قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية تيراميسو للكاتبة ميرا كريم الفصل الثلاثون

رواية تيراميسو للكاتبة ميرا كريم الفصل الثلاثون

رواية تيراميسو للكاتبة ميرا كريم الفصل الثلاثون

ما النسيان سوى قلب صفحة من كتاب العمر، قد يبدو الأمر سهلاً، لكن ما دمت لا تستطيع اقتلاعها ستظل تعثر عليها بين كل فصل من فصول حياتك.

كانوا يجلسوا جميعهم على طاولة واحدة ويتبادلوا أطراف الحديث التي كانت تشاركهم بها لين وهي تشعر بسعادة متناهية فتلك أول مرة تشعر بتلك الأولفة والدفء بجوار عائلة حقيقية لا يشغلهم أي شيء من أطماع الدنيا، سوى محبتهم و الود الذي يغدقون بعض
به، أنتشلها من حالتها تلك صوت دافء رخيم أرجف كل خلية بها وجعل ضربات قلبها التي كانت غافية منذ سنوات تتراقص بشكل جنوني للغاية
أسف ياجماعة على التأخير.

هتف بها هو برسمية شديدة عندما حضر لتوه بطلته التي تخطف الأنفاس وهيئته الشامخة الواثقة التي أكتسبها مأخرًا
أبتلعت ريقها ببطء شديد وهي تلتفت برأسها ترى صاحب ذلك الصوت التي تقسم أنه يخص أول و أخر شخص بذلك العالم تفتقده بشدة.

مهلًا، ليس هو أنا فقط أهزي، نعم أنا أهزي لا محالة، أنا فقط أتوهم الأمر، لأني أفتقده، فذلك الشخص الذي يقف أمامي هيئته بعيدة كل البعد عن هائمي، لا أقسم أنه هو، هو فقلبي يشعر به و يتراقص بحضرته كما السابق
ظلت نظراتها معلقة عليه بشدوه تام وهي تشعر أنها ستفقد صوابها، لتهمس بلوعة حارقة وبصوت ممزق خفيض للغاية لم يصل لأحد بسبب تقطع أنفاسها وعصيان قلبها الذي أراد ان يصرخ هو بأسمه بدلًا منها:
يوسف.

حانت منه بسمة غريبة وهو يرشقها بطرف عينه بنظرة باردة لا مبالية ألمت قلبها ولكنها لم تستوعب شيء مما يحدث سوى أن هائمها و أمانها السابق وسبيلها لعنان السماء يقف أمامها ومازال على قيد الحياه. كادت تنهض ترتمي بأحضانه وتخبره كم عانت من دونه وكم قاسى قلبها من ويلات الفراق، حتى أنها لملمت شتاتها بصعوبة بالغة وكادت تستند على مقعدها لتنهض.

لولآ أنه مد يده نحو ميان التي تجلس بجوارها وتتقن دور الدلال ليقول بثبات وهو يجذبها إليه: علشان خاطري متزعليش أخر مرة أجتماع مفاجئ هو اللي أخرني
تناوبت نظراتها بينهم وهي تشعر أن الأرض تدور بها وأن كل ما يحدث الأن ليس إلا تهيئات مزعجة يصعب عليها استيعابها أو حتى تتخيل حدوثها بأسوء كوابيسها.

لتضع يدها على خافقها الذي ظل يعتصر بين ضلوعها وهي تشعر بألم حاد يجتاحها عندما تعلقت ميان بعنقه وأخبرته ببسمة واسعة: خلاص سامحتك يا جو بس أعمل حسابك هتصالحني وتاخد أجازة علشاني وتوديني أشوف اللا الجديدة
أومأ لها برحابة وببسمة ودودة لتسحبه هي من يده وتقول بحماس: تعالى أعرفك على لين أختي.

رفعت لين نظراتها المتألمة له ما أن أقتربوا منها ومد يده بملامح ثابتة وعيون باردة وكأنها لم تعد تنبض بالحياه وكأن الدفء الذي طالما سَكن عيناه وشملها به قد أندثر إلى الأبد وأصبح لا وجود له،.

لتنهض بقدمان متراخية وكأنهم يرفضوا حملها ومدت يدها المرتعشة كي تحيه وهي تشعر أنها على وشك فقدان وعيها، لوهلة تلامست أناملهم وكأنها شرارة حرب نشبت لتوها بين قلبين ذاقوا الكثير من الويلات وخيبات الأمل ولم لا وهم غافلين عن كم التضحية التي بذلها كل منهم من أجل الآخر، غامت عيناها تحت نظراته الثابتة التي يغلفها البرود وشعرت بأن كل ما حولها يدور بها، عندما قالت ميان بخفة كي تعرفهم:.

دة الباش مهندس يوسف كمال صاحب شركات Y. R و المُز بتاعي
لتحمحم وتعدل حديثها ما أن ضربتها فريدة بخفة على ذراعها وأنضمت لهم: قصدي خطيبي، لتتأبط ذراعه وتقول تحت نظرات لين المشدوهة: بس دة ميمنعش أنه المُز بتاعي برضو ياماما
هزت فريدة رأسها بلافائدة وقالت بود ترحب ب يوسف الذي كان يتحاشى النظر لتلك التي تحتضر وهي تحاول الثبات والصمود بوقفتها:
أهلًا يا يوسف نورت ياحبيبي، أتفضل أقعد.

أومأ لها بلطف ولم يكلف خاطره حتى ان يرمش بعينه نحوها وجلس بجانب ميان على الطاولة آما هي ظلت تتناوب النظرات بينهم بضياع تام لتسترسل فريدة بقلق وهي تقترب منها:
مالك يا لين أنتِ كويسة
أغتصبت بسمة على ثغرها بصعوبة بالغة وقالت بِوهن وهي تمسد جبهتها: بعد أذنك يا ماما أنا حسة إني مصدعة أوي وعايزة أرتاح.

أومأت والدتها بتفهم وهي تراقب نظرات لين الغريبة إليه التي تقسم أنها تحمل بطياتها شيء يصعب عليها فهمه مما جعلها تعقد حاجبيها وتتطلع ل يوسف الذي كان يتعامل بشكل طبيعي للغاية دون ان يعير نظراتها أي أهتمام لتتنهد بحيرة وتربت على ذراعيها سامحة لها بالمغادرة، لتسير هي إلى غرفتها بخطوات مهزوزة تاركة فريدة تستغرب بشدة ما حل بها وتحث مارسيل أن تلحق بها لتطمئن عليها.

تعثرت لعدة مرات وكادت تكتفي على وجهها وهي تصعد الدرج المؤدي لغرفتها
مما جعل مارسيل تقبض على ذراعها كي تدعمها وتقول بقلق: لين مالك أنتِ مش كويسة انا هجيبلك دكتور
نفت لين برأسها بِوهن وهي تضع يدها على خافقها الذي يعتصر بين ضلوعها وهمهمت بضياع وهي تستند عليها: أنا كويسة متقلقيش بس ممكن توصليني لأوضتي
أومات لها مارسيل وسارت معها إلى غرفتها وهي تستغرب أيضًا ما حل بها.

لتشكرها لين بود ما أن أوصلتها على أعتاب الغرفة واستأذنت منها ودلفت إلى الداخل وما ان أغلقت الباب وأصبحت بمفرها استندت على باب الغرفة بظهرها ثم دون أي مقدمات شهقت ببكاء مرير يقطع نياط القلب،.

القلب الذي تألم بما يكفي ولم يعد لديه طاقة للمزيد، فحقًا لما يعاندها القدر لذلك الحد إلا يكفي ما نالته من عذاب هل مازال القدر يخبئ لها المزيد، تقسم انها الأن لاتريد شيء سوى الموت، الموت التي ظنت أنه أخذه منها فرؤيته مع غيرها أشد منه ألف مرة و راحة لأمثالها المعذبون.

هزت رأسها بهستيرية كي تنفض تلك الأفكار السوداوية عنها وهي مازالت تضع يدها على خافقها تحثه على الصمود لتنزل بجسدها تدريجيًا وتجلس بِهوان شديد تحتضن جسدها وكأنها الوحيدة التي تستطيع أن تواسي نفسها المعذبة.

توقفت السيارة بها هي وصغيرها أمام تلك البناية الفخفة التي يملكها زوجها وشقيقها بأكملها داخل ذلك الحي الراقي التي انتقلوا إليه منذ سنة ونصف بعد تحسن حالتهم المادية بفضل عمل إسماعيل بمعرض السيارات مما جعلها تقنعه ان يتخلصوا من ورشته ومن شقته وشقة والدتها لينتقلوا إلى هنا فنعم تحقق ذلك الحلم البعيد التي طالما طمحت به وهو الأبتعاد عن منطقتهم الشعبية والأنتقال إلى مكان أفضل،.

صعدت الدرج وهي تحمل الصغير وتتوجه لشقة والدتها التي تقطن بها هي و يوسف حاليًا، لتدخل مهرولة ما ان وجدت والدتها تستقبلها وتناولها الصغير بعجلة شديدة وتقول بتوجس وهي تجول المكان بعيناها:
ماما إسماعيل جة
نفت نجية وهتفت توبخها: لأ لسة مجاش، أكيد عملتي مصيبة زي عوايدك مالك متلخبطة ليه، وكنتي فين من الصبح؟

زفرت حلا بإرتياح وقالت وهي ترتمي على أحد المقاعد: كنت في عيد ميلاد ابن مارسيل وهو قالي بلاش تروحي علشان يوسف الصغير وشقاوته و كمان علشان المربية بتاعته أجازة و هو عارف ان ابنه مش بقدر عليه لوحدي من غيرها
لترفع منكابيها وتستأنف بتعند: بس كان لازم أروح وإلا كان هيحصلي حاجة، بس أيه يا ماما حفلة حلوة أوي من جمالها سرحت وابن اللذينة دة ملقتهوش جنبي.

شهقت نجية بقوة ونهرتها بحدة: يالهوي ملقتهوش جنبك أزاي راح فين؟
قهقت حلا واسترسلت: اه والنعمة اختفى فص ملح وداب بس الحمد لله لقيته مع حتة بنت بغمزات زي القمر قاعدة تلاعب فيه كأنه ابن اختها
لتتنهد نجية وتقول بِنصح: يا بنتي بطلي استهتار واسمعي كلام جوزك مش عايزين مشاكل الله يخليكِ
رفعت حلا حاجبيها بكل ثقة وقالت وهي تنهض تتناول تفاحة من طبق الفاكهة وتقطم منها بلامبالاه:.

إيسو حبيبي ميقدرش يزعلني وبعدين ما أنتِ اكيد مش هتقوليلو إني رُوحت ولا أن ابنه ملقتهوش وقعدت أدور عليه، والموضوع هيعدي
نفت نجية برأسها بعدم رضا وكادت تنهرها وتخبرها أن لا يصح أن تخفي على زوجها لولآ صوته الذي رج أعمدة المنزل وجعل عين حلا تتسع برعب وتغص بقطعة التفاح التي بفمها
يعني رُوحتي برضو يا حلا وكسرتي كلامي...

هتف بها بحدة وبملامح صارمة للغاية بعدما دلف من الباب التي تناسته هي و وقف خلفها مما جعلها تلتفت له و تتلعثم وهي تتراجع للخلف: اهدى بالله عليك وانا هفهمك دة انا لسة بقول ل ماما إيسو عاقل
أختصر المسافة بينهم بخطوة واحدة وقال بجديدة شديدة أمام وجهها: عاقل أنتِ خليتي فيا عقل
أنتِ ليه مش بتسمعي الكلام
انا قولتلك متروحيش صح
رفعت عيناها له كَجرو وديع
وأومأت له بنعم.

ليستأنف هو بحدة: يعني غير أنك عصيتي كلامي كنت هتضيعي الولد، لأ وكمان كنتِ ناوية تكدبي عليا
نفخت هي أوداجها وصاحت بتذمر: يوووه بقى ما انت عارف أن المربية بتاعته هي اللي كانت بتاخد بالها منه لما بنخرج بيه وابنك شقي
ضرب كف على آخر بعدم رضا وقال بحدة: علشان نفس السبب قولتلك متروحيش، بس أنا اللي غلطان إني طاوعتك وخليتك تجيبي مربية و تستهتري و تعتمدي عليها.

دبت حلا قدمها بلأرض بسخط وكادت ترد عليه لولآ أن نجية رشقتها بنظرة محذرة وتدخلت و هي تحيل بينهم:
معلش حقك عليا أنا يابني والله اخر مرة لو كررتها تاني أنا بنفسي هقطم رقبتها
زفر بضيق وقال موجه حديثه ل نجية: أنتِ على راسي يا امي بس بنتك خلاص طيرت البرج الفاضل في نفوخي
لتربت نجية على صدره تحاول تهدئه وتراضيه، ليغمض عينه بقوة ويومئ لها بتفهم وهو يقبل هامتها ثم.

خطى نحو الباب وقال بصرامة وهو يوجه حديثه لزوجته: عشر دقايق تجيبي ابنك وتبقي فوق
هزت حلا رأسها بطاعة بينما تنهدت نجية وأمرتها بحدة وهي تناولها الصغير الذي غفى على ذراعيها لتوه: جوزك عنده حق، هي الأم يبقى أيه دورها لما تجيب واحدة تراعي عيالها بدالها بس أقول أيه القول ضايع معاكِ واللي في دماغك في دماغك يا موكوسة، و يكون في علمك دي اخر مرة أدافعلك ويلا اطلعي شقتك وراضي جوزك.

تنهدت حلا بسأم من توبيخ والدتها المعتاد و تفكيرها البدائي الذي لم يتطور بعد خروجهم من تلك المنطقة الشعبية المعدمة فلابد أن تواكب حياه الطبقة المخملية تلك التي أصبحوا ينتموا لها، مثل هؤلاء الذين طالما سمعت عنهم وطالما طمحت أن تكون محلهم في السابق، لتكتفي بهز رأسها فلا طاقة لديها بمجادلة والدتها وتغادر دون ان تتفوه بشيء تاركة نجية تنظر لأثرها و تدعو لهم بصلاح الحال.

تمدد على فراشه و وضع كلتا كفيه تحت رأسه وشرد في سقف الغرفة بعدما نزع قميصه وقذفه على الأرض بعصبية وهو يشعر أنها تكاد تصيبه بالجنون، ثواني معدودة ودلفت للغرفة بعدما وضعت الصغير في غرفته، هي تعلم كيف ستراضيه فطالما كان قلبه بنصاعة الثلج و حتى غضبه لايدوم كثيرًا، لتهمهم وهي تنزع حجاب رأسها وتتمدد على جنبها بجانبه وتسند على أحد ذراعيها: حقك عليا يا إيسو مش هعمل كدة تاني.

تنهد وهو يرمقها بطرف عينه البندقية ولم يعطيها أي أهتمام لتستأنف هي: ميهونش عليا زعلك
لتمد اناملها تداعب شعيرات صَدره وتقول بدلال تعمدته: أنا عارفة أنك بتموت فيا ومش ههون عليك، خلاص بقى، آخر مرة أكسر كلامك
بس أنت عارف لو مكنتش روحت كانت ميان هتزعل و مارسيل وبعدين أنا مقعدتش كتير وجيت جري علشان وحشتني.

ضيق عينه فهو يعلم تمام المعرفة أنها ماكرة و تستغل حبه لها و تتخذها نقطة ضعف له ولكن هل يمكن أن يقاوم أمامها تلك المتمردة التي يقسم أنه يعشق حتى الأرض التي تخطوا عليها
لتبتسم في ثقة فهي تتفهم تلك النظرة كثيرًا وتعلم انها تستطيع التأثير عليه لتميل ببطء وتضع قبلة رقيقة على وجنته وتهمس بدلال مفرط:
مش هعمل كدة تاني.

تثاقلت أنفاسه و لم يصدر منه أي رد فعل تذكر مما جعلها تقترب من فمه وتضع عدة قبلات خفيفة وتهمس من بينهم بإغواء مهلك لرجولته الطواقة لها:
بحبك يا إيسو علشان خاطري سامحني
تنهد بنفاذ صبر بعدما سقطت كل دفاعته نحوها
وفي لمح البصر كان يجذبها ويدور بها على الفراش ليصبح موقعها أسفل جسده، ليقول بصدق وبنبرة صارمة وهو يزيح خصلاتها التي تناثرت على وجهها:.

رغم إني عارف أنك بتستغلي حبي ليكِ غلط بس أعمل أيه بحبك يا مجنونة وبَعدي وبغفر بمزاجي بس خلي بالك أن ليا طاقة...
أبتسمت هي بإتساع وتعلقت بعنقه وأخذت أناملها طريقها لخصلاته القصيرة تعبث بها بطريقة حثية كادت تفقده صوابه وتأجج رغبته بها أكثر ولكنه تماسك كي لا يشعرها بلإنتصار عليه ككل مرة واستأنف بنبرة محذرة:
في حاجات لو اتكررت تاني يا حلا أنا مش هتهاون معاكِ فيها، قطع كلماته المحذرة عندما جذبته هي.

من عنقه وأطبقت بشفاهها على خاصته وأخذت تقبله بجموح تام تعلمته منه، كي تجعله يكف عن تأنيبها وتنسيه الأمر فيبدو انها تعلم أن تلك الطريقة تجدي نفعًا معه.

آما عنه فقد غادر الحفل بعد بعض الوقت وها هو يقف يستند على حافة سيارته الفارهة من أعلى هضبة بالقاهرة (المقطم )
ينظر إلى تلك الأضواء البراقة الباهرة من بعيد وهو يشبهها بحياته التي طالما كانت خادعة تجذب الأنظار بشدة وعندما تقترب لن تجد بها شيء مميز سوى الثبات والغموض والصلابة التي تثير فضول كل من حوله و أصبحت تلازمه بالسنوات الأخيرة فحتى الحديث أصبح مقل به وكأنه فقد بعد كل ما حدث شغفه بالحياه.

تنهد بعمق مميت وهو يضع يده بجيب حلته السوداء الأنيقة للغاية وظل يتذكر هيئتها عندما تفاجئت به،.

أبتسم بمرارة لا يضاهيها شيء وأغمض ناعستيه بقوة وكأنه يريد أن يزيح صورتها التي يظن انه أصبح يمقتها من أمام عينه، فنعم كل شيء تغير الآن ولم يعد ذلك الهائم الضائع الذي يتكبد العناء من أجل قوت يومه بل أصبح شخصً آخر صلب ذو مكانة عالية يملك أكبر شركة لتصنيع السيارات بالبلد وصاحب علامة تجارية مميزة خاصة به، ولم لا بعد كل ما مر به، ليعود بذاكرته قليلًا ويتذكر ما حدث منذ ثلاث سنوات.

فبعد أن زار وليد بالمشفى من ثلاث سنوات غادر نابولي برفقة روبرتو
وخادمه وتوجهوا إلى عدة بلاد آخرى بعدما تدبر روبرتو كافة الأوراق اللازمة بشأنه.

وبعد مرور سنة قضاها يوسف في ملازمة روبرتو ليل نهار في خدمته بكل إخلاص وتفاني دون أي كلل منه، حتى أصبحت علاقتهم وطيدة للغاية كَأب وأبنه فطالما شعر يوسف بلأمتنان لمساعدته الكثيرة له ويقسم أنه كان يفديه بروحه دون لحظة تردد واحدة لولآ أن الله أصطفى روح روبرتو من بين كافة عباده و توفاه بعد معاناة طويلة مع المرض ليتفاجئ يوسف أنه أوصى بنصف تركته الطائلة له بالمناصفة مع ذلك الخادم الأمين، لا ينكر أنه تفاجئ كثيرًا حينها وخصةً أنه لم يكن لديه العلم مسبقًا مما جعله يحزن على فراقه أضاف مضاعفة بعد موته، ولكن لملم شتات أمره وعزم أن يعود لبلده بعد شهور قليلة استغلها هو في التعلم واكتساب بعض الخبرة كي يخوض بذلك المجال الذي طالما برع به بحكم دراسته الميكانيكية بكلية الهندسة، وفي وقت قصير جدًا بعد عودته تمكن من أثبات ذاته فقد أنشأ مصنع كبير في نفس مجاله وحقق أرباح مجزية للغاية في وقت قصير، نسمة هواء عليلة أنتشلته من شروده، ليتناول نفس عميق يملأ به رئته.

ويمرر يده بخصلاته البُنية الطويلة نسبية التي تطايرت بفعل الهواء ويصعد مرة آخرى إلى سيارته وهو يحفز نفسه للقادم.

كانت تتضرع إلى ربها وقت أذان الفجر عندما وصل هو لتوه لتنهض من على سجادة صلاتها بعدما أنهت فرضها وتقول بقلق:
كدة يا يوسف تتأخر كل دة وتقلقني عليك
تنهد يوسف وأخبرها بنبرة هادئة: حقك عليا يا ماما لفيت شوية بالعربية ومحستش بالوقت
لتعقد نجية حاجبيها وتسأله بتوجس: يبقى في حاجة شغلاك يا حبيبي
حانت منه بسمة هادئة وأجابها بكل ثبات: متقلقيش يا ماما انا كويس ومفيش حاجة تقدر تشغلني.

أومأت له نجية بود وسألته من جديد: روحت عيد الميلاد يا حبيبي
هز رأسه بنعم لتستأنف هي: وخطيبتك كويسة واهلها كويسين
زاغت عينه لوهلة بعدما ترأى امام ناظريه صورتها من جديد و قال بإقتضاب وهو يدلف لغرفته ويجلس على الفراش يشرع في نزع ملابسه:
كلهم كويسين بيسلموا عليكِ
ليبتلع غصة بحلقه ويخبرها: مامت ميان طلع عندها بنت من جوزها الأولاني وعرفتني عليها النهاردة.

أبتسمت نجية وتسألت بفرحة: بجد أخيرًا لقت بنتها ربنا يسعد قلوبهم يارب فريدة طيبةوتستاهل كل خير
إلا قولي بنتها حلوة كدة زي ميان
أبتلع غصة بحلقه وقال بحدة لم يعلم سببها وهو ينهض وينزع سترته: وانا مالي حلوة ولا وِحشة متكون زي ما تكون
عقدت نجية حاجبيها وهدرت وهي تربت على ظهره بحنان: مالك بس يا حبيبي اتعصبت ليه كدة، هو أنا قولت حاجة
التفت لها يوسف وقال بنفاذ صبر و بملامح مكفهرة: ماما لو سمحتي سبيني لوحدي.

تنهدت نجية بحزن على حال أبنها الذي أصبحت اطباعه غريبة لا تتفهمها بعد عودته وخرجت من غرفته تاركته يجلس مرة آخرى على الفراش بعصبية وهو يمرر يده على وجهه في محاولة بائسة منه كي يستعيد رباط جأشه.

صباح يوم جديد مليء بالمصادمات فقد.

توقفت بسيارة الأجرة أمام شركته بعدما استعلمت عن عنوانها مستغلة تفوه ميان بأسمها بلأمس، تدلت من السيارة وظلت تتأمل تلك اللافتة الضخمة التي نقش عليها أسم شركته Y. R بأنبهار تام لذلك الصرح الهائل الذي يملكه وظلت تتسأل كيف توصل لتلك المكانة بهذا الوقت القصير ظلت العديد من التساؤلات تداهم عقلها ولكنها قررت ان تحصل على إجابات وافية منه لكافة تساؤلاتها التي تكاد تطيح بعقلها بينما على الصعيد الآخر.

كان يجلس بشرود تام يتطلع لذلك الحائط الزجاجي بداخل مكتبه لتدخل إليه سكرتيرته بخطوات متزنة وهي ترتدي بنطال قماش وسترة كلاسكية طويلة بأكمام تتناسب تمامًا مع حجاب رأسها وتقول وهي تضع المستندات بيدها أمامه:
مالك يا يوسف من ساعة ما جيت وأنت سرحان
تنهد هو وأجابها بثبات أصبح ملازم له: مفيش حاجة سلامتك.

لينظر إلى الورق ويقول برسمية وهو يضع أمضائه على أحدهم: الشركة الإيطالية اللي اتعاقدنا معاها تروج للعلامة التجارية بتاعتنا هناك، شرط من شروطها انها ترشح لينا حد يتولى امور الشحن ومندوبهم هيوصل كمان كام يوم
أومأت بتفهم وتسألت: تحب أستفسر عن الموضوع وأجبلك تفاصيل أكتر
أجابها بجدية: لأ مش ضروري أنتِ عارفة الأجانب مبيحبوش حد يراجع وراهم و أكيد فاهمين بيعملوا أيه.

أبتسمت هي بتفهم وهي تدخل بأناملها الرفيعة تلك الخصلة الحمراء المتمردة من شعرها بداخل حجابها
وتقول بود: تمام تأمرني بحاجة تانية
نفى يوسف برأسه وتسأل: إسماعيل وصل ولا لسة
ردت برسمية: لأ لسة ما وصلش أنت عارف أنو لازم يبص على المعرض الأول قبل ما يجي هنا.

زفر بإنفعال وقال وهو يناولها بعض الأوراق التي أنتهى من وضع توقيعه عليها: أنا مش عارف هيفضل مشتت نفسه بين المعرض والشركة لغاية أمتى، على العموم خليه أول ما يوصل يجيلي.

أومأت له بطاعة وغادرت إلى مكتبها وجلست خلفه وشردت بكل ما مضى فنعم تلك هي صاحبة الخصلات النارية التي نالت الكثير من الخيبات سابقًا وكانت منغمسة بلأثام ولكنها تطهرت منها الآن وأصبحت أكثر التزامًا، فتقسم أنها ندمت أشد الندم على كل ما مر وتجاهد كي تكفر عن ذنوبها بالتقرب من الله تنهدت بعمق وهي تتذكر تلك السنوات الثلاث كيف كانوا سيمرو عليها لولآ مساعدة يوسف لها فهم ظلوا على تواصل طوال غيبته وعندما عاد للبلد جلبها لتعمل معه دون أي تردد منه غير مكترث لماضيها.

فحقًا هي ممتنة له كثيرًا وتكن له الكثير من الأحترام،
أنتشلها من شرودها دخول أخر شخص تتوقع أن تراه هنا
لتنهض وتقول ببسمة واسعة وهي تستقبلها بحفاوة كبيرة ولم لا وهي أخت ذلك الحنون التي تقسم انها لن تنساه ولو لدقيقة واحدة طوال تلك السنوات:
أهلًا، أهلًا اتفضلي
عايزة أقابل يوسف لو سمحتي
أومأت لها بتفهم وقالت بتخبط شديد: ثواني هبلغه.

لتركض من أمامها تاركة الآخرى تستغرب حالتها فهي لم تسألها حتى عن أسمها غافلة عن كونها تعرفها تمام المعرفة
ثواني معدودة مرو عليها كالدهر عندما سمحت لها أن تدخل له، أغمضت عيناها بقوة وأحتضنت ذلك الحجر المتدلي من سلسالها كي يمدها بالقوة وأخفته تحت كنزتها وتقدمت بخطوات متوجسة إلى مكتبه،
شعر بوجودها ولكنه تعمد الامبالاه ولم يزيح عينه عن الورق أمامه فهو كان يتوقع تلك الزيارة على أي حال.

أبتسمت هي ما ان رأت طلته الجديدة بأنبهار تام وبعيون حالمة فقد تغير كثيرًا حتى طريقة لبسه أصبحت رسمية للغاية لا تتقارن مع هيئته السابقة آما تسريحة شعره فقد أصبحت منمقة غير مبعثرة على عينه الناعسة التي طالما أثرتها ولكن الآن حتى نظراته أصبحت جدية بعيدة كل البعد عن تلك النظرات الدافئة المشاكسة التي كان يخصها بها لتتناول نفس عميق وتختزنه بصدرها من رائحته التي يمتلأ بها عبق المكان وتزفره ببطء و تشعر براحة عجيبة و هي تطلق العنان لأنفاسها وكأنها ظلت تحتبسهم بصدرها منذ سنواتها العجاف من دونه لتتفوه بحروف أسمه بلوعة حارقة نابعة من صميم قلبها وهي تكاد تركض إليه ترتمي بأحضانه:.

وحشتني يا يوسف.

تعلقت عينه عليها دون أي تعبير يذكر ثم نهض عندما رأها تتقدم منه ورفع يده ليحيها بكل رسمية غير مكترث كونها كادت ترتمي بين يديه، تفاجئت هي برد فعله وتجمدت بأرضها فهي ظنت أنه تعمد تجاهلها بلأمس لوجود الجميع ولكن الآن هما بمفردهم، تناوبت نظراتها بين كف يده الممدود وملامحة الجامدة بصدمة عارمة ولكنها مدت كف يدها المرتعش بين يديه وتشابكت عيناهم لوهلة واحدة ثم بكل رسمية دون الأكتراث لمغزى نظراتها المعاتبة التي تتأكله أشر لها أن تجلس دون ان يهتز به قيد أنمله، أبتلعت هي غصة بحلقها وظلت تحدق به ليتحدث هو بثبات أصبح يجيده وهو محتفظ بنفس نظراته الباردة نحوها بعدما جلس ووضع ساق على أخر واستند على ظهر مقعده بكل أريحية فهو يعرف ما الغرض من زيارتها تمام المعرفة ولكن لا مانع من بعض المراوغة معها:.

اتفضلي يا لين
خير ياترى أيه سبب زيارتك دي؟
عقدت حاجبيها وهمست بصدمة وكأن من يجلس أمامها غريب عنها ولم تصادفه يوم: اتغيرت أوي يا ابن بلدي
حانت منه بسمة ساخرة على ذلك اللقب التي طالما اطلقته عليه وقال وهو يرفع حاجبيه بتفاخر: الزمن كفيل يغير كل شيء
وبعدين محدش بيفضل على حاله.

مررت يدها بخصلاتها البُنية وهي تشعر انها على حافة الجنون بسبب بروده معها لتجلس أمامه تتأمل ملامحه الجامدة بعتاب طويل ثم أنفجرت بكافة تساؤلاتها بوجهه دفعة واحدة وكأنها لم تتمكن من الصبر أكثر لمعرفة أجابتها:
كنت فين السنين اللي فاتت؟
وليه معرفتنيش أنك عايش؟ وازاي وصلت لكل دة؟، لتستأنف بمرارة وبعيون زائغة بين عيناه الناعسة وكأنها تبحث عن شيء يخصها:.

وليه خطبت ميان دون عن بنات الدنيا كلها، أنت كنت عارف انها أختي؟
نمت بسمة مستخفة على جانب فمه وأجابها بذكاء كعادته: أنا مش مجبر أوضح ليكِ حاجة ولا اقدملك تقرير عن حياتي اللي فاتت، ولو كنتِ خايفة أكون خطبت أختك علشان أنتقم منك على اللي فات فتبقي غلطانة، أنا مكنتش أعرف أنها أختك
نفت برأسها بعدم أقتناع وهدرت بعيون غائمة: مستحيل أنت كداب، انت حتى متفاجأتش لما شوفتني
أمبارح.

أجابها بلا مبالاه وهو يتناول قلمه الذهبي ويلهو به بين أنامله: عمري ما كنت كداب وانتِ متأكدة من دة كويس، وبعدين أتفاجأ ليه أنتِ وجودك مبقاش يفرق معايا أنا كنت هناك علشان ميان اللي هتبقى مراتي كمان كام يوم و هتشاركني بقيت حياتي
فرت من عيناها دمعة حارقة أبت الصمود أكثر وتسألت بنبرة متألمة لأبعد حد: يعني خلاص نسيتني يا يوسف.

رفع حاجبيه هازئًا وقال بحدة ضاربًا بكرامتها عرض الحائط: بلاش تتعشمي بزيادة وتدي لنفسك أهمية اكبر من اللي تستحقيها اللي حصل زمان أنا رميته ورا ضهري ولولاه مكنش زماني هنا دلوقتي.

أغمضت عيناها بقوة تشعر أنها بكابوس مزعج لا ينتهي وقالت بحسرة وبقلب يقطر دمً: بس أنا عمري ما نسيتك و، كادت ان تقص عليه كل شيء وتخبره بما مرت به من دونه لولآ أنه قاطعها بحدة وهو ينهض ويوليها ظهره ينظر عبر الحائط الزجاجي المطل على الطريق: أنا معنديش وقت لكلامك دة لو سمحتي تتفضلي علشان عندي أجتماع كمان عشر دقايق وبتمنى تتقبلي الوضع ومتحاوليش تتدخلي بيني وبين ميان وتخربي علاقتي بيها.

لو كانت الكلمات قاتلة لكانت سقطت الأن طريحة لأثرها، وضعت يدها على خافقها تحثه على الثبات، ثم نهضت بقدمان متراخين تنوي المغادرة فقد طعنها لتوه بكبريائها وأهدر الباقي من فتات روحها تحت قدمه ولم يعد لديها طاقة بعد لتحمل الكثير من خيبات الأمل، لتتحايل على قدمها ان تنصاع لها وتحملها بعيدًا عن هنا وهي بالكاد تجاهد كي تبدو ثابتة أمامه وبالفعل خطوة واحدة تلاها خطوة آخرى خارج مكتبه ثم لم تعي لشيء سوى أنها غرقت في ظلام دامس وصوت نسائي ينادي بأسمها.

بينما على الصعيد الآخر ظلت فريدة تدور حول نفسها بقلق شديد عندما لم تجدها بغرفتها أو أي مكان داخل المنزل فهي حتى لم تحصل منها على رقم هاتفها النقال، دخلت ميان برفقة مارسيل والصغير لتتسأل مارسيل بقلق: ماما مالك فيكِ أيه؟
أجابتها فريدة بضيق: صحيت ملقتش لين في البيت وقلقانة عليها أوي
لتقول ميان تحاول طمأنتها: عادي يا ماما متقلقيش تلاقيها بتتمشى حولين اليلا او راحت تشتري حاجة.

نفت فريدة برأسها بعدم أقتناع لتعقب مارسيل أيضًا بقلق لا يقل شيء عن قلق والدتها: بصراحة يا ماما كانت حالتها صعبة اوي أمبارح
لتتسأل فريدة بتوجس: حد فيكم زعلها او قالها حاجة ضايقتها
نفوا الاثنين برأسهم لتستأنف فريدة والقلق ينهش قلبها: أمال أيه راحت فين وأيه اللي حصل لترفع عيناها
تناجي ربها وتقول بتضرع: ياااارب، يااااارب متحرمنيش منها تاني دة انا مصدقت لقيتها.

ليحاولو طمأنتها ويظلوا ينتظرو عودتها والقلق ينهش بهم جميعًا.

رائحته الرجولية العطرة داهمت أحلامها وشاركتها ذلك الظلام الدامس التي غرقت به لتجعلها تشعر بتلك النشوة التي طالما رفعتها إلى عنان السماء بقربه، دقائق معدودة وهي بين الوعي ولا وعي شعرت بهمسات مختنقة لم تتفهم منها شيء وأنفاس ساخنة تلفح وجهها تلاها لمسات خفيفة أصابتها بالقشعريرة و جعلتها يهيء لها أنه بجانبها، لم تشعر بشيء آخر سوى بعد دقائق معدودة وهي ترمش بعيناها عدة مرات بِوهن شديد و ما ان أفرجت عن حبات القهوة خاصتها شاهدت نفس الفتاه التي استقبلتها تبتسم بوجهها وتحاول أن تساعدها على الأعتدال بجلستها، لتطوف المكان بعيناها سريعًا وتدرك كونها مازالت داخل شركته ولكن بمكتب آخر مختلف عن مكتبه، لتتحايل على جسدها تحاول ان تنهض لولآ قول ماهيتاب بلطف: حمد الله على سلامتك أنتِ أحسن دلوقتي.

أومأت لها لين بضعف وتسألت بِوهن: هو أيه اللي حصل
أجابتها ماهيتاب : أُغم عليكِ وخليت واحد من العمال جابك معايا على هنا علشان ترتاحي
أومأت لها بأمتنان ونهضت وهي تُعدل من بعثرة خصلاتها و تنوي الرحيل: أسفة لو تعبتك بس يظهر تعبت علشان نزلت الصبح من غير فطار
هزت ماهيتاب رأسها بتفهم وعقبت بعدها: تعرفي أنا كمان مفطرتش زيك وخايفة أقع زيك ممكن بقى تشجعيني ونفطر مع بعض.

نفت لين برأسها بحرج فمن أين ستجلب شهية بعد ما حدث
لتتنهد ماهيتاب وتخبرها بأصرار أكبر: خلاص يبقى تسبيني أوصلك
انا هاخد أذن بسرعة وهحصلك على الجراچ عربيتي صغيرة ولونها أبيض.

قالتها وهي تناولها مفتاح سيارتها وتهرول بسرعة من أمامها لتجعل لين تبتسم ببهوت لأثرها وتحمد ربها كونها لم تسقط بمكتبه ولم يراها على تلك الحالة المزرية، فأبدًا لن تكون مثيرة للشفقة بسبب قلبها فقد تعلمت بالسنوات المنصرمة أن تصبح قوية لا يكسرها شيء ولكن يبدو أنها لم تحسب حساب أنه سيتعلق الأمر به.

بعد عدة دقائق كانوا يستقلوا سيارتها المتواضعة وينطلقوا بها، ظلت لين طوال الطريق تسند رأسها على زجاج النافذة وشاردة بعيون غائمة تتذكر حديثه معها وتأثير كلماته الطاعنة مازال يعتصر قلبها، حتى انها وضعت يدها على خافقها كعادتها تحثه على الثبات، لاحظت ماهيتاب شرودها وحالتها الواهنة لتقول بلطف قاصدة الثرثرة معها بأي شيء يخرجها من حالتها تلك:.

معلش لو عربيتي مش قد مقام حضرتك، بصراحة يوسف عرض عليا كتير يديني عربية من انتاج الشركة بس انا رفضت أصل هو ساعدني كتير ومحبتش أتقل عليه أكتر من كدة...
حانت من لين بسمة متهكمة لعدم وضعها ألقاب تخصه بها وأجابتها: لا، ابدًا عربيتك لطيفة أوي
لتتفحص هيئتها وكأنها تقيمها وتستأنف: واضح أنك أنتِ و يوسف
قربين من بعض لدرجة انك شيلتي الألقاب.

أومأت لها ماهيتاب بتلقائية وقالت بأمتنان عظيم: فعلًا هو حد طيب وجدع وعلى فكرة هو مساعدنيش أنا لوحدي دة ساعد ناس كتير أوي بس من غير ما تحس وبفضل ربنا وفضله هو هما عايشين بسلام دلوقتي
تنهدت لين بعمق وأبتسمت ببهوت غير مكترثة بما تفوهت به غافلة عن كونها تحاول أن تلمح لها عن أمر بعينه.

كان يجلس بأحد المقاعد الخشبية القابعة على ضفاف النيل بشرود تام ويجاوره إسماعيل الذي لأول مرة بعمره يرى يوسف على تلك الحالة التي كان عليها عندما أتي إلى مكتبه فكان كَالثور الهائج يطيح بكل شيء حتى أنه ضرب زجاج المكتب بقبضة يده وأدماها بشدة مما جعله يصطحبه خارج الشركة ويحاول تهدئته وهاهو يجلس بشرود تام ولم يتفوه ببنت شفه منذ أتى به إلى هنا ليربت إسماعيل على ساقه ويقول بهدوء: مش ناوي تحكيلي أيه اللي وصلك للحالة دي؟

رفع عينه الناعسة إليه التي لوهلة أحتلها الألم ولكنه أزاحه سريعًا وقال مستعيد ثباته: مفيش حاجة كنت متعصب شوية
تنهد إسماعيل بيأس من رأسه اليابس وغموضه الذي أصبح خانق لكل من حوله وهدر بجدية: فضفض يا صاحبي صدقني هترتاح وأنت عارف أن أي حاجة هتقولها مش هتخرج برانا متخلنيش أحس أني غريب عنك وزي زي كل الناس عندك.

أبتلع يوسف غصة مريرة بحلقه فصديقه محق هو بحاجة للبوح ربما يستطيع أن يشعر ببعض الراحة ليتنهد بعمق ويقول وهو يشرد في نقطة وهمية في الفراغ: لين اللي حكيتلك عليها رجعت مصر
عقد إسماعيل حاجبيه بإستغراب شديد وقال بمنطقية: وأنت مالك بيها يا يوسف أنت مش قولت أنها متجوزة وبعدين أنت خاطب ميان وكلها كام يوم وهتتجوزها
مرر يوسف يده على وجهه بإنفعال وقال بإختناق: دي المشكلة يا إسماعيل
لين تبقى أخت ميان من أمها.

نهض إسماعيل بعصبية وهدر بوجه بنبرة جادة للغاية: أوعى تكون خطبتها علشان تنتقم من أختها
رفع يوسف نظراته إليه ثم أطرق برأسه دون أن يعقب ليجذبه إسماعيل من منكابيه يرفعه لمستواه ويقول بعصبية ناهرًا أياه:
مستحيل تكون يوسف اللي أنا اعرفه واتربيت معاه، ليه هي بنات الناس لعبة في أيدك ذنبها أيه ميان.

نفض يوسف يده بقوة وقال بصوت جهوري وبعصبية لا تقل شيء عن عصبية الآخر: مكنتش اعرف وحياة أمي مكنتش أعرف لم خطبتها، انا مش قذر كدة وأنت عارف صاحبك وبعدين أنت بنفسك ومراتك اللي اقترحتوا جوازي منها وخليتوا أمي تزن عليا علشان أروح أتقدملها
زاغت عين إسماعيل بتفكير فهو محق هو من قام بترشيحها له بناءً على رغبة حلا و نجية بعدما شاهدوها عدة مرات بعدة زيارات ودودة جمعتهم.

ليهمهم بتوجس فهو يتفهم صديقه أكثر من نفسه ويعلم تمامًا ما يجول بخاطره الأن: انت قولت قبل ما اخطبها معنى كدة انك عرفت بعد ما خطبتها،؟
زاغت عين يوسف بتوتر وجلس مرة آخرى وهو يتحاشى النظر له ليزمجر إسماعيل بغضب ويتسأل من جديد بحدة: كنت تعررررررف ومتحاولتش تكدب عليا.

أبتلع يوسف غصة مريرة بحلقه وصرخ بعدما شعر أن لا فائدة من الإنكار أكثر: أيوة عرفت بعدها أرتحت، لما كانت أمها بتحكي ليا عنها وبتطلب مني القيها لما ربطت الأحداث ببعض عرفت انها هي بس مقدرتش أفتح بوقي ساعتها وأقولهم حاجة وكنت مستبعد انها ترجع، لكن بعد رجوعها.

لتفر دمعة حارقة من عينه ويستأنف بمرارة مازال يتذوقها إلى الأن بجوفه: كان نفسي أوريها إني قدرت أعيش من غيرها، كان نفسي أخليها تحس باللي حسيت بيه لما شوفتها مع غيري، أنا حسيت ان القدر هو اللي رتب الصدفة دي علشان يخدمني و أبرد النار اللي في قلبي من نحيتها، كنت عايز أشوفها مكسورة زي ما كسرتني...

ليبتلع ريقه بصعوبة بالغة وكأن ما سوف يتفوه به هو ذاته يخجل منه ويستأنف بأختناق وبقلب مازال مدمي يقطر دمً: مش بنكر ان كل أحلامي دي أتبخرت اول ما شوفتها.

كاد إسماعيل يقاطعه بملامح متجهمة لولآ أنه استرسل بعقلانية تامة وثبات استعاده لتوه وهو يمسح تلك العبرات الخائنة من عينه: متقوليش غلط وتقعد تديني في نصايح أنا عارف كويس أيه الصح من الغلط وصدقني مفيش حاجة هتغير الماضي اللي جمعني بيها ومتقلقش أنا مستحيل أخل بوعدي قدام الكل واسيب ميان علشان واحدة متستهلش وفوق كل دة تخص راجل تاني.

ربت إسماعيل على ساقه وقال له بود شديد: عين العقل يا صاحبي ربنا يسعد قلبك ويعوضك خير
أومأ له يوسف بثبات وهو يشعر بأن حمل ثقيل انزاح عن عاتقه بعدما تحدث مع صديقه
فهل ياترى ستظل على موقفك ذلك أيها الهائم عندما تعلم كم عانت هي من الويلات بعد فراقك، آم سيكون لك موقف آخر وتضرب بكل شيء عرض الحائط وتستميت من أجل ذلك القلب الذي انت أمانه وسبيله الوحيد لعنان السماء.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة