قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا بين شباكها للكاتبة مي علاء الفصل الرابع

نوفيلا بين شباكها للكاتبة مي علاء الفصل الرابع

نوفيلا بين شباكها للكاتبة مي علاء الفصل الرابع

توقف امام العقار ينظر حوله باحثاً عنها، اضاق عينيه ليتأكد إذ كانت هي تلك التي تسير على مسافة كبيرة منه، هل اخذت هذه المسافة ركضاً ام ماذا؟، اسرع ليركض ويلحق بها، توقف امامها مُعيق طريقها وهو يلهث، همس براحة وهو يميل قليلاً
- لحقتِك
اعتدل حين لمح عينيها الحمراوتين ودموعها الغزيرة بللت وجنتيها.
اسرعت اروى لتمسح دموعها بقوة وهي تُقابل نظراته القلقة بنظراتها الغاضبة، هتفت بإنفعال
- نعم! عايز اية؟

مد كفه ليربت على كتفها وهو يقول بتعاطف
- متعيطيش ومتزعليش من بابا
- لا هزعل، طردني عشان شهد الحرباية
صحح لها بحسن نية ونبرة هادئة ودية
- هو مطردكيش انتِ اللي مشيتي، وغير كدة انتِ غلطانة..
قاطعته بعنف قبل ان يُكمِل
- طبعاً انا الغلطانة، اروى هي الغلطانة دايماً
انفجر بها هو الاخر صارخاً.

- ايوة انتِ الغلطانة، شهد معملتلكيش حاجة عشان تتصرفي معاها بطريقة قليلة الذوق وغير كدة ازاي تتصرفي بالطريقة دي قدام بابا!
دفعت يده وقد اتسعت حدقتيها بجنون
- بتدافع عنها!
حك جبينه موضحاً
- مش بدافع عنها، بس..
قاطعته
- لا بدّافع
علّق بإنزعاج
- يعني سمعتي الجزء بتاعها بس!
لم تترُك حدقتيها خاصته اثناء تخطيها له، تريد الفكاك به إن أمكن، امسك بذراعها موقِفاً اياها، تنهد قبل ان يتحدث بهدوء.

- تصرفِك اللي عملتيه مع شهد كله في وش بابا وفي بيته، ازاي مستنية يقبل تصرف زي دة؟ مش شايفة ان عصبيته شيء طبيعي على موقفِك!
- وانا اتأسفت
- وانتِ تعرفي عن بابا انه بيقبل الأسف من غير عقاب يعرفِك غلطِك منه!
ردت بحزن
- بس مكنش بيتعامل معايا انا كدة
حرك كتفيه قائلاً
- عشان مكنتيش بتغلطي قدامه زيي
تنهدت بعمق، انه مُحِق، اخفضت رأسها قليلاً واخذت تلعب بأصابعها بقلق وهي تسأله بخوف ونبرة خافتة بعض الشيء.

- قال سيبيها، يعني مبقاش يحبني؟ مش عايزني تاني؟
ارتفعا حاجبيه بذهول من تفكيرها، سرعان ما أصبحت عينيه دافئتين اثناء تركه لذراعها ليقف مُقابلاً اياها، وضع كفيه على كتفيها ومال قليلاً لينظر لوجهها عن قُرب، قال بنبرة تحمِل العتاب والحنان
- مش معقول اللي بتقوليه دة!، ازاي مش عايزِك! انتِ مننا، فعشان كدة اتصرف معاكِ زي ما بيتعامل معايا.

رفعت حدقتيها له وقد كانت الدموع تتلألأ بهما، تأملها للحظة قبل ان يبتسم، حذرها بلطف
- متفكريش كدة تاني، احنا عيلة، سامعة!
اومأت برأسها بخضوع، وفي لحظة تحولت نظراتها للشراسة وهي تتهمه
- كل دة بسببك اصلاً
ابتعد وهو يهتف بإستنكار
- طلع الغلط عليا دلوقتي!
ثم ضحك وأقر بالحقيقة لينهي الحديث
- انا سبب كل تصرفاتك، خلصنا!
اضاف وهو يسبقها ببضع خطوات
- يلا عشان اوصلك
اسرعت وواكبت خطواته وهي تسأله ببطء.

- هترجعلها بعد ما توصلني؟
سألها بهدوء
- انتِ عايزة اية؟
- متروحلهاش
هز رأسه موافقاً
- حاضر
اتسعت ابتسامتها وكادت ان تصل لأذنيها، نظر لها وقد رأى السعادة تلمع في حدقتيها، طوقت ذراعه بذراعيها بتملك، لكنه لم يعترض، ظهر طيف ابتسامة على شفتيه واختفى سريعاً حين نظرت له.

في شقة إسماعيل الأنصاري
- متزعليش من اللي عملته اروى، هي مش قصدها..
قالتها خديجة لـ شهد التي تستعد للمغادرة، ردت الاخيرة بسماحة.

- مش زعلانة منها يا طنط، بس بجد مش عارفة هي لية مبتحبنيش؟
ربتت خديجة على كتف شهد دون ان تُعلق، فماذا تقول لها!، قالت شهد مع ابتسامة وهي تقف عند الباب
- وصلي سلامي لعمو
- يوصل يا حبيبتي، لولا انه تِعب كان جه سلم عليكِ
- مش مشكلة، سلامته
- الله يسلمك
ثم غادرت، تنهدت خديجة واتجهت لغرفة النوم، جلست بجوار اسماعيل على الفراش، ابتسمت بحنان وهي تقول برضا.

- كنت عارفة ان دة اللي هيحصل، مبتهونش عليك اروى مهما عملِت
لم ينظُر لها، سألها بإقتضاب يحاول ان يخفي خلفه اهتمامه
- كلمتيها؟ شوفتيها وصلت!
- يونس معاها
طمئنته بقولها، لم يرد، فأضافت
- بس كويس انك ممنعتش يونس من انه يلحقها
تنهد قائلاً بضعف
- كنت خايف ليحصلها حاجة زي المرة اللي فاتت.

انخفضا كتفيها وهي تتذكر تلك الحادثة، فقد غضب عليها اسماعيل وقتها فغادرت ولم يصلوا لها إلا اليوم التالي وقد كانت في المستشفى، تمتمت برعب
- متفكرنيش
تنفست بقوة وهي تنهض، اخبرته بحزم
- هجيبلك طبق تاكل، دة انت مكلتش ولازم تاخد الدوا لوجع قلبك دة، وبلاش عِناد
اومأ برأسه بتعب وإستسلام.
.

صعدت شهد درجات السلم بشرود، تفكر بكل احداث الليلة، هناك تساؤلات تُشعرها بالحيرة والفضول الشديد، اولها، ما العلاقة القوية التي تجمع بين اروى وعائلة يونس؟، اعتقدت انها بعلاقة مع يونس فقط!، حتى انها تعتقد ان هناك لُغز في علاقتهم، فمنذ البداية لم تفهم طريقة تعامل اروى الغريبة لها بسبب يونس، اعتقدت للحظة انهم أحباء لكن من طريقة الاخير معها جعلتها تتراجع عن ذلك التوقع؛ توقفت امام باب شقتها وقد افترقت شفتيها بصدمة حين تذكرت كلمة اسماعيل حين امرها ان تذهب لغرفتها!، هل تعيش معهم؟ كيف؟

- على كدة يعتبروا اخوات!
حدَّثت نفسها بتفكير وعدم تصديق، ثم حكت جبينها وهي تستنكر ذلك
- بس اسلوبها مش اسلوب اخوات خالص!
جفلت حين وجدت والدتها تفتح باب الشقة لتنظر لها بقلق ممزوج بالحدة، سألتها بخشونة وهي تسحبها للداخل
- اتأخرتي كدة لية؟
- كنت معزومة
عقدت والدتها حاجبيها مُتسائلة
- فين؟
- عمو اسماعيل عزمني
اتسعت مقلتيها بغضب بدأ يظهر بوضوح في حدقتي والدتها
- نعم! ومقولتليش؟
بررت شهد فعلتها سريعاً.

- انشغلت ونسيت اقولك والله، بس قولت اكيد مش هترفضي
ارتفع صوت والدتها وهي تُعارِض
- لا طبعاً كنت هرفض، ازاي تروحي بيتهم؟ ومن غير ما تقوليلي كمان! ازاي؟
انتفضت شهد اثر صريخ والدتها المُفاجئ، اسرعت لتبرر موقفها مرة اخرى لكن بخوف قد تملكها بعض الشيء
- مقدرتش ارفض يا ماما
- لية؟ مكنش هيمسك فيكِ اوي اكيد.

صمتت شهد، لم تجد رد مُناسب، وإذ قالت الرد الذي بداخلها فلن يُعجِب والدتها وقد يصل الامر لشجار كبير بينهما وهذا اخر ما تريده؛ امسكت بيد والدتها واعتذرت
- انا اسفة يا ماما، حقك عليا مش هكررها تاني، اسفة والله.

رمقتها والدتها بضيق وتركتها لتتجه لغرفتها، لقد خاصمتها، تنهدت بإستياء، هذا ما ينقصها الان، ألا يكفيها ما فعلته اروى معها!، تذكرت رد فعل اسماعيل، لولاه لكانت الان تحترق بداخلها بسبب صمتها الغبي، يجب ان تضع لها حد لتتوقف من مُضايقتها، تنتظر الفرصة فقط.
تركت حقيبتها ولحقت بوالدتها لتصالحها.

بعد منتصف الليل..

فتحت اروى عينيها بإرهاق، تعلقت حدقتيها بضوء القمر المُنعكِس على سقف غرفتها، بدت عينيها مُظلِمة كداخلها الذي يتسلط عليها وعاد ليصعد لها وينتشر في روحها من جديد، ضجيج مُرهق لا تستطيع تحملُه، انها المرة الثالثة وقد زاد اليوم عن اليومين الماضيَّن، لا تستطيع السيطرة عليه.
اعتدلت جالسة وهي تضرب بشيء من العنف رأسها بكفيها، لماذا لا يصمت؟ لماذا يعذبون روحها!

التفتت والتقطت هاتفها من فوق الكمود بتعجل، فتحت الهاتف وبحثت عن رقمه، ضغطت على زر الاتصال بإصرار ثم وضعت الهاتف على اذنها، كادت ان تُغلق الخط حين طال الرنين لكن في اخر لحظة كان الطرف الاخر قد رد، اخبرته دون اي مقدمات
- انا محتاجاك، لازم اتكلم معاك
صمتت تستمع لرد الاخر، ثم سألته برجاء
- مينفعش دلوقتي؟ ها؟
ظهر الإحباط جلياً على ملامحها بعد رده، هزت رأسها بقلة حيلة وهي تقول
- ماشي، بكرة.

اغلقت الخط دون توديعه حتى، القت بالهاتف بجوارها واستلقت على السرير لتعود وتستقر حدقتيها على نفس البقعة بتعب، مدت يدها واخذت علبة أقراص المنوم من فوق الكمود لتبتلع قرص منه.

اشرقت شمس يوم جديد
أنتفضت اروى من فوق السرير بعد ان ادركت انها الساعة العاشرة، تباً لقد تأخرت عن عملها، اسرعت لتغتسل وتنهي ارتداء ملابسها خلال خمسة عشر دقيقة.

وصلت للشركة على تمام الساعة الحادية عشر، ما كادت ان تجلس خلف مكتبها حتى اتت شهد لتخبرها برسيمة
- أستاذ يونس عايزِك
رمقتها بإنزعاج وهي تنهض
- قولتيله اني متأخرة، صح!
لم ترد شهد عليها وعادت لمكتبها، فسارت اروى خلفها لتذهب لمكتب يونس، تابعها الاخير وهي تتقدم منه، هدر بنبرة مُنزعجة فور وقوفها امامه
- بدأنا نستهتر بالشغل؟
ردت يتلقائية
- راحت عليا نومة
واضافت سريعاً
- مش هتتكرر تاني.

اضاق عينيه وسألها بشك
- انتِ تعبانة؟!
- لا
اجابته دون تفكير، ثم طلبت منه
- ممكن استئذن النهاردة بدري؟
- مش كفاية جاية متأخر!
تخطت قوله وأخبرته
- ورايا موعد
- مع مين؟
سألها بتلقائية، فأرتفعا حاجبيها بدهشة، فأسرع وقال
- ماشي، بس مش هديكِ إذن تاني
ابتسمت بخبث وهي ترد على سؤاله الذي تخطاه قصداً
- متقلقش مش بخونك.

رمقها بإستنكار؛ فأبتسمت واستدارت مُبتعدة لتغادر، رفعت رأسها بشموخ وهي تُبادل شهد بنظرات مُشتحنة مُتحدية.

الساعة السادسة مساءً
- اخيراً نورتيني بعد غياب تلت شهور يا اروى!
قالها الطبيب النفسي نادر بشيء من العتاب بعد دخول اروى، ابتسمت الاخيرة وقالت بصراحة
- كان نفسي مجيش تاني
فسألها بسلاسة
- طب جيتي لية؟
ردت بثُّقل
- عشان تعبانة
- لية؟
جلست ورفعت قدميها لتصبح مستلقية على الكُرسي، أجابته بصوت مُعذب.

- أنا تعبانة، تعبانة جدا، مخي دة مبيسكتش، كله بيتكلم فيه، مش قادرة أسيطر على تفكيري، تفكيري هيموتني، الأصوات دي بتخنقني، بتواجهني بكل مخاوفي
وضع المسجل على المنضدة وسألها
- من امتى بدأت معاكِ الحالة دي!
- من اول ما رجعت من السفر، من تلت ايام، ماما السبب، انا بكرهها
انهت قولها بنبرة مُنفعلة كارهة بصدق، ثم هدأت واردفت بشرود.

- بس امبارح كنت خايفة، دخلت شقتي ولأول مرة اخاف، بصيت حواليا كدة لقيتني لوحدي، خوفت لأكون كدة في يوم من الأيام بس مش في الشقة، اكون لوحدي في الدنيا دي
هز رأسه مُتفهماً، طرح سؤالاً اخر
- طب حصل اية عشان تحسي بكدة؟
سردت عليه ما حدث في منزل اسماعيل، واضافت
- رغم ان يونس طمني، وعارفة ان كلامه صح وأنهم مش هيتخلوا عني بس، بس
صمتت لوهلة، تنفست بعمق قبل ان تخبره بهواجسها بريبة.

- خايفة ليتخلوا عني بسبب تصرفاتي، خايفة اخسر يونس بسبب طريقتي معاه، بس مش بأيدي، شهد السبب
رفع بصره لها وعرض عليها
- اية رأيك نتكلم عن شخصية شخصية منهم، وتقوليلي كل حاجة جواكِ عنهم!
وافقت واختارت شهد لتتحدث عنها.

- شهد السكرتيرة الجديدة ليونس، شهد مضايقاني، مش عارفة لية حاسة كدة ناحيتها، مكُنتش بالعدوانية دي مع اي واحدة كان يونس ماشي معاها، رغم اني كنت بتضايق من البنات اللي بيمشي معاهم بس كان جوايا شعور الاطمئنان من ناحية ان عُمره ما هيختارهم انه يكمِل حياته مع اي واحدة منهم، بس شهد، شهد مختلفة
- مختلفة ازاي؟

- هي مِثالية في عين أهل يونس، شايفنها طيبة ومحترمة وهادية وفي حالها، تنفع تفتح معاه بيت وتصونه، حتى يونس شايفها كدة وعجباه
سألها بحيرة
- وعرفتي منين انها عجباه؟
- طريقته مختلفة معاها، مشفتهوش بيتعامل مع اي واحدة من البنات اللي مشي معاهم بالطريقة دي، دة حتى صاحِبها، بقوا صحاب!، مرتبطش بيها علطول
شاركها احتمال وارد
- طب مش ممكن بتتوهمي؟
صمتت تفكر للحظة، ثم تذكرت واخبرته.

- قال قبل كدة انها ممكن تكون نهاية اللعب، وغير كدة هي مُعجبة بيه، وقبل ما تسألني عرفت منين باين من نظراتها له، وهي وافقت على العزومة عشانه، انا متأكدة
هز رأسه بتفهم، وسألها مع ابتسامة صغيرة
- واية تاني مضايقك غير شهد؟
لم تُجيب على سؤاله وانتقلت لنقطة أُخرى، لِما جال في عقلها
- فكرت للحظة وانا مروَّحة مع يونس امبارح اننا نرجع صحاب، ترجع علاقتنا زي الاول واسيب حبي له لنفسي
شجعها على ذلك.

- طب اعمليها
اخفضت رأسها بإستياء وهي ترد بخفوت
- حتى لو رجعنا صحاب، مش هقدر اشوفه مع واحدة غيري
- بس هتكوني كسبتيه كصديق، ورَجعتي علاقتك بيه
- بس واحدة تانية هتشاركه معايا
شعرت بالضيق لمجرد تخيل ذلك.
تنهد نادر وهو يهز رأسه، نظر لها وهدر بعملية.

- قولتلك الكلام دة في كل جلسة كنتِ بتجيها وهقوله لك تاني، مخاوفك لما تتخلي عنها وتبقي شجاعة قدامها مش هتخصك بعد كدة، احنا اللي بندي مخاوفنا حجم اكبر من حجمها فبنتخيل ان عمرنا ما هنقدر نتغلب عليها؛ اللي مريتي بيه مش سهل، وانك تلاقي اللي يعوضك هتمسكي فيه بأيدك واسنانك عشان متحسيش انك مُهمشة تاني، بس مش ملاحظة انك مُهمشة في حياة يونس؟

تغيرت ملامح وجه اروى لتصبح جامدة، انه سؤال قاسي عليها، بينما اكمل نادر بإصرار
- هتقبلي الحال دة لغاية ما يجي حد يشدك من الضياع اللي انتِ فيه! وهتحبي اللي هيساعدك تاني وتعيدي نفس الاحداث والنهاية تكون مأساوية ليكِ لوحدك
اسند كفيه على فخذيه وهو يقترب بجسده قليلاً، طارحاً سؤاله الذي اثار أعصابها
- البنت اللي ابوها وامها اتخلوا عنها قدرت تعيش بعدهم، مش هتقدر تعيش بعد ما تتخلى عن يونس؟

انعقد حاجبيها برفض قاطع، هتفت بثورة
- مفيش مقارنة، مشافتش من ابوها وامها ربع اللي بيعمله يونس معاها
ابتسم نادر وقال بهدوء
- طب اهدي، احنا بنتناقش بس يا اروى
ادركت نفسها، ضمت كفيها بحرج واعتذرت بخفوت
- اسفة، مش قصدي اني اعلي صوتي بس
وصمتت بإحباط، انها هكذا، هذا طبعها، لا تستطيع كبح انفعالتها والتحكم بها، اضاق عينيه وسألها بشك
- جربتي تعملي اللي قولتلك عليه؟
لم تفكر حتى اجابته
- الصراحة لا.

ابتسم بهدوء وقال
- طب جربي، لما تتعصبي او تضايقي، قبل ما تتصرفي بتهور عدي من واحد لعشرة، لحظة الغضب هتروح وهتفكري وقتها احسن، يعني مثلا بدل ما كنتِ هتقلتي شهد في لحظة غضبِك هتضربيها بس
ضحكا معاً بقوة، هدأت ضحكاتها وهي تهم بالنهوض وتُخبره
- هروّح بقى
سألها وهو يدور بكرسيه
- هتيجي تاني؟
- للأسف
ضحك بقوة وقال
- متقوليهاش في وشي طيب!
هزت كتفيها قائلة بأسف
- مبعرفش اتصنع او أجامل، ودة اكبر عيب فيا.

صحح لها بايجابية
- قصدك ميزة
ابتسمت بسخرية من قوله، اشارت له بكفها مودعة اياه ثم غادرت.

في الشركة، في مكتب يونس
- هتوصلني النهاردة؟
سألته شهد عن قصد وهي تكتم ضحكتها، فرد بغيظ غير حقيقي
- شكلك مخداني سواق!
ضحكت وقالت ببراءة مُصطنعة
- متقولش كدة بس
ضحك بخفة وقال
- خمس دقايق ونتحرك
- ماشي
خرجت من مكتبه واتجهت للمرحاض لتتجهز قبل مغادرتها معه.

جذب انتباه يونس صوت قطرات ماء تصطدم بالسطح المعدني للنافذة، ادار رأسه قليلاً لينظر للخارج، همس بسعادة
- الشتا خلاص على الأبواب
عاد ليختم الملف الذي امامه، توقف مُتذكِراً، انها تُمطِر و اروى بمفردها؟، اخرج هاتفه سريعاً ليتصل بالأخيرة، نهض مع اتصاله الثاني بها وقد تملكه القلق، لكن لحُسن حظه انها ردت، سألها بإهتمام
- انتِ فين؟
قابلت سؤاله بسؤال اخر، كانت نبرتها خافتة
- انت جي امتى؟
- انتِ عند ماما؟

- لا في البيت، كنت ناوية اروحلها بس بتمّطر
اخبرها وهو يلتقط مفاتيحه ويتجه للخارج
- انا جي دلوقتي
شعر بالراحة في صوتها بعد قوله
- ياريت، متتأخرش عليا
- حاضر
ابعد الهاتف عن اذنه واسرع للاسفل؛ بعد لحظات كانت قد خرجت شهد من المرحاض واتجهت لمكتبها لتأخذ حقيبتها ثم تذهب لمكتبه لكنها لم تجده!
- راح فين؟

اخرجت هاتفها لتتصل به وهي تتجه للاسفل، توقفت عند منتصف السلم حين رد على اتصالها، قبل ان تقول شيء كان قد اتى بقوله المُعتذِر
- اسف طلعلي مشوار مهم، تقدري تروحي لوحدِك!
- طبعاً، متقلقش عليا
انهت المكالمة، ظلت تنظر للشاشة للحظات، لا تعلم لماذا شعرت ان الامر مُتعلق بـ اروى.
.

كانت اروى تقف امام النافذة تنظر لهذه الاجواء المُمطرة التي لا تحبها، فهذه الاجواء تُشعرها بالوحدة، اكبر مخاوفها، حتى انها تُذكرها بذكرى رحيل والدتها، فكم تخاف من هطول الأمطار، فهو موسم الرحيل بالنسبة لها، فلم تكن والدتها فقط، حتى والدها و رهف اعز صديقاتها، سافرت وتركتها في مثل هذه الاجواء.

وصل يونس بعد زحام طريق خانق، اتى ان يطرق على باب شقتها لكنه وجد باب شقته من خلفه يُفتح، ذُهِل، كيف دخلت شقته؟
- اتأخرت، وصلت الهانم ولا اية؟
قالتها اروى بكبت، تقدم منها بحاجبين معقودين
- دخلتي شقتي ازاي؟
اتاحت له الطريق وهي ترد
- نسيت انك مديني مفتاح!
تذكر، لكنه صحح لها بسخرية
- مش انا، قصدك ماما.

منحته ابتسامة صفراء وهي تتجه للصالون، جلست امام التلفاز بينما اتجه هو لغرفته لتبديل ملابسه، وقد أوصد الباب، فهتفت اروى بإستنكار
- مش للدرجة يعني!
بعد دقائق خرج وجلس بجانبها، اخبرته وهي تقلب القنوات
- كنت ناوية اروح لعمو اسماعيل النهادة، بس المطرة خرَّبت كل خُطتي
- مش مشكلة
اخذت رأيه لتقرر
- رأيك أكلمه ولا استنى لبكرة اروح له؟
نصحها بهدوء
- كلميه، عشان ميقولش انك مش مهتمة.

اومأت برأسها والتقطت هاتفها لتتصل به، لكنها تراجعت في اخر لحظة
- ولا اروحله بكرة احسن واصالحه بالمكسرات اللي بيحبها
ليست فكرة سيئة، فأتاح لها هذا الخيار أيضاً.
استقر على فيلمهما المُفضل وأخذا يُشاهدانه، اخرجت المقرمشات من حقيبة بلاستيكية كانت تضعها خلفها، ابتسمت بحماس وهي تسأله
- المرة الكام اللي نتفرج عليه؟
فكر وقال بحيرة
- الخامسة؟
- لا، السابعة تقريباً
هز رأسه وقال
- ورهف كانت معانا.

تنهدت وقالت بحنين
- لو ترجع الايام دي
ابتسم بحنين هو أيضاً، ساد الصمت لثواني قبل ان تقطعه اروى بقولها الشارد الذي لامس نبرة الحزن
- كل حاجة اتغيرت، انت اول الحاجات دي، لية اتغيرت!

تلاشت ابتسامته وتهجم وجهه، لم يُعلق ولم تقُل هي شيء، لقد خرجت كلماتها منها دون اي نية لفتح حديث ودون انتظار رد، فهي تخاف من رده ومن خوض هذا الحديث، تخاف ان تواجهه وتسأله بجدية عن سبب رفضه فإذ فعلت لن يكون لها فرصة التمسُك، حتى انها تتحدث معه في هذه النقاط بمرح وطريقة سريعة غير جارحة لها.

بينما فكر هو، لماذا تُخرب لحظاتهم بذكر هذه الأمور؟، كلما يجد نفسه يعاملها بإهتمام وكأيام الخوالي تنزعها هي بذكر سبب تغيره، وكأنها تسأله عن سبب رفضه لها حتى إن كانت تستخدم سؤال غير مُباشر.
شعر بالإحباط بداخله، نقل نظراته للنافذة، رأى ان السماء انهت بكاءها، التقط جهاز التحكم واغلق التلفاز فأستدارت له بشراسة، فواجهها بقوله المُقتضب
- المطرة خلصت
اعترضت قائلة بلطف
- طب نخلص الفيلم!

ترك لها الجهاز ونهض قائلاً
- شوفيه في بيتك
ثم خرج من الصالون، فنهضت بدورها وهي توبخ نفسها، ضربت فمها بكفها عدة مرات، انه السبب، سمعته يقول قبل ان يصفع باب غرفته
- اقفلي باب الشقة كويس وراكِ

في منزل شهد
فتحت لها والدتها وقابلتها بوجه جامد، لم ترد على تحية شهد التي ألقتها عليها وتركتها لتجلس على الاريكة، اغلقت الاخيرة الباب بعد دخولها، قالت بحزن وهي تتنهد
- لسة زعلانة مني!

لم ترد عليها والدتها، فجلست شهد بجوارها، وضعت يدها في حقيبتها وهي تقول بحماس
- تعرفي جبتلِك اية؟
ردت والدتها بجفاء
- الشوكولاتة اللي بتصالحيني بيها في كل مرة بتغلطي فيها
- عرفت غلطتي يا ماما، مش هعمل حاجة تاني الا لما اقولك
ردت والدتها بحزم
- دة اللي هيحصل من غير تأكيد منك
ابتسمت شهد وهي تنكزها بمرح
- طب فُكي بقى.

مدت والدتها كفها، فأتسعت ابتسامة شهد وهي تضع الشوكولاتة في كف والدتها المفتوح، ثم عانقتها.
بعد فترة وجيزة، جلستا هما الاثنان امام التلفاز، يتحدثان ويُشاهدان فيلم قديم، تطرقت شهد للحديث عن اروى لوالدتها، لتنصحها بطريقة التعامل معها، أخبرت والدتها بكل ما فعلته معها اروى لكنها لم تخبرها ابداً عما حدث في العزومة، فأستنكرت والدتها
- من امتى وانتِ بتسكتي عن حقك يا شهد!
ردت شهد بحنق.

- ما هي بتختار وقت بيكون يونس معايا وفي الشركة، فبحترم المكان اللي انا فيه، مش عايزة اتطرد وخاصةً بسببها عشان هي عايزة كدة، فأنا صح؟
تساءلت بحيرة، فردت والدتها
- في ناس كل ما بتسكتي لها كل ما تزيد، شكل اروى من النوع دة، فتبقي تردي عليها بذوق، تحرجيها بذوقك وبهدوء
- ما انا عملت كدة طول الفترة اللي فاتت، دة انا كمان كنت بتجاهلها بس هي مُصممة
سألتها والدتها..
- طب سبب تصرفاتها اية؟
- يونس.

ردت بسخط، فضربت والدتها كفيها ببعضهم البعض وهي تهدر
- شكل مش هيجيلنا من ورا الواد دة غير المصايب

اليوم التالي.

يقف يونس امام المرآة يُهندم ملابسه، توقفت يده عما تفعله حين سمع جرس الباب، نظر للساعة وجدها السابعة والنصف، انها اروى، عاد ليُكمِل ما يفعله سرعان ما توقف مرة اخرى حين وقع بصره على الصورة الذي تركها على الفراش، استدار سريعاً واتجه للفراش ليأخذها ويتجه بها للخزانة ويفتحها، فتح إحدى الادراج السُفلية، نظر للصورة، تأملها ثم وضعها داخل الدرج ليغلقه بعدها بالمفتاح.

نهض وهو يتنهد براحة، ماذا كان سيحل على رأسه إذ نساها ورأى احدهم هذه الصورة؟ فهناك من يدخل شقته دون إذن، كوالدته و اروى، وكشف هذا الامر يعني اختلال موازين كل شيء من حوله، سيخرج كل شيء عن السيطرة.
زفر بإنزعاج وهو يتجه للخارج، انها لا تمل، قد اصابه الصداع من صوت الجرس الذي لم يهدأ ابداً، فتح الباب بعنف ورمقها بغضب، فإبتسمت اروى بإستفزاز وقالت بحيوية.
- مش يلا!

ظهر اليوم، في الشركة.

كانت اروى تصعد السلالم بينما كانت شهد تهم بالنزول، اوقفتها اروى لتسألها بود ساخر
- عاملة اية يا ست شهد؟
لم تكترث لها شهد وكادت ان تُكمِل طريقها لكن قول اروى اوقفها
- لسانك بربنط مع يونس وبس ولا اية؟
استدارت لها شهد على مضض، نظرت لها ببرود وهي تطلب منها برجاء ام تهديد!
- ابعدي عني يا اروى، عشان مش عارفة لأمتى هقدر امسك نفسي عنك
رفعت اروى زاوية فمها بهزء وهي تستفزها
- انا عايزاكِ تسيبي نفسك، يلا.

هزت شهد رأسها رافضة وهي تقول
- مش هناولِك اللي انتِ عايزاه
نزلت اروى درجة واحدة لتصبح اقرب قليلاً لـ شهد تحدثت بخفوت وهي ترمقها بإزدراء
- انا عارفة اللي في دماغك، عارفة اشكالك كويس
ابتسمت شهد بسخرية وهي تسألها بفضول زائف
- والله!، طب قوليلي انا أشكال اية؟
- بتلفي حولين يونس...
قاطعتها شهد بقول لم تتوقعه اروى ابداً
- هو انتِ فكراني رخيصة زيك؟

صُدِمت اروى لكن الغضب خلصها من صدمتها، قدحت عيناها بغضب مظلم، وتملكها حتى النخاع، ففعلت اول شيء خطر على بالها، صفع هذه الحقيرة.
صفعتها بقوة فاتسعت مقلتي شهد بصدمة، حركت حدقتيها لتنظر لـ اروى بعدم تصديق ممزوج بالغضب، بينما كانت الاخيرة تلهث من شدة غضبها.
في اللحظة التي كادت ان تقول اروى فيها شيء دفعتها شهد بقوة فسقطت اروى، تدحرجت على درجات السلم بعنف.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة