قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الأول

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الأول

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الأول

صوت صافرات الشرطة قطع ذلك الصمت المُخيف الذي يعم تلك المنطقة المهجورة، إضاءة السيارات أعطت الحياة لها بعد أن كانت حالكة مُخيفة، وقفت السيارات؛ تبعها هبوط العساكر منها لإحاطة ذلك الشيء الجاثم بدون حَراك، هبط ذلك الضابط بتعابير وجهه الواجمة؛ ثم اتجه إليه لرؤيته، جلس كالقرفصاء أمام جسده المُفارق للحياة، ليُصدم بأنه أحد أفراد عائلته، والذي لم يكن سوى رفعت الأرماني، شقيق والده الطبيب المشهور!

شُلَّ جسده مُتصلبًا في مكانه من الصدمة، لا يجد ما يفعله سوى النظر لجثته بملامح وجه غير مُصدقة، تلك هي الحادثة الثانية التي تحدث بذاتِ الشهر لأحد أفراد عائلته، رمش بعينه عدة مرات يُحاول استعادة ثباته المفقود، فلفت إنتباهه هذا الكارت الموضوع بجانب جثته، والذي لم يكن سوى وشم القناص!
اشتدت عينيه بقسوة مُرعبة، ثم هتف بفحيح قاتل: حظك الأسود وقعك في طريق صهيب الأرماني، وقسمًا بربي ما هرحمك.

قاطعه صوت ذلك العسكري الذي تحدث بعملية: صهيب بيه، شمعنا المنطقة وللأسف مفيش فيها أي كاميرات مُراقبة ولا عندنا أي معلومات كافية عن هوية القاتل.
وكأن بحديثه هذا أشعل فتيل الغضب داخله، ليصرخ به بغضب قاتل: يعني إيه مفيش معلومات كافية! أومال أنتَ لازمتك إيه! شوفلي أي كاميرات مراقبة على نطاق واسع حوالين المنطقة دي.

هزَّ العسكري رأسه بسرعة مُرتعدًا من حالة الهياج التي تلبسته، ثم هرول من أمامه مُسرعًا لينجو من براثنه، شدَّ صهيب على خصلاته بقوة وكاد أن يُجَن، يبدو أن القناص يستهدف عائلته تحديدًا، لكن لِمَا! سؤال لا يجد له إجابة سوى أنه قاتل مأجور.

عاد بأنظاره تجاه عمه والحسرة تُصيب قلبه، لا يعلم كيف سيُبلغ عائلته بهذا الخبر المشؤوم، هُم لم يتعافوا بَعد من موت ابن عمه والذي قُتل منذُ اسبوعين تقريبًا بنفس الطريقة، ونفس ذلك الكارت الخاص بالقناص كان يُوضع جانب جثته، ما هذا! هُناك جزء مفقود وحلقة مجهولة في الأمر.

صدح رنين هاتفه فجأةً، فأخرجه من جيب بنطاله؛ ليجد إسم والده يُنير شاشته العريضة، نفخ بغيظ ساحبًا نفسًا عميقًا قبل أن يُجيب بهدوء: ألو يا بابا!
أتاه صوت والده الهادئ يُخبره: اتأخرت ليه كدا يا صهيب! مامتك قلقانة عليك جدًا.
تحدث صهيب بجمود قائلًا: بابا عندي ليك أخبار مش كويسة.
اعتدل والده مختار من مضجعه، ثم تحدث بقلق: في إيه يا صهيب قلقتني!
أتاه صوت صهيب يُخبره بصوت خفيض يعكس حُزنه: عمي رفعت اتقتل.

حينما كانت جميع الطُرق صالحة للسير بها، قذفتني الرياح إلى الطريق الخاطئ، طريقٌ مليء بالعثرات الموجعة، وعند تصميمي للعودة حيثما بدأت، انتشلتني الأيادي السامة، لتبدأ في رسم حياتي دون حتى تدخُلي، لينتهي بي الأمر كوحش ثائر، أقتل بدمٍ بارد، حتى أصبحتُ أنا. القناص.

مجموعة من الأطفال الصغار يلتفون حول طفلٍ يُماثلهم في العمر يُدعى أنس، لكن ثيابه تُظهر غِناه ومستواه الراقي الذي لا ينتمي لفصيلتهم ومستواهم من البشر، وثرائه كان سببًا كافيًا ليُعرَف بين زملائه الذين تهاتفوا على صداقته، وبرغم صغر سنه؛ فقد كان يحمل من الكبرياء ما يجعلك تنفر من طريقته المستحقرة في الحديث.

نظر أنس بشمولية للأوجه التي تنتبه له بفضول لرؤية ذلك الهاتف حديث الطراز الذي اِبتاعه حديثًا، رفع رأسه بغرور وهو يُمسِك الهاتف بين يديه مُتحدثًا بعنهجية واضحة للعِيان: الفون دا بابي جابه ليا إمبارح بمناسبة عيد ميلادي، ووعدني لو نجحت في سنة خامسة السنادي بمجموع عالي هيجبلي واحد أحدث.

كانت النظرات على الهاتف تُحدجه بإنبهار، مما زاد من غرور الآخر وشعوره بالتميز والإختلاف، أدار وجهه للناحية الأخرى عندما سمع صوت زميله وهو يقول ببراءة: لما أكبر بابا هيجبلي واحد أحسن من دا.
طالعه أنس بإشمئزاز، ثم تحدث بطريقة مُهينة أشعرته بمدى حقارته من بين هؤلاء الأثرياء: أنتَ فقير، ومش معاك تشتري لبس نضيف بدل المقطع دا.

شعر بالإهانة، وما زاد من شعور الذُل لديه؛ عندما ضحك زملاؤه عليه، ليخفض هو رأسه في حرج شديد، وطبقة رقيقة من الدموع تشكلت في عيناه بعد إهانة زميله له، نظر إلى ثيابه البالية بحسرة والتي تُعتبر ك خُردة بالنسبة لثياب الآخر ولم يتحدث.

دخل المعلم فجأةً إلى الفصل الدراسي، ليتشتت الأطفال ويجلس كُلًا منهم بمقعده الذي اختاره بنفسه، نظر المعلم إلى أنس يطمئن على وجوده، فهناك توصية كبيرة تأتي لأجل الإعتناء به، دار بعيناه على التلاميذ ثم تحدث ناظرًا إليهم بهدوء: النهاردة مش هناخد حاجة، كل واحد هيجي عليه الدور هيقول حلمه يطلع إيه لما يكبر. اتفقنا!

نال الإقتراح رضا جميع الطُلاب، ليستمع إلى أصواتهم المُهللة، بدأ كل واحدٌ منهم في الحديث عن حلمه بسعادة غريبة، حُلمًا سينتظرون من أجله الكثير من الأعوام، حتى جاء الدور على أنس، الذي تحدث بثقة كبيرة: هطلع مهندس أكيد.
طالعه المعلم بإعجاب لهدفه السامي، ثم حوَّل نظره إلى الطفل الآخر، ليسأله بلامبالاة وسخرية: وانت نفسك تطلع إيه لما تكبر يا قاسم!

التمعت عينيّ قاسم بشغف، سابحًا في بحور أحلامه الوردية، تشكلت إبتسامة كبيرة على ثغره وهو يردف بحالمية: نفسي، نفسي أطلع دكتور جراحة كبير وأعالج ماما.
وكأي طفل صغير كان ينتظر التشجيع كمثله من الأطفال، لكنه لم ينال سوا السخرية التي حطمت أحلامه العالية التي كان يبنيها منذ قليل، استمع لصوت المعلم الذي تشدق بسخرية لاذعة: دكتور! مرة واحدة كدا! دا أنت فاشل.

وللمرة الثانية يضحك عليه طلاب فصله ليُصبح أضحوكة بينهم، وذلك بسبب فقره الغير مؤذي لهم بالمرة، والذي بسببه لا يستطيع أن يحضر دروسه كباقي أصدقاؤه، وتلك المرة بكى ظُلمًا وقهرًا مما يتعرض له من تنمر كبير حفر في نفسه الأذى بنصلٍ حاد لم يمحيه الزمان.

أفاق من تذكره لطفولته الحزينة عندما استمع لصوت الممرض الذي دخل لمكتبه للتو يُخبره بعجالة: دكتور قاسم فيه حالة طوارئ حَرِجة لسه جاية حالًا ومستنينك في العمليات.

وقف قاسم بعجالة مرتديًل معطفه الطبي، ثم سار بجانبه بخُطى سريعة، ليبدأ الممرض بشرح حالة المريض وهم في طريقهم إليه: حادثة عربية. اتقلبت بيه على الطريق السريع، وللأسف دخل في عربية نقل كبيرة، أدت لكسور في إيده ورجله، وفيه شك إن يكون فيه نزيف داخلي، دا غير الكدمات و...

قاطعه قاسم بجمود وهو يبدأ بإرتداء القفازات الطبية وذلك الماسك العازل لوجهه: خلاص يا سمير ندخله على الإنعاش أحسن، بلاها عمليات ووجع قلب بقا.
حمحم سمير بحرج، ثم تمتم بخفوت: العفو يا دكتور مش قصدي، بس كان قصدي أسهل لحضرتك الموضوع.

ارتدى قفازته وماسك الوجه وزي العمليات كاملًا ثم دلف للداخل، وكأن من كان بذكرياته أتى له على طبق من ذهب، إنه هو. وجه ذلك المُعلم الذي هدم سقف أحلامه، ليُحارب حينها الجميع وقساوة العالم من حوله وبدأ بالإجتهاد، وما كان عليه سوى الإجتهاد! كان يسهر أيامًا وليالٍ طويلة ليستذكر دروسه، وجد عوائق كبيرة وكثيرة في حياته لكنه لم يستسلم، والعائق الأكبر هو عدم معرفته للقراءة جيدًا، فقد كان ككثيرٌ من الفاشلين لا يستطيع كتابة جملة واحدة صحيحة، فبدأ بالتحدي، وأول مَن تحدى هو ذاته، ذاته المريضة بهاجس الفشل والرسوب، حتى نجح وبات من أكبر الجراحين.

إستفاق على صوت سمير القلق: دكتور قاسم الحالة بتروح مننا.
كظم حقده ونظر له بكره شديد، ومقاطع من الماضي تجول بخاطره كشريط سينيمائي، أغمض عينه بقوة ومهنة الطب تلوح أمام عيناه، وقسمه الذي قاله عندما أصبح طبيب! هل سيتخلى عن قسمه من أجله! بالطبع لا.

وقف أمامه ويبدو أن الجراحة ستكون بالدماغ! وتلك من أخطر أنواع الجراحات، وببرودٍ شديد طلب المشرط من الممرضة الواقفة جانبه ثم بدأ بشق رأسه، حيث بينت الإشاعات والفحوصات عن وجود نزيف داخلي وتدمُل في الدماغ.

وببراعة شديدة بدأ بإجراء العملية الجراحية، يُحاول أن يُلهي ذاته عن هوية ذلك القابع أمامه، ليُثبت للجميع ولذاته أولًا أنه قد وصل، ومع إقترابه لإنهاء الجراحة؛ استمع لصوت صفير جهاز القلب، لينظر الجميع لبعضهم بقلق، إلا هو. أكمل ما يفعل ببرودٍ تام، حتى انتهى بعد ثوانٍ لا تُعد آمرًا الممرضة بتقطيب رأسه.

أمسك قاسم بصاعق الكهرباء ليضع سمير مُسرعًا ذلك الچيل على سطحه، ثم بدأ بإنعاش قلبه، مرة. وإثنان. وثلاثة. حتى أمر سمير بصوت عالي نسبيًا: ارفع على 200 يا سمير بسرعة.

فعل سمير ما أمره به مسرعًا، ومع الضغطة الرابعة بدأ القلب بالنبض، تنفس الجميع الصعداء لنجاح تلك العملية شديدة الخطورة بالنسبة لهم، ليُهنئ الجميع قاسم شاكرين إياه بإمتنان شديد، ومن المتوقع بنسبة كبيرة أن يدخل المريض بغيبوبة وهذا وارد، لكن ما يُهم هو نجاح العملية.

راقب قاسم تهنئتهم بجمود ثم اتجه للخارج، ليُقابل أهل المريض المنهمرين في البكاء، لتسأل أحدهم بلهفة شديدة ومن الواضح أنها زوجته: طمني يابني الله يخليك، جوزي عامل إيه!
وضع يده في جيب معطفه الطبي متشدقًا بنبرة باردة: العملية نجحت والمريض بخير، وال 48 ساعة اللي جايين هيبينوا كل حاجة، ادعوله.
ذهب من أمامهم ثم أكمل جملته جاززًا على أسنانه بحقد: ربنا ياخده.

أكمل طريقه نحو مكتبه ناظرًا لساعة يده، ليجدها قد تعدت الثانية بعد منتصف اليوم، ها قد أوشكت ساعته بالعمل أن تنتهي، لذلك قرر النوم قليلًا حتى يعود إلى منزله في الصباح الباكر.

انقضى الليل بآلامه وذكرياته، وصدحت شمس الأمل تُحلق في الأرجاء، تنشر البهجة في الأنحاء من حولها، إلا على تلك البائسة التي تجلس على مكتبها تنظر أمامها بشرود، حركت القلم بين يديها بحركات ثابتة، كذلك قدمها التي تهتز بخفة من الحين والآخر، مَن يراها يظن بأنها تُركز على شيء ما؛ لكن الحقيقة عكس ذلك عزيزي، فهي تُخطط لدمار كبير، من المُحتمل أن يُصيبها قبل أن يُصيب الجميع.

دلفت في تلك الأثناء صديقتها تحمل بين يدها كوبين من القهوة الساخنة، وضعت واحدًا أمامها والآخر أمام تلك البعيدة بعقلها، جلست قبالتها ثم أردفت بقلق بالغ: ناوية على إيه يا أَهِلَّة!
استفاقت أَهِلَّة من شرودها رافعة نظرها نحو صديقتها التي تنتظر جوابها، ثم أجابتها بغموض: ناوية على كل خير يا يُمنى، كل خير إن شاء الله.

ردت الأخيرة بخفوت لم يزيد الأخرى إلا خوفًا ورُعبًا من القادم، تعلم بعناد صديقتها والذي سيودي بحياتها بتاتًا، عضت على شفتيها تُحاول إثنائها عن قرارها، قبل أن تقول برفق: طيب معلش فكري تاني، أنتِ كدا هتودي نفسك في داهية، هيقتلوكِ ومش هيقولوا عليكِ يا رحمان يا رحيم، وأنتِ مش قدهم.

تحولت نظرات أَهِلَّة من البرود إلى الغضب، ثم ضربت بيدها على مكتبها بحدة، صارخة بإهتياج: مش هيقدروا يعملوا حاجة، دا لو عِرفوا يوصلولي أصلًا!
كانت يُمنى معتادة على حالتها تلك وغضبها المُفاجيء، لذلك تحدثت بصوت رزين نابع من قلقها وخوفها عليها: أنتِ عارفة إنه مش صعب عليهم يوصلولك، وإنهم لو وصلوا ليكِ مش هيرحموكِ.

هزت أَهِلَّة رأسها تنفي ما تقوله، قبل أن تتحدث هي بثبات: مش هيعرفوا صدقيني، أي خبر بنشره في الجريدة بيكون تحته إسم مُستعار مش حقيقي، ورئيس الجُرنان ميقدرش يرفض اللي بنشره، لإن رقبته تحت ضرسي وممكن أوديه ورا الشمس ساعتها.

يأست يُمنى في إرجاعها عن رأيها، لذلك عادت إلى مقعدها تجلس عليه بإنهاك، سحبت نفسًا عميقًا ثم زفرته على مهل لتتحكم في أعصابها، أمسكت بكوب القهوة ثم قرَّبته من شفتيها مُرتشفة إياه على مهل، وعيناها تجول على أَهِلَّة التي هدأت وعادت لشرودها مرة أخرى، وكأن لم يحدث شيئًا منذ قليل!

طرق الباب مُقاطعًا ذلك الصمت المُخيف، تبعه دخول السكرتيرة الخاصة برئيس التحرير التي تحدثت بجمود مُوجهة حديثها ل أهِلَّة التي تُتابعها بحاجب مرفوع: الأستاذ ضياء عايزك.
أشارت لها أهِلَّة بإصبعيها تأمرها بالذهاب: روحي أنتِ وأنا جاية وراكِ.

كزت سلوى على أسنانها بحقد من معاملتها المُحتقرة لها، وما كادت أن تُصيح بها؛ حتى تذكرت أمر ضياء بعدم التخطي عليها حتى لا تفشل خطتهم، لذلك سحبت نفسًا عميقًا ثم زفرته على مهل مُحدجة إياها بسخط قبل أن تذهب من أمامهما.
وقفت أهِلَّة تُعدِّل من ثيابها لتستعد لمُجابهته، تعلم أن تلك المُقابلة سيكون خلفها شيء سيء، لذلك استدارت لها يُمنى تقول بقلق: الاتنين دول مش مريحني يا أهِلَّة، أنا خايفة عليكِ.

تقدمت أهِلَّة منها مُربتة على كتفها بحنان، تعلم بمدى حبها وخوفها عليها، ثم تحدث بإبتسامة طفيفة لم تصل ليعنيها: متقلقيش عليا يا يمون، هبقى كويسة واللهِ متقلقيش، سبيها على الله.
لم تُهدِأ كلماتها من روعها، بل ظل القلق مُصاحبًا لها، خاصةً وهي تتبع أثرها الذي اختفى من الوسط حولها.

علم قاسم بمقتل الطبيب رفعت الأرماني صباحًا، اشتدت عينيه بقسوة وهياج حارق، كيف قُتل! من المُفترض أن يقتله هو لأ أحد غيره! فقط كان ينتظر القليل من الوقت ليستطيع تعذيبه، لكنه ذهب قبل أن ينال مبتغاه منه.
حاول التحكم بأعصابه المُتلفة؛ لكنه لم يستطيع، لذلك أطاح بكل شيء يُوضع على مكتبه بغضب جام، صعد صدره هبوطًا وصعودًا وهو يتسائل مع ذاته: إزاي! إزاي مات! كان المفروض أنا اللي أقتله مش حد تاني.

خلع معطفه الطبي ثم رماه بعصبية أرضًا، فبدأ بإرتداء ثيابه الأخرى استعدادًا للذهاب، وأثناء إنهماكه في ذلك ظل سؤالًا يدور في عقله بلا توقف، مَنْ القاتل!
انتهى ثم خرج من مكتبه، بل من المشفى بأكملها مُتجهًا نحو منزله بسيارته الخاصة، حقًا إن كان أحدًا من هؤلاء الحمقى سيقتلهم بالتأكيد.

وصل للمنطقة البسيطة التي يقطن بها راكنًا سيارته جانب المنزل، ثم دلف للداخل بملامح وجه مُتهجمة يتوعد لهم، وها قد وصله صوت صُراخ هؤلاء الأوغاد المُعتاد.
أُقسِم سأقتلك أيها الحقير، لقد أكلت طعامي للتو، تبًا لكَ.
طعام مين يا أبو طعام! دا أكلي أنا وأنت خدت نصيبك، متبقاش بجح وطماع.
اهدأوا يا رفاق، هل الطعام ما سيُفرق بيننا!

نعم سيُفرق بيننا، هذا طعامي أنا، خاص بي أنا، من ضمن ممتلكاتي أنا، لِما أكله ذلك المُختل!
قلب قاسم عيناه بملل، هؤلاء الثلاثة سيُصيبانه بذبحة صدرية لا محال، اقترب منهم ببرود ثم جلس على المقعد المُقابل لهم واضعًا قدمًا فوق الأخرى ينتظر إنتهائهم.

لم يُعيروه إهتمامًا حتى بعدما رأوه، فكز على أسنانه غيظًا من تجاهلهم، فأخرج مسدسه من جيب بنطاله، وأصرَّ ضربه على الطاولة أمامه بقوة حتى يُصدر صوتًا عالٍ، انتبهوا لفعلته لذلك توقف ثلاثتهم عن الشجار، مُبتلعين ريقهم بقلق.
لوى قاسم شفتيه بسخرية، ثم هبَّ من مكانه مُشبِكًا كف يديه معًا خلف ظهره، ثم سألهم بهدوء مُخيف: مين اللي قتل رفعت الأرماني!

نظر ثلاثتهم لبعضهم البعض بحذر ولم يُجيبوه، لذلك أعاد عليهم سؤاله مرة أخرى بجمود أخافهم وهو ينحني على الطاولة يُمسك بسلاحه: مش هكرر سؤالي تاني. مين اللي قتل رفعت الأرماني!
هُنا وتحدث فور بقلق من أن يُصيبه طيشه: أُقسِم لستُ أنا، لقد كنتُ نائمًا ليلة البارحة.
خرج صوت قاسم يسأله ببرود: وأول امبارح!
أتاهُ صوت فور مُسرعًا: أُقسِم كنت نائم أيضًا.
وأول أول إمبارح!

جاءه الجواب سريعًا من فور نافيًا عنه كل التهم: أُقسِم كنت نائم طيلة هذا الأسبوع.
صمت فور قليلًا، ثم أشار تجاه أحد الشابين الآخران: من المؤكد أنه رائد، ذلك الحقير الذي أكل طعامي.
فتح رائد عينه بصدمة من تلفيق التُهمة إليه، ثم دافع عن ذاته مُستنكرًا: هي أي نصيبة تحصل تجيبوها على قفايا، موركوش غير ولا إيه!

نهره فور حانقًا: اصمت أيها اللِص، أنت بشع وقاسي القلب، كيف لكَ أن تأكل طعامي بكل تلك القسوة! والذي يجعلك تأكل طعامي يجعلك تقتل ذلك العجوز القبيح.
تخصر رائد محله، ثم أشاح بيده في الهواء بطريقة سوقية: لأ بقولك إيه اتظبط بدل ما اظبطك، وبعدين مين رفعت دا اللي اقتله، أنا مش بقتل غير العواجيز الكبيرة اللي قربت تموت، عشان الصغيرين بيصعبوا عليا.

تصنَّع فور التأثر، فوضع يده موضع قلبه، ثم تحدث بطريقة مسرحية: أوه يا رجل! لقد توقف شعر قدمي من تأثري بحديثك، تبًا لحنانك يا فتى!
كان قاسم يُتابعهم ببرود ولم يتحدث، فانتقل ببصره تجاه چون الهادئ، ثم سأله على بغتة: وأنتَ يا جون مش هتقول حاجة!

كان چون هادئ نعم، لكن ذلك بسبب تلك الموسيقى الصاخبة التي يستمع إليها وهو مُغمضٌ لعينه، أعاد قاسم سؤاله تحت أنظار هذان الذان توقفا عن الشِجار، جز على أسنانه بغيظ عندما أيقن بعدم إستماعه له من الأساس، لذلك تقدم منه بغضب؛ منتشلًا تلك السماعات اللعينة التي يضعها بأذنه.
تذمر چون صائحًا بإعتراض: هِاي يا رجل! أعطيني حبيباتي.

طفح كيل قاسم من أفعالهم التي تُثير حنقه؛ فأمسكه من ياقة ملابسه يهُزه بقوة: بقولك إيه أنا جبت أخري منكم انتوا التلاتة، قسمًا بالله أخر ما أزهق لهصفي المُسدس دا في دماغكم عشان أنا قرفت.
ابتلع جون ريقه من تهديده الصريح، ثم ربت على كتفه ليُهدأه قائلًا بتوتر: اهدأ يا رَجُل ما بِك؟ لا تأخذ الأمور على أعصابك، ستنفجر تموت غيظًا.

حاول مرة وأخرى أن يتحكم بذاته، لكن تلك المرة لم يستطيع، فسدد له لكمة قوية أطاحت بوجهه وهو يصرخ به: حيوان.
ارتمى چون أرضًا مُتأوهًا بقوة وهو يضع يده مكان لكمته، ذهب إليه فور مُسرعًا يجلس جانبه أرضًا ليتفحصه، ثم رفع رأسه ل قاسم يصرخ به: ما الذي فعلته به أيها القاسي! كِدت أن تقتله أيها المُختل.
وجَّه قاسم فوهة مُسدسه تجاه رأسه، ثم سأله بجمود متحدثًا بلغته: عِد لي ما قُلت منذ قليل هكذا!

دفع فور جون بعيدًا، ثم وقف مكانه مُجددًا بجانب رائد مُرددًا بإرتعاد: أي حديث قُلت أنا؟ أنا لم اتحرك من مكاني يا هذا.
أنزل قاسم سلاحه نافخًا بغيظ، ثم وجَّه حديثه ل رائد مُتسائلًا: معرفوش مين اللي قتل رفعت الأرماني؟
ابتلع الجميع ريقهم بصعوبة شديدة، لا يعلمون كيف سيخبرونه بما علموه، ليُشير رائد للتلفاز من خلفه، والذي يُذيع الخبر منذ الصباح على جميع القنوات الفضائية.

استدار قاسم لللتلفاز مُمسكًا بجهاز التحكم؛ ليرفع من درجة الصوت، فجاءه صوت المُذيع مُتحدثًا بنبرة عملية جادة: وها قد جائتنا الأخبار عن مقتل الطبيب رفعت الأرماني بطريقة بشعة تُقشعر لها الأبدان، حيث قام القاتل بشق عنقه دون ذرة شفقة أو رحمة، واصدرت الحكومة المصرية عن وجود كارت بجانب جثته خاص ب القناص، ومازالت هوية القاتل مجهولة.

تشنج وجه قاسم بإستنكار شديد، نظر للثلاث شباب بتعابير وجه ساخطة، ليخرج صوته بعد عدة ثواني من الصمت يسألهم بطريقة خرجت رغمًا عنه مُضحكة: لما اللي قتله هو القناص أومال أنا ابقى مين!
وضع رائد يده على فمه يُخفي ابتسامته، فمال برأسه قليلًا يهمس بصوت خفيض ل چون الواقف بجانبه: المشهد دا أنا شوفته قبل كدا في فيلم الخالة نوسة.
سأله چون بإستغراب: من تلك الخالة نوسة؟

نكزه رائد في جانبه ليصمت: اسكت اسكت اللي يخربيتك، لو سمعك هيقتلني أنا وأنت.
بينما قاسم كان في وادٍ آخر، هو لم يقتله، إذًا مَن القاتل! ومن أين أتى بذلك الكارت الذي يخصه! وكيف أتى به! ولما يُريد تلفيق التهمة إليه هو تحديدًا! الكثير والكثير من التساؤلات التي تدور بعقله ولا يجد لها إجابة، حتى صدح صوته بإهتياج: إزاي! مين اللي له مصلحة يعمل كدا!

هُنا وخرج صوت فور قائلًا: بالطبع الذي أخذ الكارت كان بموقع الجريمة السابقة التي نفذتُها، وأخذه حينها ليقوم بتنفيذ خِطة القتل تلك.
طالعه قاسم بإقتناع مُفكرًا في حديثه، لا يوجد سوى ذلك التفكير المنطقي، هز رأسه عدة مرات بنعم، ثم أردف بموافقة على حديثه: معاك حق، وأنا هعرف إزاي أوصل للي عمل كدا في أسرع وقت.
تقدم رائد حتى بات يقف بمواجهته، ثم تسائل بحذر: هتعمل إيه بعد كدا يا قاسم؟

حوَّل قاسم أنظاره إليه، والتي تحولت من الغضب إلى الخبث، مُجيبًا إياه بإبتسامة ماكرة: كل خير إن شاء الله، جهزوا نفسكم هنروح نعزي مختار الارماني في أخوه بالليل، ما انتوا عارفين إن احنا صحاب واجب.

العمل كان على قدم وساق، الجميع يُجهز الصوان؛ لتلقي التعازي الخاصة بالمُتوفي رفعت الأرماني، جلس مختار على مقعده بإنهاك تهبط دموعه بعدم تصديق، اليوم قُتِل شقيقه، ومنذ أسبوعين قُتِل ابن شقيقه، عائلته مُستهدفة مِن قِبل شخص مجهول سيُنهى حياتهم واحدًا تلو الأخر، لكن لِما!

جاء في تلك اللحظة صهيب يجلس جانب والده بتعابير وجه حادة وتقاسيم متوعدة، قائلًا: متقلقش يا بابا، اللي عمل كدا هنوصله في أقرب وقت صدقني وهياخد جزاته.
أحاط مختار بوجهه مردفًا بحسرة يشوبها البكاء: هتوصلوله امتى بس! لما يخلَّص علينا واحد ورا التاني!

طالعه صهيب بعجز لا يعلم بما يُجيبه، معه كل الحق، فعائلته تُقتل أمام أعيُن الجميع دون معرفة مَن الفاعل، لكنه أقسم متوعدًا أن يصل لذلك القناص مهما كلفه الأمر، حتى لو كان الثمن حياته.

خرجت في تلك الأثناء فتاة في أوائل العشرينات مُتشحة بالسواد، تُهرول تجاه مُختار لتجلس أمامه أرضًا ودموعها تنهمر بلا توقف، فتحت فمها تتحدث ببكاء وشهقات عنيفة: بابا، بابا يا عمي، بابا مامتش صح! قولي حاجة الله يخليك يا عمي، بابا مستحيل يسيبني صح!

هبطت دموع مختار بأسى ساحبًا رأسها داخل أحضانه، ثم ربت على خصلاتها البُندقية الناعمة قائلًا: اهدي يا حبيبة يا بنتي، باباكِ في مكان أحسن دلوقتي، ادعيله بالرحمة.
هزت رأسها بنفي هستيري داخل أحضانه هاتفة بصراخ: لأ. لأ. لأ. بابا مامتش لأ يا عمي...

قالت الأخيرة بخفوت شديد وبعدها شعرت بغمامة سوداء تُسيطر على عيناها لتأخذها لمكانٍ بعيد غير الواقع المؤلم، فزع مختار صارخًا بإبنه الذي يُتابع المشهد بجمود: اطلب الدكتور يا صهيب بسرعة.
أبعد صهيب أبيه بهدوء، ثم أردف بلامبالاة: متقلقش يا بابا، هي بس أُغمى عليها من الصدمة.

قال حديثه ثم حملها صاعدًا للأعلى حيث غرفتها، ثم وضعها على الفراش بهدوء شديد واعتدل في وقفته مرة أخرى، وضع يده بجيب بنطاله الأسود يُحدجها ببرود ظاهري، حتى مضى بعض الوقت وهو يقف وقفته تلك لا يفعل شيئًا سوى النظر إليها.

استفاق من غيبوبته المؤقتة مُحمحمًا بقوة، ثم حسم قراره للهبوط حيث أبيه، هو بحاجته الآن أكثر من أي وقت مضى، فقط لينتظر حتى يأتي الليل وينتهوا من مراسم العزاء، ثم تبدأ مهمته لكشف هوية القناص المجهولة.

طرقت أَهِلَّة باب مكتب رئيسها ثم دلفت للداخل دون أن تستمع لإذنه، كان يقف أمام النافذة يُوليها ظهره، مُفكرًا في تلك الخطوة التي سيتخذها لإنقاذ عنقه من تحت مخالبها التي تُحيطها، استدار لها راسمًا ابتسامة صفراء على ثغره، ثم أردف بترحيب زائف: اتفضلي يا أَهِلَّة.
طرقت بكعب حذائها الطويل على الأرض السيراميكية اللامعة، ثم جلست على المقعد مُردفة ببرود قاتل: اتفضلت من غير ما تقول يا ضياء بيه.

كتم غيظه بصعوبة مُحافظًا على بسمته، ثم جلس على المقعد أمامها قائلًا: هكلفك بمهمة صعبة فشل فيها كتير جدًا من الصحفيين.
ارجعت ظهرها للخلف تضع قدمًا فوق الأخرى، ثم أردفت بسخرية لاذعة: مهمة صعبة منك أنت! هو اللي زيك يعرف حاجة في الشغل! أنت اللي زيك له في النسوان و، بس.

نطقت بجملتها الأخيرة ببطئ تتلذذ في إذلاله كما فعل معها هو سابقًا، رأت تأثير حديثها على معالم وجهه التي تحولت للحقد، يرغب الآن في الفتك بها بأي طريقة، لكن مهلًا، فتلك المُهمة لن تكون له، لن يُلوِث يده بدمائها القذرة، سينتظر ويرى موتها أمامه دون أدنى مجهود منه.

أغمض عينيه ضاغطًا على أنفه ليتحكم في إنفعالاته، ثم فتحهما على مهل ينظر لها بجمود، لينطق ببرود مُتغاضيًا عن جزء إهانته: زي كُل مرة جالنا أخبار إن القناص هينفذ عملية من عملياته بكرا الساعة 2 بعد نُص الليل...
والمطلوب!

سألته مُقاطعة إياه بترقب، لتتشكل ابتسامة عريضة على فمه قائلًا: المهمة دي عليكِ المرادي، أنتِ عارفة إن الاتنين اللي راحوا قبلك مختفيين لحد دلوقتي، وأنا الحقيقة مش هلاقي أحسن منك ينفذ المهمة دي.
الآن علمت سبب طلبه لها وإختيارها هي تحديدًا لتلك المهمة، هو يُريد التخلص منها وللأبد لتحفظ سِره، لكن بعينه، لن تذهب بعيدًا عنه بتلك السهولة حتى تُذيقه من نفس الكأس الذي سقاها منه.

لكن هل سترفض! بالطبع لا، لن تظهر كضعيفة مهما كلفها الأمر، هي كانت ومازالت من أكفأ الصحفيين في تلك الجريدة، والقضايا التي كُلفت بها من قبل تشهد على ذلك، رسمت ابتسامة باردة على محياها ثم أجابته بخبث دفين: وماله، هنفذ المُهمة، بس متجيش في الآخر تعيط.
ورغم قلقه من حديثها المُبهم، إلا أن كلماتها الأخيرة أثارت حنقه بقوة، نفذ صبره لذلك صاح بها بإهتياج: أنتِ اتجننتي! ازاي ت...

قاطعته مُنتفضة من على مقعدها: مش فاضية للكلام الفاضي دا يا ضياء بيه، عن اذنك.
أولته ظهرها راسمة على محياها ابتسامة شامتة، تعلم بأنه الآن يحترق حقدًا منها، ومازال القادم أسوأ، ستُدمر جميع من شارك في أذيتها، ستُنهي عليهم واحدًا تلو الآخر، حتى لو كان ذلك، بمساعدة القناص!

ها يا ماما، أحط شطة على الفراخ ولا محطش!
جاءها صوت نبيلة العالي بالنفي: إياكِ يا ملك أشم ريحة الشطة في الأكل، أنتِ عارفة إن أخواتك أَهِلَّة ويُمنى مش بيحبوها.
أجابتها ملك بخضوع واستسلام: حاضر يا ماما مش هحط حاجة.
وما إن أنهت حديثها المُستسلم، حتى أمسكت بالشطة الحمراء الحارقة تضع نصفها على الدجاج، سال لُعابها جوعًا وطمعًا لتأكله وحدها، ثم تمتمت يخبث: ابقوا شوفوا بقى هتاكلوا ازاي.

حملت الصينية الساخنة بين يديها بقطعة بالية قديمة، ثم حدجتها بأعين مُلتمعة تُحدثها كأنها فتاة في عمر الثالثة: هاكلك لوحدي يا جميل، هاكلك لوحدي يا سكر.
دلفت في تلك الأثناء والدتها نبيلة، فوجدتها تُمسك بالطعام بين يديها تنظر له بطريقة أثارت ريبتها: بسم الله الرحمن الرحيم، بتبصي للأكل كدا ليه يا بت أنتِ! أنتِ اتفجعتي!

لوت ملك شفتيها بسخط وهي تنظر لوالدتها، ثم وضعت الدجاج من يدها على الرخامة العريضة، مُتحدثة بضجر وهي تُمسد على معدتها الجائعة: يوه هما اتأخروا كدا ليه! أنا جوعت، بِتُ لا أطيقُ الإنتظار يا بلبلة.
أمسكت نبيلة بالملعقة الكبيرة بين كفها تنكزها بها في جانبه وهي تصرخ بها بصخر: ما تتهدي يا بت بقى! هو أنا مخلفة ديك رومي! يا بنتي دا أنتِ حتى مبتمضغيش الأكل، أنتِ بتبلعيه على طول.

رفعت ملك أصابعها الخمسة أمام وجه والدتها تردف بسخط: محدش جايبني ورا غير قرك أنتِ وولادك، حسبي الله ونعم الوكيل.
خلعت نبيلة نعلها ثم صوبته بوجهها وهي تُصيح بها: بتدعي على مين يا قليلة الأدب، ما أنا لو كنت فضيت وربيتك خمس دقايق على بعض مكنش هيحصل كدا.
أشاحت ملك بيدها بسخط من أقوالها الدائمة لها، ثم أردف بحنق قبل أن تُسرع مُهرولة للإختباء بغرفتها: روحوا استحموا بقى، انتوا مفيش وراكوا غير ملك الغلبانة!

جرت خلفها والدتها تحمل الملعقة الخشبية بين يدها وهي تصرخ بها: خدي يا بت. خدي يا قليلة الرباية. والله لهوريكِ يا ملك على قلة أدبك دي بس اصبري.
ضحكت ملك بإنتصار بعدما استطاعت الهروب من والدتها، ثم اتجهت إلى درج مكتبها تفتحه ببطئ، لتُخرِج من قطعة من العِلكة تمضغها بإستمتاع رهيب.

استمعت إلى صوت هاتفها يصدح في الأرجاء، فاتجهت إليه تُمسكه بين يدها لترى من المُتصل، شغلت ابتسامة واسعة مساحة كبيرة من وجهها عندما رأت هويته، لتُجيب مُسرعة وهي تقول بسعادة: كنت عارفة إني مش ههون عليك، وحشتني يا إبراهيم.
أتاها صوت إبراهيم الجامد يسألها ببرود: عاملة إيه يا ملك!
ابتلعت ريقها بقلق من نبرته ثم أجابته بحذر: الحمد لله يا إبراهيم.

صمت إبراهيم لبرهة، ثم تحدث قائلًا: بصي يا ملك أنتِ بنت ناس وألف من يتمناكِ، بس أنا وأنتِ يا بنت الناس مش هننفع نكمل مع بعض.
انتفضت من مكانها فزعًا وهي تردف بخوف: إيه الكلام دا يا إبراهيم! مش أنت قولتلي هتتقدملي على آخر الشهر!
كان كلام وانتهى، أنا أمي دلوقتي جيبالي عروسة وخطوبتنا الأسبوع الجاي، وأنا متصل عشان أعزمك، عقبالك ما تلاقي ابن الحلال، سلام.

أغلق المُكالمة بوجهها بعدما انتهى من حديثه، حتى لم ينتظر لسماع إجابتها، تاركًا إياها تنظر حولها بصدمة وشرود، لقد تركها حقًا ليتزوج من أخرى! بعد كل تلك الوعود والأحاديث التي رماها على مسامعها تركها! جلست على فراشها تضم قدميها لصدرها مُنكمشة على ذاتها، وثوانٍ وكانت تنفجر في البُكاء، وإحساس الظلم والخداع يتملك منها.

كفايا بقى يا تاتا أنا زهقت.
هتفت سهيلة بتلك الكلمات وهي تُحاول الإعتدال من على قدم جدتها التي تضع رأسها على قدمها قِصرًا، يأست لواحظ من صراخها فجذبتها من خصلاتها تنهرها قائلة: يا بت اتهدي بقى خليني أفليكِ، القمل بيجري في كل حِتة في شعرك.
تأففت قائلة بسخط: قَمْل إيه يا ستي بس! أنتِ بقالك 3 ساعات مقعداني القعدة المنيلة دي عشان تصطادي القمل بتاعك.

شهقت لواحظ بصوت ملحوظ قائلة بشفاه مُلتوية: بتاعي دا إيه يا بنت أمك! لأ يا حبيبتي دا أنا شعري حرير، ما أنتِ لو تسمعي كلامي وتعملي زيي وتحطي جاز على شعرك هتلاقيه بقى ناعم وحرير ومسبسب اسمعي كلامي.
اعتدلت سهيلة تجلس محلها بضجر وهي تُحدج جدتها بغيظ، ثم أردفت حانقة: جاز إيه بس يا تاتا، أنتِ عايزة تشليني!

أمسكت لواحظ بنعلها رافعة إياه لتضربها به، لكنها هرولت من أمامها مُسرعة قبل أن يطولها، رقصت أمامها بحركات بهلوانية قائلة: ومجتش فيا. ومجتش فيا آاااه.
قاطع رقصها ذلك الكف الذي هبط على رقبتها من الخلف، والذي لم يكن صاحبه سوى شقيقها رائد التي تحدث بشماتة: أحسن عشان تبقي تدايقي لولي تاني.

قال جملته ذاهبًا تجاه جدته لواحظ مُحتضنا إياها بمشاكسة، ثم أكمل بشاعرية وهو يُقبَّل جبينها مُغيظًا شقيقته التي تُطالعه بحقد: حُبك يا لواحظ خطف قلبي خطف، زي الغريق اللي القِرش هبشني هبش، أنا اللي عومت في المايه زي السمكة المقلية، عشان أجيبلك يا حبيبتي البيض بتقلية.
رفعت لواحظ بصرها إليه قائلة بإعتراض: بس أنا مش بحب البيض بتقلية.
قهقه بخفة غامزًا لها بمشاكسة: خلاص هجيبلك فول وطعمية.

لوت سهيلة شفتيها بإستنكار قائلة: دي عشان تكون على نفس القافية يعني! وبعدين إيه اللي جاب البيض للمايه!
ما كاد رائد أن يُجيبها، حتى وجد جدته تدفعه بعيدًا بحدة وهي تصرخ به: أنت مين يا قليل الأدب! يالهوي مُتحرش.
اقترب منها رائد مُكممًا فمها مُسرعًا بفزع قبل أن تقوم بفصحه، ثم أردف وهو ينظر لشقيقته: هي خدت الدوا النهاردة!

هزت سهيلة رأسها بجهل وهي مُنهمكة في الضحك، ثم أردف شامتة بضحكات عالية: دي أخرة الشِعر الهابط اللي أنت بتقوله، البس يا شاعر زمانك.
حدجها بحدة لكنها لم تُبالي تاركة إياه مازال يُكمم فم لواحظ التي تُحاول الدفاع عن ذاتها من ذلك المتحرش الحقير، تأوه رائد بقوة عندما قامت بغرس أسنانها الصناعية في لحم يده، ثم رفعت كف يدها هابطة به على وجهه تزامنًا مع قولها: بتتحرش بواحدة سِت زي أختك يا كلب!

أجابها رائد غيظًا مُمسكًا بوجهه: أخت مين يا أم أخت، دا أنتِ قلبك واقف 3 مرات الشهر اللي فات يا ولية عشان طلعتي السلم لوحدك، مفكرة نفسك هيفا!
صفقت بيدها ثم لوحت بهم في الهواء مُجيبة إياه بردح: هيفا مين دي يا واد اللي تقارنها بيا! أنت مش شايف عيوني الزرقا ولا شعري الأصفر الطبيعي.
انتفض رائد من مكانه ثم أجابها بسخط قبل أن يتركها ويذهب: أصفر مين يا ستي صلي على النبي، أنتِ قرعة أصلًا.

تركها مُهرولًا وهي تُلقي كمًا هائلًا من السباب، دخل لشقيقته التي كانت تقوم بإطفاء النيران من أسفل الطعام، ثم أخبرها بهدوء أثناء إنتشاله لقطعة من الخيار: اعملي حسابك يا هايلة إن أصحابي هيجوا يتعشوا معايا النهاردة.
سألته ضاحكة: والواد فور القمر هيجي!
ضربها على مؤخرة رأسها وهو ينهرها: بس يا قليلة الأدب، اعملي حساب لكيس الجوافة اللي واقف قدامك، وبعدين دا مش هينفعك يا موكوسة عشان هو أصلًا مسيحي.

ردت عليه بهيام مُصطنع: هدخله للإسلام، الحب مفيهوش مستحيل يا أخ رائد.
حدجها مُستنكر ثم أردف وهو ينتشل قطعة أخرى من الخيار: طيب ياختي، خليكِ في أحلام اليقطة والروايات بتاعتك دي، وأنا ورايا مشوار كدا مهم وبليل هاجي
وما كاد أن يخرج من المطبخ؛ حتى توقف قائلًا بتذكر: وآه صحيح، هبقى آخد رواية كمان منك عشان عجبتني أوي اللي فاتت.
ضحكت مُومئة له: ماشي، بس عِد الجمايل وافتكر اختك حبيبتك.

جاء الليل بعد أن أسدل ستاره، وتجمع الأربعة شباب بالمنزل الخاص بهم هم فقط، نظر قاسم بشمولية لأوجههم، ثم أردف بخبث: بينا يا رجالة.

تبعه الشباب جميعًا، فاستقلوا بسيارة واحدة سوداء والتي كانت تخص قاسم، صعد چون بجانب قاسم، وبالخلف جلس كُلًا من رائد وفور معًا، تحركت السيارة بهم، وطيلة الطريق كان فور يُحدج رائد بنظرات ساخطة كان الآخر يستقبلها منه ببرود، لن ينسى قسوته معه، لقد أكل طعامه المسكين، هو فقط له الحق في أكله.

ربَّع فور ذراعه بضيق ثم تحدث مُوجهًا حديثه ل قاسم: أريد الجلوس في الأمام، لا أريد الجلوس بجانب هذا النتن ذو الرائحة العفنة.
شهق رائد بعنف صائحًا: هو مين دا اللي نتن يابن العيلة النتنة أنت! دا أنا لسه مستحمي بكلور يلا.
كلور!
رددها قاسم بإستنكار ناظرًا له من خلال المرآة الأمامية، ليؤكد له رائد بقوة: آه كلور، بيدي ريحة هايلة ياض يا قاسم وعهد الله.
سخر قاسم قائلًا بلذاعة: هايلة دي تبقى أختك يلا.

استدار چون بجسده ل رائد يقترح عليه ببساطة: يا فتى افعل مثلي ولا تتحمم، الإستحمام بشع للغاية.
أشاح رائد بيده نافيًا برأسه: لأ يا عم أنا نضيف وبحب استحمى مرتين في الشهر.
أوه مرتين في الشهر! هذا كثير حقًا، فأنا أتحمم كل عام مرة واحدة فقط، حتى لا تفوح رائحتي الكريهة.
نظر له قاسم بطرف عينه للحظة ثم أعادها للطريق مُجددًا وهو يتسائل: دا على أساس إن ريحتك مش فايحة دلوقتي يا أنتن خلق الله!

اعترض فور بضجر مُدافعًا عن أخيه: اصمت قاسم، فأخي ليس بذو رائحة كريهة، بل ذو رائحة جميلة يفوح منها العِطر.
طالعه چون بتأثر متحدثًا بحب: حقًا أحبك يا أخي، ليس لي غيرك لينصفني بتلك الحياة القاسية.
لا تقل هذا يا مُغفل، أنا سأظل بجانبك دائمًا حتى الممات.
حدجهم رائد بتقزز، ثم تمتم بصوت هامس: جتكم نيلة في علاقتكم القذرة، مش عارف من امتى وبقوا الأخوات بيحبوا بعض!

وصل الجميع إلى يلا الأرماني، ليستمعوا إلى صوت الأيات القرآنية التي تُتلى في المذياع بصوت عالٍ نسبيًا، جالت عين قاسم على جميع الأوجه بحذر، حتى توقفت حدقتيه على صف الرجال من عائلة الارماني يتلقون التغازي بكل حزن وأذى، توعد قاسم داخله مُتوعدًا: ولسه اللي جاي هيكسركم أكتر، ربنا يكتر من أحزانكم.
استفاق على يد رائد التي وُضعت على كتفه يحثه على التقدم: يلا يا قاسم.

سار الاربعة بجانب بعضهم البعض يُحدجون بهم بأعين مُتوعدة، الأربعة يجمعهم نفس الهدف، وهو الإنتقام، وصلا إلى حيث تجمُع الرجال، فمدَّ قاسم يده ل مُختار يُصافحه وأعينه تكادُ أن ينطلق منها الشرر، كذلك فعل الثلاثة الآخرون ثم دلفوا للداخل ليجلسوا قليلًا.

جلس جون بجانب قاسم، وعلى جانبه من الناحية الأخرى كان يجلس رائد، و فور جاور شقيقه كذلك، كانت رؤيتهم وهم على تلك الحالة تُشعرهم بالإنتشاء، ترضي ذلك الجزء الحاقد بداخلهم، تلك المرة لم يُخططوا لشيء، لكن الهدف كان في مرماهم.
ارتسمت ابتسامة حاقدة على ثغر جون ثم همس متوعدًا: ومازال القادم سيشهد على جميع مآسيهم.
حدجه قاسم بخبث قائلًا: بالتأكيد يا صديقي.

مرَّ خمسة عشر دقيقة، لذلك اقترح فور بحنق: يكفي يا رفاق، فأنا لا أُطيق الجلوس بمكان يجمعني مع هؤلاء الأوغاد.
وافقه الجميع على ذلك، لذلك هبَّ قاسم من مقعده قائلًا بهدوء: يلا نمشي.
قاموا بمصافحة الرجال مرة أخرى، وتلك المرة تثبتت أنظار قاسم على صهيب الذي لم يكن مُتواجدًا حين دخولهم، صافحه الشباب بهدوء، حتى جاء دوره قائلًا له بهدوء: البقاء لله.

لا يعلم صهيب كيف رأي السعادة تتراقص بعينيه، يشعر بشيء غامض تجاه ذلك الماثل أمامه، أجابه بحذر بعد أن مدَّ يده لمصافحته: ونعم بالله، هو حضرتك مين.
صمت قاسم قليلًا، ورغمًا عنه ارتسمت ابتسامة غريبة على ثغره وهو يُجيبه بشماتة: أنا اللي جاي أشمت في موت رفعت الأرماني.
احتدت عين صهيب بغضب مُمسكًا إياه من تلابيبه يسأله بصوت خفيض حاد: أنت مين!

أنزل قاسم يده من على ثيابه ومازالت تلك الإبتسامة الباردة مُرتسمة على ثغره، ثم تشدق بغموض: أنا الدمار لعيلة الأرماني.
كز صهيب على أسنانه بحقد وهو يقول بتهديد: أنت متعرفش مين هو صهيب الأرماني! أنا هوديك في ستين داهية.
اقترب قاسم منه ثم همس جانب أُذنه بسخرية: متتعشمش عشان القفا ميعلمش.

ابتعد ليرى معالمه التي تحولت للغضب الحارق، ثم تركه وذهب يغلي من الغضب، وبنفس النظرات الشامتة كان يُحدجه الشباب المُتابعون للموقف بأكمله، نظر صهيب لأثرهم بحقد، ثم نادى على مدير أعمال العائلة الذي يُجاوره، ثم سأله بشر: مين دا يا راضي!
أجابه راضي مُسرعًا تجنبًا لغضبه: دا دكتور قاسم طاحون شغال في المستشفي بتاعة عيلة حضرتك يا صهيب بيه.
استمع لحديثه ثم همس بخفوت خطير: قاسم طاحون.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة