رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني عشر
في واحد متقدملي.
نطقت لواحظ بتلك الكلمات على إستحياء أثناء إخفاضها لرأسها للأسفل، وكأنها صبية شابة لم يمر عليها الزواج من قبل، طال صمتهم فكانوا يُحدجونها ببلاهة وكأنها كائن فضائي من عالم آخر، استفاق قاسم قبلهم ثم مال على رائد قليلًا يهمس له بتشنج: سِتك باينها انحرفت على كَبر.
نظر له رائد قليلًا ثم سأله بريبة وهو يُعيد نظره لها: تفتكر!
هز له قاسم رأسه أسفًا مؤكدًا له، ثم طالع لواحظ التي ترسم الحرج على وجهها هامسًا لذاته بشفقة: يا عيني عليك يا قاسم وعلى شبابك، لواحظ هتتجوز قبلك وأنت قاعد عانس من غير جواز.
اقترب منها محروس بضعة خطوات ثم سألها بإستنكار: أنتِ بتقولي إيه ياما! جواز إيه اللي عايزة تتجوزيه وأنتِ في السن دا؟
رفعت لواحظ عيناها له تُحدجه بحدة، وبعدها صاحت بغضب وهي تُشيح بيدها أمام وجهه: ماله سِني إن شاء الله! أنت اتجننت يا واد، إزاي تكلم أمك كدا يا قليل الأدب!
عض محروس على شفتيه بغيظ مُحاولًا تهدأة غضبه الذي بدأ يتفاقم تدريجيًا من جهة والدته، ثم أردف بهدوء زائف: هتتجوزي إزاي بس ياما! أنتِ نسيتي أبويا وحبكوا لبعض!
أشاحت بيدها بلامبالاة وها قد عاد لها الزهايمر مرة أخرى: أبوك مين أنا أصلًا مش متجوزة! أنا جيت على الدنيا دي لقيت الناس بتقول إنك ابني.
تشنج وجه محروس بسخط ثم اقترب منها خطوتين في نية للتحدث معها بلين، فتراجعت هي مثلهم مُحدجة إياه بخوف قائلة: بتقرب مني كدا ليه يا واد! أنت عايز تقتلتي!
لم يُعير رائد غضب والده إهتمامًا، بل اقترب من جدته غامزًا إياها بعبث: قوليلي يا لولو مين سعيد الحظ اللي عايز ياخد جوهرة بيتنا الغالية!
عاد الخجل يكتسي ملامحها مرةً أخرى ثم أجابته على إستحياء: المعلم عبدالحميد الفكهاني.
تلك المرة صاح محروس واضعًا يده على صدره موضع قلبه بصدمة، ثم أردف بعدم تصديق: آه قلبي! هموت مجلوط يا ناس إلحقوني.
بادرت لواحظ تلك المرة بالإقتراب، ثم طلبت منه بحرج صبياني مُخالف لعمرها الكبير: وهو قالي إني آخد معاد منك علشان يجي يتقدملي في أسرع وقت، إيه رأيك يا أبيه؟
أبيه!
رددها الجميع خلفها باستنكار، لتؤكد لهم وهي توميء برأسها، تقدم قاسم منها بعبث ثم أحاطها قائلًا بمشاكسة مُضحكة لها: وقصة الحب دي بقالها قد إيه يا لولو يا مولعة في قلوب العذاري أنتِ.
أبعدت يده عن كتفها ثم وبخته قائلة: متحطش إيدك على كتفي؛ عشان عبدو بيغير عليا.
عبدو!
ولثاني مرة يُردده الجميع خلفها بصدمة، لم يُبالي فور بهم ولا بحديثهم، بل اقترب من الطعام الذي أعدته جيهان على الإفطار ثم جلس لتناوله بإستمتاع شديد، انتبهت عليه سهيلة فاقتربت منه قائلة بصوت خفيض لكنه ضاحك: يابني ارحم نفسك هتفرقع مننا.
رفع فور نظره عن الطعام مُردفًا بفم مُملتيء: لا تخافي هايلة، أنا أذهب لصالة الألعاب الرياضية بإستمرار لأُحافظ على لياقتي.
ضحكت بخفة وهي تهز رأسها بيأس من أفعاله، فاستمعت إلى حديثه المُتسائل وهو يلتقط قطعة من الجُبن: ألن تذهبي لجامعتك اليوم!
أجابته أثناء مُشاركتها له للطعام: كنت راحة بس ربنا يسامحها تاتا خضتنا عليها.
اقترح بحماس قائلًا: ما رأيك أن أقوم بإيصالك اليوم! سأسرق سيارة قاسم ونذهب سويًا.
نالت الفكرة إعجابها وكادت أن تصيح بالموافقة لكنها توقفت وهي تسأله بقلق: طيب ما كدا رائد مش هيوافق، أنت صاحبه آه بس أنت عارف إنه مهما كان راجل وميقبلش إني أخرج معاك حتى لو قريب منه.
فكَّر مليًا في حديثها فوجد أن معه كل الحق، همهم بتفكير قائلًا بهمس وصلها: معه حق يا فتاة، بالرغم أن عادتنا عكس ذلك؛ إلا إني أشعر بأني اكتسبت بعض عادات المصريين.
ابتسمت مُتسائلة: وإيه رأيك في عاداتنا!
أجابها ببساطة بعد أن ترك الطعام جانبًا لدقائق، ثم أجابها بأعين لامعة: لا أُنكِر بأنها بعضها تُصيبني بالضجر، لكن هناك ما يجعلني سعيدًا للغاية، هُنا الفتاة تُحافظ على ذاتها وجسدها من الذئاب المُنتشرة، ورغم أني من الغرب؛ إلا أنني أكره رؤية الفتيات كسلع رخيصة يمكن للجميع إستباحة أجسادهن.
اتسعت ابتسامتها اكتر وهي تقول بهدوء: مكنتش أعرف إنك عاقل كدا، كنت مفكراك دايمًا متهور وطِفس، بس طلعت كيوت.
قطب جبينه بضيق ثم عاد لتناول الطعام مُجددًا قائلًا: أتسُبيني الآن أم تقومي بمدحي؟
أجابته بعبث بعد أن وقفت حاملة حقيبتها على ذراعها: اعتبر الاتنين، يلا سلام بقى همشي أنا وهسيبهم يتخانقوا براحتهم.
مع السلامة عزيزتي، إن أردتي شيئًا اتصلي بي سأكون أمامكِ سريعًا.
أومأت له ثم ذهبت لجامعتها تاركة إياه يأكل بتلذذ وهو ينظر إلى الشِجار الذي لم ينتهي حتى الآن.
ربت چون على كتف محروس قائلًا: إهدأ عمي وأرِح أعصابك حتى لا تَمُت.
حدجه محروس بعصبية ثم دفعه بعيدًا وهو يصرخ بالشباب: خدوا الواد دا من وشي وغوروا كلكم من هنا أنا مش ناقصكم.
نظر قاسم ل رائد متشدقًا باستنكار: أبوك بيطردنا صح؟
وما كاد رائد أن يُجيبه؛ حتى انطلق صوت لواحظ الصارخ: بقولك إيه يا محروس أنا هتجوز عبده يعني هتجوزه، أنا لسه صغيرة ومن حقي أتمتع بحياتي.
قالت كلماتها بغضب ثم انطلقت إلى غرفتها دون أن تُعطي إهتمامًا لأيًا من الواقفين، حدجها الجميع بتشنج بينما جلس محروس بإنهاك على الأريكة: هي أمي إيه اللي جرالها؟ جواز إيه اللي عايزة تتجوزه دلوقتي! يا مراري ياني.
جلست چيهان جانبه على الأريكة مُربتة على قدمه بحنان، ثم تحدثت بشفقة عليه: خلاص يا حبيبي أكيد حماتي مش قصدها وبتهزر يعني، أهم حاجة صحتك يا أبو العيال.
تناسى محروس إدعائه للمرض ثم حدجها بعبث قائلًا: قلب أبو العيال يا نور عيني أنتِ، بقولك إيه ما تجيبي حضن!
ضربته بخفة على ذراعه مُردفة بخجل: بس بقى بتكسف يا محروس الله!
أحاط بكتفها ثم قربها منه مُقبلًا جبينها وهو يقول بحب يشوبه العتاب: بتتكسفي بعد العمر دا كله يا چيجي! دا أنا قلبي قرب يدوب من حلاوة حُبك وأنتِ لسه بتتكسفي!
وعلى بُعدٍ آخر كان الشباب يُتابعانهم بتشنج وملامح وجوههم يرتسم عليها الإشمئزاز، وأول مَن تحدث هو جون الذي أردف بقنوط: أريد التيقؤ.
أكد عليه قاسم قائلًا: أنا نفسي موعت والله، إيه اللي أبوك بيعمله دا يا رائد؟
أجابه رائد الذي لم يقل صدمة عنه: صدقني أنا لو أعرف هقولك، دي مش ستي بس اللي اتجننت، لأ دي العيلة كلها.
بينما أمسكت چيهان بيد محروس لتوقفه، ثم جذبته معها هاتفة بسعادة: تعالى يا حبيبي دا أنا مجهزالك فطار هتاكل إيد، يا مصيبتي!
هتفت الأخيرة بجزع أثناء تحديقها للطعام الذي انتهى تقريبًا، ومازال فور يجلس على السفرة يحتسي الشاي أيضًا!
هرولت إليه چيهان حتى توقفت أمامه، وبعدها صاحت بغضب: دا أنت يومك أسود النهاردة، خلصت الأكل كله ياللي منك لله! دا أنت حتى مسبتش لينا حاجة نطفحها يا ابن المفجوعة!
رفع فور أنظاره لها، فوجدها تكاد تستشيط من الغضب، ابتلع ريقه برعب وفكر سريعًا في حل أو إجابة ليمكن بها الخلاص من بين براثنها، لذلك ادعى الحزن ووقف من على المقعد بملامح وجه مُنكسرة قائلًا: لقد أخذتُ راحتي لأني أعتبركِ من عائلتي، ليس لدي عائلة لتهتم بي وأنا أعتبركم كذلك.
لاح الحزن على وجه چيهان مُحدجة إياه بتأثر وخجل من ذاتها، رفعت كفها تُربت على ذراعه بخفة وكأنه طفل صغير، ثم تحدثت بحنان: خلاص يا حبيبي حقك عليا متزعلش مني، كُل بالهنا والشفا ولو عايز أكل تاني هجيبلك عادي.
طالعه رائد بصدمة مُتمتمًا مع ذاته بحنق وصوت غير مسموع: يابن اللعيبة! بكلمتين خليتها تنسى وصلة والخناق اللي كانت هتبدأ فيها!
بينما هز فور رأسه بالنفي قائلًا ببرائة: لا أريد المزيد شُكرًا لكِ خالتي، لو تعلمين أني لم آكل شيئًا منذ المساء لبكيتِ تأثرًا من حالتي المسكينة.
وبالفعل باتت الدموع مُهددة لتتكون داخل حدقتاها، لذلك أردفت بصوت مُختنق: يا حبيبي يابني! منهم لله شوية المعيز دول هتلاقيهم مخلصين أكلك كله، تعالى بليل وأنا هعملك ورق عنب تاكل صوابعك وراهم.
اقترب منها فور لإحتضانها، ثم شكرها بسعادة ظهرت واضحة في نبرة صوته: شكرًا لكِ خالتي، شكرًا لكِ حقًا.
وجد فور يدًا غليظة تُبعده عنها وكان مصدرها محروس الذي يُحدجه بغضب، هامسًا له بشر: أنت عارف ياض يا مدبلج أنت لو لقيتك حاضنها تاني أنا هعمل فيك إيه!
ابتلع فور ريقه سائلًا إياه بترقب: ماذا؟
أجابه محروس هامسًا بفحيح: مش هقولك دلوقتي خليها لوقتها.
ثم تركه وذهب بعد أن سحبها معه للداخل بالطبع، بينما أمسك قاسم فور من تلابيبه يهزه بعنف: بقى أنت بقالك كام يوم مش بتاكل واحنا بناكل أكلك يا طِفس؟
نفض فور يده ثم تحدث حانقًا: ابتعد عن ثيابي يا هذا وإلا ناديتُ ل چيچي.
قاطع حديثه صوت هاتف قاسم الذي ارتفع صوته يعلن عن مكالمة هاتفية، نظر لشاشته فوجد لقبها يُزين شاشته، لذلك أجابها بعبث وكأنه يُشاكسها: كفاءة!
استمع لصوت ضحكتها الخفيضة، لكنها تحدثت بجدية قائلة: عايزة أقابلك في موضوع مهم جدًا يا قاسم، ولو حد عارف باللي احنا بنعمله غيري أنا وأنت ياريت تجيبه معاك، وأنا هجيب يُمنى عنوان المكان اللي احنا هنتقابل فيه، بس خُد بالك وأنت جاي.
ورغم تعجبه الشديد من طلبها هذا، إلا أنه أجابها بإختصار: تمام، ابعتيلي اللوكيشن ومسافة السِكة وهكون عندك.
القلوب عامرة بالآلام، بالبكاء، بالصرخات، والضجيج المؤلم، كانت مُتمددة على الفراش هائمة في عالمها المُظلم البعيد عن حياتها السوداء والمُتسببة بها والدتها، هي قاسية القلب تعاملها وكأنها نكرة لا تستحق، هي والدتها لكن لا تستحق ذلك اللقب، أمي! كلمة معناها كبير والعمل بها لا يُذكر.
كان صهيب جالسًا جانبها يُمسد على خصلاتها الناعمة بحنان، نامت أخيرًا بعد ليلة طويلة قضتها في البكاء، انهارت كل حصونها الواهية وتبخرت في الهواء بسبب والدتها القاسية، هي تكرهها بكل ذرة في وجدانها، أقسم على النيل منها وإيذاقتها كل أنواع العذاب: صوفيا.
رددها بحقد نابع من دواخله، كيف تفعل ذلك بابنتها الوحيدة! أليس لديها قلب ولا ذَرة شفقة تجاهها! ألا تصعب عليها حالتها وهي منهمكة في البكاء طيلة الوقت! هبط على جبينها يُقبله بعمق وداخله يُقسم بتعويضها عن كل الأذى النفسي الذي مرت به، هي عانت ومازالت تُعاني، وهو مُتكتف الأيدي لا يستطيع مساعدتها، لكن كل هذا سينتهي قريبًا، سيتخلص هو وأخيه من تلك العائلة القذرة نهائيًا.
بينما هي كانت تُقاوم شيئًا ما بأحلامها، تشعر بأن هناك ثُقلًا يقبع فوق صدرها، وأيادٍ كبيرة تقوم بتثبيتها فوق الفراش، تشعر بهمهماته وتربيتات يده الخفيفة فوق رأسها، تشعر بكل شيء حولها لكنها مُكتفة! لا تستطيع التحدث أو الحركة، لا تستطيع الصراخ!
قاومت كثيرًا وظلت تحاول أن تُحرك كل إنش بها لكن محاولاتها بائت بالفشل، وتلك المرة لم ترى مُجرد ظلًا كما رأت المرة السابقة، لقد رأت شيئًا أبشع بكثير، جسد أسود اللون من أوله لآخره، عيناه بيضاء تمامًا خالية من بؤبؤ عينيه، نظراته لها تكاد أن تحرقها، وهي عاجزة، لقد عاد لها الجاثوم مرةً أخرى!
كانت مُتيقنة بأن الحزن سيهلكها يومًا من الأيام، لكن لم تتخيل بأن الهلاك سيكون بتلك البشاعة، حاولت فتح فمها والصراخ بإسمه عله ينقذها، لكن صوتها اختفى تمامًا، قاومت بأقصى ما لديها، خاصةً عندما لاحظت إقترابه منها، نظراته تُخيفها وبشاعة وجهه تُفزعها، تداخلت بعض الأصوات داخل عقلها، ما بين صراخ وتشوش وحديث، شعرت بالدوار يُدامها، وشعرت بالألم في باطن يدها خاصةً عن وضع ذلك الشيء المجهول يده فوق كف يدها.
انتهت مجازفتها فلم تجد شيئًا يُنقذها، إلا أن استمعت لصوته عندما بدأ بتلاوة بعض الأيات القرآنية فوق مسامعها، صوته بعيد لكن أثره كالبلسم فوق جروحها، هدأت ضربات قلبها قليلًا، وبدأ ذلك الكائن في الإختفاء تدريجيًا، حتى ذلك الثقل بدأ بفك حصاره من حولها، وعادت لحالتها الطبيعية.
فتحت حبيبة عيناها وجبينها مُتعرق بغزارة، فوجدته يجلس جانبها يُحدجها بقلق ظهر واضحًا فوق معالمه، وعندما رأته وتأكدت من تمكنها في الحركة انهمرت في البكاء الشديد، وكأنها وجدت مصدرًا لصب كل خيباتها وآلامها به، وضع رأسها على صدره وأحاطها بكلتا ذراعيه يُشدد من إحتضانها، بينما هي تشبثت به كالتائهة التي وجدت طريق العودة أخيرًا، في حالتها تلك تبدو كالغريق الذي تشبث بقشة ضعيفة لإنقاذه، وهو مصدر نجاتها الوحيد.
مسد صهيب على خصلاتها ثم خرج صوته مُهدئًا إياها بقلق: بس بس كفايا عياط، مالك يا حبيبتي حاسة بإيه؟
ولأنها كانت في وادٍ آخر لم تُركز على كلمته، بل تشبثت به أكثر عندما حاول إبعادها لرؤية وجهها، وكلمة واحدة هتفت بها بإنهيار أكثر: متسبنيش.
شدد من احتضانها واعدًا إياها بصوت خفيض: مقدرش أسيبك، متخافيش.
وهُنا تركت العنان لنفسها بالإنهيار أكثر، تشعر بالضعف يختلج أضلعها، تشعر بأن قوتها الواهية قد نفذت، هي ضائعة، هائمة، ووحيدة، لم تشعر بذلك المُتألم الذي يُجالسها، الأمر بالنسبةِ له أشبه بسكين حاد يُغرز داخل قلبه دون رحمة، ورغم ذلك يتحمل لأجلها، هو يعشقها وانتهى الأمر.
قبَّل جبينها بحرارة وكأنه يسحب منها ألامها التي تنبش بجسدها، ابتعدت عنه ووجهها مُملتيء بمياه عيناها التي كادت أن تنتهي، شهقت رافعة عيناها تُحدجه بألم ثم سألته ببكاء حاد: هو أنا وحشة؟
اللعنة على والدتها، اللعنة على كل مَن تسبب لها بالأذى وجعلها تسأل مثل هذا السؤال بكل هذا الألم، مسح عبراتها بيده ومسد على خصلاتها وهو يهز رأسه بالنفي، رسم ابتسامة مُغتصبة على ثغره ثم سألها بحنان: مين اللي قالك كدا؟
اهتز جسدها بإنفعال ثم أجابته بعد أن انتفضت بعصبية صارخة بهياج: أومال ليه الكل بيقولي كدا؟ ليه الكل بيكرهني وأنا معملتش ليهم حاجة وحشة؟ ليه دايمًا بيأذوني؟ ليه أنا دايمًا بكون الضحية؟ ليه ليه؟
قالت الأخيرة بصراخ تزامنًا مع إمساكها بزجاجة العطر الخاصة بها وقذفها في المرآة لتتهشم إلى قطع صغيرة، تهشمت كحال قلبها المسكين، وهي مثل قطع الزجاج تلك، لا تجد من يُرمم فحواها.
كان يُتابعها بقلب يُقطر دمعًا، وكأن آلامها انتقلت له من خلال حديثها، انتفض بهلع عندما رأى الأخيرة وهرع إليها مُسرعًا، جلس جانبها حيث كانت تتكور في أحد جوانب الغرفة كجنين فقد والدته، وياليتها تفقدها!
لا يعلم أيحتضنها ليُهدئها، أم يُعنفها لسذاجتها؟ وأخيرًا قد توصل لحل يُرضيه ومن الممكن أن يُرضيها، لذلك أوقفها عِنوةً رغم ضعفها المُسيطر على جسدها ثم جذبها خلفه خارجًا من الغرفة بأكملها، هبط الدرج بإنفعال وهي تجر أقدامها خلفه وقد جزعت من حالته، وازداد عندما نادى بعلو صوته صارخًا: صوفيا.
كانت صوفيا حينها تجلس على السُفرة تتناول طعامها لتذهب بعدها لمُباشرة عملها، حدجته بسخط لصراخه عليها وحولت أنظارها لإبنتها الباكية خلفه، ورغم ذلك لم تلتفت لحالتها، بل هبت من مكانها مُنتفضة بغضب وهي تنهرها بحدة: أنتِ دا كله لسه مجهزتيش يا حيوانة أنتِ؟
لم يأتي الرد من حبيبة بل أتى من صهيب على هيئة دفعة قوية أجلستها على المقعد مرة أخرى، ثم أحاط بيده رقبتها يضغط بقوة حاقدًا عليها، تبعه حديثه الهامس بشر: قسمًا برب مُحمد أنا لو سيبت نفسي عليكِ مش هخلي في خلقة اللي خلفوكِ حِتة سليمة.
شهقت بعنف واِحمر وجهها بإختناق كاد أن يقتلها، لم يُبالي لها بل ضغط أكثر يهتف بفحيح: عارفة لو قربتي ليها تاني هعمل فيكِ إيه؟ هقتلك، هقتلك يا صوفيا وهخفيكِ من على وِش الأرض.
فتحت عيناها على آخرهما وكأنها تلتقط آخر أنفاسها، وتحول وجهها إلى اللون الأزرق من شدة إختناقها، نادت عليه حبيبة بهمس باكٍ لكنه لم يلتفت لها، بل كان معمي البصيرة لا يرى سوى أذيتها لوالدته وكذلك حبيبته.
صهيب أنت اتجننت! بتعمل إيه!
صعدت تلك الكلمات من مختار الذي هبط لتوه، ليجد ابنه يكاد أن يُنهي حياة زوجة أخيه، هرول إليه مُسرعًا ثم دفعه بعيدًا عنها بصعوبة بعد عدة محاولات، بينما هي شهقت بعنف تأخذ أنفاسها الهاربة بصعوبة، وضعت يدها على رقبتها تُدلكها بفزع، وعيناها تُحدجانه بهلع تملك من حالته المجنونة، طالعهما صهيب بكره لم يستطيع مُداراته تلك المرة، لذلك رفع سبابته أمام وجهها يُحذرها بشر:.
لو شوفتك قربتي منها تاني قولي على نفسك يا رحمان يا رحيم، ومن النهاردة حبيبة مش هتقعد هنا تاني، هاخدها وهتعيش معايا في شقتي، ولآخر مرة هحذرك يا صوفيا، حبيبة خط أحمر.
عاد خطوتين للخلف ثم أمسك بكف حبيبة البارد وسحبها خلفه أمام أعينهما، ناداه مختار بعصبية قائلًا: استنى يا صهيب واخدها ورايح على فين؟
استدار له صارخًا في وجهه لأول مرة: هاخدها وأروح في ستين داهية، تيجي معانا؟
نهره مختار مُهللًا بصياح: ولد! أنت اتجننت! إزاي تعلي صوتك على أبوك بالطريقة البشعة دي؟
لاحت السخرية على وجه صهيب وود لو يعود له ويقتله هو الآخر، لقد نفذ صبره من تلك العائلة الحقيرة التي تُسبب الأذى للجميع دون النظر لحجم الضرر الذي تسببوا به، خرج صوته جامدًا يسأله ببرود ظاهري: خير يا مختار بيه؟
سحب مختار نفسًا عميقًا زافرًا إياه على مهل، ثم اقترب منه مُتحدثًا بحنان تلك المرة: رايح فين يا حبيبي!
تحامل صهيب على ذاته ثم أجابه على مضض: رايح بيتي.
ما هو دا بيتك يابني!
هز صهيب رأسه بنفي مُشيرًا بإشمئزاز تجاه صوفيا التي تُتابعهم بغضب حارق: طول ما الست دي موجودة هنا أنا مش هعتب البيت دا تاني، يلا يا حبيبة.
ذهب من أمامه نهائيًا ثم اختفى من الأرجاء من حوله بعدما صعد لسيارته هو و حبيبة التي كانت تتبعه كالدمية.
هاي عاملين إيه؟
هتف بها أحد الشباب للفتيات الجالسين بحديقة الجامعة وكان من ضمنهم سهيلة التي أصبحت صديقتهم بقوة في الفترة الأخيرة، اتبعت نهجهم ونسيت أخلاقها التي تربت عليها منذ الصغر، ردت عليه منه برقة أجادت إصطناعها: هاي يا عمور أخبارك إيه؟
حدجها من أعلاها لأسفلها بنظرات ماكرة ثم رد عليها بعبث: أنا فُل يا قمر، بقولكم إيه أنا زهقان إيه رأيكم نخرج؟
وافقته ساندي التي هتفت بحماس مُحدجة صديقه الذي كان يقف بجانبه بنظرات جريئة: واو فكرة هايلة، وأنت هتيجي معانا يا أمجد صح؟
غمزها بوقاحة قائلًا: صح الصح يا جميل.
خجلت سهيلة من نظراتهم وأحاديثهم تلك، فقالت مُتحججة بتلعثم: ل. لأ أنا مش هعرف آجي معاكم عشان ورايا مذاكرة كتير، خلوها مرة تانية.
تفوهت بتلك الكلمات لتنجى من حصارهم، فرد عليها تلك المرة شابًا يُدعى زياد بحديث لم تفهم مغزاه: ليه بس يا قمر دا احنا هنخرج ونتبسط كلنا وأهو كله بتمنه.
نفت قائلة: لأ معلش خليها مرة تانية مش هقدر آجي معاكم.
تأففت منه وهي تقول بنفاذ صبر: اخلصي يا سهيلة بقى مبتقيش قِفل كدا!
أصرت سهيلة على رأيها مُلملمة أشيائها ثم أردفت قبل أن تذهب من أمامهم: أنا أسفة بس مش هقدر آجي معاكم، عن إذنكم.
ذهبت تاركة كلتا صديقاتها تنظران لها بحقد، مهما حاولوا إيقاعها بنفس المُستنع الذي وقعوا به تظل على مبدأها، نعم نجحوا في أخذها لطريق القراءة الغير مرغوبة لكنها مازالت تُصر على الإبتعاد حتى لو قليلًا، لا تعلمان أن سهيلة بالفعل سلكت ذلك الطريق منذ فترة!
نظرت ساندي لأثر ذهابها بغل، فعادت تُحدق ب زياد قائلة بصوت خبيث كالأفعى: سيب الحكاية دي عليا، كلها يومين بالظبط وهخليها زي الخاتم في صباعك، وبكرا تقول ساندي قالت.
وصل صهيب ب حبيبة إلى شقته الخاصة ودلفا معًا للداخل، أجلسها على الأريكة فارتمت هي عليها بوجه جامد وتعب نفسي فاق شخصيتها الضعيفة، جلس صهيب بجانبها مُربتًا على جانب وجهها، ثم سألها بحنان: جعانة؟
نظرت له بتيهة تهز رأسها بنفي، ثم أجابته بتعب وصوت مبحوح: عايزة أنام.
جذبها إليها، فوضعت رأسها على صدره تستشعر نبضاته، فرد عليها هامسًا بصوت حنون: لأ متهربيش بالنوم، كل حاجة هتتحل ومتقلقيش أنا معاكِ.
سألته خائفة بإرتعاش: مش هتزهق مني؟
تؤ.
مش هتسيبني؟
تؤ.
هترجعني لماما؟
تؤ.
رفعت أنظارها تُحدجه ببراءة، ثم طلبت منه بصوت مبحوح: طب أنا جعانة.
شاكسها مُحركًا حاجبيه معًا: تؤ.
ترقرت الدموع بمقلتاها فانتفض هو من مكانه مُتجهًا للمطبخ: خلاص يخربيت نكدك اصبري هجيبلك.
ابتسمت حبيبة بخفة، وبظهر يدها مسحت دموعها التي هطلت وحدها، راقبته وهو يُخرِج الطعام من الثلاجة بتروٍ، كان كل لحظة يرمي لها نظرة مُطمئنة وكأنه يؤكد لها على وجوده، ولأول مرة تشرد به وبأفعاله، ظل معها ولم يتركها في محنتها، لم يكن باردًا كما كان يُظهِر، بل هو أحن عليها حتى من ذاتها، مُمتنة لوجوده وقُربه.
اقترب منها مُمسكًا بالأطباق على يده ثم وضعهم أمامها، ذهب مرة أخرى ليأتي بالبقية ومازالت هي تُتابعه حتى جاء حاملًا للصحون مرة أخرى، جلس أمامها على المقعد المقابل لها بعد أن عدَّل من وضعية الطاولة، أمسك بقطعة الخبر ثم مدَّ يده لها قائلًا بتلقائية: كُلي بالهنا والشفا يا حبيبتي.
ارتعش جسدها من كلمته، وبتردد واضح أمسكت منه الخبز وبدأت بتناول الطعام معه، كانت تشعر بالجوع الشديد نتيجة لعدم تناولها الطعام منذ ليلة أمس، كانت هي تأكل أحيانًا، وأحيانًا أخرى كان يُطعمها هو بذاته لعلمه بخجلها منه، أراد أن تتحدث أو تفعل أي شيء لذلك أردف بحنق: يا بنتي كُلي بقى دراعي وجعني.
حدجته بضجر ثم قطبت جبينها مُردفة بضيق: على فكرة أنا مطلبتش منك تأكلني أنت اللي صممت.
أشار لذاته بعدم تصديق ضاربًا على صدره بدهشة: يا مصيبتي؟ أنا اللي صممت!
أكدت له وهي توميء له ساخطة: آه أنت اللي صممت، وكمان كنت بتأكلني بالعافية.
إخس عليا إخس. وإيه كمان إحكيلي!
أشاحت بيدها وهي تشرح له تزامنًا مع إلتماع عيناه بعشق يخصها هي وحدها: ولما قولتلك مش عايزة خليتني آكل غصب وأنا أصلًا شبعت.
تصنع الأسى فقطب جبينه ينهر ذاته: يالهوي على القسوة اللي فيا! لأ حقك عليا ياستي، وآدي راسك أبوسها أهي.
قالها الأخيرة بخبث تزامنًا مع إقترابه منها في نية لتقبيل رأسها؛ فتراجعت هي للخلف مُسرعة بعد أن شهقت بفزع: أنت هتعمل إيه؟
تحولت نظراته للمكر فقرصها من وجنتها وهو يقول بعبث: بطلي تفكيرك القليل الأدب دا يا بيبة، دا أنا هبوس دماغك بس.
تصاعدت الدماء لوجنتيها مما جعلها قابلة للإلتهام، دفعته بيدها قائلة بتوتر: لأ شكرًا مش عايزة حاجة.
يابت فكري هتندمي.
قالها بطريقة كانت مرحة بالنسبة له، بينما هي نظرت إليه بصدمة لوقاحته معها، وتلك هي المرة الأولى التي تكتشف بها هذا الجانب من شخصيته الصارمة التي كان يُظهرها دائمًا، هبت من مكانها مبتعدة عنه ثم أردفت بحرج: لأ فكرت ومش هندم.
تصنع الأسى فقال مُتنهدًا بيأس: براحتك أنا غرضي مصلحتك.
قاطع مشاكسته لها صوت هاتفه الذي ارتفع رنينه، انتشله من على الطاولة ناظرًا لشاشته؛ فوجده شقيقه هو الذي يقوم بمهاتفته، لذلك أجابه بعبث: عمي وعم الناس والمناطق المجاورة وعهد الله.
جاءه صوت قاسم المُتهكم قائلًا: طيب يا خفيف سيب اللي في إيدك وعشر دقايق وألاقيك قدامي.
تخلى صهيب عن مرحه متسائلًا بتعجب: اشمعنا؟
اعمل اللي بقولك عليه ياض وانجز، بس بسرعة عشان منتأخرش.
أجابه صهيب باستسلام ناظرًا ل حبيبة التي تُتابعه بإهتمام: تمام عشر دقايق وهكون عندك.
أغلق الهاتف معه، وقبل أن يتحدث وجدها تسأله بريبة: أنت هتخرج؟
هز رأسه بالإيجاب ثم اقترب منها مُتشدقًا بحنان: آه هخرج بس مش هتأخر.
هزت رأسها وكأنها ترفض طلبه، ثم تقدمت منه طالبة منه برجاء باكٍ: متسبنيش لوحدي عشان خاطري.
حاول تهدئتها لذلك أردف بصوت حنون بث الطمأنينة في قلبها: متقلقيش مش هسيبك، أنا لازم أخرج بس ساعة بالظبط وهاجي، وكمان هخرج من الباب الخلفي عشان لو أمك باعتة حد يراقبنا تعرف إني لسه موجود هنا، اتفقنا؟
وبتردد واضح هزت رأسها بالإيجاب، فتقدم منها على بغتة مُقبلًا جبينها بحب، تبعه قوله الهامس بهيام أوضح مدى عشقه لها: ابقي فكريني لما آجي نبقى نتفق على ميعاد جوازنا عشان أنا مشاعري دي كدا خطر عليكِ.
ورحل! هكذا فقط! ألقى قنبلته بوجهها ثم تركها ورحل غالقًا الباب من الخارج، وهي بالداخل تتصارع مشاعرها داخلها كالأمواج الهائجة.
خرج صهيب من البوابة الخلفية وانطلق بسيارة أُجرة بعد أن تأكد من عدم متابعة أحدًا له مُخبرًا السائق بالمكان الذي يود الذهاب بعد أن أرسل له قاسم الموقع على هاتفه، وصل بعد عشرون دقيقة تقريبًا فوجد ذاته يقف أمام بهو شركة ضخمة السرح، وجد أخيه والشباب يقفون على بُعد قريب منه، فذهب إليهم مُتسائلًا بتعجب: احنا بنعمل إيه هنا؟ وشركة مين دي؟
أحاط قاسم بكتفه أثناء دلوفهم للداخل: تعالى وهتعرف دلوقتي كل حاجة.
شعر صهيب بضربات خفيفة على كتفه أثناء سيره بجانب أخيه، فاستظار بنصف رأسه يرى من الفاعل، ليجده فور الذي تحدث بإبتسامة واسعة: كيف حالك يا رجل! لقد اشتقت إليك كثيرًا.
توقف صهيب راغمًا قاسم على الوقوف أيضًا، ثم استدار له فاتحًا ذراعه بمرح له: هات حُضن ياض عشان أنت كمان وحشتني.
عانقه فور بحب كذلك بادله صهيب، ليصعد صوت فور متحدثًا بحماس: أنت لطيف يا رجل حقًا، أكثر من أخيك ذلك القاسي.
صعد صوت قاسم ضاجرًا: يا أخي خلي عند أهلك دي، أنت اللي طفس.
أشار فور ل صهيب يشكو له سوء معاملة قاسم تجاهه: أترى كيف يُعاملني؟ لا يعلم أني رقيق القلب حَسن الخُلق جميل الجوهر.
ربت صهيب على ظهره بتأثر قائلًا بنفس لهجته: لا تحزن عزيزي فور لكن هو معه حق، أتعلم لماذا؟
تحولت معالم فور للضيق ثم سأبه ساخطًا: لماذا؟
غمز له صهيب بمشاكسة وهو يُجيبه بفخر: عشان أنا أخويا مبيغلطش، ولو العالم كله قال إن أخويا مفتري فهيفضل أحسن واحد في الدنيا كلها.
رمى له قاسم قبلة في الهواء تبعها قوله المازح: حبيب هارتي أقسم بالله.
مصمص رائد على شفتيه قائلًا بحنق: ما تخدوني وسطكم في وصلة الحب دي، ولا عشان معنديش أخوات رجالة يعني هبقى وحيد كدا؟
نظر له جميع الشباب بهدوء حاد، حتى ابتلع ريقه بحرج قائلًا: إيه يا شباب عادي بهزر ي...
وما كاد أن يُكمل جملته حتى وجد أربعتهم يهجمون عليه يحتضونه بحب شديد، ضربه قاسم على ظهره مُعنفًا إياها: مسمعش الكلمة دي منك تاني، احنا هنا كلنا أخوات مش أنا و صهيب بس، ومن يوم ما اتجمعنا واحنا إيد واحدة وفي ضهر بعض.
أدمعت عين رائد تأثرًا ثم همس لهم جميعًا: بحبكم كلكم والله يا رجالة.
رد عليه جون هو الآخر: ونحن نحبك أيضًا عزيزي.
ليُجيبه فور تلك المرة: وأنا أيضًا أحبك كحبي للطعام تمامًا.
رد عليه رائد مُمازحًا: لأ أنا كدا اتأكدت إنك بتحبني بجد بقى.
انتفض الجميع عندما استمعوا لصوت يأتي من خلفهم يضرب على كفيه وهو يقول بحسرة: لا حول ولا قوة إلا بالله، ضاع إسلامنا.
هتف العجوز بتلك الكلمات عندما رأى الشباب بذلك المشهد البشع من وجهة نظره، فلقد رآهم يحتضنون شخصًا واحدًا وهم أربعة؟ فأكمل حديثه وهو يقول مُتحسرًا: شباب زي الورد بيضيعوا بسبب النت والهيء والميء اللي بيسمعوه.
فتح صهيب عيناه بصدمة جاذبًا ملابسه له وكأنه يُغطي بها صدره: يا مصيبتي! أنت بتقول إيه يا حَج! أنا صهيب آه لكن راجل أوي خلي في علمك.
حدجه العجوز بإشمئزاز ولم يُجيبه، بل جلس على مدخل الشركة ليحرصها كما أمرته صاحبة المكان، استمعوا لصوت حمحمة تأتي من خلفهم، فوجدوا رجلًا ضخم البنية يُشير لهم بيده للداخل: اتفضلوا ادخلوا آنسة أهلة في إنتظار حضراتكم.
مال صهيب على أذن قاسم هامسًا له بعبث: خطيبتك دي باين عليها جامدة ومسيطرة.
حدجه قاسم بطرف عيناه مُجيبًا إياه بمكر: مش خطيبتي! أكيد هتطلع كاريزما زيي.
اتبعوا الحارس للداخل فوجدوا العمال يعملون بكل جِد على قدم وساق، نالت الشركة إعجاب قاسم كثيرًا لكن مازالت الحيرة تُداهمه، هل بالفعل تلك الشركة تعود لها؟ ومنذ متى! ولما تحتاجها من الأساس! أسئلة كثيرة دارت بعقله ويحتاج لمعرفة أجوبتها، فعزم على معرفة كل شيء منها لاحقًا.
وصلوا إلى الطابق الرابع بواسطة المصعد، فأشار لهم الحارس إلى غرفة الإجتماعات قائلًا بعملية: اتفضلوا يا فندم.
طرق قاسم الباب أولًا وانتظر قليلًا حتى فُتح الباب وظهرت من خلفه ملك التي صاحت مُهللة: إزيك يا أبيه؟
دفع قاسم الشباب للخلف قائلًا بضجر: يلا نِرجع بلاها وجع دماغ.
قهقه صهيب عاليًا أثناء إمساكه ليد أخيه حتى لا يذهب ونظر ل ملك قصيرة القامة وهو يقول بمشاغبة: إزيك يا كتكوتة ناديلي ماما؟
تحول وجه ملك للسخط وكادت أن تُعنفه بقسوة، فقاطعها رائد ساخرًا: كتكوتة حرباية ولسانها عايز قطعه والله.
نهرته ملك بغيظ صارخة: اخرس يا وجه البرص أنت وملكش دعوة بيا.
جاءت من خلفهم يمنى التي تسائلت بتعجب: واقفة كدا ليه يا ملك؟
سددت ملك عليها الطريق ثم أردفت بعناد: مش هيدخلوا طول ما الكائن اللزج دا معاهم.
صفق رائد بيده متحدثًا بردح: هو مين دا اللي لزج يا بت! لأ بقولك إيه أقفي عِوج واتكلمي عِدل يا حبيبتي.
شجعه چون متحمسًا: لواحظ فخورة بك يا صاح.
رسم قاسم ابتسامة صفراء على وجهه ثم تمتم بغيظ: ممكن يا أستاذة ملك ندخل في أم اليوم اللي مش بيخلص دا؟
أفسحت له الطريق قائلة بإبتسامة مُتسعة: اتفضل يا أبيه.
تمتم قاسم مع ذاته حانقًا: جتك بَو في جنابك يا شيخة.
وعلى الجانب الآخر كانت يمنى منصدمة من وجود صهيب رفقتهم، آلاف الأسئلة كانت تدور برأسها ولم تجد لها إجابة سوى أنه خائن لأبيه!
لاحظ نظراتها المُصوبة تجاهه فقابلها ببرود صقيعي صلد قائلًا بإستفزاز قبل أن يتركها ويدلف مع أخيه: إزيك يا، يمون.
كانت أهلة جالسة في صالة الإجتماعات على المقعد الذي يترأ الطاولة وعلى الجانب الأيمن يجلس المدعو يحيي والذي يعمل جاسوسًا لهم في شركة الأرماني، وما إن رأته حتى توقفت مُرحبة به بإبتسامة بشوشة: أهلًا يا قاسم.
وقف قاسم على الجانب الآخر المقابل ل يحيي قائلًا ببرود: أهلًا.
تعجبت من ترحبيه بها بتلك الطريقة الفاترة لكنها لم تُبالي، لتستمع إلى سؤاله الذي تلا حديثه: مين الأخ؟
أجابته مُتعجبة: دا يحيي شغال في شركة الأرماني لصالحنا.
جاء صهيب من خلفه الذي هتف بدهشة عند رؤيته ل يحيي الموظف الأقرب ل مختار الأرماني: يحيي؟
انتفض يحيي من مكانه بفزع ثم أردف بخوف من فكرة كشفه: صهيب بيه متفهمنيش غلط دول هما اللي خطفوني وجابوني هنا غصب.
يابن الغدارة؟
هتفت بها ملك بتهكم ثم استرسلت حديثها قائلة: دا أنت حتى مضربتش لسه عشان تعترف!
قاطعتهم أهلة بنفاذ صبر موجهة حديثها ل قاسم وهي تُشير للشباب: مين دول يا قاسم؟
نظر خلفه ثم بدأ بتعريفهم واحدًا تلو الآخر: دا فور، ودا أخوه چون، ودا رائد، ودا صهيب، أخويا.
هتف بها بتروٍ ناظرًا ل يمنى بنظرات ساخرة ذات معنى، بينما هي رددت كلمته في سرها بدهشة كبيرة، كيف يُصبح صهيب االأرماني شقيق قاسم طاحون؟ سؤال تكرر بذهنا وتعجبت منه للغاية، بينما أهلة أومأت بصمت وأشارت لأخواتها: ودول أخواتي يمنى وملك انتوا عرفتوهم قبل كدا، ودلوقتي خلونا نتكلم في المهم، اتفضلوا.
جلس الجميع على المقاعد الفارغة، بينما أهلة بدأت في الحديث قائلة: دلوقتي كلنا عارفين إن عيلة الأرماني بتاجر في الأعضاء، لكن اللي أنتوا مش عارفينه إن شركة الأرماني للتغذية بتبيع أكل فيه مواد مُسرطنة، ودا سبب حالات وفاة كتير في مصر.
لم يتعجبوا من حديثها، فجميعهم يعلمون بقذارة تلك العائلة بل يتوقعون أسوأ من ذلك منهم، فأكلمت أهلة حديثها وهي تُمسك بالأوراق التي أمامها تُقدمها ل قاسم: ودلوقتي ورق الصفقة الأخيرة وصل لينا بمساعدة يحيي طبعًا، ودا هيفيدنا في شغلنا الجاي، تاني حاجة إن الشركة دي بتاعتنا أنا و يمنى بدأنا فيها من زمان أوي ومحدش يعرف بعداوتنا مع عيلة الأرماني، يعني احنا منافسين عاديين جدًا، لكن احنا عملنا شركة تانية محدش يعرف مُلاكها الحقيقين وبنهاجم بيها شركتهم هما وعيلة مهران.
تحدث چون بصدمة جلية على محياه: يا إلهي! لم أرى بشر بتلك البشاعة من قبل!
أكملت أهلة حديثها بجدية وهي تُشير للأوراق التي بيد قاسم: وطبعًا أنا صحفية وبإسمي المُستعار كتبت خبر هيكسر الدنيا وهيقومها من تاني.
حدق قاسم بالأوراق التي بين يديه بتمعن ثم قرأها بعينه والتي كان محتواها: رجالٌ كالأصنام يُديرون البلدة من أولها كآخرها، والشعب يُنادي أين أطفالنا! أطفالٌ انتزعت منهم برائتهم بطريقة بشعة تسببت بفقدانهم الحياة، مشفى الأرماني التابعة للطبيب المشهور مختار الأرماني يدور حولها الكثير من الشُبهات وأولها تجارة الأعضاء، تساؤلات عديدة تدور في رؤوس المواطنين وخوف من القادم.
ارتسمت ابتسامة واسعة على ثغر قاسم مُتخيلًا ما سيحدث عندما يُنشر ذلك الخبر في الجرائد والمجلات وعلى محطات التلفاز، رفع أنظاره إليها ثم غمزها قائلًا: كفاءة.
وعلى الجانب الآخر في النص الثاني من الكرة الأرضية يجلس آلبرت أمام العقيد مايكل والذي سأله بتعجب: للا تقل بأنهم لم يخبروك آلبرت؟
رفع آلبرت عيناه الحادة للعقيد يسأله بفحيح: أين هما شقيقاي سيدي؟
أجابه بإختصار عندما لاحظ صمته المريب فقال: لقد سافرا إلى مصر، كلفتهم بمهمة هامة للغاية وهم على وشك تنفيذها.
اللعنة.
صرخ بها بغضب، لينهره العقيد الذي يتعدى عمره الخمسون صارخًا: هل جُننت آلبرت؟ كيف تُحدثني بتلك الطريقة!
أجابه آلبرت باقتضاب: لم أقصد سيدي، إذًا ما هي المهمة التالية؟
وبالخارج صدح صوت إيغور يتحدث بريبة: استمع لصراخ آلبرت من هُنا، ماذا حدث يا تُرى؟
جاءه صوت اندريه قائلًا بقلق: يبدو أننا كُشفنا من قِبل الما يا وعلموا أننا مُجندين.
وضع ليونيد يده على صدره شاهقًا بصدمة: أيعقل؟
بينما ستيفن كان مربعًا ليده أمام صدره يُتابعهم ببرود، حتى انفتح الباب أخيرًا وظهر من خلفه آلبرت بملامح وجهه المُتهجمة للغاية، سأله ستيفن بترقب قائلًا: ما الجديد آلبرت؟
أجابه آلبرت بفحيح: سنُسافر إلى مصر بعد أسبوعان.