قد تظهر بأنك قويًا صامدًا، والحقيقة بأنك مجرد هَش تحتاج للإحتواء، وإن لم تجد تضطر إلى مشاركة جدران غرفتك الجامدة حزنك الدفين، ولو استمع العالم لصرخات فؤادك لانتفض هلعًا من شدته، لكن من سيشعر بك سوى ذاتك!
انكمشت على ذاتها تضم قدمها إلى صدرها تحتمي من العالم، وجهَّت بصرها لشرفة حجرتها المفتوحة على مصرعيها، نظرت للقمر المُكتمل بدموع تهبط على صفحات وجهها الحزين، شهقت حبيبة بقوة مُصدرة أنينًا باكيًا من فاهها، كأنها تُقدم العزاء لذاتها لفقدانها لوالدها، فبرغم شدته وصرامته إلا أنه كان أحن عليها من والدتها القاسية.
استمعت إلى صوت طرق على الباب فأذنت للطارق بصوت مُتحشرج باكٍ للدخول: ادخل.
دلفت والدتها في تلك الأثناء في كامل أناقتها، تردي فستانًا من اللون الكحلي الغامق واضعة مكياچ لوجهها كاملًا، طالعتها حبيبة باستنكار حاد ولم تُعقب، فلو تحدثت ستنال توبيخًا لاذعًا منها الآن، صمتت تئن ببكاء، لتستمع إلى صوت تأفف والدتها الصارخ، تلاه صراخها المُتعصب: أنتِ هتفضلي في المناحة دي كتير! أبوكِ مات وخلاص، إيه لازمة القلق اللي أنتِ عاملاه دا كله!
حدجتها بسخط، فانتفضت من مكانها صارخة بوجهها ولأول مرة بكره واضح: أنتِ بني آدمة معندكيش دم.
وما إن انهت جملتها؛ وجدت صفعة قوية تهبط على وجهها أدت إلى ترنحها للخلف لضئالة جسدها، وضعت حبيبة يدها على وجهها مكان صفعتها مُطالعة إياها بجمود مُخيف، هبطت والدتها لمستواها تُمسكها من عظمة فكها بقوة وهي تقول:.
من بكرا الصبح هتروحي البيوتي سنتر تعملي شعرك وضوافرك وتظبيط لوشك عشان ورانا تصوير، أنا مش هعطل شغلي عشانك أنتِ وأبوكِ، مش هيقرفني حتى وهو ميت.
كانت تستمع إلى حديثها بصدمة شديدة، ودت لو كان كل ما تُعايشه ما هو إلا حُلمًا مُزعجًا ستستيقظ منه بعد قليل، لكن للحقيقة المؤسفة؛ لم يكن إلا واقعًا مريرًا تُعايشه بكل طاقتها التي بدأت تنفذ تدريجيًا.
جريمة جديدة تُسجل إلى القضايا الجنائية، والضحية هو عبيد، المُمرض الذي يعمل بمشفى عائلته، وكالعادة عائلته وكل ما يخصها هم المُستهدفون، جذب صهيب خصلاته بقوة حتى كاد أن يقتلعها، ماذا يفعل! كيف يصل إلى القاتل! مَن الفاعل! لِما عائلته خاصةً هي المقصودة! كاد أن يُجن من كثرة التساؤلات التي تدور بعقله ولا يجد لها إجابة.
جاء إليه أحد العساكر مُمسكًا في يده شيء ما قائلًا بعملية: صهيب بيه، لقينا دا يا فندم.
أمسك صهيب بما جلبه بأعين تنطلق منها الشرر، إنه كارت خاص بالقناص، يتعمد وضعه جانب ضحيته ليضع علامته عليها، اشتدت يده حول الكارت حتى ثناه بغضب أعمى بصيرته، رغبته في الإنتقام تزداد يومًا بعد يوم، وفضوله في معرفة القناص يكاد أن يقتله، لذلك أصر في قرارة نفسه أن يصل إليه مهما كان الثمن.
صدحت شمس يومٍ جديد مُختلف كُليًا عن ذي قبل، استيقظ الشباب جميعًا جالسين على أريكة واحدة، دفع قاسم رائد الذي يتثائب متحدثًا بضجر: يا أخي وسع إيدك اللي هتخرم عيني دي.
حدجه رائد باستنكار ولم يُعقب، بل لم يجد طاقة للرد عليه إن صح القول، استند برأسه على كتف چون مُغمضًا لعينيه بنعاس شديد، فدفعه جون هو الآخر بسخط قائلًا: ابتعد يا رجل، لا تكن مثل العِلكة هكذا.
لم يتحمل رائد معاملتهم، فقام بدفعهم الاثنين على بعضهم ليقعوا أرضًا، ثم نام على الأريكة بنعاس شديد غافلًا عن تلك النظرات الكارهة التي يُحدجونها بها، ارتسم المكر على عين قاسم، وذهب ناحية الثلاجة الموجودة بنهاية الرواق، جالبًا مكعبًا من الثلج ليضعه داخل ملابسه.
انتفض رائد يقفز من مكانه كالفأر الهارب، ظل يصرخ أثناء محاولته لجذب قطعة الثلج التي تلتصق بجسده وثيابه، بينما كُلًا من قاسم وچون منفجرين في الضحك على مظهره الذي زاد من ضحكاتهم.
توقفوا فجأة عندما وجدوا فور يخرج من المطبخ حاملًا صينية كبيرة من الطعام، تحتوي على جميع الانواع بكل أصنافها، وعلى وجهه ترتسم معالم الإمتعاض والضيق الشديد.
وضع الصينية أرضًا ثم جلس أمامها مُربعًا قدميه معًا وبعض الكلمات الغير مسموعة تخرج من فمه، لكن لم يتسطيعوا التقاط أيًا منها، نظر چون ل قاسم يسأله بعيناه، ليهز قاسم رأسه بجهل، فنظر كلاهما ل رائد دون حديث، وكانت الإجابة عدم معرفته بشيء هو الآخر.
اقترب ثلاثتهم منه مُجمعين حوله، وما كادوا ان يسألوه عن سبب ضيقه، حتى وجدوه يصرخ بهم بغضب: مَن سيلمس طعامي أُقسم بأني سأُقطع يده إربًا، ابتعدوا عن هُنا أيها الأوغاد.
حدجوه باستنكار فصاح رائد بسخط: تصدق إن احنا أوغاد فعلًا إننا عاملين قيمة لعيل معفن زيك! وبعدين أنت جايب التونة دي ليه من التلاجة! دي تخصني أنا.
نهره فور مُصححًا له حديثه: تَخُصُنا، صحح مصطلحاتك إذا سمحت سيد رائد.
ردد رائد كلمته بعدم تصديق: سيد رائد، أنت عارف آخر مرة حد احترمني كان امتى؟ وأنا كنت بمثل دور الأستاذ في مسرحية المدرسة.
تجاهل قاسم حديثهم ثم سأله مُباشرة: مالك لاوي بوزك على الصبح ليه! مين ضربك!
أجابه بحنق وهو يدس قطعة كبيرة من الخبز والجبن: لم يضربني أحد، اصمت الآن ودعني وشأني.
أنت بتقولي أنا اصمت!
تسائل قاسم بجمود وها قد عاد لشخصيته الباردة، فهز فور رأسه ينفي له على الفور: أقصد رائد لست أنت عزيزي قاسم.
تأفف چون متسائلًا: هيا يا فتى قُل لنا ما الذي يُزعجك.
وضع فور الطعام من يده ثم تحدث بحزن ظاهر في نبرته: أتتذكرون تلك الفتاة التي قُلت لكم بأنني سأذهب وأعترف لها بحبي؟
أومأ له الجميع بصمت فسأله قاسم مُستفسرًا عن سبب حزنه: رفضك يعني عشان كدا زعلان!
هز رأسه بنفي حاد مُكملًا حديثه بألم: بل قالت لي أنها شاذة ولا تُقَبِّل سوى الفتيات، ثم قبلتني!
ظن أنه سيجد المواساة والكلمات الداعمة منهم، لكنه لم يجد سوى الضحك الهستيري منهم، أمسك جون بمعدته مُطلقًا ضحكات عالية كما الجميع، ثم تحدث بصعوبة من بين ضحكاته: هل تقصد بأنها تراك فتاة!
أكمل قاسم لحديثه ضاحكًا بشدة: أو شايفاه أرجل واحد في النسوان.
ضرب رائد كفه بكف قاسم صائحًا بصعوبة: مش قادر أقسم بالله.
انتفض فور من مكانه بغضب واقفًا، ليتجه نحو غرفته غالقًا الباب بوجههم، ثوانٍ وفتحه مرة أخرى قبل أن يهتف بصراخ: أريد أن أقول لكم شيئًا واحدًا، تبًا لكم يا أوغاد.