قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية تيراميسو للكاتبة ميرا كريم الفصل الرابع عشر

رواية تيراميسو للكاتبة ميرا كريم الفصل الرابع عشر

رواية تيراميسو للكاتبة ميرا كريم الفصل الرابع عشر

‏أأدَّعِي أنَّني أصبحتُ أكرَهُهُ؟
‏وَكيفَ أكرهُ مَن فِي الجَفنِ سُكناهُ؟
‏وكيفَ أهربُ مِنهُ؟ إنهُ قَدرِي!
‏هَل يملِكُ النهرُ تغييرًا لمجراهُ؟
‏أُحِبُّهُ، لستُ أدري ما أُحِبُُ بهِ
‏حتَّى خَطاياهُ مَا عَادت خَطاياهُ
(‏نزارقباني).

في المساء كان يجلس شارد بورشته بكل ماحدث بلأمس بملامح حانقة
وبرغم أنه تأكد أن ذلك المقيت تأذت ذراعه من صوت تقطقة عظامه بين يده ولكن ذلك لم يفض غليله منه فهو يستحق أكثر من ذلك ويشهد الله أنه كبح غضبه بصعوبة بالغة كرامةً لها فهو إلى الأن لم يعلم ماهو رد فعلها على ما حدث.

قطع مداهمة أفكاره دخول تلك السيدة البدينة ذات الصيت الشائع التي تدعى عدلات التي ما أن رأها تفتح فمها أغمض عينه بقوة يحاول أن يستعد لطنين أذنه: ازيك يا اسطى إسماعيل يارب تكون بخير جبتلك بقى المرة دي حاجة أيه على الفرازة على الله متكسفنيش زي كل مرة ومتعجبكش ألا أنا ياخويا زهقت كل يوم والتاني جية رايحة على ورشتك ومفيش حاجة عجباك.

تنهد إسماعيل وقال بحرج فهى محقة وليس بأي فتاه أخبرته عنها سابقًا شيء يعيبها ولكن العيب به هو و بقلبه المعطوب ويشعر بالرهبة أن يظلم تلك الفتاه الذي سيقع اختياره عليها دون أدنى حق: حقك عليا ياست عدلات
ومعلش لو تعبتك...
هزت عدلات رأسها بود وقاطعته: تعبك راحة يا اسطى.

لتجلس بمواجهته وتخرج صورة فتاه من حافظة نقودها الصغيرة وتناوله أياها وتسترسل: شوف كدة وقولي رأيك دي بنت الحج فهمي صاحب المحل إلى على أول الشارع أنما أيه جمال وأدب وأخلاق.

أبتسم لها بسمة باهتة لم تصل إلى عينه وهو يتطلع للصورة بفتور ويشعر أن قلبه يصرخ بين ضلوعه يأمره يتغاضى عن الأمر وكأنه يعلن رفضه التام بأشعار نبضه سوى لها، ليصرخ عقله متوسلًا كفى أيها القلب لم أعد أحتمل دقاتك الصاخبة تلك التي تصيبني بالجنون ليمرر يده على وجهه بضيق لينهى ذلك الصراع الدائم بداخله بعدما سيطر قلبه صاحب السلطة الأكبر عليه ويستأنف بحرج تحت نظرات عدلات المترقبة: أنا مكسوف منك ياست عدلات بس أنا بفكر أصرف نظر عن الموضوع او هأجله شوية.

رمقته عدلات شذرًا وتشدقت بتهكم وهي تلوي فمها وتنزع منه الصورة: يظهر أن الكلام اللي بيتقال عليك صح ياسي إسماعيل
تقلصت معالم وجهه وسألها: كلام أيه؟
أخبرته عدلات وهى تنهض: بيقولوا أنك ضربت علاء علشان بتحب بنت نجية ومش قابل عليها الهوا وأنك هتموت وتخدها منه ومتفق مع أمها تطفشوه علشان تجوزهالك
ضرب إسماعيل الطاولة أمامه بقوة وقال بإنفعال: مين دول اللي بيقولوا؟
أكيد علاء مش كدة؟

لترد عدلات بحياد دون أن تأكد له: الكل بيتكلم و كان شاهد على اللي حصل في الشارع
ليزفر إسماعيل بقوة ويبرر بحدة وهو ينهض بعصبية: أسمعي يا ست عدلات الست اللي انتِ بتتكلمي عنها دي هي اللي ربتني وأبنها صاحبي ومأمني عليهم وعمري ما هقبل بكلمة واحدة تمسهم ولو أي واحدة غير بنتهم كانت في نفس الموقف دة كنت هتدخل وهحامي ليها.

لتستطرد عدلات قائلة قبل أن تغادر: انا عارفة انك ابن أصول وشهم بس أنا عملت اللي عليا وقولتك اللي سمعته وانت عارف الناس مش سيبة حد في حاله
وإن غادرت نظر إسماعيل لأثارها بغضب عارم وهويشعر بلإستياء الشديد من القيل والقال ومن ذلك المقيت علاء فلابد أنه هو من يتعمد المساس بسمعتها كي يحافظ على ماء وجهه.

آما في إيطاليا وخصةً عند صاحبة الشعر الناري فبعد
أن قامت بشراء بعض المشتريات لمنزلها دخلت ماهي من باب شقتها التي أصبحت ملجئ له بعد طرد والدته له، أرادت أن تخبر معشوقها أنه أتمت مهمتها على أكمل وجه كما أمرها و لكن لاتقوى على مهاتفه من جديد وأغضابه مثل المرة السابقة، فقد أصبح عقابه لها في الآونة الأخيرة أشد قسوة عن ماسبق.

تنهدت بممل بعدما وجدته يتمدد على أريكتها بحالة يرثى لها وما أن شعر بها أنتفض بقوة وهرع اليها يسألها: أتأخرتي ليه يا ماهي
أنا مش قادر عرفتي تجيبي ولا، لأ
تنهدت ماهي بضجر وناولته تلك العبوة الصغيرة البلاستيكية التي تحوي على تلك المواد المخدرة التي أصبحت تسري بدمائه.

تناولها عز بأيدي مرتعشة وقام بسكب القليل منها على حافة يده واستنشقها بألية مطلقة، ليتهدل جسده بعدها ويرتمي على الأريكة من جديد وهو يشعر بإنتشاء تام لتقول ماهي وهي تضع ما بيدها على طاولة الطعام: وبعدين يا عز هتفضل على الحال دة كتير أنا زهقت
نهض عز وأخبرها بنبرة منكسرة: أسف عارف إني متقل عليكِ أنا النهاردة هرجع بيت ابويا.

لاتعلم لمَ شعرت بالتعاطف معه فهو يذكرها بذاتها كثيرًا عندما تخلت عنها والدتها لتقول وهي تجلس بجواره على الأريكة وتتناول علبة سجائرها وتشعل أحدهم: لأ متمشيش خليك أنت مونسني على فكرة أنا ساعات بقعد بلأيام من غير ما أتكلم مع حد أو اشوف حد
أبتسم عز ببهوت وقال بنبرة متألمة: أنا كمان لوحدي عندي أم وأب وأخت بس طول عمري لوحدي، حتى أبويا كان بيتعمد يبعدني عن شغله وطول عمره شايفني مستهتر وميعتمدش عليا.

ليضيف وهو يستند برأسه على ذراعها: أنا مبحسش إني ليا قيمة ومهم في حياة حد غير معاكِ يا ماهي
أبتلعت هي ريقها ببطء وزاغت نظراتها فرغم أيذائها له ولكنه يظل يعاملها بلطف شديد ويحترم رغبتها ويراها بصورة رائعة لم تكن عليها يوم فهى مدنثة بالكثير بفضل معشوقها، سحبت نفس عميق من سجارتها وقالت: مش يمكن أبوك كان خايف عليك بس بطريقته.

نفى عز برأسه بعدم أقتناع لتستأنف هي بأحباط: تعرف كان نفسي يبقى ليا أب أتسند عليه او على الأقل كان يفهمني الصح من الغلط ويخاف عليا بس للأسف مليش
ليقول عز بنبرة حانية: أزاي ملكيش؟
لترد وهي تشرد في نقطة وهمية في الفراغ: زي ما بقولك أنا طلعت في الدنيا دي لقتني يتيمة
من غير أب وعمري ما حد خاف عليا وحتى امي مكنتش فضيالي كانت ديمًا مشغولة بجوزها.

لتغيم عيناها بعد أن مرت ومضة لحياتها السابقة أمام عيناها وتستأنف بقهر: جوزها القزر اللي كان بيخليني مبعرفش أتنفس حتى في وجوده
لتتنهد بحرقة وتضيف: كان بيمنعني أقفل باب أوضتي عليا وكان كل يوم بليل أحس بصوت نفسه معايا في الأوضة كأنه بيقف يتفرج عليا.

لتتسارع أنفاسها وتستأنف بأختناق كأنها مازالت تشعر بذلك الشعور المميت: كنت بمثل إني نايمةو كنت بترعش وأنا حاسة أن من كتر الخوف قلبي هيقف لغاية ما في يوم حاول يتعدى عليا بس صوت صريخي خلاه يتراجع في أخر لحظة ووقتها أمي ما صدقتنيش وصدقت كلامه هو وراحت رمتني وقتها لعمي في البلد وقالته خد ربيها وبصراحة مقصرش لا هو ولامراتو وجوزوني لراجل متريش معدي الستين سنة.

قالت أخر جملة بسخرية مريرة وبنبرة متألمة لتسحب أخر نفس بسجارتها وتستأنف بسخرية ألعن: تخيل أقنعت عمي إني عايزة أخرب عليها وبجر رجل جوزها
لتقهقه بهستيرية بعدها وكأن أصابها الجنون وتقول من بين ضحكاتها: عارف أيه اللي هيجنني، أنا كان عندي وقتها تلاتاشر سنة، يعني طفلة لسة، بذمتك كنت هغريه ولا أجر رجله ازاي.

لتغيم عين عز الزيتونية التي تشبه لون عين والدته بالحزن تأثرًا بحديثها فهو لم يتوقع أبدًا أن خلف هيأتها تلك الكثير من الألم ليتمعن بها بتعاطف ويسألها من جديد: وبعدين
لتهدء ضحكاتها تدريجيًا بعدما رأت تلك اللمعة بعينه وتستأنف وهي تغير مجرى الحديث بعدما راودها شعور غريب الآن من جهته: بقولك أيه سيبك من الكلام دة و خد شاور كدة وفوق و تعالى نخرج أنا زهقانة وعايزة أرقص للصبح.

رغم فضوله الشديد نحوها لكنه لم يريد أن يضغط عليها وإنصاع لرغبتها ونهض يتوجه إلى المرحاض بينما هي فرت دمعة حارقة من عيناها وهي تنظر لأثره بعدما جعلها تتذكر بعفويته حياتها البأساء السابقة.

في صباح يوم جديد محمل بخيبات الأمل بالقاهرة
استيقظت نجية وهي تشعر بأنقباض قلبها بشدة ولكنها تغاضت و أدت فرضها وتضرعت إلى الله راجية كعادتها تدعو بقلب أم مفتور لأبنائها، وما أن أنتهت توجهت إلى غرفة حلا لتيقظها ككل يوم للعمل ولكن تفاجأت كثيرًا عندما لم تجدها بفراشها لتهرع إلى المرحاض وإلى باقي أرجاء الشقة تبحث عنها ولكن دون جدوى لم تجدها.

لتتمسك بصدرها بقوة وتدعو الله أن يخيب ظنونها، و تتناول مفاتيحها و تهرول بإسدالها التي لم تخلعه بعد
وتتوجه إلى شقة إسماعيل وتطرق بابه بقوة
وما أن فتح لها قالت بعيون غائمة وبنبرة مهزوزة: مش لاقية حلا يا إسماعيل
أنا خايفة وقلبي مقبوض بقالي كام يوم
أبتلع إسماعيل غصة مريرة بحلقه وحاول تهدئتها رغم ثورته الداخلية: اهدي يا أمي ممكن تكون راحت شغلها أو نزلت تجيب حاجة.

نفت نجية برأسها وأخبرته: لأ معاد شغلها لسة بدري عليه وسريرها زي ماهو
ليزفر بضيق ويفرك وجهه ويقول بتوجس وضربات قلبه تطعن به: تفتكري ممكن تكون مع علاء
نفت نجية برأسها مرة آخرى وأخبرته وهي تمد يدها داخل ملابسها وتخرج تلك الدبلة الرفيعة: لأ يابني دي عطيتني دبلتها أمبارح باليل واتفقت أننا ننهي كل حاجة.

مهلًا أيها القلب تماسك وتوقف عن صخبك الآن ولا تأمل بالكثير، ذلك ما كان يدور بذهنه قبل أن يقول بثبات أتقنه وهو يشرع بغلق الباب ويسير معها: خلاص تعالي نتأكد ونروح المصنع يمكن نلاقيها
أومأت له وتتبعته ويكاد قلبها يسقط من بين ضلوعها من شدة القلق.

بحثوا عنها بكل مكان من الممكن أن تتواجد به لكن دون جدوى لم يجدوها وما أن يأست توجهت إلى بيت ذلك اللعين وبرفقتها إسماعيل الذي أصر على عدم تركها
وبعد أن قابلتها والدته بفتور سألتها نجية بلهفة وهي مازالت تقف على أعتاب الباب: فين بنتي،؟
لوت عزيزة فمها بأمتعاض وأجابتها بلؤم: وأنا أيه هيعرفني روحي دوري على المحروسة بنتك اللي دايرة على حل شعرها بعيد عننا.

ليقاطعها إسماعيل برزانة: عيب يا ست أنتِ الكلام دةو حرام عليكِ أنتِ عندك ولايا اتقي الله
صدرت من فم عزيزة صوت ساخر بغيض وتسألت بتهكم: وأنت بصفة أيه محموق كدة يا اسطى
لتقاطعها نجية بدفاع: إسماعيل زي أبني وملكيش دعوة بيه و ردي عليا فين بنتي؟
ضربت عزيزة كف على أخر وقالت بعجرفة متوارثة بتلك العائلة: أنتِ جاية ترمي بالاكي علينا يا ست أنتِ ما قولتلك ما أعرفش.

لتزيحها نجية عن طريقها وتندفع إلى الداخل تبحث عنهالتجد أميمة بأحد الغرف تحتضن أبنائها وتجهش بالبكاء ظنًا منها أن نجية خالفت وعدها وجاءت كي تفتعل شجار مع والدة زوجها ولكن عندما سقطت عين نجية عليها أقتربت منها وربتت على كتفها بحنو شديد وهي تطمأنها بعيناها أن لا تخاف فهى لن تنقض الوعد ابدًا كرامة لها لتبتسم أميمة بأمتنان وتخرج نجية بعدما لم تجد أبنتها بأرجاء الشقة بملامح سيطر عليها اليأس وتقول بوعيد ل عزيزة التي كانت تقف ترمق إسماعيل بنظرات هازئة مستخفة ولكنه كعادته تماسك بهدؤه ورزانته: قسم بالله لو طلع لأبنك يد في غيابها لأوديه في دهية.

وإن همت بالمغادرة قالت عزيزة بصوت جهوري كي تثير الجدل وتوارب الباب تنوي قفله في وجههم: على أخر الزمن، جية تدور على بنتها في بيتي لأ وكمان بتهددني وساحبة وراها الميكانيكي العرة اللي بطفش أبني علشانه
تجمهر الجيران حولهم وتعالت همهماتهم وأحاديثهم الجانبية.

ليشعر هو بفوران رأسه من شدة الغضب ويجز على نواجزه و دون أي مقدمات كان يركل باب الشقة التي كانت على وشك إغلاقه ويهشم نافاذته الزجاجية التي ما أن تساقط هشيمها أنتفضت وتراجعت للخلف بخوف ليقول هو بصوت جهوري منفعل صدر منه كإنذار حريق يطن أذن الجميع وهو يرفع سبابته بوجهها بتحذير: أحترمي نفسك وبلاش تتعدي حدودك وياريت تحطي لسانك جوة بؤك أحسنلك، ولو أنتِ ولا المحروس أبنك فكرتوا تدوسلهم على طرف ولا تجيبي سيرتهم تاني بسوء أنا اللي هقفلكم وهتشوفوا مني وش تاني مش هيعجب حد فاااااهمة ولا تحبي أفهمك بطريقة تانية متعجبكيش لينظر بشمول لتجمهر الجيران ويستأنف بنفس النبرة المنفعلة: والكلام للكل الست نجية زي أمي و أفضالها كتير عليا وقسم بالله اللي هيجيب سيرتها تاني لهقطع لسانه.

حقًا صدقت مقولة أتقي شر الحليم إذا غضب فقد تمكنت تلك السيدة المتعجرفة كأبنها تمامًا أن تخرجه عن شعوره وتجعله يتخلى عن هدوئه ورزانته المعهودة ويستبدلها بهيئة آخرى مخيفة للغاية جعلت عزيزة.

تنظر لهيئته الجديدة برعب تام وهي تكاد تبلل سروالها لتهز رأسها بلإيجاب بجُبن شديد وتتراجع بخطواتها أبعد إلى داخل شقتها وهي تضع يدها على فمها دلالة على أنها لم تفتح فمها بالحديث عنهم مرة آخرى، لتربت نجية على ذراعه بأمتنان وتحاول تهدئته وترمق عزيزة شذرًا وتسحبه من يده ليغادرو ويبحثوا عن حلا من جديد.

لين ردي عليا علشان خاطري.

هدر بها يعقوب وهو يجثو على ركبتيه بجانب فراش المشفى على نفس وضعيته و منذ الأمس لم يفارقها وهي من حينها يآما ساقطة في سبات عميق يآما ممدة وشاحبة كالموتى دون حراك وعيناها ثابتة في نقطة وهمية في الفراغ ليستأنف بضيق: أنا عارف إني غبي ومعرفتش أحميكي منه حقك عليا بس والله هخدلك حقك منه قريب أوي بس ردي عليا يا لين طمنيني بلاش تعملي فيا كدة علشان خاطري، طب أتكلمي قوليلي أيه اللي حصل الزفت دة لمسك أو عملك حاجة، طيب فين يوسف ؟

عند سماع أسمه تحرك بوقبق عيناها ببطء ناحية يعقوب وكأنها الآن فقط تيقنت لوجوده بجانبها لتهمس في ضياع وبنبرة بالكاد تسمع: يو، سف...
لتستأنف تدريجيًا بصوت أوضح ودمعاتها تتساقط دون هوادة وبأنهيار تام وهي يترأى أمام عيناها تلك الومضة الأليمة من جديد: يو، سف، راح يا يعقوب.

وليد، ضربه بالنار قدامي ووقع في البحر، و أناالسبب، أنا كدبت قدامه ونفيت علاقتي بيه، أخر كلام سمعه مني كان بشع اوي يا يعقوب ومعرفش طلع مني أزاي بس كل اللي أعرفه، إني كنت خايفة عليه، وكنت عايزة أقنع وليد يسيبه بأي شكل، أنا السبب، أنا السبب، يارتني موتت مكانه، يارتني ما قابلته ولا حبيتو يارتني ما ورطته معايا، أنا عايز أموت، ليه مسبتنيش أموت يا يعقوب.

كانت تصرخ بحرقة مع كل جملة تتفوه بها وتلتقط أنفاسها بصعوبة أثر شهقاتها الباكية وعند أخر جملة تفوهت بها كانت تحاول أن تنزع الواخز الوريدي من يدها وتحاول النهوض
ليمنعها يعقوب بعدما ضغط على ذر الأستدعاء فوق فراشها وجلس بجانبها كي يمنع حركتها كي لا تتأذى و يحاول تهدئتها و يحتويها بذراعيه القوية و ما أن استكانت قليلًا أخذ يمرر يده صعودًا وهبوطًا على ظهرها بحركة حانية.

وهمهم يحاول أن يواسيها: اهدي علشان خاطري، أنتِ ملكيش ذنب متلوميش نفسك ويمكن يكون لسة، بتر أخر جملة لكي لا يبعث بها الأمل وتخيب ظنونها فلابد أن يتأكد بالأول من خبر موت يوسف ويبدء بالبحث والتأكد، ذلك ماكان يجول بذهنه تزامنًا مع حضور الممرضة ووخزها بحقنة مهدئة بالمحلول الوريدي الخاص بها لتتراخى بين يده تدريجيًا وتسقط في سبات عميق ليعدل هو نومتها ويدثرها بالغطاء ويقول بحنو و بتضحية عظيمة نابعة من صميم قلبه هو يربت على خصلاتها: هتأكد يا لين ولو عايش هعمل المستحيل علشان تبقوا مع بعض.

ليتناول هاتفه ويحادث رجال موثوق بهم من رجاله كي يقوموا بحراسة غرفتها بالمشفى تحسبًا لغدر وليد
وهو ينوي أن يبدء بالبحث حينها.

آما عن تلك صاحبة التفكير السطحي والقرارات المتسرعة.

قد وصلت لتوها إلى مدينة الغردقة بعد مرور أكثر من ستة ساعات بالطريق فقد عزمت النية بعد أن تأكدت أنه سافر بلأمس أن تتأكد بنفسها، تعلم أنها قد اتخذت قرارها بتركه حتى دبلتها أعطتها لوالدتها لتنهي الأمر لكن بعد حديث زوجة أخيه عن زيجته تلك شعرت أن كبريائها كأنثى أهان وبشدة و لم تستطيع كبح ذاتها كعادتها المندفعة وبتفكيرها المحدود أن تتقبل الأمر بل عزمت أن تتأكد بنفسها فمازال قلبها اللعين رغم كل شيء يرفض الاستيعاب بعد، فقد استغلت نوم والدتها وأخذت بعض النقود من خزانتها وتسللت مع ظهور أول خيوط النهار، وبعد أن وصلت إلى وجهتها سألت واستعلمت عن مكان الفندق اللي يعمل به والتي أخبرها عنه سابقًا ثم توجهت إلى هناك وما أن وصلت أخبروها أنه بأجازة مرضية نظرًا لتعرضه لكسر ذراعه وأخبرها أحد زملائه أنه رأه هنا بالبلد واخبرها أنه قلما ما يمكث بالسكن في الآونة الأخيرة ولا أحد يعلم أين يبيت معظم لياليه وكاد اليأس يتملك منها من حديثهم إلا أن أخبرها أحدهم أنه يتردد بأستمرار على ملهى ليلي بالقرب وأعطاها العنوان، ودون ادنى تفكير منطقي توجهت إلى هناك وعند وصولها علمت أن المكان يعمل فقط بعد حلول الليل لتبتعد قليلًا وتجلس على أحد الأرصفة تنتظر أن يسدل الليل ستائره و هي تدعوا ربها أن يخيب ظنونها.

أحرقي في غُربتي سفني، لأنّني أقصيتُ عنْ أهلي وعن وطني وجَرعتُ كأسَ الذُّلِّ والمِحَنِ.

فها هو الهائم بلا مأوى الذي لم يحظى يومًا بحق الإنتماء مازال يشعر بتلك النيران المندلعة بداخل جسده المتهالك تتأجج أكثر فأكثر و برائحة الموت عالقة بأنفه و بقلبه المدمي يأن بين ضلوعه يناجي بخلاصه فقد اكتفى خيبات أمل وليس لديه أي رغبة بالعيش ولا شغف للحياه بعد الآن، ترى ما حدث هل مازالت الحياه تعانده وتذيقه ويلاتها، ترى ألم تكتفي بعد، أم مازالت تخبىء له الكثير.

فراش ضيق يعتليه جسده الساكن والمنهك للغاية و يجاوره رجل عجوز غزى الشيب رأسه يتدائب هو وخادمه بلأعتناء به بعد إنتشاله من الماء أثناء رحلة صيدهم المعتادة، فقد قام ذلك العجوز الذي له أسبقية بممارسة الأمر أن ينزع تلك الرصاصة الغادرة من جسده الذي لحسن حظه الغير مسبوق بالمرة أن الإصابة ليست بمقتل وحالته لم تكن خطيرة لحد كبير
صدرت منه أنة ضعيفة متألمة بين الوعي ولا وعي تهمس بأسمها: ل، ين.

جعلت ذلك العجوز يتنهد بآسى على حالته فهو لا يكف عن الهمهمات والمناجاة بنفس الأسم أثناء رقدته ليتناول قطعة من القماش المبلل ويضعها على جبهته المتعرقة بشدة أثر حرارة جسده الغير منتظمة بالمرة
دخل عليه خادمه الذي لا يقل عنه بالعمر وهتف: سيدي ألا ترى أن من الصواب أن نخبر الشرطة بما حدث.

أعتدل روبرتو بجلسته وأخبره بنبرة واثقة: من تمتمته بذلك الأسم المتكرر، أيقنت أنه عربي وذلك يفسر أننا لم نجد أي أوراق بحوزته فيبدو أنه لاجئ وأنت تعلم جيدًا إنني لن أثق بكافة أفراد الشرطة ولا بسياستهم، واظن انه متورط بأمر كبير دعنا ننتظر أن يسترد وعيه وحينها نقرر
هز خادمه رأسه وقال بود: أعلم أن للعرب معزة خاصة بقلبك ربما لأنهم يتحدثون نفس لغة ماري.

ليغمض روبرتو عينه بآسى ويقول معاتبًا كي يغير مجرى الحديث: كفى أيها الخرف ثرثرة وأذهب أعد له بعض الطعام ليساعده على استرداد عافيته
لينصاع له ويذهب بينما ظل روبرتو يستمر بعمل الكمادات الباردة لجسد ذلك البائس الهائم في ملكوت أخر يهلوس بإسمها.

عودة آخرى لأرض الوطن
أسدل الليل ستائره القاتمة لتكسو الأجواء كآبة في منزل نجية صاحبة القلب المفتور على أبنائها آما عن إسماعيل فهو كاد أن يصيبه الجنون وهو يبحث عنها هنا وهناك وبكل مكان من الممكن أن تتواجد به لطيلة اليوم وحتى أنه توجه مع والدتها إلى قسم الشرطة بتقديم بلاغ عن اختفائها لكن اخبروه أن لا يجوز إلا بمرور أربعة وعشرون ساعة على اختفائها.

وما أن يأس توجهوا إلى المنزل من جديد وهم يأملو أن يجدوها قد عادت إلى هناك، أرتمت نجية على أحد المقاعد القريبة تنتحب بقوة وهي تنعي حالها و تشعر بألم حاد بصدرها مرافق لها منذ عدة أيام ينبأها أن أمر سيء قد يحدث بينما حاول إسماعيل مواستها وطمأنتها برغم أنه هو ذاته القلق ينهش به وتدور برأسه الكثير من الهواجس ومن أهمها أن يكون ذلك المقيت علاء قام بإذائها أو التعرض لها من جديد وعند وصول أفكاره لتلك النقطة شعر بفوران رأسه وأنه على وشك أن يفقد صوابه وقبل أن يقترح أمر سفرهم إلى محل عمل ذلك المقيت تعالى رنين الهاتف الأرضي لتتنبه كافة حواسهم بتأهب ويندفع إسماعيل ليرد وما أن استمع لنبرة صوتها الباكية المستنجدة من الطرف الأخر وقولها نبذة مختصرة عن ما حدث تجهمت ملامحه بشدة وجز على نواجزه وزاد ضغطه على سماعة الهاتف بقوة حتى أبيضت مفاصل يده وتهربت الدماء منها من شدة الإنفعال، هرعت.

نجية إليه بخطوات واهنة وتسألت بقلق: خير يا ابني
أجابها إسماعيل بأنفاس ثائرة من شدة الغضب تزامنًا مع وضعة لسماعة الهاتف: حلا في القسم مقبوض عليها.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة