قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع عشر

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع عشر

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع عشر

لطالما كانت فكرة الفراق مُفزعة، جرب يومًا أن تتعلق بشخصٍ حتى يُصبِح هو روحك، وبعدها يتركك فجأةً دون مُبررات، حينها ستشعر بأنك عارٍ في صحراءٍ جرداء يضرب بجسدك الهواء البارد دون هوادة، لن تجد ذاتك مُجددًا، لقد سُرِقت.

هبط صهيب من السيارة وكذلك زوجته أمام قصر عائلة الأرماني، يُشبه الحلوى المُغلفة بغطاء لامع من الخارج، ومن الداخل بشع المذاق والرونق، أمسك صهيب بيد حبيبة بحماية، ثم نظر لها مُسددًا لها نظرة مُطمئنة يُخبرها بها بأنه سيظل جوارها، بادلته النظرات بأخرى متوترة لكنه اِحتواها بنظراته المُشجعة التي تُشعِرها دائمًا بأنها في أمانٍ بوجوده.

دلفوا إلى الداخل يسيرون بخُطى رتيبة وهادئة، وأثناء سيرهم همس لها صهيب بخفوت: مش عايزك تتوتري ولا تخافي، أنا هبقى معاكِ وعيني عليكِ طول الوقت، مش عايزك تحتكِ ب أنس بأي شكل من الأشكال، بنات عمك صفوت اِبعدي عنهم نهائي أنتِ عارفة إن هما بيغيروا منك ونيتهم مش كويسة ليكِ، لما تحتاجي حاجة قوليلي أنا وهعملهالك على طول.

كان يُملي عليها أوامره وكأنها طفلة في السادسة من عمرها وتحتاج للرعاية والإهتمام، وهي بالفعل كانت كذلك، كانت تهز رأسها بالإيجاب توافقه على ما يقوله ولم تعترض على كلمة واحدة، فهي بالأساس لا تحب تلك العائلة ولا ترتاح لأفعالهم.
وصلوا إلى الردهة فوجدوا الجميع جالسًا على الأرائك يتشاورون في بعض المواضيع الهامة، رأى مختار ابنه صهيب ؛ فهب من مكانه ذاهبًا إليه ليحتضنه أثناء قوله: نورت بيتك يا حبيبي.

اغتصب صهيب ابتسامة صفراء على ثغره وهو يُجيبه بود زائف: الله يخليك يا بابا.
جاء الدور على نادر فتبادلوا السلام والأحضان حتى توقف على صفوت، والذي يُعتبر ذيل الأفعى: منور مصر يا عمي والله.
احتضنه صفوت والذي تشدق بعتاب قوي: واضح يابن أخويا واضح، بأمارة إني بقالي خمس أيام جاي من السفر وأنت مكلفتش نفسك تيجي وتزورني مرة واحدة.

طالعه صهيب ببرود لا يهتم لكل حديثه ولو للحظة واحدة، ثم تفوه بجمود يُغلفه الوقاحة وهو يجذب حبيبة لتلتصق به أكثر: معلش يا عمي بقى، أصل مش هسيب شغلي وبيتي ومراتي عشان آجي أسلَّم عليك.
تغضن جبين صفوت بانزعاج من برودته ووقاحته في الحديث، وقبل أن يصرخ به؛ تدخل مختار مُسرعًا قائلًا وهو يُوجه حديثه ل صهيب بصرامة: عيب يا صهيب تكلم عمك بالطريقة دي، وأنت يا صفوت اقعد خلاص محصلش حاجة.

جلس صفوت مكانه مُجددًا وهو يُحدق الجميع بنظرات حاقدة كارهة، خاصةً صهيب ومختار والذين يمتلكون مُعظم أسهم الشركات التي يُديرونها، وبالتالي فالمكسب الأكبر يعود إليهم.

اتخذ الجميع مكانًا مُناسبًا لهم، وبالتأكيد جلست حبيبة جانب صهيب والذي كان يُمسِك بيدها بقوة مُقربًا إياها منه حتى كاد أن يُلصقها به، انتبه الجميع لصوت أُنثوي ساخر يأتي من جانب صفوت، والتي لم تكن سوى ابنته اللعوب وهي تقول بنبرة أقرب للتهكم: مالك يا حبيبة لازقة فيه كدا ليه يا حبيبتي! أنتِ ما صدقتي بقى جوزك ولا إيه!

في البداية انتبهت حبيبة لحديثها، لكن مع إكمالها لحديثها بتلك الطريقة المُهينة؛ تشكلت الدموع بعيناها وأخفضت رأسها تُخفي وجهها ولم يُجيبها، بينما جز صهيب على أسنانه بحقد وود لو يذهب إلى تلك الحقيرة وتلقينها درسًا لن تنساه، ورغم ذلك أجابها ببرود وهو يُحيط بكتف حبيبة أمام الجميع دون خجل: قصدك أنا اللي ما صدقت إني أتجوزها يا ريما.

طالعته ريما بدون فهم، لتجده يُوضح لها أثناء جذبه ل حبيبة له أكثر: أنا اللي اتحايلت عليها إن هي توافق بيا وتتجوزني، والحمد لله إنها وافقت وربنا كرمني بيها، عقبالك أنتِ بقى لما تلاقي واحد يشبهلك ويرضى بيكِ.
اشتعل الغضب بعينيّ ريما من كلماته المُهينة لها، لذلك انتفضت تعتدل في مكانها وهي تسأله بحدة: قصدك إيه يا صهيب؟

طالعها صهيب بانتشاء وهو يُلاحظ تعابير وجهها المُنفعلة المُوجهة تجاهه، لذلك أجابها بكل ذَرَّة برود في جسده: قصدي ربنا يرزقك بابن الحلال يا بنت عمي أصلك طوَّلتي في قعدتك معانا.
أجابته بتعمد ظنًا منها بأنها تُهينه: وأنت شاغل نفسك بيا ليه؟ وأنا قاعدة فوق دماغك؟
رد عليها صهيب باستفزاز: تؤ. قاعدة فوق دماغ أبوكِ.

تلك المرة استنزف صهيب كل الصبر الموجود داخل صفوت، والذي ازداد من وقاحته كما يقول، هبَّ من مكانه فجأة ثم صاح به بصوتٍ عالٍ اِحمر على أثره وجهه من شدة الغضب: أنت قليل الأدب ومتربتش، بناتي خط أحمر يا ابن مختار يا إما هقتلك.

وقف صهيب هو الآخر من مضجعه كما فعل الجميع عندما اشتدت المنافسة، ثم رفع حاجبيه بعدم تصديق قائلًا بصدمة مُصطنعة ليجلب مختار إلى صفه: أنت بتقول هتقلتني أنا يا عمي! كل دا عشان بتكلم أنا وبنت عمي وشدينا مع بعض سوا! مكنش العشم. مكنش العشم والله يا عمي.
ويالفعل نجحت خِطة صهيب في استمالة مختار له عندما صاح الآخر بأخيه يهدر به بقوة: أنت بتهدد ابني بالقتل يا صفوت؟ وصلت بيك الحقارة للدرجادي!

أشار صفوت تجاه صهيب الذي يُتابعهم بابتسامة شامتة حاول مُداراتها بقدر الإمكان، ثم صاح بحدة: وأنت مش شايف قِلة أدب ابنك وطريقة كلامه مع ابني! واضح إنك نسيت تربي يا مختار.
تدخل معه نادر الذي صاح بهم بضيق: خلاص اهدى يا مختار، وأنت يا صفوت أقعد وبلاش الكلام اللي يحرق الدم اللي أنت بتقوله دا، الولاد وبيتكلموا مع بعضهم وشدوا سوا، محصلش حاجة يعني.

ارتمى صفوت على المقعد مرة أخرى راميًا الجميع بنظرات حاقدة، وكذلك جلس الجميع من بعده وأوجههم مُتنغضة بضيق، عدا صهيب الذي يُحيط بكتف حبيبة الخائفة مما يحدث حولها، ووضع قدمًا فوق الأخرى بعنهجية وكأن كل ما حدث منذ قليل لم يُؤثر به إطلاقًا.
طالعتهم ريما بنظرات مغلولة خاصةً حبيبة الذي حدث بسببها هذا الشِجار كما تعتقد هي، ومن داخلها توعدت بالتفريق بينهم ورؤية الكسرة تتشكل على وجوههم.

حلَّ الصمت لعدة دقائق وكأن الجميع على رؤوسهم الطير، وبالطبع لم يُبالي صهيب بكل هذا، شاغله الوحيد هي تلك الحزينة التي تجلس جانبه، رفع كفها مُقبلًا إياه على بغتة وبالفعل نجح في إخجالها، مال على أُذنها هامسًا لها بمشاكسة: بقى فيه بسكوتة بالحلاوة دي تكشر كدا؟ والله أقوم أكسر وش فردة الجذمة اللي زعلتك لو دا يرضيكِ.

ضحكت بخفة لم تكد أن تتحدث، حتى وجدت أنس وابنة عمها الأخرى ريماس يدلفون للداخل، في البداية ألقى أنس التحية على الجميع، لكن توقفت أنظاره على حبيبة ليذهب لها بلهفة قائلًا: إيه دا حبيبة؟ عاملة إيه وحشاني؟

قال الأخيرة بحنان شديد ماددًا يده لها في نية لمصافحتها، وبدلًا من أن تضع يدها؛ وضع صهيب يده هو يُبادله التحية أثناء قوله الحاقد: ما أوحش الله لك قبرًا يا عين أمك، و حبيبة مراتي مبتسلمش لا على رجالة ولا، ستات.

قال جملته الأخيرة بخبث وصل معناه ل أنس الذي أشعل فتيل غضبه عندما ضغط على يده ليوصل له رسالته المُبهمة، سحب كفه من بين يده بعنف ثم اتجه إلى أحد الأرائك ليجلس عليها، ولم يكن سوى بجانب ريما، بينما اتجهت ريماس إلى حبيبة تحتضنها بود وهي تقول مُبتسمة: عاملة إيه يا حبيبة؟
طالعتها حبيبة بابتسامة متوترة ثم أجابتها بخفوت قائلة: الحمد لله يا ريماس أنا كويسة.

انتقلت ريماس بعيناها ل صهيب تسأله بخفوت: وأنت عامل إيه يا صهيب؟
حدجها صهيب بهدوء قبل أن يُجيبها بود مُشابه لها: الحمد لله يا ريماس، حمدالله على السلامة.
الله يسلمك.
قالتها بخفوت قبل أن تتجه صوب والدتها التي كانت تُطالعها باستنكار، فالبرغم من أن ريماس هي توأم ريما ؛ إلا أنها حنونة وودودة عكسهم تمامًا، لذلك دائمًا ما تُثير حنقهم بأفعالها الحمقاء تلك.

عاد الهدوء يعم على الجميع مرة أخرى، وبعدها تبادلوا الأحاديث المُعتادة، حتى هبت ريماس من مقعدها مُتجهة صوب حبيبة بحماس قائلة: تعالي يا حبيبة معايا عايزة أوريكِ حاجة اشتريتها من لندن.
نظرت حبيبة ل صهيب وكأنها طفلة تنتظر إذن والدتها للذهاب مع صديقاتها للهو قليلًا، فربت صهيب على ظهرها بحنان قائلًا لها بابتسامة صغيرة: لو عايزة تروحي معاها روحي يا حبيبتي.

خجلت حبيبة من تغزله بها بهذه الطريقة أمام الجميع، وبالفعل ذهبت مُسرعة مع ابنة عمها للإختباء من نظراتهم التي كادت أن تحرقها حية، كان صهيب يُتابع أثرها بابتسامة جانبية؛ حتى تنغض جبينه وهو يستمع لصوت أنس الكريهة وهو يسأله: عامل إيه في شغلك يا صهيب؟ سمعت إنك متقدم فيك شكاوي كتير من ناس كبيرة أوي.

استند صهيب بظهره على الأريكة قبل أن يُجيبه باستفزاز: الكبير كبير على نفسه يا أنس، لكن لحد عندي واستوب، أنا عندي استعداد أدوس أي حد وأنسفه بس مش أنا اللي أعمل كدا لأ، عارف ليه! عشان أنا قلبي طيب.
طالعه الجميع باستنكار عدا مُختار الذي كان ينظر إليه بفخر، اعتدل صهيب في جلسته ثم وجَّه حديثه ل أنس المُشتعل طارقًا على الحديد وهو ساخن كما يُقال: المهم سيبك مني وقولي أنت.

ترك حديثه مُعلقًا ليجذب انتباه الجميع أكثر، وبالفعل نجح في ذلك، ليستطرد حديثه وهو يتسائل ببراءة مُزيفة: سمعت إن شِركة من الشركات اللي أنت مُشرف على بنايتها وقعت واتهموك إن مواد البناء كانت مغشوشة، الكلام دا صحيح!

فتح أنس عيناه على آخرهما مُندهشًا من معرفته بالأمر الذي حاول جاهدًا تخبئته على والده، ليأتي ذلك اللعين ويُدمر كل مُخططاته ويُنهيها بثوانٍ، ابتلع أنس ريقه بتوتر ولم يقدر على الحديث أو التبرير، خاصةً عندما وجد نظرات والده مُوجهة إليه وهو يسأله بصدمة: ال. إيه الكلام اللي بيقوله ابن عمك دا يا أنس؟

حمحم أنس بحدة مُحاولًا إيجاد أي تبرير لهذا الحديث الذي وضعه في مأزق، ليتشدق بثبات طفيف ظهر مُتوترًا: لأ يا بابا دي مشكلة بسيطة وأنا قربت أحلها متقلقش، أصل. أصل فيه واحد صاحبي بيغير مني وهو اللي لبسني التُهمة دي وأنا أثبت برائتي.
اِدعى صهيب الأسف قائلًا بمسكنة وكيد: طيب خلى بالك من نفسك بعد كدا بقى يا أنس أصل الناس بقت وحشة أوي ومش سايبة حد في حاله.

جز أنس على أسنانه بحقد مُبتسمًا بإصفرار: متقلقش يا صهيب، متقلقش يا حبيبي شايلك لوقت عُوزة.
مش هكون فاضي للأسف.
أجابه صهيب بتلك الجملة بنبرة باردة مما جعل الأجواء تشتعل أكثر، والحقد يزداد في قلب كُلًا من أنس وريما وكذلك صفوت ومعه زوجته تجاهه، يبدو أنهم لا ينتوون له خيرًا إطلاقًا، ونظراتهم أوحت بالكثير والكثير عما يكنوه داخلهم.

أحس صهيب بالإنتشاء يتخلله عندما أشعل النيران بصدورهم ونجح في ذلك، لمح بطرف عينه هاتفه الذي أضاء برسالة نصية فحمله ينظر إليه بجمود، قبل أن يضعه في جيب بنطاله ثم هب واقفًا قائلًا ببرود: طيب هستأذن أنا بقى عشان عندي مشوار كدا.
قطب مختار جبينه يتسائل: شغل إيه دا يا صهيب دلوقتي.
عندي مأمورية يا بابا ولازم أمشي دلوقتي عشان ألحق أوصَّل حبيبة وأجهز.

أومأ له مختار بصمت مُبتسمًا له بهدوء، ثم عاد للحديث الخافت مع أخيه نادر مرة أخرى، خرج صهيب من الغُرفة ثم اتجه نحو الخارج حتى وقف أسفل السُلم مناديًا بصوت عالي نسبيًا حتى تسمعه: يلا يا حبيبة عشان نمشي.

انتظر لثوانٍ معدودة، حتى أتت له حبيبة مُهرولة تهبط الدرج سريعًا بإبتسامة أثناء حملها لحقيبة مجهولة، وما كادت أن تصل إليه؛ حتى تعرقلت في نهاية الدرج، انتشلها صهيب سريعًا قبل أن تصل إلى الأرض قائلًا بمشاكسة حتى لا يقوم بإحراجها: اسم الله عليكِ يا بسكوتة براحة مش كدا.

وبدلًا من أن تشعر بالخجل من تهورها؛ شعرت بالحرج من مُغازلته لها، رفعت يدها بالحقيبة الحمراء التي تُمسكها ثم أردفت بسعادة طفولية: بُص ريماس جابتلي إيه من لندن؟
نظر للحقيبة التي تُمسكها ثم عاد بنظره لها مرة أخرى، ليسأله بحنان وهو يُمسد على خصلاتها بحب: يعني أنتِ كنتِ بتجري عشان توريني الحاجات دي؟

هزت رأسها بحماس وابتسامة واسعة تتشكل على وجهها، وهو لم يتحمل لطافتها تلك، لذلك انحنى على وجهها يُقبله بحنوٍ بالغ قائلًا: يلا نمشي وهنتفرج على الحاجات كلها لما نروح.
اِحمر وجهها خجلًا كما شعرت أنها كادت أن تنصهر، لذلك أومأت له بالإيجاب دون التحدث، ظهرت ريماس من خلفها قائلة بضحك وهي تهبط الدرج: إيه يا بنتي السربعة دي! ما تستنى شوية يا صهيب ملحقتش أقعد معاها.

طالعها صهيب بأسف قبل أن يُجيبها بود: معلش خليها مرة تانية يا ريماس عشان ورايا شغل ضروري.
خلاص ولا يهمك، توصلوا بالسلامة.
الله يسلمك، يلا باي.
قالها وهو يسحب يد حبيبة خلفه، والتي طالعت ريماس بامتنان قبل أن ب معه دون حديث، مُنطلقًا نحو وجهته غير طريق منزله.

اغتنم الفرصة لتظل جانب أحباؤك، فلا تعلم متى يحين موعد الفراق، حينها ستذرف دماءً بدل الدموع على ندمك.

كانت مُغمضة لعيناها وهي تحتضن جسد شقيقتها لها، تُعانقها بقوة كما لو تود أن تُدخلها داخل أضلعها للحفاظ عليها، شعرت بروحها تعود إليها مرة أخرى عندما استمعت إلى كلمات الطبيبة التي أخبرتها باسيقاظها، وها هي الآن تجلس بكامل عافيتها بعد غيبوبة دامت لأسبوع تقريبًا، قبَّلت أَهِلَّة جانب وجه يمنى وهي تُتمتم بالحمد وكأنها لا تُصدق أنها تعافت حتى الآن، ابتسم يمنى بحنين وهي تستشعر خوف شقيقتها عليها وكأنها نامت لأعوام عِدة وليست فقط لأيام، مسدت على ظهرها بحنان ثم صعد صوتها مُتحشرجًا بحنين: وحشتيني يا هولا.

شددت أهلة من ضمها وهي تُردد: وأنتِ كمان وحشتيني أوي.
خرجت يمنى من أحضان أَهِلَّة وعلى وجهها يرتسم الإعياء واضحًا للغاية، أسندتها أَهِلَّة على ظهرها بسرعة ثم استدارت ل قاسم الذي يُتابعهم بهدوء دون التحدث لترك مساحة لهم: هي مالها! باين عليها تعبانة أوي.

أخرج قاسم يده من معطفه الطبي ثم اتجه ل يمنى المُتسطحة بتعب، أمسك بالكشاف الصغير ثم وجهه إلى عيناها، وبعدها قام بقياس الضغط لها، وأخيرًا قام بقياس ضربات قلبها، أمسك بالدفتر الخاص بالمُلاحظات ثم كتب به لعدة ثوانٍ، ثم مد يده به للمُمرضة التي تُجاوره قائلًا بصوت جاد عملي للغاية: هاتي الأدوية والتحاليل دي وتعالي تاني.

أخذت منه المُمرضة الدفتر ثم أومأت له بإحترام وبعدها ذهبت لجلب ما أمرها به، لانت نظراته وهو يُطالع نظرات أَهِلَّة المُرتعبة ثم تفوه بحنان ممزوجًا بالمزاح: متقلقيش، هي بس ضغطها واطي شوية وبتتدلع علينا.
فتحت يمنى عينها قليلًا تُطالعه بطرف عينها وهي تقول بتحذير: أنا سمعاك على فكرة.
لوى قاسم شفتيه بسخرية قبل أن يقول بتهكم: هخاف حاضر، وبعدين اسكتِ بقى عشان أنا مش طايقك أساسًا.

جعدت يمنى جبينها وهي تُحدجه باستنكار: ودا ليه إن شاء الله!
أهو كِيفي كدا.
كتمت أَهِلَّة ضحكاتها بصعوبة عندما لاحظت وجه يمنى المُتهجم والتي يُبادلها قاسم بها بنظرات مُستفزة تُزيد من حنقها، دخلت في تلك ملك ومعها رائد وخلفهم چون وفور وهكذا لوسيندا، رأتها ملك مُستندة على الوسادة وبكامل صحتها فانفجرت في البُكاء.

هرولت إليها ملك بخطوات سريعة ثم عانقتها ببكاء وصوت شهقاتها يعلو بالمكان، طالعها الجميع بتأثر خاصةً وأن صوت بكاؤها يعلو شيئًا فشيئًا، و يمنى تُحاول بقدر الإمكان أن تُطمئنها لكنها لا تهدأ أبدًا، تعجبت يمنى من بكاؤها الحاد فأبعدتها قليلًا قبل أن تتسائل بقلق: بس بس إيه العياط دا كله! مالِك يا ملك أنتِ مش بتعيطي عشاني صح؟
هزت ملك رأسها بالنفي قبل أن تُجيبها بشهقات عالية: أنا و خالد فركشنا.

تشنج وجه الجميع يُطالعونها بإستنكار، بينما توقفت يد يمنى عن تهدئتها وكأنها أُصيبت بالشلل، وفي هذا الصمت صعد صوت رائد الصارخ وهو يقول: نعم ياختي! ومين خالد دا كمان! وعهد الله أطربق المُستشفى دي فوق دماغك لو ما نطقتي.
رفع قاسم يده أمام وجهه يأمره بالصمت، ثم أردف بجمود مُخيف وهو يتجه ناحيتها مُمسكًا إياها من ياقة ملابسها بعنف: سيب الطلعة دي عليا أنا.

قالها ثم استدار تجاه ملك التي توقفت عن البكاء بجزع عندما رأت ملامح وجهه المُخيفة، ابتلعت ريقها برعب وما كادت أن تتحدث؛ حتى وجدته يسألها بفحيح: مين خالد دا؟ وتعرفيه من إمتى؟ وتكلميه ليه أصلًا!

نظرت ملك ل أَهِلَّة بإستنجاد علَّها تُنقذها من براثن قاسم الحادة، لكنها وجدت نظرات الشماتة تحوم داخل عيناها وكأنها سعيدة بما يحدث، علمت في تلك اللحظة أنها قد وُضِعت في مأزق وعليها الخروج منه في أقرب وقت، ثبتت نظراتها على قاسم الذي يُطالعها بجمود، قبل أن تبتسم ببلاهة وهي تُجيبه: دا، دا، دا البوي فريند بتاعي.
سألها قاسم مرة أخرى بخفوت خطير وكأنه لم يسمعها: قولتي مين!

ارتعشت أوصال ملك من نبرة قاسم الأخيرة، فقالت وهي تدعي البكاء: الخاين كان بيكلم بنات عليا يا أبيه تخيل!
هز قاسم رأسه نفيًا مُجيبًا إياها بقسوة: لأ أنا مش هتخيل، أنا هخليكِ أنتِ تتخيلي هعمل فيكِ إيه.
ابتسمت بإهتزاز وهي تسأله: أكيد بتهزر صح يا أبيه.
هاتي تليفونك.
قالها ببرود، وفي المقابل ضمت هي الهاتف لصدرها تحميه منه: لأ. لأ كله إلا تليفوني. دا عليه مستقبلي كله.

هزها بين يديه صارخًا بها بحدة: بقولك هاتي تليفونك.
مطت شفتيها للأمام وهي تكاد تبكي حسرةً، ثم مدت يدها بإهتزاز له لتُعطيه الهاتف، وهو انتشله منها بحدة مُسددًا لها نظرة نارية تكاد أن تحرقها، وبعدها أعطى الهاتف ل أهلة ليُحافظ على خصوصية الآخرى آمرًا إياها بصرامة: خُدي التليفون وامسحي كل أرقام الشباب اللي على الموبايل.

أخذت أهلة الهاتف منه بابتسامة مُتسعة، لتصرخ ملك بها وهي تحاول منعها: لأ، كله إلا تلفوني لأ.
هلل رائد بسعادة وهو يرقص مكانه: ظهر الحق. ظهر الحق.
ترك قاسم تلك المُتحسرة مكانها ثم اتجه إليه آمرًا إياه وهو يمد يده له ببرود، لم يفقه رائد ما يريد، لذلك وبكل بلاهة مد يده ليُصافحه ثم احتضنه قائلًا: وأنت كمان واحشني والله.
تليفونك.
نطق بها قاسم ببرود، ليفتح رائد عيناه بصدمة شاهقًا: إيه!
تليفونك.

نطق بها قاسم ببطئ ليهز رائد رأسه بالنفي قائلًا برفض: على جثتي.

الحياة تُعطينا إشارات للعيش في سلام، وأنت المُغفل الذي تظن أنها مجرد حظوظ، مُعاندتك الفطرية تُنتج الكوارث، وتعود يا عزيزي لتبكي كالأحمق.

تجهزت سهيلة على أجمل وجه للذهاب إلى جامعتها وقد ارتدت أجمل الثياب وأفضلها، ف أمجد قد وعدها عندما حدثته ليلة أمس بأنه سيأخذها ليُريها شقتهم المُستقبلية، وهي بكل سعادة وحُمق قد صدقته، بل ورقص قلبها طربًا وسعادة أيضًا، وضعت مُلمع الشفاة ونظرت لذاتها برضا وبثقة شديدة.

اتجهت للخارج فلم تجد والديها، فوالدها قد استلم عملًا جديدًا منذ أسبوع ولا يعود إلا ليلًا ليطمئن عليهم ثم يأكل وينام للإستيقاظ مُبكرًا، اتجهت نحو بهو الجامعة بعد ساعة كاملة ضيعتها في مواصلاتها اللعينة، ووقفت في المكان المُتفق عليه لكنها لم تجد أيًا منهم، أخرجت هاتفها من حقيبتها ثم قامت بالإتصال على رقم صديقتها ساندي وانتظرت قليلًا حتى أتاها الرد: ألو يا ساندي انتوا فين؟

جاءها صوت ساندي مُجيبة إياها بتأفف: احنا جايين أهو يا سهيلة بس المواصلات زحمة أوي النهاردة.

أومأت سهيلة بصمت ثم ودعتها بإيجاز ووقفت تنتظرهم بالخارج بتملل، كانت شاردة الذهن في حياتها، فلقد تغير مائة وثمانون درجة فعليًا وهي حتى لم تلحظ هذا، وكأن الشيطان قد أعمى بصيرتها وجعلها غافلة عن كل هذا، انتفضت عندما وجدت سيارة تسير بسرعة عالية ومتوجهة تجاه فتاة ما حتى كادت أن تدهسها، لكنها توقفت في اللحظة الأخيرة وللأسف أُصيبت قدمها.

هرولت إليها مُسرعة لمُساندتها حيث كانت هي الأقرب لها، استندت الفتاة على ذراعها بألم وهُنا استمعت إلى تأوها المُنخفض، لربما هي تبكي! لكنها لم تلحظ دموعها بسبب ذلك النقاب الذي يُغطي وجهها، اسندتها سهيلة بكل قوتها ثم تسائلت بخوف: أنتِ كويسة!

أومأت لها الفتاة بنعم لكن مازال صوت تأوها يعلو، خاصةً عندما حاولت الوقوف والإستناد على قدمها، هبط السائق من السيارة وظل يعتذر كثيرًا طالبًا مسامحتها، وبالفعل وافقت الفتاة قائلة بإبتسامة خفيفة لم تظهر بسبب نقابها وعيناها بعيدة عنه: ولا يهم حضرتك حصل خير.

شكرها بإمتنان حقيقي واقترح عليها أن يذهب بها للمشفى لكنها رفضت بإحترام مُبررة بأنه مجرد إلتواء بسيط في قدمها، اسندتها سهيلة حتى وصلت بها إلى أحد الجوانب فقالت بغلظة: ليه مبلغتيش عنه دا بني آدم قليل الذوق وكان هيموتك.

يبدو بأنها لم تكن ثيابها فقط هي التي تغيرت؛ بل أخلاقها أيضًا! ابتسمت الفتاة برقة وهي تقول: طالما في إيدي إني مأذيش غيري هعمل كدا، وبعدين هو قال إن مراته في المستشفى عشان كدا كان سايق بسرعة يعني معاه عذره.
مطت سهيلة شفتيها بعدم إقتناع، فاستمعت لصوت الفتاة تُحمحم بحرج: ممكن بعد إذنك لو مش هعطلك توصليني لمسجد الجامعة؟
نظرت سهيلة في ساعة يدها وبعدها رفعت أنظارها لها مُبتسمة بود: عيوني حاضر.

شكرتها بإمتنان، فأسندتها وسارت معها لعدة دقائق قليلة حتى وصلت إلى باب المسجد، وهُنا صدح صوت المؤذن يُؤذن عاليًا تكبيرًا وتعظيمًا لله، أوقفتها سهيلة أمام المسجد ثم سألتها مُبتسمة: همشي أنا بقى عايزة حاجة؟
مش هتدخلي تصلي؟ العصر أذَّن.
سألتها الفتاة بهدوء عجيب، ليرتعش جسد سهيلة تلقائيًا وهي تقول: ل. لأ. هصلي في البيت.

كان تبريرًا لذاتها المُلوثة قبل أن تُبرر للتي اتسعت ابتسامتها وظهر هذا واضحًا على ضيق عينها، مدت الفتاة يدها لها تُمسك بكفها بخفة، وبعدها عاتبتها برقة قائلة: وهتردي نداء ربنا ليكِ!
إيه!
الآذان دا علشان ربنا يجمع بيه عباده ليه، هتردي نداء ربنا ليكِ وأنتِ واقفة قدام بيته!

كلماتها تُشبه كلمات جدها العزيز الراحل، وتلقائيًا تجمعت الدموع بعيناها وهي تستشعر قساوة كلماتها التي هبطت فوق أذانها كسوطٍ قاسٍ هبط فوق جسدها بقوة: مش. مش عايزة دلوقتي.
قالتها وهي تهرب من كلماتها التي عرتها أمام ذاتها، لتستمع إلى ما جعلها تتصنم مكانها كالجماد:
وأنتِ ضامنة تعيشي لبعدين! مش يمكن بعد الشر يحصلك زي ما كان هيحصلي من شوية!

هبطت دموعها وحدها وكأنها قد تلقت صفعة شديد أعادتها لوعيها، شعرت بالبرودة تسري بأوصالها رغم ما ترتديه من معطف ثقيل، شعرت بيد ناعمة تُربت على كتفها؛ لتستدير ببطئ وتجد تلك الفتاة تمد يدها لها برقة: أنا أختك عائشة، يلا نصلي.
هزت سهيلة رأسها بالرفض أثناء ابتلاعها لريقها بصعوبة شديدة، ثم أردفت بخوف لا تعلم مصدره: مش. مش عايزة دلوقتي. مش جاهزة. لأ مش هقدر.

تفوهت بحديثها وهي تُغمض عيناها بقوة تُحاول السيطرة على إنفعالاتها التي لا تجد لها أي مُبرر، وكيف تجد مُبررًا وهي قبل أن تأتي استمعت لفيلمًا كاملًا مُحطمًا لكل معانى الحياء والدين والأخلاق! مُخالفًا لكل أخلاقها وتعاليمها الإسلامية! هي مَن وضعت نفسها في ذلك الطريق المليء بالأشواك، وها هي تجد صعوبة بالغة في العودة لصوابها مُجددًا، كيف لها أن تقف بين يدي خالقها وهي مَن فعلت ذنبًا من الكبائر قبل أن تأتي مباشرةً! كيف لها بالتوبة بتلك الثياب التي ترتديها أسفل معطفها الطويل والتي كانت تنتوي أن تخلعه بمجرد وجودها مع شاب غريب عنها! هي في القاع، بل أسفل من ذلك إن أردتم الحقيقة.

أمسكت عائشة بيدها عِنوة وهي تسحبها خلفها قائلة بتصميم: تعالي معايا صدقيني مش هتندمي، أنا عارفة أنتِ بتفكري في إيه، احنا بشر كلنا بنغلط مش ملايكة، تعالي صلي وارمي همومك لربنا وهو مش هيردك ولا هيرد دعائك أبدًا.
هبطت دموع سهيلة بأسى ثم أجابتها بحزن بالغ: بس. بس هدومي.
قاطعتها عائشة قائلة: فيه لبس للمحجبات جوا في المسجد الأبلة مريم جايباه لينا إحتياطي.

طالعتها سهيلة بتردد كبير، لتتشدق عائشة بعتاب زائف وهي تستند عليها: إخس عليكِ سيباني واقفة كدا وأنا رجلي بتوجعني! مكنش العشم ولا حتى عملتي حساب للعيش والملح اللي ما بينا.
ابتسمت سهيلة بإهتزاز من بين دموعها، ثم أسندتها وقررت الدخول معها للداخل، وليحدث ما يحدث وليحترق العالم كما يُريد، ستسير خلف قلبها وعقلها اللذان اتفقا ولأول مرة على شيء، وستترك أمرها للمولى، ولتنتظر النتيجة.

جلس رائد بحسرة على الأريكة الموجودة بالغرفة القابعون بها بعدما قام قاسم بمسح كل أرقام الهواتف الخاصة بالفتيات، وعلى طرف الأريكة الآخر جلست ملك التي كادت أن تبكي من شدة الحزن لخسارتها لرجالها، هي بالأصل حزينة لأنها أنهت علاقتها مع المدعو خالد، ليأتي قاسم ويُزيد عليها حزنها!
يا رِفاق أنا جائع.

هتف فور بتلك الكلمات بضجر شديد وهو يتحسس معدته التي تصدر أصواتًا كثيرة دلالة على حاجتها للطعام، طالعه چون بضجر ثم ردد قائلًا: ألم تأكل منذ قليل يا بُني؟ رفقًا بمعدتك يا أخي أتوسل إليك.
دفعه فور بعيدًا أثناء قوله المُغتاظ: لا تتدخل أيها الأحمق ولا شأن لك بي، لقد أهملتني منذ أن تزوجت بتلك الفتاة وتركتني أنا أُعاني ويلات الوحدة.
فتح چون عيناه بعدم تصديق قائلًا بدهشة: أتغار من لوسيندا؟ حقًا يا رجل!

مط فور شفتيه بضيق متشدقًا بخفوت: ولِمَ أغار! بالنهاية تلك هي حياتك والأخرى زوجتك، لا شأن لي بأي شيء يخصك.
ترك چون يد لوسيندا برفق مُعتذرًا منها بعينه، قبل أن يستدير لشقيقه الذي يظهر عليه الضيق واضحًا: يا فتى هي زوجتي وأنت شقيقي التوأم، ليس لدي أغلى منكما.
صرخ به فور وكأنه يُداري حزنه بصوته العالي: أنا أكبر منك بثلاث دقائق يا وقح، إلزم حدودك.

ابتسمت چون ابتسامة صغيرة، ثم اقترب منه مُحتضنًا إياه بحب: حسنًا لا تغضب، أنت أخي الأكبر والأقرب إليَّ وإلى قلبي.
وزوجتك!
سأله فور بريبة طفل صغير، ليُقهقه هو عاليًا وهو يُشدد من احتضانه: زوجتي هي زوجتي، لكن ستظل أنت قبل أي شيء لا تقلق.
حسنًا أنا جائع.

قالها فور وهو يحاول السيطرة على مشاعر الغيرة التي ظهرت واضحة للجميع، ابتعد عنه چون والذي أردف بحنان: سأهبط للأسفل وأجلب لك ما تريد، المهم ألا تحزن يا عزيزي.
أنا لستُ حزين من الأساس، مَن قال لك هذا؟
ضحك چون بخفة قائلًا له بمُسايرة: حسنًا أنا أعلم، فلتأتي معي لوسيندا.
طالعه فور بضجر، ليُبرر له چون بصوت خافت: لا تُحزنها يا فور لأجلي، هي وحدها هُنا ولا تلعم شيء، اعتبرها شقيقتك لا زوجتي.

أومأ له فور بالإيجاب وهو يبتسم بخفة: حسنًا، هيا اذهب واجلب لي الطعام فأنا لم آكل منذ ساعة وهذا عقاب قاسٍ على معدتي.
غمز له چون بمشاكسة قبل أن يقول له مُمازحًا إياه: سمعًا وطاعة أخي الكبير.
قالها بضحك ثم أمسك بيد لوسيندا وخرج من الغرفة، بينما الجميع كان يُتابع حديث الإثنان باستنكار شديد، ليصعد صوت ملك التي أردفت بريبة: الاتنين دول مش مظبوطين.

أيدها رائد الذي تحدث بنفس الريبة: معاكِ حق، أصل مفيش اتنين أخوات بيحبوا بعض كدا.
أكدت ملك على حديثه والتي تشدقت بجدية: مفيش أخوات بتحب بعض أصلًا.
كاد رائد أن يُجيبها مرة أخرى؛ لكنه انتبه على تحدثه إليها دون قصد، وبوقاحة أبعد وجهها بكف يده وهو يردف بإشمئزاز: يا ساتر يا رب! ابعدي خلقتك عني جتك بلوة.
أبعدت ملك يدها بعنف ضاربة إياه على ذراعه بقوة صارخة به: ابعد إيدك عني يا بغل أنت، يخربيت العته.

إلتف إليها رائد وكاد أن يُوبخها؛ لكنهم صمتوا عندما استمعوا لصوت قاسم المُحذر بجمود مُخيف: الراجل فيكم اللي يتكلم كلمة كمان.
ابتلع كليهما الحديث ولم يتفوها بحرفًا واحدًا، ليستدير قاسم ل يمنى مُتسائلًا بهدوء: ها؟ إيه اللي حصل معاكِ بقى.
أجابته يمنى بخفوت وإنهاك: مش. مش فاكرة. مش فاكرة أي حاجة.
في تلك اللحظة دلف يحيى مُهرولًا بدموع مُتحجرة في عيناه، والذي ما إن رآها بكامل عافيتها حتى صاح داعيًا عليها:.

روحي يا شيخة منك لله، لازم تخضيني عليكِ كدا وأنتِ أصلًا صحتك زي الشامبانزي! أدعي عليكِ بإيه وأنتِ فيكِ كل العِبر يا بعيدة!
تشنج وجه يمنى باستنكار قبل أن تقول ساخطة على حديثه: هي دي حمدالله على السلامة اللي أنت جاي تقولهالي!
أشاح بيده أمام وجهه قائلًا: يا شيخة اتلهي بقى دا أنتِ صحتك أحسن مني.

فتحت يمنى كِلتا عيناها بصدمة من حديثه الوقح، لتستمع بعدها إلى صوت قاسم الساخط: سيبك من المُتخلف دا وقوليلي يعني إيه مش فاكرة حاجة!
ولثاني مرة يُقاطع يحيى حديثه الذي فهمه بطريقة خاطئة وظن بأنها فقدت ذاكرتها، ليتشدق بعدم تصديق: هي مش فاكرة حاجة؟

ظن قاسم بأنه يتحدث عن الحادثة فأومأ له بالإيجاب، لتتشكل ابتسامة بلهاء على ثُغر يحيى وهو يفتح ذراعيه لها مُقتربًا منها في نية لإحتضانها: أختي. حبيبتي. قلب أخوكِ. تعالي في حضني يا غالية يا بنت الغاليين.
انكمشت يمنى على ذاتها، بينما أوقفه قاسم في اللحظة الأخير وهو يجذبه بعيدًا عنها: رايح فين أنت يا أهطل يابن الهاطلين!
طالعه يحيى بضجر أثناء مُحاولته للفرار منه قائلًا بحنق: سيبني يا عم أحضنها.

نهره قاسم مُعنفًا إياه: تحضن مين يا متخلف أنت؟ أنت بتكدب الكدبة وتصدقها!
تدخل فور في الحديث قائلًا بحماس: اتركه يحتضنها قاسم ولنرى ما سيحدث.
اسكت يابني الله يخربيتك بوظت أخلاق العيال.
تأفف يحيى بضيق من عدم تركه يفعل ما يحلو له، لكنه صُدم عندما أكمل قاسم حديثه قائلًا: هي مش فاكرة حاجة عن الحادثة، مش فاكرة الذاكرة يا أهطل.

حوَّل يحيى نظراته ل يمنى مُسرعًا وهو يسألها بعدم تصديق: الكلام اللي بيقوله دا حقيقي يا بت يا يمنى؟
تشنج وجه يمنى بغيظ، ورغم ذلك أجابته ساخرة: آه ياخويا صح، على الله تتلم بقى، مش عارفة إيه قلة الأدب اللي حلت عليكم فجأة دي!

ترك قاسم يحيى المصدوم بطريقة مُضحكة، ثم عاد بنظره ل يمنى والتي ما إن رأت أن نظراته مصوبة عليها وكاد أن يفتح فمه ليسألها مرة أخرى؛ حتى اِدعت التعب والشعور بالدوار، طالعها قاسم بشك قبل أن يردف بهدوء زائف: يلا نخرج ونسيبها ترتاح لبكرة عشان منضغطش عليها أكتر من كدا.

أومأ له الجميع بهدوء، وقبل أن يتحركوا للخارج اتجهن كُلًا من أَهِلَّة وملك إلى شقيقتهم يمنى يُضمونها بحنان شديد، وكذلك هي بادلتهم العماق بلطف أشد، مسحت أهلة على وجهها قبل أن تقول لها بحنان: ارتاحي ونامي وأنا شوية وهاجي ليكِ تاني.
أومأت لها يمنى بحب، قبل أن تُعيد رأسها للخلف تحاول الذهاب في نومٍ عميق.

خرج الجميع من الغرفة، وكالعادة بدأ رائد وملك في الشِجار كالأطفال، تجاهلهم قاسم بتأفف ذاهبًا نحو فور المُمتعض على غير عادته، ليسأله بتعجب: مالك يا فور؟ متضايق ليه بقالك كام يوم؟
أجابه فور بضيق بعد أن توقف الطفلان الكبيران عن الشجار والإستماع إلى حديثه: أشعر بأني حياتي لا قيمة لها، مُخربة من جميع الجهات بسبب هؤلاء البشر.

وضع قاسم يده على كتفه وهو يقول بدهاء: متخليش حد يلعب بحياتك ويبوظها، بوظها أنت بس يبقى بمزاجك.
استمع لتصفيق حاد قادم من جانبه، ليجد أنه رائد يُحييه: وعهد الله أنت برنس ومنك نتعلم.
لم يُعيره قاسم انتباه واستدار مُكملًا حديثه ل فور: معنى كلامي إن أنت متسيبش فرصة لحد يتدخل في حياتك ويبوظها، اعمل اللي أنت عايزه وبوظ حياتك زي ما أنت عايز بس تفضل رايق.

هز فور رأسه بالإيجاب ثم أردف مُمازحًا إياه: يا رجل وكأنك حكيم حقًا!
عدَّل قاسم من ياقته الوهمية قائلًا بغرور: وهو أنا اي حد؟ دا أنا قاسم طاحون.

هُواة المصائب، عاشقين للدماء، يعشقون النزاعات، ويتجرعون الشِجار كالإدمان، إنهم هُم المُقاتلين الأبرياء؟
يا رجل لقد حاولت تشتتيتي لقضاء عملي، إنك أناني حقًا!

هتف بها إيغور لشقيقه ستي ن الذي يُراقب جُثث المجرمين بإبتسامة مُنتشية وكأنه فاز بأحد الجوائز الذهبية، بعدما حاولوا إنهاء الأمر بكل ودٍ، لكن الحمقى حاولوا الهرب بعد أن قرروا الغدر بهم، رفع ستي ن أنظاره ل إيغور الذي يُحدجه بضيق، ثم أردف ببرائة: الأسرع هو الفائز يا أخي، وأنا قد فُزت.

جذب إيغور خصلاته بسخط قبل أن يُوجه حديثه ل آندريه الذي يُركز على شاشة هاتفه بدقة: وأنت يا فتى، تمرينك اليوم لم يُعجبني إطلاقًا، أنت فقط كنت تقذف هؤلاء المعاتيه تجاهي أنا للتخلص منهم! حقًا!
رفع آندريه رأسه عن الهاتف بصعوبة ليُجيبه قائلًا بسخط: أنا بالأمس أنهيت مؤامرتين وقضيت على الكثير، لا تكن ناكرًا للجميل هكذا.

قفز بينهم ليونيد والذي تشدق بحماس شديد وهو يصرخ: يا رِفاق! انظروا لتلك العجوز الراقصة، إنها جميلة حقًا.
دفعه ستي ن من بينهم مُستنكرًا لحديثه: حقًا! وهل تركت جميع نساء العالم لتأتي وتُشاهد عجوز لم يتبقى لها الكثير لتموت وهي ترقص! اللعنة على أخلاقك التي انحدرت يا مُغفل.
قطب ليونيد جبينه بإنزعاج ثم قال مُبررًا: يا أخي أنت لا تفهم، للعجايز سحر خاص يجذبك تجاههم صدقني.

لأ أريد أن أُصدق مُغفلًا مثلًا، كفوا عن تلك التفاهات وهيا لنخرج ونُدمر المبنى.

قالها ستي ن ببرود ثم سار للخارج، وسار خلفه أشقائه المُتحمسين لتلك الخطوة الأكثر إمتاعًا، ابتعدوا مسافة لا بأس بها قبل أن يضغط آندريه على زِر مُحدد، أدى بعدها إلى إنفجار المخزن بأكمله، راقبوا النيران التي انعكست لهيبها داخل أعينهم بإنتشاء، وكانت تلك هي الخطوة الثانية المُدمرة ل عائلة الأرماني، وقريبًا سيصلون إلى تلك الخائنة التي تُدعى والدتهم.

وعلى الجانب الآخر؛ استمع آلبرت إلى صوت الإنفجار عبر الهاتف المُتصل بهاتف إيغور، والذي هاتفه خصيصًا حتى لا تفوت عليه تلك المُتعة، ارتسمت ابتسامة سامة على ثغره، قبل أن يهمس بفحيح: لقد اقتربت النهاية.

خرج قاسم مع أَهِلَّة لخارج المشفى بعد أن طلب منها الذهاب معه ليُريها شيئًا خاصًا بها، وبرغم تعجبها ذهبت معه دون الحديث، وصلوا إلى الكورنيش المُطل على النيل بمظهر آثر وجميل للغاية، ثم جلسا على المقاعد الموجودة بالمكان ويتوسطها طاولة صغيرة بعض الشيء.
ورغم الراحة النفسية التي بثها المكان داخل قلبها، إلا أنها تسائلت بتعجب: جايبني هنا ليه؟

ابتسم قاسم نصف ابتسامة قبل أن يقول ببعض التردد: بصي أنا متعودتش على الرومانسية والكلام دا بس أنا جايبلك هدية أول ما شوفتها افتكرتك على طول.
لا تعلم لِمَ ابتسمت، لكنها وجدت ذاتها تسأله بحماس: بجد! طب وريهالي.

أخرج قاسم أربع عُلب مُغلفة كُلٍ منهم يحمل شكلًا مُختلفًا، فأمسك بالعلبة الأولى وقام بفتحها، والتي كانت تحتوي على حُلي رقيقة للغاية مُزينة بهلال صغير يتوسطها، وكم كان جذابًا بطريقة مُلفتة للإنتباه.
شهقت بخفة وهي ترى جمالها ورقتها، طالعته بعدم تصديق وهي تمد يدها لتأخذها منه، وبعدها تحدثت بسعادة بالغة: يا ربي على الجمال! شكلها تُحفة أوي أوي بجد!

ابتسم سعيدًا لسعادتها، ثم أمسك بالعُلبة الثانية والتي كانت تصغر الأخرى بالحجم، وبعدها قام بفتحها؛ ليظهر داخلها خاتمان أسودان اللون، واحدٌ منهم منقوش عليه هلال باللون الفضي، والآخر منقوش عليه نجمة بنفس اللون الذي نُقِش به الهلال، طالعتهم أهلة بصدمة من جمالهم، فرفعت أنظارها ل قاسم الذي كان يُطالعها بحنوٍ بالغ وهو يسألها: عجبوكِ؟

هزت رأسها بالإيجاب ولا تعلم بما تشكره أو بما حتى تُجيبه، ليُخرج هو خاتمًا منهم والذي نُقِش به شكل الهلال ثم أمسك بكف يدها يُدخله بها، وبعدها أكمل حديثه أثناء نظره إليها: أنتِ هتلبسي اللي عليه الهلال، وأنا هلبس اللي عليه النجمة.

كانت تود توضيحًا منه على قوله، وبالفعل بدأ بالشرح قائلًا بشجن: قولتلك قبل كدا إن أنا وأنتِ عاملين زي الشمس والقمر، وإن احنا بنكمل بعض، لما شوفت الخاتمين دول حسيت إن علاقتهم زي علاقتنا بالظبط، بيكملوا بعض، علشان كدا جبتهم، ورغم إني مش بحب ألبس الخواتم؛ إلا إني هلبسه عشان خاطرك.
قاسم. قاسم أنا مش عارفة أقولك إيه بجد!

قالتها بتلعثم وشعور السعادة والفرحة يغمرها، نادرًا ما تشعر بفرحة كتلك، منذ زمن بعيد لم تتحمس لتلك الدرجة، واليوم شعرت بهذا، بسببه هو!
أجابها مُبتسمًا بهدوء وهو يُمسك بالعُلبة الثالثة ليفتحها: مش عايزك تقولي حاجة، أنا عايزك تفرحي بس.

فتح العُلبة الثالثة ليظهر أنا ما بداخلها لم يكن سوى إسوارتان، واحدة مُعلق بها هلال، والأخرى نجمة! أخرجهما قاسم ثم رفعهما أمام وجهها قائلًا بإبتسامة سعيدة: ودول نفس النظام، بس المرة دي هاخد أنا الهلال وأنتِ هتاخدي النجمة عشان نكمل بعض، ورغم إني برضه مش بحب ألبس الحاجات دي إلا إني هلبسها عشان خاطر عيونك.

ارتدى قاسم خاصته، ثم أمسك بكفها وألبسها خاصتها وكم كانوا رائعين بحق، خرج صوت أَهِلَّة هامسًا بشكر: والله دا كتير أوي عليا.
أجابها قاسم مُعاتبًا إياها بخفة: مفيش حاجة كتير عليكِ، أنتِ تستاهلي كل حاجة حلوة في الدنيا ومش بجامل، جِبت الهدايا كلها على شكل هلال تقديسًا لإسمك. أَهِلَّة واللي مفردها هلال.

وأخيرًا جاء عند العلبة الرابعة وقام بفتحها والتي كانت أكبرهم طولًا، فتحها ليظهر من خلفها سلسال من الفضة على ثلاث طبقات ومُعلق بها هلال كبير من الفضة أيضًا لكنه كان قابضًا للأنفاس، وقف هو أولًا ثم أوقفها هي الأخرى وذهب بها بعيدًا قليلًا، حتى وقف أمام سُور النيل الحديدي، رفع السلسال أمام وجهها وهو يسألها بإبتسامة جذابة: إيه رأيك؟

وضعت أَهِلَّة يدها على وجهها بخجل شديد، لقد بعثر بها مشاعرها التي جاهدت لدفنها من قبل، وهو بحديثه العفوي واللطيف، خرج صوتها خافتًا قائلة بمزاح: الحمد لله إني مش بعيط وإلا كنت بهدلت الدنيا دلوقتي.
أدارها ثم أحاط برقبتها وبعدها بدأ بإلباسها السلسال بكل هدوء، انتهى وابتعد عنها قليلًا، لكن قبل أن تبتعد هي قرَّبها منه مُمسكًا إياها من ذراعيها وهو يقول بلُطف:.

مش دايمًا هعرف أداويكِ، لكن هفضل معاكِ لحد ما تتعافي.
إلتمعت عيني أهلة بشيء من الإمتنان والشكر، لا تعلم كيف تُعبر له عن سعادتها الشديدة، فهذا تقريبًا أسعد يوم لها على الإطلاق منذ عدة سنوات، لقد عانت وهو جاء كدواءٍ لها، يُرمم شروخها ويُعيد بناء هيئتها من جديد.

لم تجد من الكلمات ما تكفيه لشُكره، بل اكتفت بالإبتسام وتسديد النظرات الممتنة له، وهو كان أكثر من مُرحب بها، رفعت يديها أمام وجهه تسأله بإبتسامة سعيدة: إيه رأيك حلوين!
اقترب منها بغتةً هامسًا لها بعد أن غمزها بمشاكسة: كفاءة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة