قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الأربعون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الأربعون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الأربعون

إن كنت تبحث عن مهربٍ للخروج؛ عليك تنظيف القمامة التي خلفك أولًا، ابحث عن جهازٍ يُزيل جميع الفوضى دون أن تُلوث يداك بنُفاياتهم القذرة، ابعد معصمك عن قيدهم المُتسخ واهرب بعيدًا إن لم تُقاوم، وإن قاومت؛ احرص على الابتعاد عن محورهم لتظل نظيفًا.
قاسم طاحون متفق مع صهيب.

كلماتٌ صعدت من فاه مختار بشرودٍ غامض أدت إلى توتر الأجواء، نظر يحيى ل رائد بأعيُن مُتسعة مصدومة من هولِ ما استمعوا إليه، هل يُعقل بأنهم كُشِفوا؟ سؤالٌ ظل مُتعلقًا في عقول الجميع ولم يجدوا له إجابة حتى الآن، ويا ويلهم إن كانت الإجابة نعم!

حاول وليد التحكم في ثباته بقدرِ الإمكان والذي تسائل بهدوءٍ رغم ذلك الضحيح الذي يحدث داخله: إيه الكلام دا يا مختار بيه؟ مش أنا مطمن حضرتك إن العلاقة بين صهيب ابن حضرتك و قاسم طاحون مجرد علاقة صداقة عادية؟
رفع مختار عيناه يُطالعه بأنظار ثابتة وظل صامتًا وكأنه يحاول سبر أغواره، تشكَّل القلق بفؤادِ وليد خوفًا من أنه قد كُشِف هو الآخر، ولم يطيل تفكيره حتى خرج مختار عن صمته قائلًا بنبرة غامضة:.

أصل ليه يتم تفجير شركة من شركات عيلة الأرماني وقت وجودهم هناك تحديدًا؟ قاسم وطِلع بعثة تبع المستشفى ودا أنا على عِلم بيه، إنما حوار إن صهيب يطلعله مأمورية كدا فجأة مش مريحاني، والعميد مُغازي يكلمني يقولي إن مكان المأمورية في روسيا مكان ما موجود فيه قاسم طاحون؟ الموضوع فيه إن وأنا هوصله.

حاول وليد ردعه عن تفكيره فأردف بثبات: أنا لما راقبتهم لقيت إن صهيب بيه كان شاكك في قاسم طاحون، ولما لقاه ماشي في السليم وملهوش علاقة بأي حاجة حصلت كوَّن صحوبية معاه وبقوا مع بعض دايمًا.

هز مختار رأسه عدة مرات بخفة وهو يُفكر مليًا فيما استمع إليه، حديث وليد لم يقنعه مئة بالمئة، لكن وجودهم هناك سويًا في نفس الوقت الذي تم فيه تخريب إحدى شركاته يُثير شكوكه وريبته بقوة، وبالجهة المُقابلة كان القلق قد بدأ يتسرب لفؤاد وليد عندما لاحظ عدم اقتناعه بحديثه، لذا عليه تقديم الأدلة والبراهين التي تُثبت عكس شكوكه الأيام المُقبلة.

بينما على الطرف الآخر؛ ضرب يحيى كفيه ببعضهما البعض أثناء حديثه المُهتاج: كدا الزفت مختار بدأ يشك فينا، لو عِرف حاجة كل اللي عملناه هيروح في ثانية.
أيد رائد حديثه بقوله الحاقد: أنا مش عارف انتوا ساكتين عليه لحد دلوقتي ليه؟ ما تقتلوه أو يقبضوا عليه وخلاص.

تلك المرة ردت عليه يمنى بمعالم وجه ساخطة منذ أن استمعت لحديث الحقير الآخر: مفيش أي أدلة تدينه، كل الورق والشُحنات باسم صهيب، ولو الورق دا اتمسك صهيب هيروح في ستين داهية ومش بعيد يتعدم كمان.
شد رائد على خصلاته غيظًا، فاستمع بعدها إلى صوت ملك المُتسائل بقلق: طب و صهيب ماله بالحوار دا؟ مش مختار هو صاحب العمليات دي كلها؟

زفر يحيى بسخط ثم رد عليها قائلًا: مختار كان مستغل صهيب وبيمضيه على ورق الشُحنات من غير ما ياخد باله، ودا مش كان صعب على واحد دماغه سِم زي مختار، ومعظم الصفقات اللي تمت كانت بتوقيع صهيب، وطبعًا هو مكانش مخونه لإن مختار كان في نظره أبوه اللي ميقدرش يأذيه.

طالعت ملك شقيقتها بقلقٍ بالغ خوفًا على شقيقتهم الثالثة، والتي تُعتبر وسط مجموعة من الذئاب التي لا ترحم، فإن تم كشفها سينهشوا لحم جسدها وهي حية دون الشعور بالشفقة، لذلك لم تترك ملك ما يؤرقها دون أن تتسائل بتردد: طيب. طيب وموقف أهلة إيه دلوقتي؟ أنا خايفة يحصلها حاجة، خصوصًا إن هي متهورة في الحوار دا بالذات.

استدار لها رائد برأسه ثم تحدث مُطمئنًا إياها بحنان: متقلقيش على أهلة هي في أمان مع قاسم، قاسم مستحيل يخلي حد يأذيها أبدًا.
أومأت له ملك بقلق لم يقل مُماثل لقلق يمنى التي طالعتها بعدم راحة، لاحظ يحيى حالة الأجواء المتوترة بينهما فأردف بنبرة مُمازحة كانت غبية بعض الشيء: خلاص متقلقوش يا جماعة، مش يمكن إحنا اللي نموت الأول!
طالعته يمنى بتشنج فتحدثت ساخطة: طب نقطنا بسُكاتك يا يحيى.

رفع يحيى حاجبيه باستنكار ثم أردف قائلًا: اتكلمي كويس يا أخت يمنى عشان مقطعش فروتك بين إيديا.
فرغت يمنى فاهها بعدم تصديق وهي تُشير لذاتها بدهشة: أنت. أنت بتكلمني أنا كدا؟
أشاح يحيى بيده أمام وجهها وهو يتخصر في مكانه: أومال بكلم أمي؟ لأ بقولك إيه مش معنى إن أنا كنت هادي اليومين اللي فاتوا دول يبقى يحيى القديم مات، لأ فوقي وصحصحي كدا يحيى مبيتغيرش.

قطبت يمنى جبينها بضيق ثم ردت عليه بنبرة حادة: إن شالله عنك ما اتغيرت أنت بتتكلم كدا ليه؟ متخلينيش أقلب عليك يا يحيى عشان أنا قَلبتي وحشة.
قولي كدا يحيى تاني؟
ترك الحديث بأكمله وقالها بهيام بعد أن نطقت اسمه بكل وضوحٍ أثناء غضبها، ليقع في حُب ذاته للمرة المائة بعد الألف.
كانت يمنى تُحدجه بعدم تصديق لتحوله المُفاجيء، لتتدخل ملك في الحديث قائلة بسماجة: اتقي الله يا أخ يحيى وغُض بصرك.

فاق يحيى من حالته الهائمة ثم حمحم قائلًا بجدية وهو يُعدل من ياقة ثيابه: معكِ حق شقيقتي في الله، وأنتِ يا أخت يمنى أرجو عدم الحديث معي مُجددًا حتى تُصبحي زوجتي وأفعل ما أشاء.
كتم رائد ضحكته بصعوبة أثناء قوله المُتسائل: هتفعل ما تشاء إزاي يعني؟
رمى له يحيى نظرات نارية فأردف حانقًا: ملكش دعوة ياض وخلينا نركز بقى في اللي إحنا جايين عشانه.

وبالفعل انتبه الجميع لشاشة الحاسوب الذي يعرض لهم المطعم بأكمله، خاصةً هؤلاء الرجال المُتميزون بحِلتهم السوداء والذين أتوا للتو، قطب رائد جبينه بتعجب عندما وجدهم قد جلسوا أمام الطاولة التي يجلس عليها كُلًا من مختار ووليد، وبعدها تسائل بريبة: هُما مين دول؟
هزَّ يحيى كتفيه بجهل قائلًا أثناء تعليق أنظاره على أوجه هؤلاء: مش عارف، أو مش فاكر، أنا حاسس إني شوفتهم قبل كدا وناسي.

وعلى الجانب الآخر، جلس مجموعة من الرجال كان عددهم أربعة تقريبًا على الطاولة الخاصة ب مختار الأرماني، قطب وليد جبينه بشكٍ خاصةً وأن مختار لم يُعلِمه بقدوم هؤلاء، يبدو أن موقفه يزداد صعوبة وتعقيدًا وسيكون هو المُتضرر الوحيد بتلك الجلسة.

اعتدل وليد في جلسته يرسم الثبات واللامبالاة على وجهه وكم برع في ذلك! حتى مَن يراه يظنه شخصًا صعبًا من وجوم وجهه وجديته الظاهرة، استدار مختار له ثم أشار للرجال عليه مُعرفًا به بقوله باللكنة الروسية: هذا وليد سعيد مُدير أعمالي وذراعي الأيمن.

خلع الرجل نظارته السوداء من على عيناه التي تُماثل لون نظارته، ثم طالع وليد بنظرات مُتمعنة وكأنه يُحاول سبر أغواره، وكذلك بادله وليد النظرات، يشعر بعدم الراحة إليه خاصةً وأن مظهره غريب بعض الشيء، بشواربه الكثيفة وذقنه النامية بكثرة، اغتصب وليد ابتسامة طفيفة على ثُغره فرحب به قائلًا: تشرفت بمعرفتك يا سيد.
أجابه الآخر ببرود وهو يهز رأسه بخفة: أعلم.

تشنج وجه وليد باستنكار من قلة زوقه وانعدام احترامه، فاستمع بعدها إلى صوت الرجل الذي يُجالسه والذي كان أصلعًا يقول بود تخفيفًا من توتر الأجواء: أخي يحب المزاح لا أكثر، المهم نحن تشرفنا بك أكثر سيد وليد.
ورغم سخط وليد على الموقف بأكمله وكُرهه لمن يجلسون أمامه جميعًا، هز رأسه بهدوء قائلًا: أهلًا بك.

تدخل مختار في الحديث قائلًا وهو يُشير تجاه الرجال يُعرِّف بهم: هذا ميشيل، وذلك راي، والذي يُجاوره يران، وبعده چاك.
هز الجميع رأسهم بترحيب فبدأ مختار أن يُوجه حديثه ل ميشيل قائلًا بجدية مُفرطة: حسنًا سيد ميشيل، لقد أخبرتني أن هُناك ما تُريد اخباره لي.
هز ميشيل رأسه بالإيجاب ثم تقدم منه قائلًا بنبرة غامضة بعض الشيء: أظن أن هُناك خائن سيد مختار.
ابتلع مختار ريقه بريبة فتسائل بشك: وكيف علمت ذلك؟

شبَّك ميشيل أصابعه معًا ثم بدأ بقول ما استنتجه بلمحة من الغضب: أولاً تتدمر جميع مُمتلكات عائلتك بمصر ولم يبقى لكَ شيئًا هُنا، هُناك قاتل ما يصطاد عائلتك تحديدًا لقتلهم، اشتراك زوجة أخيك في هذا العمل وموتها بعد ذلك، وأخيرًا تبدأ مُمتلكاتك بروسيا بأن تفنى مثل سابقيها، ماذا عن كل ذلك!

ومع كل فعل مشين يذكره ميشيل له يزداد غضب مختار أكثر حتى صعدت الدماء لرأسه، حاول مختار الثبات والتحكم في أعصابه بقوله الهاديء نسبيًا: سأصل إلى الفاعل في أقرب وقت، أعدك بذلك.
تلك المرة تدخل يران مُتحدثًا بقوله المُتعصب: متى ستصل سيد مختار؟ هل عندما تتدمر جميع الشركات المُشتركة بيننا مثلما حدث معك هُنا بمصر؟ عُذرًا يا سيد، فنحن لن ننتظر حتى نُعلن افلاسنا أيضًا.

ضيَّق مختار عينه بريبة وهو يتسائل بفزع داخلي: ماذا تقصد بحديثك هذا؟
أجابه راي بلامبالاة أثناء التقاطه لكأس المياه من على الطاولة: يعني أننا سنفض شراكتنا تلك إن لم تصل للفاعل في أقرب وقت، وصدقني سيد مختار ؛ إن تدمرت إحدى شركاتنا ستدمر معها أنت أيضًا.

غزا العرق جبين مختار خوفًا، فحياته الآن بين يدي مَن لا يوجد بقلوبهم الرحمة، فرغم علاقاتهم المُشتركة معًا؛ إلا أنهم لا يُسامحون أبدًا، وإن سامحوا؛ فالقتل هو المُقابل!
أخرج منديلًا ورقيًا من جيب بذلته ثم جفف به عرق وجهه أثناء قوله المُتوتر والذي لم ينجح تلك المرة في إخفاءه: حسنًا أعدك بأنني سأصل للفاعل قريبًا، لكن أريد مساعدة صغيرة منكم؛ فلتبحثوا معي.

تشكلت ابتسامة خبيثة على وجه ميشيل والذي نظر مُباشرةً لكاميرا المُراقبة التي تُواجهه، ثم تحدث بخبث: نحن نبحث بالفعل واقتربنا من الوصول.
وعلى الجانب الآخر، اتسعت حدقتي الجميع بفزع أثر نظر ميشيل على كاميرا المُراقبة وكأنه يعلم بوجودهم! لطم يحيى على وجهه بفزع صارخًا: يالهوي، يا مراري، يا حِزني، يختاي!

ابتلع رائد ريقه وهو على مشارف البُكاء قائلًا برعب: هو. هو قصده إيه بالكلام الماسخ دا؟ أكيد مش عارف بوجودنا يعني، ولا إيه؟ ما تنطق يا يحيى ؟
ولول يحيى قائلًا بحسرة: سيب يحيى في حاله بقى، مش كان زماني شغال على عربية فول ولا كبدة وسجق؟ أنا إيه اللي جابني هنا بس! حسبي الله ونعم الوكيل فيكِ يا يمنى .
تشنج وجه يمنى بسخط فتحدثت باغتياظ: وزفتة الطين عملت فيك إيه دلوقتي؟

استدار لها قائلًا بصوتٍ مقهور: مش كنتِ قتلتيني أحسن بدل ما هما اللي يتقلوني؟ يا ترى هيرموا لحمي لكلب هاكسي ولا بلدي؟
حزنت يمنى من تذكيره لها لأسوأ فترة في حياتها لكنها أخفت حزنها بسرعة واستدارت لتُطالع شاشة الحاسوب دون أن تُجيبه، بينما ملك طالعت كُلًا من رائد ويحيى باشمئزاز أثناء قولها الساخر: صدق اللي قال الرجالة ماتوا في الحرب، ما تنشف ياض أنت وهو.

حدجها رائد ساخطًا أثناء قوله المُغتاظ: ما هو اللي إيده في المايه الباردة مش زي اللي إيده في النار، اتفرجي واسمعي ياختي يكش تتهدي وتسمعي كلامي وترضي تتجوزيني قبل ما أموت.

طالعته ملك بعنهجية ثم حوَّلت أنظارها تجاه الشاشة التي تعرض أمامهم الرجال، فوجدوا كُلًا من مختار ووليد يقفان من على الطاولة ويتجهون نحو الخارج، بينما الأربعة رجال مازالوا يجلسون على الطاولة لبضعة دقائق، وللعجب أنهم صامتون! حتى أنهم لم يتحدثوا ولو بكلمةٍ واحدة، فقد ينظرون لبعضهم البعض بصمت وكأن بينهم تواصل بصري لا يستطيع أي شخص فهمه سواهم!
قطبت يمنى جبينها بتعجب وهي تتسائل باستغراب: هُما مالهم؟

وما إن أنهت سؤالها حتى وجدت الرجال ينتفضون من أماكنهم ثم أسرعوا إلى أحد الأركان بسرعة هائلة! لم يكد أن يستوعبوا ما حدث؛ حتى وجدوا الأربعة رجال يقتحمون الغُرفة بعنف ثم رفعوا أسلحتهم على رؤوسهم بملامح وجه مُخيفة بعض الشيء! وتبعه حديث ميشيل الذي تحدث بفحيح: مرحبًا يا أوغاد!

أيا قلبٍ عاهدت على عدم الميل ومِلت، ورفضت الأسباب واستنتجت، وعزمت على التخطي وتخطيت، وأقسمت على ألا تُحِب وأحببت؛ متى ستجتاز!

صعد قاسم مع أهلة إلى غرفتهم الخاصة بعد أن تركوا الجميع بالأسفل مع مهرائيل التي تقص لهم مُغامرات خطفها وكأنها كانت بعرض سينيمائي ليس إلا! اتجه قاسم إلى الخزانة ثم أخرج منها ثيابًا أخرى ليرتديها، بينما أهلة ارتمت على الفراش من خلفها مُتنهدة بعمق وهي تُغمض مقلتاها بإرهاق، استدار لها قاسم ثم سألها بهدوء: مش هتغيري هدومك؟
أجابته وهي على نفس وضعها: هقوم أهو.

أومأ لها بهدوء ثم اتجه نحو المرحاض ليُبدل ثيابه، وعقب رحيله شددت بكفيها على الفراش تُحاول نسيان ما رَوته اليوم علَّه يخرج من داخل عقلها المريض بهواجس الخوف والقلقِ، ولكن رغمًا عنها عادت ذاكرتها ليومٍ من الأيام المشؤومة التي عايشتها، يومٌ أقل ما يُقال عنه بأنه بشع.

أنا. أنا أسفة والله مش. مش كان قصدي.
هتفت بها أهلة الصغيرة وهي تختبيء خلف إحدى الأرائك الوثيرة خوفًا من ذلك الوحش الذي كاد أن يلتهمها، خرج صوت الآخر غاضبًا وهو يصرخ بها بعنف: أنا هخليكِ تتمني الموت النهاردة، هعلمك الأدب من أول وجديد.
بكت الصغيرة بصوتٍ مسموع وهي ترتعش مكانها، فاستمعت إلى صوته المُهتاج يصرخ بها: هو أنا مش قولتلك مش عايز أسمع صوت؟ متعيطيش!

مسحت وجهها من الدموع بسرعة رهيبة وهي تهز رأسها بهسيريا لتجنب غضبه، وبعد أن انتهت وضعت كفها الصغير على فاهها تكتمه حتى لا يخونها صوتها ويخرج لإغضابه مُجددًا، لكن الصغيرة لم تكن تعي بما يُخطط له، لقد جعلها تلتهي بمسح وجهها فاقترب منها على بغتة ثم قام بجذب خصلاتها القصيرة بين يديه حتى باتت قريبة منه للغاية، وبعدها تحدث بفحيحٍ أرعبها: لو سِمعت صوتك هقتلك، سامعة؟

أنهى حديثه تزامنًا مع اتساع حدقتيها برعبٍ عندما رأته يخلع حزام بنطاله ويلفه حول يده عدة مرات مُتتالية، اقترب منها ببطئٍ وهي تعود للخلف على كِلتا يديها وقدميها بهلع، فلم يُزيده هذا إلا انتشاءًا، خرج صوته هامسًا بشر آمرًا إياها: اكتمي بوقك، ولو سمعتك بتصوتي هزوَّد في الضرب.

وما كان عليها سوى أن تدفن وجهها بين قدميها وكفها موضوعًا على فاهها كما اعتادت أن تفعل دائمًا حتى توازي ساديته وأفعاله، كان يهبط على جسدها بقوة ولا يُسمَع منها سوى صوتٍ مكتوم ودموعٍ تهبط بصمت، وحين انتهى تركها هامدة تتنفس بصعوبة بالغة وكأنها ستلتقط أنفاسها الأخيرة من تألم فؤادها الذي تحمل فوق مقداره من الكتمان.

في تلك الأثناء، كان قاسم يخرج من المرحاض مُجففًا خصلاته بالمنشفة التي تقبع بين يديه، انقبض قلبه رُعبًا عندما شاهدها مُتمددة على الِفراش ويظهر على وجهها التشنج والفزع، لذلك هرول إليها دون أن يُفكر، رمى المنشفة أرضًا ثم جلس جانبها رافعًا جسدها بين ذراعيه حتى استقرت رأسها على صدره، لكنها لم تترك الفراش من أسفلها، بل ظلت مُتمسكة به تضغط عليه بقوة وكأنه آخر أمل لها للنجاة! رفع قاسم كفه ثم ضرب بأصابعه على وجهها يُناديها برعب وقلبٍ خافق بفزع: أهلة. أهلة فوقي. أنا معاكِ. أهلة!

كانت أهلة تستمع إلى صوته أثناء غيبوبتها القصيرة، وكأن هُناك موجة من الذكريات انتشلتها لتسجنها بين مياهها المُتسخة بمرارة الواقع، هزت رأسها بهستيريا تُحاول تتبع مصدر الصوت والتشبث به، فكرر قاسم ندائه بقلق أشد وبنبرة مُرتعشة: أهلة عشان خاطري اصحي. فوقي عشان خاطري أنا أسف.

ذلك المشهد ذكَّره بما حدث معه قديمًا، عندما كانت والدته مكانها وهو يترجاها بأن تستيقظ لأجله ولا تتركه وحيدًا، وها هي الذكريات تعود مرة أخرى لتُهاجمه، لتتشكل طبقة رقيقة من الدموع داخل حدقتاه وهو يُناديها برجاءٍ واضح: أهلة فوقي عشاني.

وتلك المرة استجابت لنداؤه، وكأن تلك الغصة التي ناداها بها أيقظت جُزءً من عقلها جاعلة إياها تشهق بعنف وكأنها كانت كالغريق الذي ينتظر موعد انقاظه، ارتفع صدر أهلة صعودًا وهبوطًا بنهيجٍ عنيف ومقلتاها مُتسعتان للغاية، نظرت حولها فوجدت قاسم يجلس جانبها بدموعٍ مكتومة استطاعت رؤيتها بسهولة لقُربه منه، وبدون أن تُفكر انطلقت لأحضانه تُعانقه بقوة، وهو لف ذراعيه حول خصرها يُشدد من احتضانها حتى كاد أن يُدخلها داخل صدره، شعر بكفها يضرب على ظهره بعنف أثناء صراخها المُهتاج:.

أنا تعبت. أقسم بالله أنا تعبت ومش قادرة استحمل الوجع.
عض على شفتيه بقوة ليمنع خروج صوته، بينما هي كتمت وجهها داخل صدره قائلة بصوتٍ مكتوم حتى لا يستمع أحد إلى صراخها: أنا تعبت من حياتي ومن الدنيا كلها، مبقتش عايزة أعيش وأجازف أكتر من كدا، أنا بكره الناس، هما اللي وصلوني لكدا، أنا بكره الكُل وبكرهك أنت كمان، سامعني يا قاسم بكرهك.

وكأنها تقول حديثها هذا من ضعفها وقلة حيلتها، فمع حديثها الأخير كانت تُشدد من احتضانه والضغط فوق صدره، فؤادها مكلوم بجُرحٍ لا تعلم كيف تداويه، كل شيء من حولها يدعو إلى الانهيار، وحتى حقها في الانهيار مُنعَت منه بأبشع الطرق، دفن قاسم وجهه بين ثنايا عُنقها وسمح لأول دمعة مَقهورة بالهطول، مقهورٌ على حالتها، على صحتها، على ألمها، على حُزنها، مقهورٌ على روحها التي اُنتهكت منذ الصِغر، طبع قُبلة رقيقة مكان عِرقها النابض في رقبتها، ثم تحدث بتحشرج:.

عيطي يا أهلة وأنا معاكِ، حاولي وأنا هساندك، والله مش هسيبك بس كفاية كتم في وجعك، لو ليا خاطر عندك حاولي ولو محاولة واحدة بس.
أنتَ الوحيد اللي ليك خاطر في قلبي يا قاسم.

في تلك اللحظة كان مقدار ألم فؤادها لا يُحتمل، فعضت على ثيابه بأسنانها بقوة مهولة حتى تُجازف، تشعر بأن حياتها على المحك الآن وأن قلبها لن يتحمل معها مُجددًا بسبب قوة الألم، تشبثت في ثيابه من الخلف وكتمت أنفاسها، أصابها الدوار، التقيؤ، الصداع، والألم، وحين تجمعت كل تلك الأمراض بجسدها في آنٍ واحد صرخت بقهرٍ لم تعد تتحمله، صرخت بظلمٍ تملك من أوردتها، صرخة كانت عبارة عن شكوةٍ من العالم بأكلمه، صرخة تُوضح بها مقدار مُعاناتها وسوء حياتها، وإن كان الحجر يبكي؛ لبكى.

كانت صرخة واحدة لكن بلا دموع أو بكاء، لكن هو بكى وهبطت دموعه بدلًا منها، وكأن هُناك رابط جمع بين روحيهما جعله يشعر بآلامها، بينما هي استندت بجبينها على صدره تتنفس بنهيجٍ وكأنها تُحارب، اعتدل هو جالسًا على الفراش، ثم جذبها إليه لتجلس على قدميه ثم أمال رأسها للخلف لتنام على ذراعه، وكأنها طفلة صغيرة تنام على قدم أبيها ليحميها من البشر، أحاطت هي خصره وأمسكت بثيابه بحماية، وهو جذب رأسه إليه ودفن رأسه داخل خصلاتها وبدأ بقراءة آياتٍ من القرآن بصوتٍ خفيضٍ بثَّ الراحة والطمأنينة لفؤادها، حتى ذهبت في ثباتٍ عميق بعد وقتٍ طويل من الأرق.

اعتزل ما يؤذيك وابتعد عن البشر.
فزع الجميع من الدخول المُفاجيء للرجال فرفع يحيى ذراعيه للأعلى مُتحدثًا بهلع: خدوهم هُما أنا مليش دعوة.
طالعه رائد بغيظ والذي تسلل بروية للوقوف خلفه، ثم تحدث بصوتٍ خفيض حانق: أنت صاحب مش جدع، ولو طلعنا عايشين من هنا مش عايز أشوف وشك تاني.
لطم يحيى على وجهه صارخًا: مش لما نعيش، يا مراري مش هتجوز البت حتى!

ابتلعت يمنى ريقها بريبة ثم تحدثت بصوتٍ خائف: أنا مش عايزة أتجوزك يا يحيى، أنا عايزة أعيش يا اللي منكم لله.
جاورتها ملك التي أمسكت يدها بخوف وهي تردف بصوت خائف: وأنا عايزة أتجوز، بقولك إيه يا رائد أنا موافقة إني أتجوزك.
أخرج رائد رأسه من خلف جسد يحيى وعلى وجهه ترتسم ابتسامة بالغة فقال بتهليل: قولي أقسم بالله كدا؟ ليكِ عليا لو عيشنا هعملك حِتة فرح؟ هأكلك فيه فسيخ ورنجة.

كادت ملك أن ترد عليه لكن استمعوا إلى صوت طلقة طائشة تخطت من جانبهم، ابتلع الجميع ريقهم برعب من معالم الإجرام المُرتسمة على وجوههم، فاستجمع يحيى شجاعته الهاربة ثم تسائل بجدية: انتوا مين وعايزين إيه؟
رد عليه ميشيل بفحيح: روحك. نحتاج روحك أنت وهؤلاء الحمقى.
ضيَّق يحيى وجهه بتفكير من تلك النبرة التي استمع لها مُسبقًا، لذلك تحدث بشك: انت مين؟ أنا حاسس إن أنا عارفك.

ارتسمت ابتسامة ساخرة على ثُغر الآخر أثناء اخفاضه لسلاحه للأسفل، ثم مدَّ يده لجذب لحيته وشاربه لإبعادهم عن وجهه، وبعدها تحدث بسخرية لاذعة: لا أعلم كيف يثق قاسم في حِفنة من الأغبياءِ مثلكم!
فتح رائد فاهه بعدم تصديق ناطقًا اسمه بدهشة جليَّة: ستي ن؟
رد عليه ستيفن بنبرة جامدة: نعم هذا أنا يا مُغفل، ماذا كنت تظن بحق الله؟ ألم يخبراكم قاسم وآلبرت بالأمر؟

هزوا رأسهم بالنفي، ليتحدث آندريه ضاحكًا: إذن حلالٌ عليكم فزعكم هذا.
خرج رائد من خلف جسد يحيى المُتشنج، ثم تحدث بدهشة: يعني إيه مش فاهم!
أجابه إيغور بصوتٍ هاديء: يعني أن كل هذا مُتفَقٌ عليه، ومن المُفترض أن تكونوا على علمٍ به.
تحدث يحيى مشدوهًا: برضه مش فاهم! إزاي متفقين عليه؟ هو انتوا شغالين مع مختار الأرماني؟

جائه الرد تلك المرة من ليونيد الذي شرح له بعد أن ارتمى يجلس على الأريكة من خلفه: لسنا نعمل معه، بل هي خطة تمويهية لضبطه مُتهمًا بالأوراق والدلائل دون أن يُصاب صُهيب بأي ضرر، ولحين يحدث هذا فإننا نعمل معه بطريقة غير مُباشرة.
تدخلت يمنى مُتسائلة بتعجب: وهيحصل دا إمتى؟
أجابها ستيفن بهدوءٍ قائلًا: حين نصل لجميع الأوراق التي وقَّع عليها صهيب وتدميرها تمامًا.

أومأ لهم الجميع بفهمٍ الآن، ليتحدث يحيى مُغتاظًا: بس برضه كان لازم نفهم بالإتفاق دا، يعني عاجبكم اللي حصل دا! البنات كانوا مخضوضين جدًا.
أيد رائد حديثه بقوله المُعاتب: أيوا فعلًا البنات كانوا خايفين، بس يلا ربنا يسامحكم طالما غرضكم كان خير.
تشنج وجه الفتاتان باستنكار من حديثهما، لتتحدث ملك بسخط: إحنا برضه اللي كُنا خايفين؟ صحيح اللي اختشوا ماتوا والباقي مبقاش عندهم دم.

أمسكت يمنى بيد شقيقتها ثم تحدثت بغيظ قبل أن يذهبا: يلَّا يا ملك نمشي من هنا أصلها مش ناقصة فقع مرارة.
قالتها ثم سحبت يد ملك ومعها ثم خرجتا من المطعم بأكمله تاركين كُلًا من يحيى ورائد ينظرون لأثرهم بسخط وكأنهم ليسوا المُخطئون مثلًا!

إن الحقد والبغض يملؤ القلوب؛ فتأكد أن البشرية بأكملها ستهلك دون أن تجد يد العون، تلك البذرة الحاقدة التي تنمو تدريجيًا داخل فؤادك ستُأذى بها ولن تتعايش، تغييرك لن يأتي بالنفع على أحد، لكن سيكون بالنسبة إليك انتصارًا عظيمًا.
خرجت ريماس من المرحاض وهي تلطم على وجهها عدة مراتٍ برعب، ابتلعت ريقها بفزع تدور حول نفسها بالغرفة أثناء امساكها لاختبار الحَمل بين يديها والذي كانت نتيجته إيجابية!

اتجهت نحو الفراش لتجلس على طرفه ثم مدت يدها المُرتعشة للإمساك بكوب المياه بصعوبة، وجدت صعوبة بالغة في حمله بيدٍ واحدةٍ فرفعت الأخرى وأمسكت به بكلتيهما، وبعدها ارتشفت عدة قطرات لتُبلل جوفها الخالي من المياه، أعادت الكوب مكانه مرة أخرى ثم نظرت مُجددًا للاختبار بصدمة هائلة، وضعته جانبًا ثم وضعت كفيها على وجهها لتُخفيه مُتحدثة بهمسٍ مصدوم: يا نهار أسود هعمل إيه دلوقتي! يا دي المصيبة السودة أنا كدا هروح في داهية.

حاولت ريماس جمع شتاتها والثبات قليلًا حتى تجد حلًا لتلك المُصيبة التي وقعت فوق رأسها، لذلك انتظرت قليلًا لتهدأ، وبعدها ارتدت ثيابٌ مُناسبة ثم أمسكت باختبار حملها واتجهت صوب غُرفة أنس التي اعتادت أن تذهب إليها ليلًا.

طرقت الباب أولًا ثم فتحته على فجأةٍ، لتجده جالسًا على الفراش يحمل بين يديه هاتفه وعلى ثُغره ترتسم ابتسامة واسعة أثارت شكها، رفع أنس أنظاره يُطالعها بهدوء، ثم أخفض رأسه للهاتف مُجددًا مُتسائلًا بنبرة باردة: خير يا ريمو إيه اللي جابك دلوقتي؟ مش أنتِ بتجيلي بالليل؟
اقتربت منه ريماس بعد أن أغلقت الباب خلفها، ثم تحدثت بهمس باكٍ: أنا حامل يا أنس.

لم تتغير ملامح أنس الذي أجابها بنفس النبرة الباردة: إيه دا بجد؟ يعني أنا هبقى عَم قُريب؟
رددت ريماس كلمته الأخيرة بصدمة واضحة: عم؟ بقولك أنا حامل منك.
هبَّ أنس من مكانه مُنتفضًا، ثم تحدث باستنكار: نعم ياختي مني أنا؟ ودا حصل إمتى إن شاء الله؟
تجمدت أطراف ريماس ببرودة قارصة من صدمتها به، فاستجمعت قوتها الواهية ثم توقفت أمامه قائلة بصوتٍ مرتعش خائف: يعني إيه إمتى؟ محدش غيرك قرَّب مني.

رد عليها أنس بوقاحة وتبجح: محصلش، روحي شوفي الواد دا ابن مين وابعدي عن سِكتي أنا مش ناقصك.
قالها ثم اتجه عدة خطوات نحو الشُرفة، فهرولت خلفه مُمسكة ذراعه بعنف: أنت اتجننت يا أنس؟ بتبيعني وتخلى بيا بعد ما سلمتك نفسي؟
دفعها أنس جانبًا بقوة ثم واجهها بحقيقتها القذرة بقوله القاسي: كُله كان بمزاجك ومغصبتكيش على حاجة، فأنتِ زي الشاطرة كدا تبعدي عني وتروحي تشوفي مين أبو الواد بدل ما آأذيكِ.

كانت ريماس تستمع إليه باندهاش مُعبق بكراهيةٍ بدأت بالنمو، ابتلعت ريقها بصعوبة ثم خرج صوتها مبحوحًا تقول: يعني. يعني إيه يا أنس؟

طالعها أنس بلامبالاة ثم أخرج لفافة تبغ من جيب بنطاله وقام بإشعالها ببرودٍ تام قبل أن يُجيبها ببرود: يعني حِلي عن دماغي يا ريماس مش ناقصك، والكام يوم اللي قضيناهم سوا انسيهم وامسحيهم من دماغك خالص، إحنا كُنا بنتسلى بس مش أكتر، ولو خايفة أوي كدا روحي نزلي اللي في بطنك ومتقرفيناش.

الصدمة كانت سيدة الموقف، لم تكن ترى خداعه الأيام المُسبقة، حديثه المعسول أعمى بصيرتها عن مكره المُلازم له، حبها له أخفى بشاعته عنها ولم تستشف حقارته إلا الآن، وهُنا خرج صوتها مُتألمًا تسأله ببكاء: يعني. يعني أنت مش بتحبني زي ما قولتلي.
سحب أنس نفسًا عميقًا من عُقب سيجارته ثم زفر دخانه على مهل قبل أن يُجيبها بالنفي: تؤ. مش بحبك. أنا مبحبش غير واحدة بس. وهي حبيبة.

التمعت عينيّ ريماس بنيران الحقد عقب استماعها لاسمها يخرج بكل تلذذٍ من بين شفتيه، ليزداد كُرهها لها دون أن تفعل المسكينة الأخرى أي فعل مشين لأيٍ منهم، وببطئٍ وتوعد أومأت له ريماس بجمودٍ مخيف ثم مسحت وجهها بهدوءٍ شديد من الدموع التي أغرقته، وبعدها اتجهت نحو الخارج بصمتٍ دون أن تضيف كلمة واحدة أخرى.

أحتاجُ لمُعجزةٍ يا الله لأُقاوِم، ألهمني الصبر والتأنِّ في التصرُّف، تلك الأيام تُشعرني بأنِي عجوزٍ لم يعد قادرًا على التحملِ، انحنى ظهري من حُزني، وشاب وجهي من تَالُّمي، ولم يَعُد بوسعي التخطي، متى ستأتي أيام جَبري؟ متى سيحينُ موعد سعادتي؟ إلى أين سأصل وحتى ماذا سأخطو؟ أرجو تحقيق أُمنياتي بعد أن خَطوْت آلاف الأميال وأنا أُحارِب، أرجو انتصارًا يُرفرفُ به فؤادي.

انتهت سهيلة من حِفظ وِردها اليومي التي بدأت به منذ عدة أيامٍ قليلة، الأيام تُهرول، والعُمر يفني، ولا تعلم متى ستموت، لذلك عليها أن تُجهِّز لآخرتها، ستذهب إلى خالقها وكتابها مليء بما يُدخلها أعلى الدرجات والمنازل.

وقفت من مكانها ثم طبَّقت سجادة صلاتها ووضعتها جانبًا، اتجهت بخُطى ثابتة صوب المرآة ووقفت أمامها تنظر لذاتها، كانت ترتدي إسدالها والذي يُغطي جميع جسدها عدا كفيها ووجهها، كم كانت بريئة ومحياها يغلبه الرقة، مظهرها جذاب وهي مُحتشمة وروحها مُفعمة بالراحة والطمأنينة، ابتسمت لذاتها برضا وقررت لأولِ مرة أن تجتاز خطوة كبيرة ستُغير حياتها للأفضل، سترتدي الحجاب وتستر جسدها وخصلاتها عن أعيُن الجنس الآخر، ستُحافظ على جوهرها النقي وتخفي كل فتنتها، وها هي قررت وقُضي الأمر.

استمعت إلى صوتِ جرسِ المنزل يصدح وطرقٍ على الباب بطرقاتٍ مُتجانسة، قطبت جبينها بتعجب فخرجت من غرفتها لتجد عبدالقادر جالسًا على الأريكة أمام لواحظ والأخرى تخفض وجهها أرضًا بخجل، يبدو أن عبدالقادر يُسمعها من الغزل أطنانًا ليتحول وجهها إلى قطعة حمراء من الحرج، طالعتهم سهيلة بسخرية ثم تحدثت بصوتٍ عالٍ لتجذب انتباههم:.

اتقي الله يا أخت لواحظ واعملي لأخرتك يا ستي، قومي صليلك ركعتين يمكن تقابلي بعدهم رب كريم.
ولم تشعر سهيلة بعدها بأي شيء سوى أن حذاء لواحظ يرتطم بوجهها بعنف، تبعه صوتها الغاضب وهي تقول: روحي شوفي نفسك يا بايرة يا قليلة الأدب، هو أنتِ شايفاني عجوزة للدرجادي؟
حكت سهيلة وجهها بألم وهي تُجيبها بتشنج: حاشا لله يا ضنايا، عجوزة إيه بس قولي كلام غير كدا.

قالتها ثم اتجهت نحو الباب الذي مازال يطرق بطريقة مزعجة لفتحه، فوجدت أمامها كُلًا من يمنى وملك يبتسمان لها بطريقة غبية بعض الشيء، وقبل أن تعي لما يحدث؛ دفعتها ملك للداخل بضجر وهي تقول: ياختي ابعدي عن خِلقتي بقى هتفضلي واقفة كدا!

تلتها يمنى تدلف خلفها بملامح حانقة و سهيلة تُطالعهم بغباء من وجودهم، لكنها نفضت كل تلك الأفكار عن رأسها ثم تبعتهم للداخل لترى أنهما واقفتان بعيدًا قليلًا عن عبدالقادر ولواحظ، والذي يتحدث قائلًا بحنان: خلاص يا لولي بقى متزعليش، دي عيلة حقودة ومتغاظة منك يا ست البنات.
أخفضت لواحظ رأسها للأسفل مُتنهدة بيأس وهي تقول: ربنا يسامحها نكدت عليا، أنا مش عارفة قلوب الناس بقت وحشة كدا ليه!

رد عليها عبدالقادر بقوله الحنون: لا عاش ولا كان اللي يزعلك يا لولي، ويلا بقى فُكي التكشيرة دي ووريني ضحكتك الجميلة.
ورغمًا عنها؛ ارتسمت ابتسامة واسعة على فمِ لواحظ وهي تُطالعه بحب، بينما الثلاث فتيات يُطالعونهم بتشنج واضح، وما زاد سخطهم هو إخراج عبدالقادر صندوق كبير مُزين من خلف ظهره ثم أعطاه لها وهو يقول بود: كل سنة وأنتِ طيبة يا ست البنات.
رمقت لواحظ الصندوق بتعجب وهي تتسائل: إيه دا يا عبدو؟

رد عليها عبدالقادر بمشاكسة: افتحي وأنتِ تشوفي إيه اللي فيه.
تناولت منه لواحظ الصندوق الكبير ثم فتحته على مهل وبتروٍ شديد، حتى تهللت أساريرها وهي تتفوه بسعادة بالغة: فانوس رمضان؟
أومأ لها عبدالقادر بالإيجاب وهو يقول مُبتسمًا: أول رمضان وأنتِ معايا فحبيت أجيبلك حاجة مُميزة شبهك.
ردت عليه لواحظ بنظراتٍ مُلتمعة شاكرة: تسلملي يا عبدو، تعيش وتجيبلي ياخويا.
عبث.

نطقت بها سهيلة باستنكار، بينما هزت يمنى رأسها بحسرة وهي تقول: منك لله يا يحيى، إلا ما دخل عليا بسجارتين حشيش حتى!
أيدتها ملك في القول بسخطها: عيني عليا وعلى زهرة شبابي اللي بقت جرجير.
هزت سهيلة رأسها بيأس ثم سبقتهم لغرفتها ولم تتحدث، فهي تعلم كل العلم أنهم سيتبعونها دون أن تأذن لهم وكأنه بيت أباهم أو ما شابه!

وبالفعل لم تمر الثواني ووجدتهم يدخلون خلفها بل ويُغلقون الباب أيضًا، اتجهت ملك نحو الفراش مُتمددة عليه وكذلك جاورتها يمنى بإنهاك، أمسكت سهيلة بالمصحفِ ثم وضعته على الكومود جانبًا، حتى تسنح لها الفرصة بالجلوس أمامهم والتساؤل بتعجب: نسيت أسألكم صحيح، كنتوا جايين ليه؟
ردت عليها ملك وهي تغمزها بمشاكسة: جايين عشانك يا جميل.
قطبت سهيلة جبينها بتعجب وهي تقول: عشاني أنا؟

أومأت لها يمنى بتأكيد قائلة: أيوا عشانك، بقالك كام يوم متغيرة وزعلانة كدا وإحنا سايبينك براحتك عشان منضغطش عليكِ، لكن زعلك طوَّل يا بنت محروس ومش مريحانا.
مسحت سهيلة على وجهها بخفة أثناء زفرتها الضائقة، ثم ردت عليهم بفتور قائلة: ولا حاجة متشغلوش بالكم بيا، أنا كويسة وزي الفُل أهو.

اعتدلت ملك في جلستها ثم سارت بركبتيها على الفراش حتى جاورتها مُحيطة بها من كتفيها بذراعها أثناء قولها المُشاكس: ياض احكيلنا إحنا أصحاب، ومتقلقيش سِرك في بير غويط ملهوش آخر.
قهقهت يمنى بخفة والتي جاورت سهيلة من الناحية الأخرى، ثم أكدت حديث شقيقتها قائلة بمزاح: ملوكة معاها حق يا سو، مالك يا حياتي زعلانة ليه؟

أردفت جُملتها الأخيرة بحنان وهي تُربت على ظهرها، لتدمع عينيّ سهيلة بحزنٍ كانت تُحاول إخفاؤه قدر الإمكان لكنها فشلت في ذلك، نظرت ملك ل يمنى بقلق، فاقتربت من سهيلة تسألها بريبة: مالك يا سهيلة يا حبيبتي بتعيطي ليه؟
ابتلعت سهيلة ريقها بألم قبل أن تهتف بصوتٍ مُرتعش لم تستطيع التحكم به: ع. عائشة صحبتي ماتت.

طالعونها بحزنٍ بالغ ونظرت كلتاهما لبعضٍ بعجز، فلم يكن أمام يمنى سوى جذبها لها واحتضانها بمواساة وهي تقول بحزن: لا إله إلا الله، البقاء لله يا حبيبتي ربنا يصبرك.
مالت سهيلة مُستندة على كتفها ثم أردفت بتحشرج: كنت بحبها أوي، ودلوقتي هي وحشاني أوي أوي ومش عارفة أتخطى فكرة موتها.

ربتت ملك على ظهرها بألمٍ على حالتها أثناء قولها الداعم: حبيبتي ربنا يرحمها يارب، وأنتِ لو عوزتي أي حاجة إحنا معاكِ أكتر من أخوات وأكيد مش هنسيبك لوحدك.
خرجت سهيلة من أحضان يمنى قائلة بإمتنان: ربنا يخليكم ليا، انتوا اللي مهونين عليا كتير.
ضربتها ملك من كتفها قائلة بمزاح: في الخدمة دايمًا يا صاحبي، يكش نقبض على جبر الخواطر اللي ماشيين نوزعه على الكل دا.

ضحكت سهيلة عاليًا أثناء تجفيفها لدموعها التي علقت على أهدابها، وكذلك شاركتها يمنى الضحك وهي تهز رأسها بيأس من جنون شقيقتها، وبعد وقتٍ من الحديث المرح استطاعوا بالفعل إخراج صديقتهم من قوقعة حُزنها التي دُفِنَت بها لأيامٍ عديدة.
وما الصديقُ للصديقِ إلا روحٍ يستند عليها وقت شدته وحاجته، وما كتفه إلا حائط منيع يرمي عليه تعبه عِند ضيقته.

كيف لقلبٍ أن يُخيط مشاعري فيجعل خاصتي مُلازمًا لخاصتكِ؟ سؤال يؤرق منامي ويتعدى حدود عقلي وتفكيري، كما تعديتِ أنتِ أسوار قلبي وحطمتيها، سارقةٌ أنتِ وأنا الذي أحببتُ السرقة بعدما كنت أنبذها، سلبتِ مني منامي وشغلتي فؤادي ووجداني، فيا محبوبة الروح رفقًا بقلبي المسكينِ.

أستندت حبيبة بظهرها على كتف صهيب أثناء جلوسهم أمام المدفأة الموجودة في غرفة نومهم الخاصة، كان صهيب يُداعب خصلاتها الملساء برقةٍ، ومن الحين يُقبلها وكأنه يعتذر عن إحزانه لها دون قصدٍ، فؤاده معها لكن عقله شارد، كان يظن بأنها ستسأله الكثير والكثير من الأسئلة عِند انفرادهم معًا، لكنها خالفت توقعاته عندما التزمت الصمت واكتفت بإغداقه بحنانها الذي يُهلكه، وتلك المرة قرر هو سؤالها عما يُؤرقه وتحرير عقله من أصفاد التفكير المُهلك، حمحم صهيب بهدوءٍ قبل أن يقول بصوتٍ هاديء:.

بيبة. كنت عايز أسألك عن حاجة.
رفعت حبيبة حدقتاها المُشتعلة بنيران اللهب الصاعدة أمامهم، ثم أومأت له مُتحدثة برقة: اسأل يا حبيبي.
ارتسمت ابتسامة لاإرادية على ثُغر صهيب عقب كلمتها المُميزة التي أشعرته بالانتشاء ونسى ما كان يود سؤاله، بل انتهز فرصته في النظر والتطلع إلى محياها الذي سلب لُبه بامتياز.
ازداد صمته وشروده بها مما أشعرها بالخجل، لذلك أفاقته بحديثها الهاديء: صهيب! كنت عايز تسأل عن إيه؟

رد عليها صهيب بهيام: كنت عايز اسأل إزاي عيونك سحبتني وراها زي البهيمة كدا؟
أطلقت حبيبة ضحكات عالية وهي تعتدل في مكانها عقب قوله، ليستفيق على حديثه مُتمتمًا بحرج: قصدي. قصدي كنت عايز أسألك على حاجة مهمة أوي.
ردت عليه حبيبة من بين ضحكاتها: اسأل براحتك.

تلك المرة حمحم صهيب بجدية قبل أن يقول باجتياز: يعني أنتِ مسألتنيش أي حاجة عن نَسَبي ولا عن عيلتي ولا علاقتي ب قاسم وإزاي هو أخويا، يعني كنت متوقع منك أسئلة كتيرة وزعل أكتر، بس أنتِ معملتيش أي حاجة من دي.

ابتسمت حبيبة بخفة ثم اقتربت منه لتستوطن صدره مُجددًا قبل أن تقول برقة: كل دا فكرت فيه بس بيني وبين نفسي، ووصلت إني مش فارق معايا أنت ابن مين ولا تقربلي إيه، أنا حياتي قبلك يا صهيب مكانش ليها لا طعم ولا معنى، أنت الوحيد اللي خَرَّجت روح حبيبة من جواها، حبيبة الإنسانة اللي بتعرف تتكلم وتضحك وتهزر وتدافع عن نفسها، سواء كنت ابن عمي ولا لأ فدا مش فارق معايا، كل اللي فارق معايا لحد اللحظة دي إنك تكون بتحبني بجد ومن قلبك من غير كدب أو نفاق، أنا عانيت كتير من العيلة دي وأنت اللي أنقذتني منهم ومن جشعهم وطمعهم فيا، فبعد دا كله أبعد عنك علشان أنت مش ابن عمي؟

كان صهيب يستمع إليها بفؤادٍ يطرق طربًا وتهليلًا مما هبط فوق آذانه، شعرت هي بمضخاتٍ أسفل رأسها فعلمت تأثير حديثها البسيط على وجدان مسكينٍ مثله، لا تعلم بأن نُطقها لإسمه فقط يفعل به الأفاعيل، فكيف لحديثٍ كهذا أن يكون؟

لم تجد منه ردًا سوى أنه اعتدل في مكانه ثم قرَّبها منه يضمها لصدره أكثر، وهُنا صعد صوته يقول بعشقٍ شديدٍ تملك من جسده: خليكِ عارفة إني هكون موجود معاكِ على طول، وخليكِ عارفة كمان إنك أغلى وأجمل حاجة دخلت في حياتي، صهيب من غير حبيبة مش بيكون ولا هيكون إلا بيكِ أنتِ، وعين صهيب لو مشافتش حبيبة مش هتشوف غيرك، ويا بخت عيني بيكِ.

قالوا أن الطلقات تتطاير من الأسلحة فقط، ولم يروا تلك الطلقات التي تنطلق من شرار عينيه التي تُطالعها بحقدٍ وغضب، وقف آلبرت أمام والدته إيلينا بوجهٍ مُقتضب غاضب، لكن عيناهُ تُحاكي ذلك البرود الذي يُظهره دائمًا، ارتسمت ابتسامة ساخرة على ثُغر إيلينا التي كانت مُكبلة بأصفادٍ حديدية بعد أن تم القبض عليها بواسطة الحكومة الروسية وهي تقول:
ما بِكَ عزيزي آلبرت؟ هل جِئتَ إلى هُنا خصيصًا للتطلع إليَّ؟

احتل ثُغر آلبرت ابتسامة جانبية حاقدة أثناء قوله المُتصنع: أُشفِق عليكِ إيلينا.
ردت عليه الأخرى ببرود: دَعني وشأني واهتم لذاتك، يجب أن تُشفق على حالك وليس عليّ.
مط آلبرت شفتيه باهتمام ثم سار عدة خطوات باردة مُستديرًا حول المقعد، حتى جلس عليه بطريقة مُعاكسة قائلًا وهو يُخرِج الهاتف من جيب بنطاله: حسنًا. لنرى مَن سيُشفق على الآخر بعد رؤية ذلك التسجيل.

قال جُملته ثم أدار شاشة الهاتف لها لترى محتوى التسجيل الذي يتحدث عنه، والذي كان عبارة عن شركة ضخمة يعلوها لافتة كبيرة مُدون عليها بالروسية شركة شيفت للتصدير والتي تخص عشيقها ميلانو شيفت، وما إن انقضت عدة ثواني؛ حتى انفجر ذلك المبنى مُثناثرًا إلى قِطع صغيرة بعد أن التهمته ألسنة اللهب المُشتعلة.

جَن جنون إيلينا عندما انعكس الاشتعال على عينيها الزرقاء الصافية، واحمرت بشرة وجهها البيضاء غضبًا ومقتًا، تابع آلبرت سبابها وحقدها بتشفٍ واضح خاصةً بعد أن نجح في هياجها، لكن هُناك مكان ما بداخله يتألم لحقدها وكرهها له ولأخواته، مكانٌ مُظلم يخص طفولته وضحكاته معها منذ الصِغر، أحس بأن مشاعره ستتغلب على محياه فانتفض من مكانه ثم انطلق نحو الخارج بوجهٍ واجم وفؤادٍ يأن بتألم.

سار عدة أمتار وكان مازال يستمع إلى صراخها وقولها المُتوعد بحقد: سأقضي عليكم آلبرت، أُقسِم أن أحيل حياتكم لجحيمٍ.
ابتسامة مُتألمة ارتسمت على ثغر آلبرت والذي همس لذاته ساخرًا: على أساس لم تفعلي!

هبط آلبرت من المبنى بأكمله ثم صعد إلى سيارته يقودها بسرعة عالية للغاية ظنًا منه بأنه سُيفتت ألامه وغضبه، لكن الهواء كان يصطدم بوجهه مُسببًا اشتعاله أكثر دون أن يدري حتى وصل إلى منزله في وقتٍ قياسي، هبط من سيارته في تمام الساعة العاشرة مساءً تقريبًا، عمَّ الليل والهدوء على المكان لذلك فضَّل الجلوس على المقعد الموجود بالحديقة.

ارتمى عليه مُرجعًا رأسه للخلف بإنهاك، وعيناه تُحدقان في نجوم السماء المُنيرة، فدائمًا ما ينبعث الضوء من الظلام، وبعد الألم يأتي الارتياح، لكن متى سيأتي موعد راحته؟ لقد طال تعبه كثيرًا وملَّ من الانتظار، لكنه رغم ذلك لم ييأس وأضحى ينتظر سعادته المُخبئة أن تأتي مُهرولة إليه، أغمض عينيه باستمتاع من نسمات الهواء العليل التي تضرب بشرة وجهه برقة، مما بثَّ الراحة داخل فؤداه.

لكن هدوءه لم يدوم طويلًا بالطبع، خاصةً في وجود تلك المُصيبة المُدعوة ب مهرائيل، والتي جلست جانبه قائلة بابتسامة واسعة: آلبرت كنت مستنياك، عايزة أحكيلك حاجة ضرورية.
رد عليها آلبرت بهدوءٍ وهو مازال على نفس جلسته: ليس الآن أيها الجرو الصغير.
استشعرت مهرائيل مزاجه الغير رائق فاقتربت منه قليلًا حتى أصبحت مُجاورة لجسده، ثم أردفت بصوتٍ قَلِق: مالك، حصل معاك حاجة ولا إيه؟

لم يُجيبها والتزم حالة الصمت التي تلبسته، لتُنادي عليه مرة أخرى بقلقٍ أشد لا تعلم ما مصدره: آلبرت؟
فتح آلبرت عيناه ثم اعتدل في جلسته ومال برأسه عليها مُستندًا على كتفها، وبيديه الأخرتين أحاط بها من خصرها ثم همس مُتألمًا: أنا مُتعب مهرائيل، أشعر بأن قلبي يكتوي ألمًا.

تصنم جسد مهرائيل بصدمة من فعلته التي باغتها بها، رفعت يدها لتدفعه بعيدًا عنها، لكن وجدت ذاتها تُحيط به تلقائيًا مُربتة على ظهره بخفة، ثم سألته بحنانٍ قائلة: ماذا بِكَ آلبرت؟ شاركني ما يُؤلمك علَّ ألمك يهدأ ولو قليلًا.

ابتلع آلبرت ريقه بصعوبة شاعرًا بتلك الغصة التي تحثه على البكاء عالقة في جوفه، ورغم ذلك لم يتحدث أو يفتح فاهه ولو بكلمةٍ واحدة، لزم الصمت كما اعتاد سابقًا، ورغم وجودها وحنانها إلا أن هذا ذكره بالحنان المحروم منه، أغمض عيناه يُحاول اخراج تلك الذكريات من عقله بقدر المُستطاع، ومع كل ذِكرى تمر أمامه يُشدد من احتضانه لها وكأنه بذلك سينسى مثلًا!

كل ذلك وتلك المسكينة تكاد تنصهر أسفل يديه، لم تعهد ذلك القُرب المُهلك لقلبها من قبل، مهلًا! هل قالت مُهلك! ابتلعت ريقها بتروٍ ثم نادته بصوتٍ مبحوح مُحمَّل بالمشاعر: آلبرت!
همهم بصوت خافت لكنها لم تسمعه، لذلك نادته مرة أخرى بتوتر أشد ظنًا من أنه قد نام على كتفها، ليأتيها الرد منه بخفوتٍ شديد: ماذا؟
ابتلعت ريقها تُجيبه بحرج: أنا جعانة.

شعرت بتصلب جسد آلبرت أسفل كفيها، لتجده قد اعتدل بوجهه بعد عدة ثواني مرت يُطالعها عن قرب، ثم اقترب أكثر طابعًا قُبلة رقيقة على وجنتها أثناء همسه المُغتاظ من بين أسنانه:
فلتذهبي إلى الجحيم أيها الجرو المُزعج.

يتهادى القلب بتدللٍ أثناء رؤيته لمحياكِ، رغبة الفؤاد بالقربِ تزداد يا كُل سُكاني، احتللتِ الوجدان كمُحتلٍ سلب أوطاني، فوقعت أسيرًا يخضع تحت خَدرَ عيناكِ.

كان قاسم يجلس على سجادة صلاته بعد أن قام بتأدية فرض العِشاء، وبالنسبة لتوقيت مصر فإنه أدى فرضه في موعده الأصلي دون تأخر، تربَّع مُمسكًا بمصحفه ثم ظل يقرأ فيه كثيرًا لمدة نصف ساعة تقريبًا، غافلًا عن تلك التي استيقظت تستمع لصوته الشجن وهو يتلو آياته التي تُغدق قلبها راحةً وسَكينة:.

أمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.

كان صوته خاشعًا متصدعًا هاديء يروي قلبها تعطشًا، صدَّق قاسم في قراءته ثم قرر الهبوط لصُنع طعام العَشاء ل أهلة نظرًا لأنها لم تتناول الطعام منذ الصباح، اتجه أولًا نحو فراشها فتصنعت هي النوم مُسرعة، مسد على خصلاتها بحنانٍ شديد ثم انحنى بجزعه على رأسها يُقبلها بحنوٍ بالغ، وكأنها جوهرة ثمينة يخشى خدشها أو أذيتها، وهي بالفعل كذلك!

اعتدل في وقفته ثم عدَّل الفراش مُحيطًا إياه حول جسدها ليُبثها بالدفيء، ثم خرج من الغرفة وهبط الدرج بهدوء، كان المنزل صامتًا كعادته في الفترة الأخيرة، فالساعة قد تعدت الثانية عشر منتصف الليل ومن المفترض ألا يكون من مُستيقظ، اتجه قاسم نحو المطبخ فلمح ظِلًا قادم نحوه، قطب جبينه بتعجب واقترب أكثر؛ ليلمح فور يُمسك بوعاءٍ كبيرٍ من الطعام مليء على آخره وعلى وجهه يرتسم الوجوم واضحًا.

تحول وجه قاسم إلى الجمود عندما رأى فور أمامه، ليُطالعه فور بحذر أثناء تساؤله الخافت: هل. هل تريد شيئًا قاسم؟
تخطاه قاسم ثم تحدث ببرود: مش عايز منك حاجة، روح شوف كنت رايح فين.
سار فور خلفه حتى وصل إلى المنطقة المُنيرة في المطبخ واضعًا طعامه على الطاولة وهو يقول: أعترفت بخطأي، لِمَ أنت مُنزعج مني إذن؟

رفع قاسم أنظاره له يُعاتبه بقسوة: لإن دي مش أول مرة يا فور، حذرتك بدل المرة ألف وقولتلك ابعد عن سهيلة لا هي من طينتك ولا أنت من طينتها، ورغم كدا بتنفذ اللي في دماغك وبتحاول معاها.

تذكر فور المُشادة الكلامية التي حدثت بينهم بعد أن انتهوا من الحديث مع الموجودين بمصر، حينما لاحظ قاسم نظراته المُتلهفة تجاه سهيلة ؛ قام بتوبيخه وعنَّفه بعد أن أنهى فور جميع فُرصه معه، تهدلت أكتاف فور بيأس والذي اعترف أخيرًا بحزن: أنا أُحبها قاسم.

زفر قاسم بضيق مما كان يخشاه، فترك ما بيده ثم اقترب منه واضعًا يده على كتفه يُربت عليه بود، لكن صوته كان مُحذرًا بقوله: عايزها يبقى يا إما تأسلم، يا إما تسيبها تشوف حياتها وأنت كمان تشوف حياتك، ولو حصل وأسلمت يبقى مش علشانها، يكون عشان ربنا أولًا واقتناعك بالدين الإسلامي ثانيًا وعشانها آخر حاجة خالص.

قال كلماته ثم تركه وأخرج الطعام من جهاز تسخين الطعام السريع الميكرويف واتجه لخارج المطبخ عدة خطوات، تبعه فور مُسرعًا بعد أن شرد في حديثه قليلًا ثم وقف أمامه يقطع عليه طريقه قائلًا بإعتذار: حسنًا سأفعل ما قُلت، لكن. لا تحزن مني أرجوك.

طالع قاسم نظراته المُترجية ببرودٍ في البداية، لكن نظراته لانت عندما رأت حُزنه الواضح مُرتسمًا داخل حدقتاه الخضراء، رسم قاسم ابتسامة بشوشة على وجهه ثم أردف بود: مش زعلان يا فور، في الأول وفي الآخر أنت زي أخويا ومش بقدر أزعل منك.
احتضنه فور من كتفه بسعادة مُبتعدًا عن الطعام، ثم أردف براحة وهو يتحسس صدره بسَكينة: آه لو تعلم بأنني لم أذق الطعام اليوم بأكمله بسبب حزني.

تشنج وجه قاسم وهو ينظر لوعاء الطعام المُمتليء على آخره، فأردف بسخرية قبل أن يتركه ويذهب: مصدقك يا ضنايا متحلفش بس.
قالها ثم تركه وهو يبتسم بيأس ثم صعد للأعلى حيث تنام تلك المجهولة بالنسبة إليه!
وضع قاسم صينية الطعام على الطاولة التي تتوسط الغُرفة، ثم اتجه نحو أهلة جالسًا على طرف فراشها مُمسدًا على خصلاتها وهو يُنادي عليها بحنو: أهلة. هولا اصحي يا حبيبتي.

قال كلمته الأخيرة دون أن يعي لما صعد من فمه، بينما هي طرق فؤادها يُهلل طربًا، تململت في نومتها المُزيفة عندما ألَّح عليها بندائه، فاعتدلت جالسة على الفراش بملامح ناعسة، رسم قاسم ابتسامة طفيفة على ثُغره وهو يُشاكسها بقوله: مساء القمر يا قمر.
بادلته أهلة الابتسامة الخفيفة، فوجدته يسحبها من على الفراش وهو يقول: يلا كفاية كسل وقومي كُلي عشان تصلي، بقينا نكسل في صلاتنا يا هانم ها!

قال جُملته الأخيرة بصرامة مُصطنعة، ليغزو الخجل وجهها وهي ترد عليه بصوتٍ خفيض: غصب عني والله النهاردة.
أجلسها على المقعد ثم مال عليها مُقبلًا جبينها بحنان ثم قال ببشاشة: ولا يهمك يا عم، كُلي وخلصي أكلك وقومي اتوضي وصلي المغرب والعِشا.
أومأت له بهدوءٍ وبنظراتٍ مُمتنة، ثم بدأت بتناول طعامها تحت مُشاكساته الدائمة لها والتي تُنسيها همها وحُزنها حتى ولو لبعض الوقت.

انتهت من تناول طعامها ثم دلفت إلى المرحاض للوضوء وخرجت لتأدية صلاتها الفائتة بكلِ خشوعٍ كما علمها قاسم من قبل.
نحتاج في الحياة لشريكٍ صالح يأخذ بأيدينا إلى الجنة، فيكن زوجًا صالحًا في الدنيا، وشريكًا في الآخرة.
قضت أهلة جميع فروضها ثم وقفت من موضع صلاتها، وعندما استدارت وجدت قاسم يرتدي كامل ثيابه ويعلوها معطفًا ثقيلًا ليحميه من البرد، قطبت أهلة جبينها بتعجب وهي تتسائل: أنت رايح فين في الوقت دا؟

غمزها قاسم بمشاكسة وهو يُناولها المعطف الخاص بها: هنخرج.
فرغت أهلة فاهها بدهشة قائلة بعدم تصديق: هنخرج في الوقت دا؟
اقترب منها يُساعدها في ارتداء المعطف وهو يقول بعبث: دلوقتي وفي كل الأوقات يا بيبي.

ضحكت أهلة بيأس على جنونه ثم أغلقت أزرار معطفها وخرجت معه من المنزل بأكمله، ساروا معًا وسط الثلوج والأمطار وهو يُحيط بيدها يمسكها بحماية حتى وصلوا إلى منطقة تُشبه التل، لكن لفت نظرها تلك الأضواء الموضوعة على حوائط التل من الخلف مُزينة بفروعٍ على شكلِ هلالٍ مُضيءٍ لامع، الأمر أشبه بأجواء رمضانية لكن في روسيا!
اتسعت ابتسامة أهلة فاستدارت تسأله بشغف: إيه دا؟

رفع كفه البارد يُحيط وجهها بحنان، ثم أردف بأعين مُلتمعة مُحِبة: مهانش عليا حُزنك فقولت أفرحك.
طالعته بصمتٍ لتجده يُكمِل بسعادة تظهر واضحة داخل صوته: رمضان بيهل علينا وبيجيب معاه الفرحة والأمان، محبتش أحرمك من الأجواء الجميلة دي، فاضل سبع أيام بس رمضان السنة دي هيبقى غير، هيبقى مُميز بوجودك معايا.

رفعت أهلة أنظارها إلى السماء وهي تتنهد بقلة حيلة، ذلك الرجل يُصمم دائمًا على أخذ قطعة غالية من قلبها، أخفضت رأسها مرة أخرى تُطالعه بنظرات عبرت عن كل ما تشعر به دون حاجتها إلى الحديث، لم يعطف على حالتها، بل أكمل حديثه بقوله:
أنا لما كنت بعاند وبقول مش هحب، جيت قُدام عيونك ووقعت من غير ما أحس.

لم يظهر الحديث واضحًا إلى حدٍ كبير، كانت عاجزة أمام كلماته التي صنمت جسدها وأوقفته، أمسك بكفها ثم أجلسها على أحد الصخور وجلس هو بجانبها مُحيطًا بها من كتفها، عجزها كان واضحًا له فتحدث بحنان: قولي كل اللي في نفسك يا أهلة وأنا هجاوبك.
سحبت أهلة نفسًا عميقًا ثم زفرته بثقل فعلم أن هُناك شيئًا تخفيه، لم يرد الضغط عليها أكثر وتركها صامتة كما تشاء، وبعد دقائق قليلة من الصمت خرجت عن صمتها قائلة:.

بحس إني مش مرغوبة.
غريبة، مع إن قلبي راغبك!
طالعته بنظراتٍ راجية وهي تتسائل بريبة:
هتبعد؟
كان على عيني، بس قلبي المُغفل حَبِّك.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة