رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث عشر
الحرب لم تبدأ بعد لتنتهي، خطط كثيرة ومناغشات على وشك البدأ، هُم أردوا حربًا؛ إذًا فليروا، كُلًا منهم يحمل ضغينة داخل قلبه كانت كفيلة لإحراقهم أحياء، الفوز بمثابة الحياة بالنسبة إليهم، وهم سيفعلوا ما بوسعهم للصدارة.
بعد أن قام قاسم بقراءة كل التقارير التي بين يديه بتمعن ودقة شديدة؛ رفع نظره إلى أهلة التي كانت تُراقب ردات فعله بفضول، تُحاول التوصل إلى ما يُفكر به لعلها تتنبأ بما يُخطط، خرج صوته ثابتًا وهو يتحدث بغموض: أنا كدا فهمت كل حاجة.
قطبت جبينها بتعجب وانتظرت ليُعقب لكنه لم يفعل، حوَّل قاسم أنظاره إلى صهيب الذي يُحاول أن يستشف ما خلف ذلك الغموض الذي تغلف به أخيه، ثم أردف بنبرة هادئة: صهيب. الشُحنة الجاية ميعادها هيكون إمتى!
خرج صوت صهيب مُجيبًا إياه بثبات: المفروض بعد تسع أيام بالظبط زي ما مختار قالي.
تسائلت أهلة مُتعجبة وهي تنظر له بشك: ولما أنت عارف مش بتبلغ عنه ليه؟ ولا تكون متفق معاه!
دافع قاسم عن أخيه مُحدجًا أهلة ببرود: مينفعش صهيب يبلغ عنه وإلا هيشكوا فيه، بما إنك صحفية المفروض تعرفي ردة الفعل اللي هتترتب على الفعل الفعل نفسه.
هزت أهلة رأسها بتفهم ولم يغيب عنها نظرات صهيب الثاقبة لها، لذلك استدارت له بحدة وهي تسأله ببسالة: في حاجة يا أخ؟
مش مرتاحلك يا اسمك إيه.
ردت عليه يمنى بهجوم تلك المرة قائلة: اسمها أهلة يا خفيف، ولو صعبة على لسانك كررها عشر مرات.
حدجها صهيب باستخفاف ثم أشاح بيده بلامبالاة وكأنها كائن لا قيمة له: محدش طلب رأيك يا عسل، أنا بكلم مرات أخويا.
تدخلت ملك في الحوار والتي أردفت بابتسامة بالهة وهي تُحدج فور بنظرات هائمة: خلاص يا جماعة صلوا على النبي دا شيطان ودخل ما بينكم، ولا إيه يا عسل أنت!
أنهت حديثها وهي تأخذ برأي فور الذي ابتسم ببلاهة مُضحكة: هل هذا أنا؟
أكدت له وهي تبتسم بإتساع: وهو فيه عسل غيرك هنا؟
نكزتها أهلة في جانبها بقوة آلمتها، بينما أخفض فور رأسه بخجل وهو يُجيبها: اصمتي يا فتاة أنا أخجل.
كانوا غافلين عن تلك العينين التي تُتابعهم بغضب كاد أن يلتهمهم، وبالطبع كان مصدرها رائد الذي كاد على وشك الإنفجار، كز على أسنانه بضيق ليُصيح عاليًا بعدها: كفاية لعب عيال بقى احنا جايين هنا نهزر ولا نشتغل!
تعجب قاسم من حدته التي لا تظهر كثيرًا ناظرًا له بتمعن، ليُلاحظ رائد ذلك فتوترت معالمه بدون قصد، وهُنا علم قاسم أن صديقه يُخفي شيئًا ما عنه، مُقررًا بداخله بأنه سيعلم كل ما يدور برأسه عند عودتهم للمنزل لاحقًا.
سحب يحيي نفسًا عميقًا وزفره على مهل، وتكلم لأول مرة منذ جلستهم قائلًا: يعني أنا كدا دوري خِلص ولا لسه في حاجة تاني؟
استدار له صهيب ثم سأله على بغتة: ليه خُونت مختار الأرماني يا يحيي وأنت كنت إيده اليمين؟
لوى يحيي شفتيه ساخرًا، ثم أجابه بدرامية: عشان عيلة الأرماني دي عيلة محترمة جدًا جدًا وأنا واحد خاين.
ابتسم الجميع على حديثه بخفة، ولوهلة شعر صهيب بالبلاهة من سؤاله الغبي هذا، لذلك ربت على كتف يحيي قائلًا بفخر: جدع يا يحيي، كل مرة كنت بشوفك هناك في الشركة كنت بتصعب عليا وخصوصًا إني كنت عارف إن جواك إنسان مُحترم.
مازحه جون مُتسائلًا: كيف علمت أنه إنسان جيد وهو كان يعمل مع تلك العائلة المقيتة؟
ابتسم صهيب ابتسامة صغيرة لم تصل إلى عيناه، ثم عاد بذاكرته قليلًا أثناء تحدثه: كنت في مرة نازل مهمة شغل مُهمة وشوفت يحيي على الطريق ماشي بست كبيرة، متزعلش مني يا يحيي بس أنا فكرت إنك واخدها ل مختار عشان تقتلوها وبعدين نبيعوها أعضاء زي ما متعودين عشان كدا راقبتك، بعدها اكتشفت إنك واخد الست دي لبيت كبير أوي وعرفت بعدين إن أنت اللي اشتريته ليها، ومش هي بس. دا فيه جوه عواجيز تاني غيرها، مقدرش أنكر إني استغربت وكنت عايز أسألك بس ما كنت مازالت شاكك فيك، وبما إنك هنا دلوقتي فأحب أعرف منك السبب في إنك تصرف كل فلوسك تقريبًا عشان بيت يسكن فيه العجائز بس!
كان يحيي يستمع له بابتسامة كبيرة، وحينما ألقى سؤاله الأخير أجابه ببساطة: ميهمنيش أي فلوس يا صهيب بيه، أنا اتحرمت من أمي من وأنا عندي عشرين سنة تقريبًا، ورغم إني مكنتش صغير إلا إني كنت محتاجها معايا في كل خطوة في حياتي، وبعدها أخويا أُستشهد وبقيت في الدنيا لوحدي، لحد ما اشتغلت مع مختار بيه بالصدفة في الشركة بتاعته، وبدأت حياتي تسوء لما اشتركت معاه في تزوير التصاريح لأني كنت شاطر في دا جدًا، لحد ما عرفت إن التصاريح اللي كنت بمضيها دي بتدمر حياة ناس كتير وبتحرم أولاد كتير من أمهاتها وأنا كنت معمي، واتعرفت على الأستاذة أهلة لما مختار بيه أمرني إني أعرف الشركة المُنافسة لينا، وعرفتها واتفقت معاها وبقيت جاسوس زي ما بيقولوا، وبعدها قررت إن بكل الفلوس اللي مختار بيه بيدهالي دي أعمل حاجة أكفر بيها عن ذنبي القديم وفي نفس الوقت بطني ميدخلهاش لُقمة حرام أبدًا، وبنيت بيت كبير جدًا لميت فيه العجائز والمُشردين والغير مُقتدرين ماليًا، وقُدام بإذن الله لما نخلص من كل القلق اللي احنا فيه دا هحوله دار أيتام بتصاريح من وزارة الداخلية.
كان الجميع يستمع له بإنتباه ونظرات الفخر تحوم في أعينهم، ربت قاسم على كتفه بتشجيع قائلًا بقوة: أنت راجل يا يحيي وصدقني إن ربنا هينجيك زي ما أنت نجيت ناس كتير من تحت إيد مختار واللي زيه.
أكمل صهيب حديثه داعمًا له: وليك عليا إني هخلصلك التصاريح دي كلها بسهولة كمان.
نظر لهم بإبتسامة صافية وكاد أن يشكرهم؛ لولا صوت البُكاء الذي قطعه والقادم من جانبه، نظر الجميع للذي يبكي هذا فوجدوه فور!
جزع قاسم خوفًا لذلك سأله بقلق: مالك يا فور في إيه؟
مسح فور دمعاته وتحولت نظراته للتعجب وهو يُجيبه: لواحظ من أخبرتني بذلك، أن أبكي في المشاهد المؤثرة لأبدو لطيفًا!
سبَّ قاسم عليه وعلى لواحظ ونظر له بنظرات حارقة جعل فور يُصيح بحنق: لا تنظر لي هكذا يا مغفل.
كور قاسم يده فتحدث من بين أسنانه: يابني هتغابى عليك وعهد الله متختبرش صبري.
رَبَّع فور ذراعيه بضجر ناظرًا ل قاسم بحنق من طرف عينه، ربت جون على قدمه بحنان قائلًا: لا تحزن يا أخي، أنت تعلم أن قاسم قاسي القلب دائمًا.
يا حنيْن!
نطق بها صهيب ساخرًا، فأكمل حديثه مُدافعًا عن أخاه هو الآخر: اتكلم عن أخويا عِدل ياض أنت وهو بدل ما أقوم أكسر دماغكم انتوا الاتنين.
صرخ فور بوجهه في المقابل: اللعنة عليك وعلى أخيك الأحمق هذا.
نطق بها فور مُتسرعًا، مما جعل جون يضرب على جبينه تزامنًا مع همسه الخافت: ضِعنا يا مغفل.
صمت الجميع بعد أن ألقى فور جملته ونظر إلى قاسم الجامد بترقب، ابتلع ريقه عندما زاد صمته مما جعله يهمس بخوفٍ باكٍ: هل. هل ستتحول أم ماذا؟
لم يُجيبه أيضًا، بل ارتسمت ابتسامة جانبية على ثغره زادت من هلعه، تبعه قوله المُتوعد له وهو يقول بخبث يُغلفه الغضب: تَجَهْز عزيزي فور فالمهمة القادمة ستكون لك!
انتهى الإجتماع بعد حديث قاسم الأخير بساعة تقريبًا، ستون دقيقة كانت بمثابة إتفاق مُدمر لهم، خططوا ورتبوا إلى التجهيزات التي سيفعلوها أمس، الجميع له دور فعال في تلك الخطة، الجميع بلا إستثناء، بدايةً من قاسم رأس الأفعى حتى ملك المُغفلة.
خرج الجميع من الشركة معًا، مظهرهم كان مُهيب بعض الشيء، الرجال في الأمام ويتوسطهم قاسم وفي الخلف الفتيات معًا، وقفوا في الردهة على شكل دائرة، تلاه صوت قاسم الجاد: كدا اتفقنا على كل حاجة مش فاضل غير التنفيذ، ركزوا يا شباب، الغلطة بفورة وهيطير فيها رِقاب.
أومأ له الجميع بجدية، فأكمل قاسم حديثه بعبث: طريقهم صحراوي انتوا بقى، أنا و أهلة هنخرج سوا شوية.
وأنا هاجي معاكم يا أبيه.
تشنج وجه قاسم من حديث ملك، لذا صاح بحنق منها وهو يُشير بسبابتها أمام وجهها: بقولك إيه أنا مستحملك بالعافية، كلمة أبيه دي لو قولتيها تاني هقطع لسانك من لغاليغو.
قاطعه فور متُسائلًا ببراءة: What does it mean لغاليغو Kasim!
تأفف قاسم قائلًا: خلي رائد يفهمك، يلا يا أهلة؟
كانت أهلة تُتابع الحديث بإبتسامة طفيفة، لتخرج من شرودها على صوت قاسم الذي يحثها على السير معه، ومن ثَم صعدت معه لسيارته وانطلق بها بعيدًا عن أنظارهم.
بينما استدار فور ل رائد يسأله بفضول: اشرح لي رائد ماذا تعني تلك الكلمة؟
انتبه له رائد الذي كان يُتابع ملك وتصرفاتها الحمقاء معه تحديدًا، تتحدث مع الجميع وتتجاهله هو كالأخرق! لما هو تحديدًا؟ استدار رائد ل فور ثم أمره قائلًا: افتح بوقك كدا وطلَّع لسانك.
ورغم إشمئزاز الجميع مما قاله، إلا أن فور رضخ له وفعل ما أمره به، ليُشير له بإصبعه دون لمس لسانه: اللغلوغ دا اللي هو نهاية اللسان من عند اللِوَز كدا.
بدا فور كالأبله فأغلق فمه مُتسائلًا: اللوز! ماذا يعني هذا؟
جعد رائد وجهه ثم دفعه بعيدًا وهو يقول بحنق: ابقى اسأل لواحظ أحسن، يلا بينا يا عيال.
عيال؟
نطقت بها ملك بحنق، لم يُصدق أنها تحدثت إليه بعد هذا التجاهل، ورغم ذلك استمر في مضايقتها متشدقًا باستخفاف: يلا يا شاطرة شوفي أنتِ راحة فين.
صاحت به ملك بسوقية وهي تصرخ به: بقولك إيه يلا اتكلم عِدل بدل ما أوقعلك صف سنانك اللي تحت.
وقف رائد يُتابعها بذهول ثم أشار لنفسه بإصبعه قائلًا بدهشة: أنتِ بتكلميني أنا كدا؟
لأ بكلم أمك.
ألقت كلماتها ثم هرولت هاربة من أمامه حيث تقف شقيقتها يمنى مع يحيي في أحد الجوانب، بينما قهقه صهيب عاليًا مُردفًا بضحكات عالية: بتحط نفسك في مواقف بايخة.
قبل قليل، أخذ يحيي مكانًا بعيدًا نسبيًا عنه واقفًا أمام يمنى التي تعجبت من طلبه العجيب، وما كادت أن تسأله حتى باغتها هو بسؤاله المُضطرب: يمنى أنتِ بجد هتعملي اللي دكتور قاسم قالك عليه؟
قطبت يمنى حديثها بتعجب، ثم أجابته وهي تهز كتفها ببساطة: أيوا طبعًا هعمله، ليه السؤال دا؟
حاول ألا يُظهِر قلقه عليها، لكنه بدا واضحًا لها كثيرًا أثناء قوله: يعني لو ضياء اكتشف اللي أنتِ هتعمليه ممكن يأذيكِ بأي شكل من الأشكال، خصوصًا إنك عارفة إن السكرتيرة بتاعته مُختفية بقالها مُدة مش قليلة.
تنهدت يمنى بعُمق ثم أجابته بهدوء: متقلقش يا يحيي هو مش هيعرف حاجة، أنا هصور وهكتب الخبر و أهلة هي اللي هتنشره بالاسم المُستعار بتاعها.
يمنى عشان خاطري خُدي بالك من نفسك أكتر من كدا وحاولي تبعدي عنهم وعن شرهم.
كان رجاء أكثر من طلب، فعندما استمع إلى خطة قاسم بالأعلى انقبض قلبه لاإردايًا من فكرة كشفها، خاصةً وأن مهمتها صعبة للغاية، أعطت له ابتسامة خفيفة وهي تُجيبه بإطمئنان: متقلقش عليا هبقى كويسة صدقني.
بادلها إبتسامتها لكن بشيء من الخوف وعدم الراحة، هي ستدلف لمستنقع الذئاب بقدمها، ولو كُشِف أمرها ستنتهي بالتأكيد، اِلتمعت عيناه وهي يُراقبها عن كُثب، لا يُنكر بأنه يُكِّن لها الإعجاب وهي لا تُبالي، هدفها الإنتقام دائمًا، وهي هدفه كذلك!
جاءت بتلك اللحظة ملك التي تحدثت ضاجرة مما حدث مع رائد منذ قليل: يلا يا يمنى مش هنمشي؟
أومأت لها يمنى بالإيجاب، ثم استدارت إلى يحيي مودعة إياه بود: يلا سلام يا يحيي.
مع السلامة.
قالها وهو ينظر لأثرها الذي يبتعد بأعين مُلتمعة، متى ستشعر به إذن؟ هو يتلوى بشوقه منذ ستة أشهر وهي لا ترى ذلك، حبها نار تُحرقه لهيبه، وهي ساذجة، أو ربما تدعي ذلك!
تنهد بأسف ليشعر بعدها بذراع تُحيط بعنقه وصوت رائد يخترق مسامعه بعبث: عينك ياض وغُض بصرك واتقي الله.
طالعه يحيي بمشاكسة ثم أردف بمكر: ما أنت كنت هتاكل ملك بعينك فوق ومتكلمتش يا جدع!
حدجه رائد بصدمة من فكرة كشف أحد لنظراته، صدحت ضحكات صهيب وجون عاليًا، بينما تسائل رائد بحرج وهو يحك عنقه: كنت مفضوح أوي كدا؟
حرك يحيي حاجبيه بمزاح قائلًا: جوي جوي يا خال.
تعالت ضحكات الجميع بمرح، فتسائل يحيي بعد أن توقف عن الضحك: أنا نسيت أسمائكم، قولوها تاني عشان أحفظكم.
بدأ جون الحديث مُعرفًا عن ذاته: أنا چون من روسيا.
وأنا رائد من أم الدنيا.
وطبعًا أنا مش محتاج تعريف!
قالها صهيب بمزاح، ليؤكد له يحيي ضاحكًا وهو يقول: أكيد يا صهيب باشا.
وأنا فور اللطيف.
قالها فور والذي كان يلتهم شطيرة من الدجاج مجهولة المصدر، قطب رائد جبينه متسائلًا بتعجب: جايب الأكل دا منين؟
أجابه فور ببساطة وهو يُشير لأحد الأطفال الذين يبكون بشدة: كنت جائع فأخذتها من ذلك الطفل الباكي.
ضرب صهيب على رأسه بأسى، بينما صرخ به جون مُعنفًا إياه: كم قُلت لكَ مرارًا وتكرارًا ألا تسرق يا مُغفل، أنت تهدم أخلاقنا الشريفة يا أحمق.
أدعم.
نطق بها رائد ساخرًا، ثم استطرد حديثه قائلًا: وبلاش أقولك شريفة دي تبقى مين.
كتم صهيب فمه حتى لا يُكمل حديثه، ثم أردف وهو يدفع الثلاث شباب الآخرون أمامه: طيب يلا يا بختي المنيل نمشي من هنا قبل ما أبو الولد يجي ويعمل في وشنا كلنا خريطة.
سار قاسم وأهلة لبعض الوقت بالسيارة، حتى توقفوا أمام النيل، هبط هو أولًا فتبعته هي متسائلة: وقفنا هنا ليه؟
أجابها بإختصار قائلًا: تعالي نتمشى شوية.
نالت الفكرة استحسانها وسارت بجانبه، كان المنظر خاطفًا للأنفاس، خاصةً وأن الشمس الغاربة كانت وكأنها تحتضن المياه الزرقاء بحنان، مشهد يُدخِل البهجة للنفوس.
وضع قاسم يده في جيب بنطاله الأسود بعد أن وقف أمام السور الحديدي وهي بجانبه، وبعدها تحدث بشرود أثناء نظره للغروب:
شايفة الشمس! زي ما هي بتفضل تنطفي لحد ما تغيب وبعدها تطلع تنور من تاني احنا كمان زيها.
حدجته بتساؤل لم تنطقه، ليُوضح لها مقصده متشدقًا بهدوء: يعني احنا كمان بننطفي، بس مينفعش نفضل كدا دايمًا، عادةً الناس بتدور على اللي يرجعلها الأمل والحياة من جديد، زي الشمس بالظبط، بتلاقي القمر يشحنها بالطاقة فبترجع تنور من تاني، واحنا كمان. بندور على اللي ينورنا من تاني بعد ما ننطفي.
كان حديثه صحيحًا مائة بالمائة، لكن لما يُلقي على مسامعها ذلك الحديث الآن، وبدون تردد سألته مُباشرةً: ليه بتقولي الكلام دا؟
أجابها دون مُراوغة: عشان أنا وأنتِ عاملين زي الشمس والقمر بالظبط، لما حد فينا ينطفي هيحتاج التاني عشان يشحنه بالطاقة اللي تخليه قادر يكَمِّل.
القدر عِرف يجمعنا ببعض يا قاسم، بس ماضينا مليان شوائب وأظن مش هنعرف نِرجع زي ما كُنا تاني، مش هنعرف نكون مع بعض دايمًا زي ما أنت مُعتقد.
نفى حديثها قائلًا: مقولتش إن احنا هنفضل مع بعض دايمًا، مسيرنا هنبعد وكل واحد هيشوف حياته بعيدًا عن التاني، بس على الأقل نقدر نقدم لبعض خدمة مننسهاش العمر كله.
كان حديثه غامضًا بعض الشيء لم يصل مغزاه الكامل لها، لذلك ضيقت عيناها قليلًا بشك تسأله بترقب: يعني إيه؟
استدار لها بكامل جسده مُوجهًا أنظاره إليه، ثم أجابها على بغتة: يعني أنا وأنتِ محتاجين نتعالج، محتاجين دكتور نفسي يساعدنا إننا نتخطى كل حاجة مرت في حياتنا.
سألته بصدمة يشوبها الغضب: أنت بتقول إيه؟ مين أنت عشان تتحكم في حياتي بالطريقة دي؟
أجابه بهدوء أمام غضبها الذي كان يتوقعه: مُهمتنا في مصر قربت تخلص، وبعدها هنكمل كل حاجة لما نسافر روسيا، وهناك هنتعالج بعيدًا عن الناس والأذى اللي شوفناه هنا.
فقدت أعصابها من هدوءه الذي أخرجها عن شعورها ناهرة إياه بصوت عالي: أنا مش هتعالج، وحياتي الخاصة أنت ملكش دخل بيها، هنخلص اللي اتفقنا عليه وهنطلق وكل واحد فينا هيروح لحاله، لكن إني أتعالج ودكتور نفسي والكلام الفاضي دا مش هيحصل ريَّح نفسك عشان مش هيحصل.
كان يُتابع إنفعالاتها الغاضبة بجمود، وكأنه استشف ما تُخبأه خلف قناع البرود والجمود الذي تُظهره دائمًا، وبلامبالاة سألها وهو يُشير لأحد الجوانب: تاكلي دُرة.
فتحت فاهها بصدمة تُحدجه وكأنه كائن برأسين، لم تجد ما تُجيبه به؛ فوجدته يسحب يدها بين كفه قائلًا بعبث: ولا أقولك! تعالي ناكل تين شوكي أحسن.
أنت بجد يعني؟
سألته ببلاهة ومازالت معالم الدهشة مُرتسمة بوضوح على وجهها، ليرد عليها بمشاكسة: تؤ.
وقفا أمام العربة التي كان يجلس عليها عجوزًا يظهر عليه تقدم السِن بوضوح، ليطلب منه قاسم بود: قطعلنا خمسة يا راجل يا طيب.
أجابه العجوز ببشاشة: من عيوني يابني.
أمسك بالسكين الحادة وأمسك ثمرة التين بين يديه ليُقطعها حتى أزال القشور التي تُغطيها، مدَّ يده له وهو يُتمتم بصوت خفيض: يا حلو يا محلِّي الحبايب، ادعي ربك يرد اللي غايب.
انتشلها قاسم منه، ومدَّ يده لها قائلًا بمشاكسة: خُد يا، حلو.
قال الأخيرة ببطيء، لتضطرب معالم وجه أهلة التي حاولت السيطرة على ثباتها، خاصةً وأنها نشبت مشاجرة حادة بينهما منذ قليل وهو تعامل وكأن شيئًا لم يكن، التقطت منه التين الشوكي بهدوء، ثم أكلته بتلذذ، كم تعشقه وتعشق مذاقه الرائع والفريد، انتهت من خاصتها بسرعة لتجده يمد يده بأخرى فإنتشلتها من على الفور وبدأت في إلتهامها أيضًا.
كان يأكل هو الآخر بتلذذ شديد، وكان هذا أول شيء مشترك يجمعهم معًا، حبهم للتين الشوكي!
وبدون شعور منها وجدت ذاتها قد أكلت سبع قطغ دون أن تدري! حمحمت بحرج من قاسم الذي يُتابعها ضاحكًا، ثم سألته بحرج واضح: هو أنا كلت كتير؟
هز رأسه نافيًا بضحك، ثم أجابها وهو يدفع المال للعجوز الذي يُتابعهم ببشاشة: لأ مكلتيش كتير ولا حاجة، بالهنا والشفا.
كاد أن يذهبا، فاستمع قاسم لصوت العجوز يوصيه ببشاشة: خلي بالك من الحلو اللي معاك يابني.
حدجها قاسم بنظرات ثاقبة ثم أجابه: في عيوني يا راجل يا طيب. يلا ربنا يرزقك.
سارت أهلة بجانبه شاعرة بوجهها يكاد أن يحترق من الحرج، رفعت أبصارها للأعلى عندما شعرت ببعض النقاط التي تسقط فوق رأسها، حسنًا السماء غائمة والجو عاصف، لا بُد بأنها ستُمطر اليوم، ظنت بأنه سيتجه نحو السيارة للعودة إلى المنزل، لكنه غيَّر مساره لجهة أخرى متحدثًا بهدوء: تعالي نشرب عصير.
مش بحب القصب.
اعترضت ليقول هو الآخر: ولا أنا، بس تعالي نشرب فراولة باللبن أنا بحبها.
تحمست كثيرًا لتوافقه بسعادة: أوكي جدًا، وأنا بعشقها.
يا بختها.
رد عليها عابثًا فتمتع بوجهها المُرتبك والذي يظهر طفوليًا إلى حد كبير، وقف أمام الرجل ليطلب منه طلبه بهدوء، جلسا على المقاعد الخشبية بالخارج فأحاطت جسدها بذراعيها، خاصةً وأن الجو ازداد بردًا، شعرت بشيء ما يُحيطها فوجدته الچاكيت الثقيل الخاص به، لقد خلعه ليضعه على كتفها حتى يصل لها الشعور بالدفيء!
اعترضت قائلة وهي تهم بإبعاده: لأ الجو برد وأنت كدا هتمرض.
ثبت المعطف عليها مانعًا إياها من خلعه، ثم أردف بجدية: أنا عامل حسابي ولابس شتوي تقيل، خليه عليكِ عشان متبرديش.
قاطعهم قدوم الرجل والذي يُمسك بكوبين من العصير المُحبب لقلوبهم واضعًا الأكواب أمامهم على المنضدة الخشبية، سحبت أهلة الكأس الخاصة بها بحماس وهي تقول: المشروب المفضل ليا بجد.
ارتشف قاسم من الكوب الخاص به وأجابها ضاحكًا: وأنا زيك، وكمان بحب الشاي بالقرنفل جدًا.
شاي بالقرنفل؟
سألته مُتعجبة، ليؤكد لها بحماس قائلًا: آه لذيذ بشكل، أنتِ مجربتهوش قبل كدا؟
نفت برأسها، ليغمز لها قائلًا بمزاح: وعد لما نتجوز هخليكِ تجربيه، وأنا واثق إنك هتحبيه.
عاد رائد إلى منزله فوجد جميع عائلته تجلس على طاولة الطعام يتنولون العشاء بهدوء، جلس جانبهم بعد أن حياهم واستعد لتناول طعامه معهم، وما كاد أن يُدخل الطعام إلى داخل فمه؛ حتى استمع إلى صوت جرس الباب يصدح عاليًا، ليترك الطعام من يده مُتمتمًا بتأفف: الواحد مش هياكل في يومه دا ولا إيه؟
فتح الباب الذي يطرق بقوة صائحًا بنفاذ صبر لمن أمامه: نعم!
رتب الرجل الذي أمامه شاربه بعنهجية، ثم سأله بخجل: ست الكل هنا؟ أنا جاي أتقدم للست لواحظ...