قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا بين شباكها للكاتبة مي علاء الفصل العاشر والأخير

نوفيلا بين شباكها للكاتبة مي علاء الفصل العاشر والأخير

نوفيلا بين شباكها للكاتبة مي علاء الفصل العاشر والأخير

مساء ليلة محاولة إنتحار أروى
ذهب يونس لمقابلة نادر وأخبره بِما حدث ومدى قلقه الطبيعي.
- قول لي يا دكتور، أروى حالتها اية؟ اية مرضها؟، انا قلقي بيزيد عليها
اجابه نادر بوقار
- هي لسة بتتشخيص، بس الملاحظات اللي جمعتها بتدل على حاجة واحدة وبإلحاح كبير
اندفع جسد يونس مُتساءلاً بلهفة
- اية هي؟، حاجة خطيرة؟
- إضطراب الشخصية الحدية
كرر يونس ما قاله نادر بعدم فهم، فوضح له الأخير.

- هو إضطراب في الصحة العقلية وطبعاً بيأثر على تفكير المريض بنفسه، بيبقى صعب يتحكم في انفعالاته ومشاعره وتصرفاته، وأعراض أروى اللي بتتمثل فيه هي انها بتخاف من الهجر، عدم الاستقرار ومتقدرش تعيش لوحدها لانها بتخاف من الوحدة، كمان العدوانية الناتجة من خوفها من إبتعاد حد بتحبه عنها وممكن توصل لإنها تأذي نفسها
ثم رمقه نادر بنظرة وصلت له معناها دون نطق لسانه بها
- والسبب طبعاً انت عارفه.

هز يونس رأسه بأسف، أسرع ليسأله بإهتمام
- طب علاجها؟، أكيد في علاج.

- علاجها علاج نفسي، بتتكلم معايا تشاركني مشاعرها وتقلُباتها، في نفس الوقت أحاول أصحح بعض المفاهيم الغلط اللي عندها وأحاول أصحح من سلوكياتها، ممكن تنضم لعلاج جماعي هيفيدها، لكن في حالتها اللي وصلت لها النهاردة بنصح إننا ندخلها المصحة عشان هي خطر على نفسها، وأصحاب الشخصية الحدية مش مضمونين، ممكن تلاقيها بتضحك دلوقتي شوية تلاقي مزاجها أتقلب، وأروى جاهزة تقتل نفسها.

قالها صارحةً وربما كانت قاسية على يونس لكنها الحقيقة، فكّر الاخير بعناية وفي النهاية وافق، خوفاً عليها، خوفاً من فُقدانها.

27/9/2019
في مستشفى الأمراض العقلية
لم تهدأ منذ ليلة أمس، لذا كانت تُحقن بالمُهدِآت، لتذهب في سُبات إجباري أكثر قسوة، يأخذها لأفكارها الوحشية التي تسكن في أعماق عقلها، لتُحبس فيه لساعات حتى تستيقظ مرة أُخرى.

في المرة الثالثة من إستيقاظها كانت هادئة، رأت يونس يقف أمامها كالمرات السابقة، إنه معها، أشاحت وجهها بعيداً عنه رغم عدم إستجماعها لنفسها، تشعر بالدوران، لكنها مُدركة لِم حدث وتتذكره جيداً لذا لم تُرِد رؤيته.
- أروى!
وصل لها صوته الدافئ المُزين بإسمها، ثم سمعت وقع أقدامه وهو يقترب حتى أصبح أمامها، لكنها كانت تتجنبه، طبقت جفونها بقوة وهي تهمس بتعب وإحباط
- مخليتنيش أموت عشان تجيبني هنا؟

انتفضت مُتسعة عينيها الى مصرعيها بعنف حين لمست أنامله وجنتها، صارخة بجنون
- إبعِـد عني، متلمسنـيـــش
صُدِم من رد فعلها رغم توقعه له، تراجع خطوة للخلف ونوس يرفع كفيه مُعلناً إبتعاده، هدر بخفوت وعينين قلقتين
- ماشي، إهدي..
ثم عاد ليقترب الخطوة الذي تراجعها، أخبرها لعلها مُشتتة، لعلها تعتقده آخر
- أنا، يونس، يونس يا أروى.

أكملت نهوضها، لامست قدمها الدافئة الأرضية البادرة، اشارت إليه بإتهام ونبرة لامسها الضعف
- أنت جيبتني هنا عشان تخلص مني...
أنكر ذلك سريعاً..
- لا، انا خايف عليكِ، خايف تحاولي تموتي نفسك تاني
تهكمت بخشونة
- فاكر يعني هيحموني هنا!
جحظت عينيها بإصرار صارخة، مما جعل قلبه يرتجف بخوف، ربما تفعلها
- هموّت نفسي هنا وهخليك تندم إنك دخلتني مكان زي دة، سامعني!

إلتف حول السرير ليقف في جانبها لكنه ترك مسافة بينه وبينها، طلب منها برجاء وعجز
- إفهميني، أرجوكِ إفهمني، انا مش عايز أخسرِك، سمعاني! مش عايز أخسرِك بس انتِ..
قاطعته بنفاذ صبر، موضحة له للمرة الثانية
- عملت كدة عشان كنت فاكرة إنك..
أعاقها عن الإكمال بقوله الذي خرج بنبرة مُرتفعة لم يُلامسه الغضب أبداً.

- يعني تحاولي تموّتي نفسك في كل مرة متعرفيش توصليلي فيها! هتفتكريني اني مشيت واتخليت عنِك!، وأبقى أنا قلقان طول حياتي من إنك تغدري بيا وتسبيني؟
اهتزت حدقتيها وامتلأت بالدموع، نبرته الواضح خوفه فيها أثرت بها كالعادة، تعلم جيداً انه صادق، إنه لن يتخلى عنها لكنها لا تستطيع التخلص من خوفها اللعين.
وجد شرودها فرصة ليقترب منها، ليضمها إليه ويُشعرها بوجوده، بأن صدره يتسع لها فقط.

- عايزِك تساعديني اني أساعدِك، ساعديني تبقي كويسة، عايز نعيش حياتنا بسعادة، عشان تحسي بالسعادة اللي اتمنيناها، ننسا الماضي ونعيش حياة طبيعية
شعر بإنتفاض ضئيل في جسدها أثر بُكاءها الصامِت، دموعها الساخنة التي اخترقت قميصه شعر بإنها تحرق جلده.
أتاه هسيسها الباكي..
- وإزاي هعيشها وهما عايشين فيها؟

مسح على شعرها وبداخله يشعر بالذنب رغم أنه لم يفعل شيء، هل لأنه أخ من أذتها وعلى علاقة بِمن أذوها!
ضمت قبتضها تضرب ظهره في موضع كفها، كانت ضرباتها أضعف من أن تؤلمه، ليست ككلماتها التي تخترق قلبه من فرط الألم الذي يصل له منها.
- هفضل مستنية دايماً الحب منهم رغم زعلي منهم، هضعف وأروحلهم زي الغبية أطلب مسامحتهم ومش هنولها، كان المفروض أكرهم بس..

أعاقتها دموعها عن الإكمال، ضمها إليه أكثر لعل ألمها ينتقل له فترتاح هي.

فرّت دمعة مُعذبة من بين جفونه، فك أسرها من بين ذراعيه لكنه لم يبتعد، عانق وجهها مُحدقاً بعينيها بإصرار..
- هخرجِك من هنا في أقرب وقت، ودة وعد مني، بس اودعيني أنك هتساعدي نفسك وتتعالجي من الماضي والكسور اللي سببها ليكِ، وفي الفترة دي هكون أنا حليت الدنيا برة، مش هيبقى ناقص حاجة غير إننا نسافر ونبدأ حياة جديدة
مسح وجهها من الدموع برقة وهمس
- إتفقنا؟

أماءت برأسها موافقة وقد وضعت الحياة التي رسمتها لهما أمام عينيها، رفعت كفها لتضعه فوق كفه هامسة بعيون تترجاه بألا يتركها هنا
- بس مش عايزة أبقى هنا..
نظر لها بصبر، لماذا تُصعِّب الأمور عليه!

28/9/2019
الجلسة الثالثة
- حاسة بإية؟
سألها نادر مُحدقاً بها بعمق، بعد مغارة يونس ليلة أمس كانت هادئة جداً لدرجة مُريبة، لم تنظر له ولم تُعطيه إجابة، فسألها مُعطي لها حرية الاختيار
- تحبي نتكلم عن اية النهاردة؟
كانت جالسة على الفراش تضم جسدها لها، أضاف لسؤلِه السابق
- أو عن مين؟، شهد!
حركت حدقتيها ببطء لمجرد ذكر أسمها، هكذا علم انه استدرجها لأرضِه، طرح سؤال مُتعلق بمن ذكرها الآن.

- قوليلي، علاقتِك معاها كانت ازاي بعد ما كبرتوا؟
- شهد..
خرج صوتها بخفوت شديد وشردت، جذب انتباهها له بتكرار سؤاله، وقد نجح في سحب الحديث منها..
- كانت دايماً عايزة تاخد يونس مني، كانت بتغيظني بِه، كانت بتتكلم معاه كتير عن صُحابها في المدرسة ويومها وتستشيره في أقل تفصيلة في حياتها، كانت متعلقة بِه زيي
علّق نادر بهدوء
- بس كل دة عادي لأنه خالها.

اشتعلت حدقتيها بغيظ لتعليقه، وضحت أكثر له، وضحت بخشونة
- عارفة انه خالها بس هي عايزة تبعده عني، عايزة تاخده هو كمان، مكفهاش ماما وبابا، عايزة تاخد الباقيلي
حركت رأسها بعنف وأكملت سردها السابق
- كُنا بنتخانق كتير، طبعاً ماما وبابا كانوا بيُقفوا معاها حتى لو هي الغلط، حتى لو هي اللي جرت شكلي، يونس الوحيد اللي كان معايا، وهي كانت بتتضايق من كدة
إبتسمت بإنتصار وهي تُخبره.

- فاكرة مرة إن شهد عيطت لـ ماما تقول لها أنه خالها هي فـ لية هو مش بيُقف معاها ولية بيدافع عني، لية بيحبني انا اكتر!، وقتها اتأكدت انها بتغير مني بسببه
حرك رأسه قليلاً وهو يتوقف عند نقطة أستوقفته في إجابتها
- قولتي إنها خدت منك خديجة وإسماعيل، مش شايفة إنك مُتحاملة عليها؟ وإن في الحقيقة...
لم تسمح له بإكمال جملته مُندفعة بإجابتها.

- لا، مش مُتحاملة عليها، هي اللي بدأت تعاملني بتكبُر وتغيظني، هي اللي كرهتني فيها؛ أنا قبلتها بعد ما أتولدت وحبيتها أوي
أكد لها تفهمُه
- فهمتِك..
ثم تساءل..
- محاولتوش تحسنوا علاقتكم؟ مفكرتيش إن ممكن تكونوا على وفاق لو قربتوا من بعض؟ تبقوا أخوات بجد!
أتته إجابتها الثابتة سريعاً
- هي جربت بس أنا رفضت
- لية؟
أنخفض كتفيها مُجيبة بثقل
- مش قادرة أتقبلها خلاص، ومتسألنيش لية
- مش هسأل.

صمت لوهلة قبل ان يأتي بسؤال آخر مُتعلق بنفس الحديث
- أية كان رد فعل إسماعيل وخديجة على تصرفات شهد الخبيثة معاكِ؟
- قُلت لك، كانوا بيقفوا معاها مهما كان دورها في المشكلة، كانوا بيفضّلوها عليا ويجيبولها كل حاجة، أفتكرت نفسي لما كنت مكانها وزاد كُرهي لها، فهُما لِهم يد كمان في عداوتي مع شهد
دوّن شيء في المُذكرة وأعادها لجانبه، أنتقلت لحديث آخر
- إحكيلي عن حياتِك اليومية، علاقاتِك، شُغلِك..

- كلهم فاشلين، مفيش شُغلانة واحدة كملت فيها وكله بسبب عصبيتي، مكنتش بقدر أتحكم في إنفعالاتي، أما بالنسبة لعلاقاتي كلها فاشلة، ممكن فشلِت عشان كُنت صريحة أو عشان كنت مُتملكة!
- مُتملكة ازاي؟

- كان عندي صاحبة في ثانوي، حبيتها جداً واعتبرتها البيست، كنت عايزاها تبقى صاحبتي انا وبس، تكلمني انا وبس وتحكيلي عن أسرارها، أبقى مميزة عندها عن الباقي زي ما هي مميزة عندي، بس هي حست بالخنقة مني وبعدت عني في الاخر
نظرت للسقف بشرود مُتحدثة بعُمق
- قرأت قبل كدة إن الناس فترات، بس عندي أنا معدوش أصلاً عشان يبقوا فترات، كانوا بيبعدوا عني من غير ما يعرفوني!، ودة كان سبب في حيرة كبيرة ليا..

تقوس فمها ببطء بإبتسامة عذبة جميلة..
- بس يونس كان عوضي عنهم كلهم، خلاني مكُنش عايزة حد غيره، هو كفاية بالنسبالي
تلاشت إبتسامتها كأنها لم تكُن، يونس! أين هو؟ لم يأتي لزيارتها اليوم.
- هو فين؟
- مين؟
ردت بهزء لاذع
- ليا غيره؟
فرد ظهرُه مُجيباً
- في موعد للزيارة
قضبت جبينها قائلة بإعتراض..
- متفقتش معاه على كدة
- دي سياسة المُستشفى، زيارتين في الأسبوع
- هتحرموني منه!

أبتسم لها ناهضاً، إنه يستفزها، تابعته وهو يُخرِج ظرف من جيبه وقدمه لها
- من يونس
أخذته منه بلهفة لتفتحه بتعجل، بينما أوقف التسجيل وأخذ أغراضه مُغادراً بهدوء.
- أنا دايماً جنبِك ومعاكِ، حتى روحي للشُباك، هتلاقيني قُدامِك.

نهضت سريعا وبحماس شديد للنافذة لتقف خلف زجاجها وحدقتيها تبحث عنه في الأسفل، وقد وجدته؛ رفع ذراعه من الأسفل مشيرا لها وإبتسامة صغيرة تحتل شفتيه، إبتسمت هي أيضاً لكن بحزن قضى على الحماس الذي لمع في حدقتيها.

بينما هو في الأسفل، يرسم إبتسامة مُزيفة يخفي خلفها ألم يسكن بين ضلوعه وثُقل يزداد على أكتافه، لم يخبرها عما يحدث وما على وشك الحدوث، فقد أشنت خديجة الحرب عليه لتُعيده، بدأت في إسقاطه وأخذ كل ما يملك حتى تُعيده لها بطريقة مُذلة.
لم يتوقع أن الأمور قد تصل لهذا السوء، لكنه أدرك أنه فعل الصواب في إدخالها للمستشفى حتى يُبعدها عما يحدث ويواجهه هو لوحده، ودون أن يُشعرها بشيء.

1/10/2019
الجلسة الرابعة
- مش هنتكلم النهاردة عن حاجة مُعينة، هسيبيك انتِ تتكلمي عن أي حاجة عايزاها، حتى لو حاجات مش مُرتبطة ومُشتتة، عايزِك النهاردة تجمعيلي كلامك المُبعثر جواكِ وتشاركيه معايا، موافقة؟
أنتظر نادر ردها وقد أطالت حتى منحته إياه، تحدثت مُباشرةً، أخرجت ما يدور بداخلها.

- مش عارفة لية لسة مستنياهم يحبوني ويعاملوني كويس!، لية حاطة آمال فيهم بعد اللي عملوه؟، إزاي مستنية حاجة منهم؟ هو أنا عبيطة؟
رد عليها موضحاً
- انتِ لسة جواكِ الطفلة اللي أهملوها واللي مشبعتش منهم، جواكِ أروى الصغيرة اللي كانت بتتمنى تعيش حياة سعيدة مع أمها وأبوها اللي أختارتهم
أعترضت بضيق
- بس كان المفروض أكرههم
أنتقلت لحديث آخر.

- قبل كدة كنت هولع في البيت، معرفش ازاي الفكرة دي جتلي بس كنت عايزاهم يلاحظوا وجودي ويقلقوا عليا، بس دة زاد من كرههم ليا وبس
سألها...
- مخوفتيش على نفسك! أنك ممكن تموتي في الحريق دة وهما كمان؟
- مكنتش خايفة لأن كان هدفي اقلقهم عليا بس، مخي مراحش إني ممكن أموت
حركت حدقتيها له، أقرّت
- أنا عمري ما كنت عايزة أموت، كنت عايزة بس ينتبهولي، يهتموا بيا ويقلقوا عليا
تنهدت وهي تُضيف.

- كنت أحياناً بتعامل معاهم بقلة ادب بس لو لاقيتهم كويسين معايا بقلب لطفلة، برجع اروى اللي عندها ست سنين واللي كانت عايزة حبهم وبس
- كان بيحي عليهم وقت ويعاملوكِ كويس؟
- قليل جداً، كام مرة تتعد على الصوابع
هز رأسه بتفهم، وطرح سؤال من عنده هذه المرة
- مكنش عندك صُحاب خالص يا أروى!
- كان عندي واحدة
- مين؟
إبتسمت
- رهف، عروستي
كما توقع، طالبها بتفاصيل فأعطته.

- كنت بتكلم معاها وبشتكيلها عن تصرفاتهم معايا وخبثُهم، كانت هي ويونس أقرب اتنين ليا
تطلعت إليه تسأله بحيرة
- هو أنا كدة مجنونة؟
صحح لها..
- انتِ موجوعة
ضم نادر كفيه لبعضهم البعض سانداً بمرفقيه على فخذيه قائلاً
- تعرفي يا أروى إن مرضك سهل يتعالج!، وإن ممكن تتعايشي معاه وتعالجيه بنفسِك!
- وأية هو مرضي؟
- جاوبيني الأول، أمتى هتبقى حياتِك طبيعية؟ امتى هتحسي إنك قادرة تعيشي براحة؟
- لما يموتوا.

إنها تقصدهم لا غيرهم، خديجة وإسماعيل، سألها عن السبب
- لية؟
- لأني مش هبقى مُنتظرة حاجة منهم، ممكن أنساهم وأبدأ حياة جديدة
- يعني كل شيء هينتهي لما يموتوا!، طب لو مماتوش، هتفضلي عايشة كدة؟ هتضّيعي عُمرك وأحلامِك؟
نظرت له بضياع، إنه مُحق، هل ستنتظر ضياع حياتها الباقية ومُستقبلها!
حدثها بحماس وإصرار ليُشعرها بالدعم، لترى أن يونس والعالم معها فتشعر بالأمان والشجاعة.

- هساعدِك تتعالجي، وأنتِ هتساعدي نفسِك، هتقدري تعيشي في نفس العالم اللي هما عايشين فيه، هتاخدي القلم من الماضي اللي بيحركك وتبدأي ترسمي حياتِك بنفسِك وزي ما تحبيها
- بالنسبة للحُفر اللي في روحِك حوليها لمنبت، تُزهر فيه الزهور..
صمتت، ثم تدثرت أسفل الغطاء وقد لاوته ظهرها، هكذا تُنهي الحديث معه، وستُفكر بكل كلمة قالها، إنه مُحق لكنها هل تستطيع فعل ما قاله؟

مر شهر والأوضاع كالآتي..
كان يونس يقوم بزيارة أروى مرة كل أسبوع، وبقية الأسبوع كانا يُقابلان بعضهما عن بُعد من خلال النافذة، ينتظرها هو في الأسفل ويوصل لها الرسائل مع الممرضة أو نادر.
كانت زيارته مُشجعة لها، تزيد من رغبتها في العلاج ليس للعلاج ذاته، بل لتخرج سريعاً وتصبح معه من جديد.
وكانت قد بدأت في العلاج الجماعي، تنضم لمجموعة من المرضى ذو الحالات المُشابهة لها ويتناقشون.

شعرت بالتقدم في السيطرة على إنفعالتها قليلاً وذلك زاد من حماسها بجانب تشجيع يونس لها.
مع بداية الشهر الثاني..
بدأ يونس في التغايب، يزورها مرة والمرة التالية لا يذهبها، حتى مُقابلتهما من خلال النافذة باتت معدومة؛ وحين كانت تسأله كان يخبرها بأنه بدأ في مشروع جديد والوضع صعب، لم يأتي في بالها طرح سؤال عن سبب ذلك وإذ فعلت ما كان ليخبرها بذلك.

الاسبوع الثالث في نفس الشهر الثاني، في منزل إسماعيل
- يعني مُصِرة توقفي في طريقي!
صرخ يونس بغضب أمام خديجة التي أندفعت صارخة أيضاً
- قولتلك مش هخليك تبعد عني يا يونس، وهعمل كل حاجة عشان ترجعلنا وتسيب المجنونة التانية
رفع سُبابته مُحذراً أياها
- توقيفِك لشغلي هنا مش هيمنعني من أني اعمل اللي انا عايزه، وتصرفاتِك هتبعدني عنك أكتر، أفهمي
صرخ مع نهاية جملته ثم أخذ يلهث؛ تدخل إسماعيل بهدوء.

- يا يونس انت عارف اننا بنحبك وأختك بتعمل كدة عشان انت منها، انت واحد مننا..
قاطعه يونس مُشمئزاً رافضاً
- مش عايز أبقى واحد منكم، ميشرفنيش أصلاً
احتقن وجه إسماعيل غضباً، تقدم منه ليقف أمامه مُحدثاً إياه بحدة
- طب أتكلم بأسلوب أحسن من كدة وإلا مش هعمل حساب للعشرة اللي ما بينا
هز يونس رأسه مُشجعه على ذلك بنبرة مُرتفعة
- بظــبط، انا مش عايزة تعملوا حساب للعشرّة
واضاف بخشونة مُهدداً أياهم..

- ابعد مراتك عني وعن طريقي وإلا هتشوفوا تصرف مش هيعجبكم
كانت شهد في غرفتها تمنع نفسها عن الخروج، لكنها لم تستطع أن تصمد أكثر وخرجت راكضة لتعانق يونس مانعة أياه من المُغادرة، باكية
- مليش خال غيرك يا خالو، هتمشي وتسيبيني كدة! طب هتكلم مع مين؟ هفضفض لمين عن مشاكلي؟

ضم يونس قبضته مُحاولاً التماسك أمامها، انه يراها كطفلته، لقد ساهم في تربيتها، كيف سيُفرط بها؟، رفع قبضته وقد فردها ليربت على ظهرها بحنان دون ان يقول شيء، فماذا يقول؟
- يا خالو بقى، أمانة متمشيش..
ابتعدت عنه وقالت بلهفة ورجاء
- انا هقنعهم بـ أروى، هخليهم يعاملوها حلو، بس انت متمشيش
همس بعجز..
- مبقاش ينفع يا شهد
قبل ان تعترض وجدت والدها يسحبها بعنف من أمام يونس موبخها..

- سيبي قليل الأصل يمشي، متبقوش ضُعفاء قدامه، دة ميستاهلش
أخذت خديجة تبكي وهي تراه يتجه يغادر، أستدار قبل ان يخرج من عتبة الباب قائلاً
- أنا هسافر، فمحدش يدور عليا
ثم غادر دون أن ينظر خلفه، يجب عليه إغلاق هذا الباب.

في مستشفى الأمراض العقلية
كان يوم زيارته لها، جلس على الكرسي المجاور لسريرها التي تجلس فوقه مُقابلة اياه، تهز قدميها وهي تتأمله أثناء حديثه معها، مدت يدها فجأة لتتلمس وجنته بدفيء، هدرت بخفوت ناعم
- مال وشك بهتان كدة!، قولي المخبيه عني!
تعلقت حدقتيه بها وبداخلها يتخبط، أيخبرها أنه سيسافر لأجل العمل؟ ماذا سيكون رد فعلها؟ خائف من إعتقادها الخاطئ به، إنه تخلى عنها، إن سفره حجة للإبتعاد.

وحين يفكر في الحل البديل وهو عدم إخبارها، يرى أن نتيجة غيابه دون إخبارها ستكون أسوء.
- متترددش
منحته إبتسامة مُشجعة وهي تنطق بحروفها الناعمة، أمسك بكفها الآخر ضاممه لقلبه
- أتاكدي اني عمري ما هتخلى عنِك، انا دايماً هبقى معاكِ وجنبك
ازدرد ريقه بتوتر قبل أن يتشجع ويخبرها
- أنا هسافر..
صمت لوهلة ليرى تعبير وجهها لكنه كان جامد، تابع..

- هسافر عشان المشروع الجديد اللي حكيتلِك عنه، المشروع اللي هنبدأ حياتنا بِه هناك، هو شهر واحد بس وهرجع لك
أنتظر أي رد منها، لكنها ظلت صامتة تنظر له، ترقرقت الدموع في عينيها وقد اخفضت كفها لجانبها، تنهد بألم
- متصعبِهاش عليا، أمانة عليكِ، خليكِ واثقة فيا، عمري خذلتِك؟
هزت رأسها نفياً، عانق وجنتها بكفه
- وانا وعدتِك وهنفذ وعدي، بس استنيني الشهر دة، عايز امشي وانا مطمن عليكِ.

رفعت كفها لتضعه فوق كفه، بينما أضاف مُبتسماً
- بس عايز أرجع الاقيكِ كويسة، أحسن من دلوقتي، أرجع اخدِك علطول، توعديني؟
فرت دموعها لتمر بين كفيهما، اماءت برأسها هامسة
- أوعدِك
نهض مُعانقاً اياها بقوة، مودعها، ضمته بدورها وهي تبكي.

بعد اسبوع..
كانت أروى جالسة أمام نافذتها تنظر للشارع بهدوء، سمعت صوت فتح الباب لكنها لم تستدير لإعتقادها انها الممرضة، لكن انعكاس صورة خديجة على زجاج النافذة التي تجلس أمامها قطعت انفاسها، هل تتخيل؟ استدارت بفزع لتتأكد إذ كانت موجودة فعلاً وكانت كذلك، جحظت عينيها وتلاحقت انفاسها بعد إنقطاعها.
- وانا بقول هو مخبيها فين!، بس طلع حاطِك في المكان الصح.

هدرت خديجة بخبث وشماتة استشفتها اروى بنبرتها وتألمت منها، أنه آخر شيء كانت تُريده، ان تراها خديجة هنا، وبهذا الوضع المثير للشفقة.
- بتعملي اية هنا؟
اخرجت اروى حروفها بألم ظاهر جلياً على صوتها، ابتسمت خديجة بسماجة
- جاية أطمن عليكِ
- نعم!
كادت ان تُصدقها، لكن سخريتها التي لحقتها كصفعة أفاقتها
- متصدقيش بسرعة كدة، جاية اشوف اخويا ازاي سابِك وهرب، ازاي مختارش حد فينا
هتفت اروى مُصححة لها.

- هو اختارني، هو سافر عشان...
قاطعتها خديجة بجحود مع اقترابها البطيء
- ضحك عليكِ يا غبية، هو هرب منِك
- انتِ كدابة، بتحاولي تخدعيني عشان..
ابتسمت خديجة بشماتة صارخة ليطغى صوتها على صوت أروى
- طول عمرِك عال علينا، محدش عايزِك
دفعتها أروى بقوة صارخة، رافضة ما تقوله خديجة، إنهارت على الارض وهي تصرخ وتبكي واضعة كفيها على أُذنيها، بينما كررت خديجة كلماتها دون إشفاق على حالتها.

دلفتا المُمرضتين راكضتين إليها، اتجهت واحدة منهم لتُحضر حُقنة مُهدأة بينما الأُخرى تحاول السيطرة عليها، بعد لحظات، وصل نادر، أخذ الحُقنة من الممرضة ليحقن اروى بها بمساعدة الممرضتين، خلال دقيقتين هدأ فركها وخملت حركتها حتى استقرت انفاسها، حملها ليضعها على الفراش، سأل الممرضة
- حصل اية؟ لية وصلت للحال دة؟
- كان عندها زيارة
- مين؟
- والدتها
كم هي وقحة!، احتدت نبرته وهو يسألها.

- ومين سمحلها تزورها؟، مين؟
جفلت الممرضة، أجابته
- اسأل في الريسبشن، انا بس وصلتها للاوضة
خرج بغضب لموظف الاستقبال وعلم ما حدث منه، صرخ بهم لإهمالهم فقد أخبرهم سابقاً بعدم السماح لأحدهم بزيارتها سوى يونس، نبههم مرة اخرى بذلك، وأكثر صرامة.

بدأت حالة أروى تتدهور بعد زيارة خديجة، لم يكن لها رغبة للعلاج، لقد نجحت الاخيرة في إدخال الشك مرة اخرى لقلبها ناحية يونس، حتى انها اقتنعت بأنه تخلى عنها وقد حاولت ان تنتحر لكنها لم تنجح بهذه المحاولة.

تغيرت حالتها، لم تعُد تقبل الحديث مع نادر وأخد جلساتها، حتى إنها توقفت عن الإختلاط مع مجموعتها، أنعزلت في غرفتها تأكل بقلة، وشاردة بقية اليوم حتى أن نادر بدأ يلاحظ شرودها الطويل حتى إنتابهُ الشك، وكان شكه في محله وقد تأكد من ذلك بعد مرور فترة ليست بالقصيرة، تأكد انها بدأت في الانغماس بأحلام اليقظة.

لقد لجئت لأحلام اليقظة حتى تستطيع إكمال حياتها بعد فشلها في التخلص من حياتها، لقد وجدت المُتعة فيها، تحقق أحلامها فيها ورغبتها والحياة التي تمنتها دائماً.
جعلت خديجة و إسماعيل شخصين جيدين، يُعاملانها بطيبة وكأنها أبنتهم، كما تمنت، وجعلت من شخصياتهم الكريهة في واقعها والدّين مجهولين في خيالها، يحميانها هما منهم.
جعلت من شهد شخصية حاقدة من وجهة نظرها، شخصية غريبة عنها تحاول سرقة يونس منها.

كما جعلت من دُميتها رهف صديقة حقيقة في خيالها.
أما يونس جعلت شخصيته مُختلفة تماماً عن واقعها لكنها ستجعله يحبها، بل يتعذب في حبها سراً، أرادت ان يصبح هناك دراما بقصتها معه، أم لأنه خذلها!
تظل شاردة لساعات طويلة، لا تعود للواقع ولا تستجيب لمنادات الممرضة أو نادر إلا قليلاً.
مر شهر على هذا الوضع، حتى أنها كانت ترفض العلاج، تُريد أن تُكمِل العيش في رسم سيناريوهات تُريحها وتُسعدها.

في إحدى الايام، جلس معها نادر كالعادة ليتحدث ويحاول إستدراجها للحديث، وقد نجح هذه المرة
- تعرفي أن خديجة وإسماعيل عملوا حادثة وهما دلوقتي في العناية المُركزة!
لاحظ صدمتها التي ظهرت في عينيها والتي تؤكد له أنها عادت للواقع، تسمعه ورُبما تنتظر بقية التفاصيل، لكنه لم يمنحها أياها، أنتظر ان تسأله بنفسها لكنها لم تفعل.
نهض تاركاً أياها، يجب أن تسأله بنفسها، أن تتبادل معه الحديث أيضاً.

أما هي، ربما رأت بصيص من الأمل! ربما شعرت بالسعادة؟، لكن أين يونس، أين هو؟ رغم تأكيد نادر لها بأنه يتصل به ليطمئن عليها إلا انها لن ترتاح إلا إذ رأته أمامها.

15/1/2020
عاد يونس من رحلته، عاد على إتصال شهد التي أخبرته أن والديها على مشارف الموت، وصل له الخبر مُتأخراً لتجاهله لإتصالاتها المُصِرة.
ترك علمه الذي لم ينتهي والذي كان قد أضطر لتأجيل رحلته التي مر عليها شهر، لكنه الان يتركه لأجل شهد أبنه أُخته.
مساء اليوم الذي وصل صباحه كانا قد فارقا الحياة.

في المستشفى..
سار نادر في رواق طويل، توقف أمام غرفة أروى وبرم مقبض الباب، استقر بجانب فراشها وأخبرها بعد صمت قصير
- خديجة وإسماعيل، ماتو
ظل وجهها جامد، حدقتيها مُعلقة ببقعة مُعينة، يبدو انها مازالت في عالمها، لكن بعد دقيقة كاملة حركت حدقتيها لتستقر عليه، ارتفعت زاوية فمها ببطء..

فاضل خاتمة قريبا.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة