قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا بين شباكها للكاتبة مي علاء الفصل التاسع

نوفيلا بين شباكها للكاتبة مي علاء الفصل التاسع

نوفيلا بين شباكها للكاتبة مي علاء الفصل التاسع

لم يكن العالم مُنصف معها، القى بها للتهلكة دون إشفاق..
دفعها للجنون..
أصحبت مظلومة، وظالمة أيضاً.

22/09/2019
الجلسة الاولى
ضغط نادر على زر المُسجِل ونظر لهذه المُشتتة التي تتلاعب بأصابعها دون وعي، تنقل بصرها حولها بتوتر وظلت مُلتزمة الصمت، ابتسم مُطمئناً اياها
- استاذة اروى، انا سامعِك، اتكلمي براحتِك عن نفسك، عن المشكلة من وجهة نظرك، فتحبي تبدأي بأية؟
حركت حدقتيها لتستقر عليه، سألته بتذبذب.

- هتعرف تعالجني؟
هز رأسه مؤكداً..
- بإذن الله، بس اتعاوني معايا
اشاحت بوجهها وصمتت مرة اخرى، انها متوترة وخائفة، انها مرتها الاولى.
- انا عايزة اعيش حياة طبيعية
اخرجت حروفها بعد فترة قصيرة من الصمت، استقبل قولها بصدر رحب وسألها بنبرة ودودة
- اية نظرتِك للحياة الطبيعية؟
- إن يكون ليا أهل يحبوني، واني اقدر اعيش مع يونس
تنفست بقوة بعد إنهاء جملتها الحزينة، اسند نادر مرفقيه على فخذيه وطلب منها.

- طب ممكن تحكيلي عن نفسك؟
إنها حذرة، عينيها مُضطربة بريبة، تتحدث مع غريب عن حياتها ولأول مرة، لا تشعر بالراحة، لكنها ستحاول من اجل نفسها واجل يونس، ستُعالج وستطرد السم المُنتشر بداخلها، السم الذي حقنها به الاخرين.
تحدثت بمهل...

- انا اروى، طفلة أهلها اتخلوا عنها، انا يتيمة اصلا، كبرت في ميتم، مكنش عندي مشكلة انهم اتخلوا عني لأن كنت متأملة ان هلاقي اهل تانين يعوضوني، وياخذوني من الميتم اللي الناس فيه كانت وحشة وقاسية عليا وعلى الاطفال اللي زيي
طالبها بالتفاصيل..
- لية اصحاب الميتم وحشين وقاسية؟ عملوا اية؟
- كانوا بيضربونا من اقل غلط، مكنوش بيراعونا، مكنتش بلاقي حد اتكلم معاه، كانوا بيتجاهلونا وبس، خاصةً اللي في سني.

- وبعدين؟
- مشيت من هناك وانا عندي ست سنين، جم ناس واتبنوني، بس..
توقفت عند نقطة تؤلمها، حقيقة رافقتها وترافقها للان.
- بس؟
- مش هما اللي اختاروني
- اومال؟
- لولا اني مسكت أيد بابا اسماعيل مكنش لاحظني وخدني من الميتم
ضمت كفيها لبعضهما وقد لمعت حدقتيها بالدموع وهي تخفض رأسها، اضافت بألم
- كنت حاسة دايماً اني مرفوضة، واتأكدت بعد ما روحت مع بابا اسماعيل
- لية بتقولي عن نفسك كدة؟

ردت بعد تنهيدة ثقيلة
- اهلي الحقيقيين سابوني في ميتم واهلي التانين بينفروا وبيخافوا مني، ودة بيدل ان وجودي مش مرغوب فيه، واني منبوذة
- وانتِ شايفة نفسك اية؟
- شايفة اني شخصية مُخيفة مش مفهومة، انا نفسي مش فاهمة نفسي، بتصرف بدون تفكير، بمشي ورا غضبي زي العامية ومقدرش اتحكم فيه، احياناً ببقى عدوانية
اندفع جسدها للأمام وهي توضح له بضعف
- بس انا مكنتش كدة، انا بقيت كدة بعد ما بقيت بنتهم.

هز رأسه مُتفهماً مانحها الراحة، ثم سألها بتعاطف
- عملوا فيكِ اية يا اروى؟
ظلت تنظر له بصمت، سالت دموعها ومساحتها بقهر وهي تُعيد ظهرها للخلف، نظرت للسقف هامسة
- احياناً بخاف من نفسي، بتجيلي افكار بشعة ممكن اقتل فيها حد او اقتل نفسي، احياناً بشفق عليها لاني ضحية، ضحيتهم
- انتِ ضحيتهم، فممكن تقوليلي عملوا فيكِ اية؟
- محبونيش، كانوا عايزين يرجعوني للميتم بعد سنتين بس من حياتي معاهم
اضافت بتفكير..

- ممكن عشان مكنتش طبيعية وانا صغيرة!، كنت مُزعجة ومنعزلة
تساءل نادر..
- ازاي مُزعجة ومُنعزلة؟
- كنت بعيط كتير، كنت بخاف ابقى لوحدي وكنت ورا ماما خديجة في كل مكان حتى في الحمام، وكمان كنت بخاف من الناس الغريبة، كنت بخاف من اي حاجة، اكتر حاجة كنت بخاف منها اني ابقى لوحدي
علق بهدوء
- شعور طبيعي من اي طفل، خوفه من الوحدة وتعلُّقه بأمه، فدي مش حاجة تخليكِ مش طبيعية.

حركت رأسها بعدم اقتناع بمعنى ما قاله، فهي ترى نفسها غير طبيعية، انها مُريبة.
سألته بحيرة وفضول، سؤال مر عليها الان..
- هو في أشخاص بيتولدوا بطبيعة مُخيفة؟
شرح لها ببساطة
- الطفل عبارة عن عجينة، بيشكله اهله او الجهة المُربية، سواء طلع الطفل دة سوي او عنده كسور فـ دة مش بسببه، دة نتيجة للمعاملة اللي اتعرض لها منذ الطفولة
هزت رأسها وشردت، جذب انتباهها بسؤاله
- كانوا بيعاملوكِ ازاي؟

نظرت له وقد ظهر الحنين على كل حرف أخرجته اثناء إجابتها
- كانوا بيعاملوني كويس اوي، بيحبوني ويعملولي كل حاجة اطلبها، لما كنت اغلط كانوا ينصحوني بالهداوة وكمان كانوا بيقفوا في صفي لما كنت اتخانق مع يونس، كانوا بيخافوا عليا وبيهتموا بيا، بس كل دة اختفى بعد تاني سنة
انهت جملتها وصمتت، طرح عليها سؤاله
- امتى يونس دخل حياتِك؟

- انا اللي دخلت حياته، هو كان جزء من حياة خديجة وإسماعيل، هو اخو خديجة بس كان اكبر مني بأربع سنين، كان عايش معانا
- علاقتِك معاه كانت ازاي خلال السنتين؟
تهللت أساريرها وهي تتحدث عنه..
- كنا زي الأخوات، كان بيعاملني كأني اخته الصغيرة من اول يوم دخلت فيه حياته وكأنه كان مستنيني، كنا بنتخانق احياناً بس كان بيصالحني علطول ولو عانِد ودة قليل كانت ماما تخليه يصالحني
مالت برأسها قليلاً وهي تهمس بحزن.

- هو الوحيد المتغيرش
دوّن شيء في دفتر الملاحظات الذي معه ثم سألها بدقة
- يونس النهاردة يُعتبر اية بالنسبالك؟
لم تُفكر في الإجابة حتى..
- هو كل حياتي، هو الوحيد اللي اتمسك بيا وحسسني ان ليا قيمة، ان وجودي بيفرق، معاملنيش كأني مش موجودة زيهم..
ثم نظرت لندب ظاهر بوضوح على رسغها واضافت بخفوت وكأنها تُحدِث نفسها
- وانا متمسكة بحياتي عشانه.

تابع خط سير نظراتها ولاحظ ذلك الندب لكنه لن يُعلق الان حتى لا يشتت تركيزها، انتقل لنقطة اخرى، ليُلِم ببدايتها.
- كلميني عن بقية عيلتِك..
اتت بردها المثير للشفقة
- انا معنديش عيلة
- مبتعتبرهُمش عيلتِك بعد اللي عملوه؟
صمتت، عاجزة عن الرد، بل مُحرجة، مُحرجة من احتياجها المُثير للشفقة الذي يجعلها تتمسك بهم وتتتمنى حبهم رغم بعدهم وبغض تصرفاتهم.
رأى ترددها بوضوح، ابتسم وطلب منها.

- اية رأيِك تكلميني عن خديجة!
- ماما خديجة..
همست بها والتقطت انفاسها بثُقل، هز رأسه بتأكيد لِم أدركه عقله، ترك دفتر المُلاحظات بجواره وسألها بمُراعاة
- تحبي نكتفي النهاردة بالكم دة؟
بدلاً من منحه موافقة وجدها تسرد عليه بقية إجابة سؤاله الاول.

- على السنة التالتة بدأت احس فجأة بتغيُّر في معاملة ماما خديجة وبابا إسماعيل ليا، مكُنتِش عارفة السبب في الاول، بس لمجرد اني حسيت ببُعدهُم خوفت، فاكرة الشعور ليومي دة لانه ملازمني كل يوم، ولما بخاف بتصرف بطريقة غريبة، ببقى عدوانية جدا، اكتشفت دة، لمجرد شعوري انهم ممكن يتخلوا عني خلاني أهيج، أعيط كتير وشوية أكسر وابوّظ كل لعبي، اتحولت تماماً خاصةً بعد ما عرفت سبب جفاءهم معايا، اصل بقى في حد هياخد مكاني.

علّق بتفهم
- كأي طفل، هيغير على أُمه ويخاف ان مكانة يتاخد، بيحس بالتهديد لما الأُم تحمل بطفل تاني
اندفعت للأمام بعنف هاتفة بعذاب
- بس انا مكنتش زي اي طفل، انا كنت هموتها...
لاحظ تشنجها وارتجاف شفتيها، طلب منها بهدوء
- طب اهدي..
لم تسمعه، أكملت بتقطع وأنفاس لاهثة بجانب عينيها المُضطربة التي يُعرض امامها لحظات ذلك الحادث.

- فاكرة حالتها، كانت مرمية على الارض وفي دم بين رجليها، بقت تكرهني، بتصرخ في وشي، بتقول عليا مجنونة ومُخيفة، بقت تكرهني
انها تخرج عن السيطرة، نهض طالباً منها
- طب اهدي يا اروى
- كانت في الشهر الرابع...
امسك بكتفيها ليُقظها هذه المرة، هزها هاتفاً
- اروى، انتِ هنا مش هناك، خليكِ معايا، ركزي معايا
نظرت له بتشتت واضح، مسحت وجهها بكفيها وهي تهز رأسها
- عايزة أمشي، يونس، مستنيني، عايزة..
قاطعها.

- حاضر، بس استجمعي نفسك الاول
امآءت برأسها عدة مرات، قدم لها كوب ماء فأحتست القليل منه بتعجل وهي تقف على قدميها، سألها بلطف مع ابتعادها
- هشوفِك تاني؟
ردت عليه بجفاء مُفاجيء
- مش عايزة
ارتفعا حاجبيه مُتساءلاً
- غيرتي رأيك؟ مش عايزة تتعالجي؟
اخبرته بنبرة مُرتفعة شرسة
- انا مش مجنونة
رد بذكاء
- وهو كل اللي بيجي هنا مجنون؟

رمقته بضيق وغادرت؛ التقط دفتر ملاحظاته وكتب جملة تقلبات ميزاجية عنيفة اسفل الجُمَل السابقة رعب من فكرة الهجر - أذية النفس - الأستسلام للغضب.
اتجه لمكتبه وجلس خلفه، يشتبه بحالاتها، وربما عرفها.
بينما في الخارج، توقفت اروى تنقل نظراتها حولها، اين يونس؟ اين ذهب؟ لقد اخبرها انه سينتظرها لحين ان تنتهي.

تباً تُريد رؤيته، تُريد ان تشعر بوجوده بجوارها لتطمئِن، لتتلاشى المشاعر البغيضة التي اندفعت بداخلها مُجدداً؛ أسرعت للسكرتيرة لتسألها بتوتر
- يونس، يونس فين؟ اللي جه معايا
- أستاذ يونس مشي من بدري
- مشي! مشي ازاي؟

هتفت بفزع وهرّعت للخارج دون إنتظار اي توضيح منها؛ إنقبض قلبها بخوف وتزعزع، توقفت امام العقار، تنقل بصرها حولها بتعجل واضطراب وخوف شديد من الفكرة الوحيدة التي عصفت برأسها، قد تخلى عنها، هل حقاً تخلى عنها؟ هل تركها ورحل؟

سارت بخطوات مُتسارعة دون هوادة، تأخذها قدمها لأماكن قريبة من موقعها هذا لعلها تجده، تنظر حولها بجنون وعيون لامعة بالدموع، تكاد ان تبكي وتنهار، تذكرت هاتفها، ستتصل به، وفعلت لكن هاتفه خارج نطاق التغطية، أعادت الكَرى وكانت النتيجة واحدة؛ انخفضت يدها المُمسكة بالهاتف بإحباط تبعه صرخة خرجت منها بقهر مع ضربها للأرض بقدمها بغضب، فتركزت العيون من حولها عليها، نظرات مُرتابة ومُندهشة.

أخذت تلهث وهي تضع كفيها على وجهها تنتحب، ثم أبعدتهم واكملت سيرها ودموعها تنساب بحرقة على وجنتيها.
وصلت للفندق التي أصبحت تقطن به منذ اسبوع، لقد حجز يونس غرفتين، واحدة له والأُخرى لها؛ فقد انفجرت الأمور ولم تعُد تحت السيطرة، كان يجب إنهاء كل شيء رغم صعوبته.

خرجت من المصعد الكهربائي بحركة بطيئة فارغة، اتجهت لغرفته بدلاً من غرفتها، دخلتها بسهولة فهي معها كلمة السر، لقد أعطاه لها بنفسه ودون ان تطلُبه.
- انت فين!

همست بها بوهن وألم وهي تقف خلف الباب التي عبرت من خلاله للتو، رائحته التي تملأ الغرفة اخترقت انفها لتُشعرها بوجوده، تقدمت لتجلس على فراشه وظلت ثابتة، تنظر أمامها بضياع، تشعر بألم حاد في نصفها الأيسر، انه ينزف من هجر جديد وخوف مُعتاد من الوحدة، لكنها وثقت به، لقد وعدها انه سيبقى معها ولن يتخلى ابداً، لقد اختارها هي أذاً ماذا حدث؟ هل كلن يخدعها؟

تذكرت ما حدث منذ اسبوع، ما حدث قبل تركهم لمنزل إسماعيل واختياره لها..

- انا سكتّ، انا استحملت كل السنين دي عشانك، عشان انت متعلق بالمجنونة دي بس لهنا وكفاية يا يونس، الحقيرة دي هتخرج برة بيتي وحياتي، ولوحدها، تهديدك انك هتسيبنا عشانها مبقاش ياكل معايا، لاني مش هسمحلك تبعد عن اختك وعن عيلتك عشان لقيطة ومجنونة زيها.

كانت خديجة صاحبة ذلك القول القاسي والهائج أيضاً، بينما ثار جنون يونس لنعت اروى بالمجنونة خاصةً انها تسمع هذا الحديث من داخل إحدى الغُرف، فقد أدخلها حتى لا تواجه غضب اخته لكن الاخيرة مُصِرة على إخراجه عن صمته.
حذرها بنبرة مازال يُسيطر عليها، على عكس نظراته التي اشتعلت بغضب
- متقوليش عنها مجنونة ووطي صوتِك..
ثارت أكثر، وأرتفع صوتها أكثر من السابق.

- مش هوطي زفت صوتي، انت محسسني ان عندها دم!، ياما سمعت كلامي، حصل حاجة؟ مشيت؟ لسة بتقول لي يا ماما، بتكرهيني في نفسي ياخي
صرخت بثورة مع كلماتها الاخيرة والنابعة من قلبها، انها تبغضها بحق، وتخاف منها أيضاً، انها مُقتنعة بأن اروى مريضة.
لم يتحمل يونس الصمت اكثر، انها تدفعه ليصبح قاسي معها لذا سيجعلها تنال ذلك، سيلقي بكل ما بداخله من حقد في وجه أُخته الظالمة.

- مش هي السبب في انك تكرهي نفسك، اروى مكانتش عايزة حاجة غير انكم تحبوها زي الاول، تعتبروها بنتكم، مش تتخلوا عنها اول ما ربنا كرمك بأنك تحمّلي..
رفع سُبابته صارخاً بعتاب وألم..

- لو عاملتوها كويس كان كل شيء أتغير، كُنا عشنا كعيلة سعيدة، لو مكنتوش بتضربوها من غير سبب وبسبب مكنتش هتبقى عدوانية كدة، لو اهتميتي بيها زي شهد كانت هتبقى على علاقة كويسة جداً معاها، كان كل دة متوقف عليكم، عليكِ انتِ وإسماعيل
هتفت مُقاطعة اياه وهي تضرب على فخذيها بقوة
- كان يوم اسود يوم ما إسماعيل جابها، كان يوم أسود...
لم يكترث لقولها وأكمل بحرقة.

- انا الوحيد اللي اهتميت بيها وحبيتها وحميتها، لولايا كنتوا هترموها كأنها ولا حاجة! لولا تمسُكِ بيها، لولا اني كنت بدافع عنها..
قاطعته بجنون وهي تنغزه في كتفه
- دي حاولت تقتلني وكانت هتموت شهد وكانت تكة وهتولع في البيت، انت نسيت كل دة!
كان اكثر جنوناً منها، غضب عنيف قد تملكه دون تراجُع.
- وكانت هتنتحر بسببكم، كانت هتموت تحت إيد إسماعيل، كانت مُضطهدة منكم.

حدقت به بكبت وأدركت ما أوصلت أخيها له، تقدمت خطوة منه ووضعت كفها على كتفه، عينيها ترجوه، حدّثته بنبرة خافتة مُناقضة لسابقتها تماماً
- أنت مش هتتخلى عننا عشان شعور الشفقة اللي متملكك ناحيتها، صح!
تنهد وهو يمسح وجهه بإرهاق، ثم نظر لحدقتي خديجة بتعمق، هدر بهدوء
- انتِ عارفة اني بحبها
احتدت ملامحها وعاد غضبها من جديد
- دة مش حُب..

لن يُجادلها فكم مرة فعل ذلك؟، ابتعد مُتجهاً للغرفة الذي وضعها فيها، حين فتح الباب وجدها منزوية في زاوية الغرفة، تعلقت حدقتيها به، حدقتيها الذي يسكن فيهما الحزن وكم يتمنى أن يبترُه، تقدم منها وانهضها برفق..
- يلا؟
تعلقت به مُتساءلة
- لفين؟
عادت لتهتف خديجة
- دي مريضة، مشؤومة، هتخرب حياتك زي ما خربت حياتنا
لم يقطع أتصال بصره مع أروى، رد على خديجة بثقة وإبتسامة دافئة منحها لـ أروى.

- لو هي مريضة هعالجها، ومش هسيبها، هعالجها من كل اللي عملتوه فيها، وبعدها هنبني حياة جديدة بعيدة عنكم
- بعيد عن اختك اللي ربيتك!
نقل بصره لـ خديجة، صمت لوهلة، همس بخيبة
- مكنتش اتمنى يكون عندي اخت ظالمة قلبها اسود وقاسي يخليها تظلم يتيم
انهى جملته واتجه للخارج، مُغادراً حياتها بالكامل، جحظت خديجة بعينيها برعب، أنه يرحل حقاً!، أخذت تصرخ وهي تُخرِب وتكسر ما تطوله يدها.

- متقولش كدة، انا أُختك، انا خدت مكان ماما بعد ما ماتت، انا اللي ربيتك، هتسيبني عشانها؟
أنهارت باكية على الارض، ستخسر أخيها الوحيد، التي وصتها عليه والدته، أنه طفلها الاول، تعتبره هكذا لأنها ربته.
توقف يونس أثر توقف اروى خلفه والذي كان يُمسك بيدها، سألته بتفكير
- بيتنا فوق، فـ رايحين فين دلوقتي؟
ابتسم لها مُجيباً
- مش كان نفسِك تسافري؟
اتسعت مقلتيها بعدم تصديق وسعادة!
- هنسافر دلوقتي؟

- مش دلوقتي بظبط، بس هنروح مكان تاني نقعد فيه، حالياً.

اومأت برأسها موافقة، ستذهب معه إينما يأخذها، فهي تثق به، لطالما منحها هذا الشعور الذي يبث لها الثقة والسعادة، ان يكون لديك احد مُتمسك بك، كم هو شعور رائع كفيل جعلها تخلص لمن يمنحها اياه، وتمسكه بها تعده وعداً منه.

استيقظت من الذكرى الاخيرة التي تجمعها بـ خديجة، وبأختياره لها، هل اقنعته الاخيرة بالعودة لهم وتركها بلا أحد؟ هل خضع لها؟، القت بجسدها على الفراش ودموعها تسيل بصمت، رفعت يدها بالهاتف وعاودت الاتصال به، استمرت هكذا كثيراً حتى تمت الخمسين اتصال او اكثر!

في النهاية يأست، أنه فشل آخر وتخلي آخر، رمت بهاتفها جانباً بعنف ثم رفعت ذراعها لتنظر للندب الواضح عند رسغها، تلمسته وقد لمعت فكرة واحدة داخل رأسها، نهضت وقد ترسخت تلك الفكرة، دلفت للشرفة بإندفاع واعتلت السور بتهور وجُرأة، اصبحت واقفة على الناحية الاخرى من السور، يدها تمسك بالسور وتُثبت قدمها عند نهايته، لا ينقصها سوى إفلات قبضتها لتتهاوى وتُنهي حياتها، ما فائدة حياتها إذ بقت بمفردها؟

اغمضت عينيها وهي تستنشق الهواء بقوة، ولآخر مرة، مر أمامها شريط حياتها المأساوي سريعاً، لم يكن هناك شيء جيد سواه، وتلاشى الان.
قبل تركها للسور بثانية، ثانية واحدة فقط، كان قد اتى، سمعت صوته الفزع من خلفها..
- اروى!
جحظت عينيه بخوف حقيقي عليها، وتوقف قلبه لرؤيتها هكذا، أدرك سريعاً ما تنوي فعله وهذا آلم قلبه أكثر، لماذا تحاول الأنتحار هذه المرة؟ ألم يختارها؟ هل ترى حياتها فارغة حتى وهو معها؟

- أبعد
صرخت بها حين ركض وكاد يصل إليها، توقف بعد خطوة واحدة من دخوله للشرفة، مد ذراعه وحدثها بنبرة قلقة وعينين تهتز بإلتياع
- بتعملي اية هناك! تعالي هنا، تعالي عندي نتكلم
نظرت له بعيون دامعة، هتفت بغضب لامس أعتاب القهر أيضاً
- رجعت لية؟ امشي، مش عايزاك
تقدم خطوة اخرى وهو يترجاها بأنفاس لاهثة
- تعالي من هناك، ممكن توقعي، خليني اجيلك طيب و..
صرخت بإنفعال اكثر
- انت هتمشي وهبقى لوحدي.

ارتفع صوته قليلاً وهو يؤكد لها
- عمري ما هسيبِك، أنا هنا، جمبك دايماً، مش همشي
هزت رأسها نفياً، لا تصدقه، فصرخ هذه المرة بنفاذ صبر، يكاد قلبه يتوقف، لماذا تُعذبه هكذا!
- أنا ممشيتش اصلاً، أنا...
قاطعته باكية..
- انت كداب، انت
نقل بصره لكفها المُمسك بإهمال للسور، ماذا إن سقطت؟، دار حول نفسه وهو يتنفس بخشونة، يجب ان يتصرف، سيتقدم منها ليسحبها إليه، لن يخاطر بها..
- غبية، غبية.

قالها من بين اسنانه بحرقة ثم باغتها بإقترابه السريع وإمساكه لذراعها بقوة، فصرخت بجنون مُطالبة اياه بتركها، اسرع ليحاوط خصرها النحيف بذراعيه القويتين ليحملها ويأخذها إليه، كانت تحاول بغباءها التملص منه لكنه أقوى.
تمسك بها ولم يُفلتها حتى دلف للغرفة وأغلق باب الشرفة بغضب، نظر لها بحدة صارخاً بها بعتاب.

- لية بتعملي كدة؟ لية بتفكري بأنانية؟ مش بتفكري حالتي هتبقى اية بعدِك؟ أشوفك بتنتحري قدامي!، بعد كل اللي عملته عشانك تعملي انتِ فيا كدة؟
تأملت ملامحه القلقة الحادة والصادقة أيضاً، لا يبدو كشخص تخلى عنها، هذا الخوف التي تراه في عينيه وصل اليها وأشعرها بغباء تفكيرها، فرقت شفتيها هامسة بخجل
- افتكرتك مشيت، افتكرتك سيبتني.

مازال هائجاً، يريد توبيخها بقسوة على تهورها التي قد تُلقي حتفها بسببه، هدر بعذاب مُعانقاً وجهها بكفيه
- انا اخترتِك انتِ، بحبك انتِ، وعدِّك عُمري ما هسيبيك عشان مقدرش، روحي فيكِ؛ مش وعدتيني انك مش هتأذي نفسك تاني؟
رفعت كفها لتضعه فوق كفه، تمتمت بضعف
- آخر مرة..
لا يثق بها، فكم مرة اخبرته انها المرة الاخيرة وأعادت الكرى!

- احنا في الدور العاشر، عارفة يعني اية؟، لو رميتي نفسك يبقى خلاص مفيش فرصة تانية، هتموتي، هخسرك وهنخسر أحلامنا
تريد أن تُخبره بأنها لا تستطيع التحكم بنفسها، تجد نفسها تندفع بتهور دون ان تجد فرصة للتفكر، الأفكار السلبية تُسيطر عليها بوحشية خاصةً فكرة التخلي عنها.
عضت شفتيها بحرج وأدارت ذراعيها حوله مُعانقة اياه، اعتذرت منه
- انا اسفة..

تنهد بتعب وهو يُطبق جفونه براحة لسلامتها، من الجيد أنه وصل في الوقت الصحيح وإلا كان سيستلم جُثتها الان؛ ربت على ظهرها بينما قد أتخذ قرار جديد، لأجلها.

26/9/2019
الجلسة الثانية
- عاملة اية النهاردة يا أروى؟
سألها نادر بلطف فأجابت
- كويسة
- تحبي نبدأ؟
لم تستجيب لسؤاله، فطرح آخر..
- طب تحبني نتكلم عن مين النهاردة؟، إسماعيل؟
نظرت له، كانت تنوي مُعاندته لكنها كانت ترغب في التحدث، لذا اومأت برأسها وبدأت في السرد.

- بابا إسماعيل، كنت انا اللي مسكت ايده في الميتم، كان بيحبني اوي في الاول، كان الأب اللي اتمنيته، عرفت بعدين أنه اللي اقنع ماما خديجة بيا، كان اتغير شوية مع تغير ماما خديجة بس أتحول تماماً لما أتولدت شهد، على عكس ماما خديجة اتغيرت اول ما بقت حامل، هو كان لسة بيهتم بيا ولو قليل
هز رأسه بتفهم وسألها
- وعلاقتك كانت ازاي مع الطفلة الجديدة، شهد؟
احتقن وجهها غيظاً وهي تتحدث عنها.

- مبحبهاش عشان خدت مكاني، سرقت حياتي، وكمان وهي مبتحبنيش، مش مكفيها خدت مني ماما وبابا وعايزة تاخد مني يونس
- محاولتيش تحسني علاقتِك معاها؟!
ردت بعدوانية
- طبعاً لا، مش عايزة ابقى صاحبة عدوتي، دي سوسة
- لية بتقولي عنها سوسة؟

- كانت بتغيظني كتير، واحنا صغيرين لما كانت ماما تجيبلها لبس أو أي حاجة تجيلي تضايقني بيها، كانت تغيظني عشان ماما بتعاملها حلو وبتحبها وانا بتعاملني وحش ومش مدياني وش، كانت بتضحك عليا وتفرح فيا لما أتضرب أو أتعاقب، وحاجات كتير من دي
إنه تصرُف وارد من أي طفل لكن من واجب الوالدين توجيه طفلتهم وتعليمها أن هذا الفعل خاطيء.
أنتقل لنقطة آخرى، لسماع بقية حديث المرة السابقة.

- فاكرة يا اروى وقفنا كلام الجلسة اللي فاتت عند اية؟
صمتت للحظة تُفكر وقبل ان تخبره سألها
- تحبي نكمل كلامنا من النقطة دي؟
نظرت له، فمال بجسده للأمام قائلاً بشفافية
- لما عرفتي ان خديجة حامل، عملتي اية؟
ضمت كفيها وهي تتذكر، ضاق صدرها، مازالت تشعر بالذنب وتطلب السماح منها لكنها لم تمنحها إياه.

- سمعتها بتتكلم على التليفون وبتقول انها محتارة في اسم البيبي وبتتكلم انها مبسوطة جدا بإن ربنا رزقها أخيراً، بعدها لقيتها بتتكلم عني انها ندمانة انها سمعت كلام إسماعيل اتبنتني، بتحبني اة بس عدم وجودي كان هيبقى احسن، انا سمعت كدة ومش عارفة اية حصل، رجعت ل اوضتي وقفلت عليت الباب وفضلت اعيط، انا عارفة انها مش هتنتبهلي ولا هتعرف اني عرفت فقولت وخرجتلها وجاتلي حالة صويت وصريخ، لقيتها جاتلي بتجري وبتسألني مالِك لقيت نفسي بضربها عند بطنها بكل غل.

- وانتِ كنتِ واعية لنفسك؟
- محستش بنفسي، لما فوقت لقيتها واقعة على الارض والدم حوليها
- وقدروا ينقذوها؟
- ايوة، كان بابا ويونس رجعوا من مشوارهم، لحُسن الحظ يعني
- وبعدها؟

- ماما كرهتني، مبقتش طايقة تشوف وشي حتى، والتوتر والعصبية كل دة غلط عليها، كانت عايزة ترجعني الميتم وحصلت خناقات كتير، بابا كان مُتردد ومُشتت بين انه يسبني ولا يريحها، كان قرر انه يريح مراته وخوفاً ان يحصل حاجة للبيبي اللي ربنا رزقهم بِه بعد روحتهم لدكاترة وعلاج كتير، بس لولا تمسُك يونس بيا، عمل كل حاجة تتخيلها عشان ممشيش، وعشان هو غالي عندهم مقدروش يكسروه فتراجعوا عن قرارهم، ففكروا تاني ووصلوا لـ إن ماما تروح تقضي فترة الحمل عند أُخت بابا.

غمغم مُتفهماً، وطالبها بأن تُكمِل..
- بعدها بقينا انا ويونس بنقضي معظم الوقت لوحدنا، بابا كان بيروح الشغل ويجي على بليل فكان يونس المسؤول عني وانا بقيت مُتمسكة جدا بِه، كان كل وقتنا مع بعض، نروح المدرسة سوا ناكل سوا، نلعب سوا كل حاجة مع بعض وكنت مبسوطة بحياتي كدة..
- عدت التسع شهور، عملتي اية لما شوفتي شهد لأول مرة؟
ابتسمت قائلة.

- كانت صغيرة اوي وحلوة اوي، كنت بلعب معها عادي، رغم خوف ماما عليها مني ومش عارفة السبب، حتى بابا، بس كانوا بيخلوني ألعب معاها مع يونس
- طب لية كرهتيها؟ بعيداً عن تصرفاتها لما كبرت
أوضح سؤاله، أجابت.

- هما كرّهوني فيها، كنت بلعب لوحدي بالبلي بتاع يونس، هي كانت بتزحف وجت لعندي، خدّت بلية وحطيتها في بوقها، روحت انا جريت على ماما عشان اقولها، جت جري عشان تلحق شهد، بعدها اتهمتني اني انا اللي حطيتها في بوقها واني بكدب واني حاولت اقتلها، وقتها بابا لما عرف ضربني ومحدش صدقني غير يونس لأنه عارف اني مبكدبش
- أتعاملتِ مع إحساسك إنك مظلومة ومش عارفة تاخدي حقك؟

- كنت بطلّعُه على زمايلي في المدرسة، كنت بتخانق كتير في المدرسة وأضربهم، حتى اني أذيت نفسي
لقد وصل للنقطة الذي يريدها، أشار لرسغها..
- الجرح اللي في إيدك دة، كانت المحاولة الكام؟
- الأولى..
- كانت محاولة إنتحار؟
- لا..
- أومال؟
- عشان أجذب الأهتمام ليا
قطب جبينه مُتساءلاً
- مخوفتيش تجازفي بحياتِك؟

نظرت له وصمتت، هل خافت من فعل متهور كهذا؟ لا تتذكر إنها فكرت بهذا الأمر حتى؛ طال صمتها، فأتى بقول آخر
- سمعت إنك حاولتي تنتحري إمبارح
لم تندهش من معرفته بالأمر..
سألها بذكاء
- أية وجهة نظرِك عن المصحة العقلية؟
- الناس المجانين هما اللي بيدخلوها
إنه رد متوقع منها، ربما معظم الناس يعتقدون ذلك.
- غلط، دة ينطبق على بعض الحالات، بس تعرفي إن البعض الآخر بيدخلها عشان نحميه!
- تحموه؟

عقدت حاجبيها بحيرة وتفكير، فأوضح لها أكثر
- من أنهم يأذوا نفسهم، بيبقى عندهم ميول للأفكار الإنتحارية، أو جربوا طُرق الإنتحار أكتر من مرة، فـ في الحالة دي ولي أمر المريض بيدي صلاحية بإن المريض يدخل مصحة عقلية لحمايته من نفسه
لا تعلم لِم شعرت أنه يُلمح لها، يُمهد لها الأمر!؛ نهضت ببطء وهي تسأله بشك
- أنت بتتكلم عني! يونس إدى الصلاحية دي؟
- يونس خايف عليكِ
هزت رأسها رافضة بعنف صارخة.

- مستحيل، أنا مش مجنونة
في تلك اللحظة، دلف رجلين، تأكدت أنهما سيأخذانها المصحة العقلية، صرخت مُنادية على يونس لينقذها
- يونس، يونـ...
إبتلعت بقية حروفها حين وجدته يدلف خلفهم، إذاً قد وافق على إرسالها لهناك؟؛ عبس وجهها وامتلأت روحها بالخيبة، همست بصوت مُتحشرج وقد إنسايت دموعها على وجنتيها بقهر.
- يونس!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة