رواية بين الرذاذ للكاتبة أنستازيا الفصل الثامن والثلاثون
نظرت إلى كيس المشتريات الممتلئ الذي كان بين يداي أمشي بجانبه أجاري خطواته البطيئة وقلتُ بثقة: أخبرتك أن النقود ستكون كافية لنشتري هذا الكم الهائل من التسالي!
أكملت بإنزعاج وحذر: هذه المرة سأخفي المشتريات في مكان آمن! إياك وأن تخبر كيدمان بِمكانها.
في آخر مرة وشى بنا كارل وأخبر كيدمان ببساطة عن المكان السري! كارل هذا لا يتردد في منح الاجابات الصادقة فوراً وهذا. يزعجني!
بقي يُحدق إلى الطريق أمامه ببريق عينيه البارد المُعتاد ولم يعلق، حينها نظرتُ إلى حقول القمح على يساري واقترحت مبتسماً: هل نجلس هناك قليلاً؟ لا يَزال الوقت مبكراً!
ردد بصوته الغير معبر والنسيم الهادئ يعبث بخصلات شعره الأسود: مُبكر.
أومأت بتفكير أحك عيناي منزعجا من شيء قد دخل الى عيني جراء النسيم الذي ازدادت قوته: يمكننا حل الفروض المدرسية عندما نصل، سيُساعدنا كارل في حلها لا تقلق بهذا الشأن.
عبرت بجانبا في الطريق شاحنة للشحن الزراعي وخلفها مجموعة من الفتية اللذين كانو في أحد الفصول المجاورة لفصلنا في المدرسة، بدى أنهم يقضون وقتاً ممتعاً في الركض خلف الشاحنة والتسابق فنظرت إليهم بإهتمام وحماس احكم قبضتي على الكيس.
توقفت قدماه عن الحركة ينظر إلى الحقول بصمت فوقفت كذلك بجانبه.
بقي واقفاً على حاله وأطال النظر حتى قال بكلمات بطيئة: يمكنك مرافقتهم.
يمكنني مرافقتهم؟ بالطبع أرغب في هذا.
بكل تأكيد أريد اللّهو هناك وهناك بعيداً عن اثقال عاتقي بأمرك!
لقد تنازلتُ عن الخروج مع كيدمان وباقي الرفاق فقط لأنك أردت الخروج اليوم، حتى وان كنت لن تطلب مني التسكع معك وستخرج بصمت دون طلب مرافقتي ولكن.
لا انا أو أبي سنسمح بهذا، فأبي سيشعر بالقلق تجاهك طيلة فترة غيابك، في حين سأبدو مستهتر عديم المسؤولية في نظره ونظر الجميع ان تركتك وحدك.
وأنا لستُ مستعد لينعتني اي شخص بهذا، لستُ مستعد لأبدو بهذا الشكل أمامهم.
نظرت اليه لوهلة قبل ان اقول بامتعاض: اخبرتك منذ الصباح اننا سننفذ الخطة التي قمت برسمها! قطفنا كمية كبيرة من التوت وتناولناه، ثم نجحنا في اصطياد ثلاثة انواع مختلفة من السمك في البحيرة! لازال الوقت مبكر يمكننا فعل الكثير قبل العودة.
الوقت دائماً مُبكر. بالنسبة لك.
تذمرتُ بينما أبحث عن شيئ من التسالي يمكنني تناوله في طريقنا: ولكن لا يوجد ما انتظره!
كان يطرف ببطء شديد كعادته، نظر إلى بصمت ثم أعاد ناظره إلى الحقول وردد كلماتي بينما يتحرك قليلاً على جانب الطريق بعرجته الخفيفة: لأنك. لا تنتظر شيئاً.
أضاف يستدير لأواجه ظهره بالكامل: ولكن الوقت يصعب فهمه.
أكمل بصوت منخفض بارد: لا يمضي. لا شيء مبكر، ولا شيء قد تأخر. هل هو بطيئ أم لا وجود له، هل تتحرك عقارب الساعة! ما الذي يعنيه الوقت.
انت لا تحمل ادنى فكرة كم يكون الوقت بطيئا حين اشعر بالألم، او سريعاً عندما اتمنى ان لا يمضي.
او كم يكون الوقتُ مهدوراً عندما امضيه في اللحاق بك هنا وهناك بدلاً من الاستمتاع بوقتي، او كم يكون الوقت ثقيلاً خانقاً عندما. يتحتم على التبسم والاهتمام وادعاء اللطف في اللحظات التي ارغب فيها في الانسحاب وحسب.
وقفت في مكاني أنظر إليه واقتربت منه أتساءل: هل سترتدي الساعة المؤقتة؟
ردد كلماتي فعلمت برغبته في السؤال لذا أسرعت أوضح مبتسماً بمرح بينما أقف أمامه: يقوم كيدمان بارتدائها في الفصل، قم بفعل هذا وحسب.
رفعت معصمي نحو ثغري وقمت بعضه حتى تركت أسناني أثراً عليه وأسرعت أقول بثقة: هذا كل شيء! ساعة مؤقتة يمكنك من خلالها فعل اي شيء او انتظار ما تريده!
نظر بعينيه الزرقاء إلى مِعصمي فشجعته بعدم صبر: إنها بمثابة العد التنازل، ستختفي بعد فترة مؤقتة فقط.
كلا، لن تختفي، افعل ما فعلته الان وحسب، قم بغرس اسنانك في يدك. لن يوقفك اي أحد حتى انبهك أنا، حتى اتدخل بنفسي او حتى اتلقى نظرات الشفقة من حولي.
تعلقت عينيه بشكل متواصل على معصمي بل واقترب وأمسك بيدي يرفعها لينظر إليها عن قرب وهمس: عد تنازلي.
لمحت إحدى النساء العجائز التي كانت تمسك بمجموعة من السلال التي وُضعت فيها المحاصيل التي قطفتها، القت على نظرة ثم عليه لتتعثر في خطواتها وقد شحب وجهها بشدة!
ارتخت يداي اراقبها بعيناي.
يبدو انها تعرفنا جيداً. صحيح اظنني رأيتها تعمل طاهية في ملجئ الأيتام غرب القرية.
تواجد هذه الكهلة هنا لصالحي.
انتبهتُ لمن ترك يدي ورفع خاصته نحو ثغره، استقر معصمه في فمه حتى قام بعض نفسه كما فعلت، ابتسمتُ بهدوء ووجهت ناظري إلى كيس المشتريات أعاود البحث عما يمكنني تناوله حتى وقع الاختيار على احدى رقائق البطاطا الرفيعة والمملّحة.
سأتأخر في الانهماك بالمشتريات، سأماطل وحسب،.
هو لن يتوقف طالما لم اوقفه أنا!
تهاوى إلى مسامعي صوت شهقة العجوز فنظرت إليها لأجدها تحدق إلينا بذعر قبل ان تقول لي بقلق وارتياب: دانيال، اقترب مني حالاً! ابتعد عنه بُنَي.
أعدت ناظري إليه لأتسمر في مكاني وترتجف أناملي لأسقط الكيس من يدي.
او هكذا بدوت.
مذعور، قلق، خائف و مهزوز!
في حين تنتابني رغبة في الضحك على غبائها بصوت عالي!
انتابتني البرودة التي جعلت مني أرتجف دون توقف شاخصاً في مكاني بينما أحدق إليه بذهول. وضُعف!
سمعت صوت أسناني التي اصطكت ببعضها البعض جراء جزعي وارتعاد فرائصي، أدركت أنني تعثرت وجلستُ على الأرض أمامه مباشرة أسفل قدميه.
اتقنتُ مشاعري التي اختلقتُها وتلبّست غطاء الذهول والفزع.
كان من الضروري أن أبدو خائفاً بلا حيلة!
بقيت أرفع رأسي عاجزاً عن إحالة بصري عنه، واللحظة التي رفع فيها يده أمامه لينظر إليها يتأملها ببرود تهاوى ذلك السائل الأحمر على وجنتِي مُباشرة ليسيل نحو عنقي!
دماؤه دافئة.
وقد لا مسني هذا الدفء وقد شعرتُ بالأسى في أعماقي.
انتابني حنق وقهر جراء لجوئي كالعادة إلى حيّل مماثلة! مع أنني عاهدت نفسي بالأمس فقط، أن أتوقف عن الظهور أمام الناس بالاختباء خلف عجز ومرض دامين.
ي. يا رفاق علينا أن نبلغ أحد البالغين بسرعة!
تهاوى على مسامعي صوت أحد الفتية اللذين كانوا يلهون تواً، ليؤيده الآخر بخوف: ما يُقال حقيقة! إنه. إنه مجرد مسخ!
أعقب يصرخ بذعر: هذا الوحش يتصرف مثل مصاصي الدماء! هل ينتمي إليهم؟!
كل كلمة كانت أقسى من السابقة! ومع كل حرف كان يستمر في النظر إلى بترقب وثبات حتى أنزل يده.
فقط كلماتهم القاسية قد أعادتني إلى وعيي الذي بالكاد أمضي يوماً دون ان انسلخ عنه! انتابتني غصة قوية مدركاً إلى تفاقم الوضع، حيث منحتُ نفسي الرضى لثوان معدودة فقط.
جثى على الأرض أمامي مباشرة، رفع يده الملطخة بالدماء لتستقر على وجنتي بينما يهمس: حتى ساعتي المؤقتة مشوهة. دانيال!
دمعت عيناي أحملق في ثغره الذي سالت منه دماء معصمه.
احتوتني كلتا يديه يعانقني ويضمني إليه بقوة.
سمعت العجوز تنادي محذرة بخوف: ابتعد عنه دانيال ما الذي تنتظره! أيها الفتية أسرعوا بإبلاغ أي شخص في الأرجاء، فليذهب أحدكم لإبلاغ والدهما هاريسون!
أضافت تصرخ بهلع: دعه وشأنه أيها الوحش! ما الذي كدت تفعله بحق خالق السماء! تتناول قضمة مِنك؟ هل جننت أيها المسخ!
مع آخر حرف تفوهت بها شعرت بالرجفة التي سرت في جسده! ومع ذلك بقي يعانقني بقوته حتى همس في أذني: كما ترى، أنت البَطل الأنسب لهذه الحكاية دان. أنت فتى قوي ومثالي، جريء، لا تتردد في المساعدة ويحبك الجميع.
أعقب يبتعد ببطء لينظر إلى بأعين لا تعبير فيها يمرر سَبابته على وجنتي الملطخة بدماءه: أنت البطل الذي سيغلب الوَحش يوماً، قبل ذلك ستستمر في حمايتي أنا وكارل، ستحمي من حولك دون تردد. ستحافظ على مبادئك، لا تَسمح بتدنيس نفسك بِطباع جنس البشر. أنت شخص لا يُخطئ، لا مساوئ تسيطر عليك، ولن تضعف أمام ما يُسمى بالمِشاعر! هذا الشيء لا يُلائمك. لا يُلائمنا دان.
احتوى جسدي مجدداً وعانقني ليهمس: ستجعلك المشاعر ضعيفاً هشاً قابلاً للكسر في أي لحظة، لا تسمح بأن تُلوثك.
أضاف يربت على رأسي بلطف وقد تبلل كتفه جراء دموعي التي امتزجت بدماءه على وجهي: سأعلمك دان. كيف تأخذ مكاننا. سأعلمك جيداً كيف ستصبح كِلانا، وكيف سيكون منهجك مثالياً.
توقفت يداه عن التربيت على رأسي وهو يقول: لِنعد إلى المنزل. لنستكمل الفروض المدرسية معاً.
ولكن الوحش الذي يفترض أن أغلبه يوماً، هو في الحقيقة يكمن في أعماقي مُشّبع بالغيرة بما يكفي!
سيعلمني كيف أخذ مكانهما؟ كيف أصبح كلاهما؟ رغم أنني لا زلت أرغب فقط في أن أصبح أنا وحسب.
دامين، هل يعقل أنك لم تستوعب حتى الآن أنني أستغلك؟
أنني لم أكُن لألتصق بك أنتَ وكارل إلا لنيّل اهتمام الجميع فقط؟ لم أكن لأبدو الفتى الطيب لو لم ينظروا إلى بينما أعاونكم واهتم بكم؟! بأن لا أحد سيتذكر وجودي أو يلاحظ غيابي طالما انتما بحاجة إلى المساعدة! بأن أبي لا يسألني عما أمضيت وقتي فيه او ما أريد فعله أو حتى إن كنتُ جائعاً أو مريضاً أو أرغب في زيارة مكان ما. وانما يُقحم اسميكما في كل سؤال أحتاجُه لنفسي!
أنتَ وكارل. محور كل كلماته!
أنت وكارل لم تتركا لي مساحة خاصة!
أنتما.
يجب أن أكون كل شيء بالنسبة لكما إن كان هذا هو السبيل الوحيد ليلتفت أبي والآخرون إلي!
أنتما حقاً.
أنا.
لا شيء. دونكما!
أسندتُ كفي على الأرض لأتوازن فور أن جثيتُ إثر القوة التي انهالت على وجهي.
فغرت فمي اتنفس لاهثاً جراء ثقل انفاسي وصدى صوت أفكاري يهاجمني.
الأعين الزرقاء التي التقيتُ بها فور ان تبعتها للجناح. تحدق إلى بسخط، وقبضته التي هوت على وجهي للتو ترتجف وقد ابيّضت جراء احكام قوته بضم اصابعه.
وعندما رأيتها تندفع نحوي بقلق لتقول بإضطراب: مهلاً سيد هاريسون! ل. لم يكن. عليك لكمه بهذه القوة!
أشعر بالخجل.
أنا حقاً مُحرج من مواجهته! انا حتى لم أجرؤ على رفع رأسي لأنظر إليه، بقيت أجلس على الأرض وقد اعتدلتُ لأمرر يدي على وجهي تحديداً نحو لكمته دون أن أنبس بكلمة.
بطريقة ما.
وكأن طريقي أمامه قد تصدع قليلاً!
صدع قد نجم عن شعوري تجاهه بشيء يشبه الخذلان والعتاب! وشعور آخر ينحصر على الخجل والاحراج الذي يعتريني كلما تبادر إلى ذهني كم كنتُ. مُرهِقاً بتصرفاتي! كم كنتُ محمّلاً بالغيرة وأفكر بنفسي في حين.
في حين لم يكن ينقصه آنذاك المزيد من المتاعب. عندما كان بحاجة إلى العون ليتعامل مع مرض دامين ومناعة كارل كنتُ مُجرد. غبي مغفل وأناني، أفكر في نفسي لأرضى احتياجاتي واتجاهل تماماً رغبته هو أيضاً في التنفس ولو قليلاً!
شعرت بملمس يدها الباردة وهي تضعها على كتفي بينما تجلس أمامي لتسألني بجدية: أنتَ بخير؟!
أضافت تنظر إليه بتوتر: إنه مُصاب! خرج للتو فقط من المشفى ولا يجب ان يخوض شجاراً أو ت.
ولكنها توقفت عن الحديث جراء صوته الحازم وهو يقف أمامي مباشرة بينما اعجز عن النظر إليه: أناً مُنهك دانيال، لا طاقة كافية لي لأخوض في المزيد من العواقب الوخيمة جراء تصرفاتك الطائشة!
أغمضت عيناي اتمالك نفسي بينما امرر ابهامي على طرف شفتي التي نزفت قليلاً، في حين أكمل بصوت قد ارتجف رغم حِدته: لِماذا بحق الإله ورطت نفسك أمام العلن! لماذا تماديت وتجاوزت حدودك رغم علمك بوجود خطر من شأنه ملاحقتك! لماذا لم تستمع إليه رغم تحذيراته لك على متن اليخت!
رفعت عيناي ببطء بعد جملته الأخيرة لأنظر بتلقائية إلى من يقصده بكلماته.
كان لارز الذي يسند ظهره للحائط الرخامي خلفه وينظر إلى بأعين باردة من خلف نظارته قبل ان يشيح بوجهه بعيداً، رفع هاتفه بيمناه ليلقي نظرة سريعة على الشاشة قبل ان يدسه في جيب بدلته السوداء ثم تكتف يحدق إلى وكم بدى. غريباً وشاحباً حينها!
تدخلتْ كتاليا التي ابقت يدها على كتفي وهي تحاوره مُهدئة: إنه خطأي أنا.! لقد قمتُ بجرّه إلى كل هذا بعنادي، كنتُ أحاول اقناعه بمواعدتي وضيّقت عليه الخناق حتى سئم ونفد صبره!
كيف يمكنها الاعتراف بخطأها بمنتهى السهولة! ولماذا حمّلت نفسها المسؤولية إن كنتُ من بادرت وتجاوزت حدودي بنفسي حينها!
نظرتُ إليها بصمت وقد كانت تعقد حاجبيها وتورد وجهها إثر اضطراب واضح ينتابها.
ليعلو صوته وهو يصرخ بغضب: ذلك لم يكن خطأكِ وحدكِ، لقد. تماديت دانيال ولم تكتفي بهذا فقط! أنتَ مُصر على تعريض نفسك للمشاكل والخطر حتى لو كان هذا يعني اصابتك هنا وهناك.!
بدى صوته غريباً بينما يتفوه بكلماته الأخيرة.
وجدت نفسي أرفع عيناي نحوه بصعوبة!
لأحدق إلى الأعين الزرقاء الحادة المُترعة بالحنق و. الانهاك! وكم بدى وجهه مُرهقاً بوضوح!
هاريسون.
نادى صوت مليء بالجمود باسمه، ولم يكن سوى آرثر الذي كان يجلس على إحدى الأرائك وقد وقف بوجه هادئ يميل إلى الحزم ليتحرك حيث يقف أبي، نظر إليه بجدية قبل ان يقول له: أعلم كم أنت غاضب، ولكن. كلاهما متورط في شأن الآخر! لقد جرّته ابنتي إلى خطر محدق بها بحماقتها وتسرعها كما ورّطها هو أيضاً لذا. لا وقت نهدره في اللوم والعتاب الآن!
ولكنه تجاهل قوله وقال بعصبية بينما يشير إلى بغضب: أنا لستُ مستعد لتلقي المزيد من الخسائر! لا يمكنني البقاء مكتوف الأيدي أكثر، اكتفيتُ من الخسارة ولم أعد املك القُدرة على الصبر لأواجه المزيد!
أضاف بما أصاب جسدي بالبرودة لأحدق إليه متسمراً في مكاني بعدم استيعاب: لم يبقى لي سواك وكارل! تركتُ الكثير خلفي وتنازلت عن كل شيء فقط لنمضي معاً قدماً فلماذا تجرنا وتجر نفسك للوراء؟! هل التعرض لكل هذه المصائب وإيذاء نفسك سيُشعرك بالرضى دانيال؟! لماذا لا تفكر بي ولو قليلاً! نعم أخطأت في الاتكاء عليك بقدر كبير وأخطأت في تحميلك مسؤولية كبيرة ولكنني بحق الإله فعلت هذا لانني لم أثق سوى بك! لأنني. كنتُ بحاجة ماسّة إليك!
ما الذي.
انتاب ثغري رجفة وقد تصلب كتفي جراء ثقل كلماته على عاتقي وهو يردف وقد علا صوتُه ينم عن قهره وغضبه الذي ينهش به متمكناً منه بوضوح: لقد قصّرت معك وأخطأت في حقك، ولكن هذا لا يعني ان تتخذ طريق شائِك أنت أيضاً لينتهي الأمر بك بعيداً!
كان منفعلاً، غاضباً جدا ومُنهكاً بوضوح لسبب ما ولكنه أيضاً.
يائس ومُحبَط بشدة!
هل غضبه الآن حقاً جراء قلقه كما يقول؟
لأنه كان يخشى أن.
يكفي، لستُ حِملاً لأن يُلقى على عاتقي المزيد من الكوارث التي تمس أبنائي، عندما أنجبتك والدتك ذرفَت الدموع وهي تدرك انها لن تمضي المزيد من الوقت معكم، بكت وقد كان ترجوني أن أهتم بكم وأرعاكم حُسن رعاية، أنا لا أستطيع تصور شعورها إن إدركت ما يحدث لأسرتها الصغيرة!
ارتفع حاجباي وارتخت ملامحي أحدق إلى ضعفه الصريح وقد اخفض رأسه ونفي بها ليقول بصوت مليء بالوهن: فقدتها، ثم فقدته، والآن أوشك أن أفقدك، من بحق الإله سيستوعب قلة حيلتي! ان كنت قادر على اللجوء إلى أي شخص لم أكن لأتردد، أنت تعلم جيداً أن والدتك كانت يتيمة بلا عائلة، وتعلم أنني الابن الوحيد في عائلتي وعلاقتي بأفراد عائلة جدك لم تكون سوى سطحية فأنّى لي طلب مساعدتهم! ماذا أقول لهم؟! لدي ثلاث أبناء صغار وأحتاج إلى رعايتهم؟ من سيمد يد العون لي بعد خلافات جدك معهم؟! من سيرحب بي! أنا حتى لم أتردد في الزواج من امرأة أخرى بعد وفاة والدتك لتساعدني برعايتكم ولكن اشترطن جميعهن ألا يتورطن بشأنكم! نفدت كل الحلول بحوزتي آنذاك واضطررت للجوء. إليك!
جف حلقي وارتعدت فرائصي! ما يقوله لم يلامسني فقط ولكنني وجدت نفسي أغرق في بحر من الخجل والاحراج من نفسي وانا عاجز عن التعليق ولو بكلمة!
أنا حتى لم أستطع التقاط انفاسي بصورة طبيعية!
ابعدت نفسي فابعدت يديها بدورها تنظر إلى بترقب تزم شفتيها بينما اشحت بناظري بعيداً عن الجميع.
كم شعرتُ حينها بصغر حجمي أمامهم وقد انكمشتُ على نفسي عاجزاً عن التفوه ولو بحرف!
ومع أنني تمنيت ألا يكمل شيئاً وقد اكتفيتُ من فظاعة حقيقة كم خذلته إلا أنه قال وهو يرفع رأسه ينظر للسقف بعد أن بدى بلا حيلة بالفعل: أنا أعترف. بأنني حملتك المسؤولية منذ طفولتك، بأنني كنت أضغط عليك دائماً، بأنني سلبت منك فرصة لتعيش طفولتك، أنا حقاً مُخطئ بهذا الشأن ولكن لا تجازيني بما تفعله بنفسك، توقف عن تدمير نفسك! لا تستسلم للأفكار التي تنهش عقلك، لا تكن أضعف منها، إيّاك وان تترك الجانب المظلم منك يتغذى عليك! لقد حاولت مرارا وتكرارا تنبيهك بلا فائدة، كلما ناقشتك وأخبرتك انك تتمادى في تصرفاتك واهتمامك تجد عذراً ومخرجاً، كلما حاولت لفت انتباهك إلى عواقب ما تفعله تُصر على فعل المزيد! أنا لا أدري ما الذي تتذكره تحديداً ولكنني واثق أنها مجرد أوهام. وأكاذيب نسجها عقلك! دانيال. أَفّق! إن لم تستفق الآن فسيفوت الأوان حتماً!
لا مهرب من حقيقة كلماته.
فكل ما ادركته اليوم يؤكد قوله!
كان عالمي الذي أعيش فيه طوال الوقت. في رأسي وحدي!
كل هذا كان يدور في عقلي وحسب!
اعتدت العيش كضحية يُلقي اللوم على الآخرين! اعتاد عقلي تغليف الحقيقة برسم صورة لي أبدو فيها المخذول المثير للشفقة في حين أنني أثير الإشمئزاز وحسب!
رفعت رأسي بصعوبة أنافي رغبة عيناي بعدم النظر إليه، حدقت نحوه أطرف ببطء وحرارة تعتري جسدي جراء تفجر كل جزء من حواسي بالخجل من خذلان من وثق بي وكل ما رغب فيه هو الحصول على القليل من الدعم مني!
رغبتي في أن أكون شخص مرغوب فيه قد أعمتني عن. رغبتهم بي!
حاجته إلى وطلبه المساعدة مني كان وحده كفيلاً ب. أن أفهم أهميتي بالنسبة له!
أن أفهم أنني شخص مرغوب به كما هو! أنني محل ثقة وحسب!
أملت برأسي محبطاً عندما التقت عيناه بعيناه، لماذا اخترتُ تعقيد الأمر منذ البداية؟! لماذا قادتني الغيرة إلى طريق أجد فيه نفسي التي لا اعرفها! أي أحمق. أنا تحديداً!
بقيت أجز على أسناني بقهر شديد.
عندما كنتُ اخوض معك نقاشاً جدياً حول تصرفاتك! اعتقدت انك تتجاهل الامر ولكنني لاحقاً. ايقنت انك لا تتذكر شيئا من حوارنا.! كما لو. يتعمد عقلك نسج الاحداث كما يحلو له، لذا لم يكن من المهم كم مرة حاولت فيها بقدر ما كانت الأهمية تكمن في افاقتك انت واستيعابك حول ما تفعله! انت لم تحاول ايذاء نفسك مرارا وتكرارا دانيال ولكنك كنت وبصورة غير مباشرة تتسبب بالأذى لهم
هذا يكفي حقاً.
إلى أي مَدى عليّ الشعور بالخجل من نفسي ليتوقف!
حاولتُ الوقوف لأبتعد من مكاني ولكن. الثقل الذي شعرتُ به في كلا قدماي كان أكبر من طاقتي بكثير! اطبقت شفتاي ونظرتُ بتلقائية إلى من عاودت تقترب وقد لامست يدها يدي لتضعها فوق كفي وقد قالت بهدوء واتزان تحدق إلى مباشرة: لم أكن جزءاً من حياتك أنت وعائلتك مسبقاً ولكنني أتفهم شعورك جيداً، اللحظة التي أدركت فيها كل أخطائي لم أجرؤ على رفع رأسي، لم أجرؤ على قول كلمة واحدة، لم أستطع انتزاع نفسي من الخجل جراء كل ما فعلته، أنا أفهمك دان.
هل قالت تفهم شعوري؟ بحق الإله هل تدرك حتى أنني.
كيف سأكون قادرة على النظر إلى أعينهم مباشرة، كيف سأصلح ما أفسدتُه بيداي!، ماذا لو لازمتني تلك العواقب إلى الأبد؟! و لماذا تأخرت في استيعاب الأمر! لماذا اخترت أن اخذلهم بدلاً من الإنصات إليهم؟! فكرتُ في أن أول عقاب أستحقه هو الشعور بالخجل والعجز عن التوقف عن لوم نفسي، ذا ما فكرت فيه آنذاك.
عقدت حاجباي ورفعت ناظري نحوها، لتقابلني عينيها الرمادية الجادة حتى فغرت فمي لقولها بينما تبعد يدها عن يدي وتقول بحزم: هل تعلم ما كان الخطأ الذي ارتكبته فور اكتشافي لكل ما فعلته والعواقب التي على تحملها؟
بقيت أنظر إليها بترقب لتكمل: اهدار وقتي في عذل وعتاب نفسي بدلاً من المضي قدماً بسرعة! هل تدرك كم استغرقت من وقت حتى شعرت بأنني قادرة بالفعل على الوقوف على كلتا قدماي؟ وهل تعلم أنني أرجو لو أحظى بفرصة العودة للوراء لأصفع نفسي بقوة وأخبرها واصلي فالجميع يُخطئ! .
ما الذي.
ضاقت عينيها وتفاجأت بها تقترب تحاول ارغامي على الوقوف بصعوبة وهي تقول بإنزعاج وحدة: لا أدري تحديداً ما كان نوع أخطائك ولكنها لن تكون أسوأ من قاتل متسلسل يترصد لضحاياه، ولن تكون أفظع من رجل يعتدي على امرأة بلا حيلة، أو متهور يقود سيارته بسرعة لينتشل أرواح الآخرين! أنت لست أسوأ من امرأة تخون زوجها الذي فعل المستحيل ليتمسك بها، ولست أسوأ من فتاة تنكر جميل والدها الذي يعمل ليلاً ونهاراً لأجلها أو أحمق يذم الطعام الذي بذلت والدته جهداً في طهيه!، دانيال أنت لا تستحق ان تكون حبيساً في قوقعة كهذه! لا تملك أدنى فكرة عن الشخص الذي كنتُ عليه بالأمس ولكن.
ابتلعت ريقها بتردد في حين لا أدري كيف كنت أنصت إليها بضعف وجعلتها تساعدني على الوقوف بينما أحدق إليها بلا حيلة!
لتكمل كلماتها تسترق نظرة سريعة نحو والدها: ولكنني أستحق فرصة! أستحق أن أتغير لأكون نقيض ما كنتُ عليه!
ومضت عينيها ببريق عميق مليء بالإحباط وهي تهمس لي بصوت يرتجف بالكاد يُسمع: على الأقل قادتك الظروف إلى ما أنت عليه، في حين كنتُ مدللة لم يُقصر والديها بمنحها كل ما تريد ليكون جزاؤهما هو الخذلان من بذرة سيئة زُرعت جذورها على أرض أحلامهم.
ارتخى كلا عاتقي وقد لان كِلا جفناي ولا سيما عندما رسمت ابتسامة مضمرة على ثغرها وهي تقول بشفتيها اللتان ارتجفتا بوضوح: لحسن حظك لم يفت الأوان بالنسبة لك.
بذرة سيئة.
دامين! لم يكن البذرة السيئة كما يدّعي.
انا من قام بتلويث تلك البذرة لتصبح فاسدة غير صالحة لأي شيء!
لا فائدة. مهما فعلت هو لن يلتفت سوى لكما، لن يهتم سوى بكما، انا لست في جَسد ضعيف كجسد كارل، ولا جسد خارق لا يُقهر كجسدك دامين، لا يهم كم أبذل من جهد في المدرسة، ولا يهم كم مرة على السهر ليلاً لمساعدته في العناية بكارل! لا يهم كم من خطة للمرح على التخلي عنها لأجلس في المنزل معكما! لا يهم كم من مرة اتلقى فيها التوبيخ لأنني غفلت عنكما! لقد. سئمت!
صرخت بها بضعف وإحباط أحكم قبضتي بقوة قبل أن أراه يحدق إلى مطولاً وهو يقول بصوته الخالي من المشاعر: لهذا أقول بأنكَ مثالي دان. أنتَ لست ضعيفاً، لست مسخ لا يشعر، كل ما ينقصك هو التخلي عن العواطف السخيفة التي من شأنها أن تُضعفك. كل ما تحتاج إليه هو أن تبرز مثاليتك ليرى الجميع مَن أنت.
أنت لا تفهم! أنا لا أحاول أن أكون مثالياً. أريد أن ينظر إلى وحسب!
ولكنك مثالي في نظري دان.
قالها وهو ينزل قلنسوته من على رأسه، لم يكن من الصعب عليه ان يبعدها عني عن رأسه ونحن نقف هنا وحدنا في حظيرة أبي في الصباح الباكر بعد ان غضبت لأخرج من المنزل بعد توبيخ أبي لي بعد ان نسيت شفرة الحلاقة الخاصة به في الحمام بعد التنظيف بل ولا أدري كيف سقطت من سلة مهملات الحمام لتجرح قدم دامين.
بقيت أنظر إليه بضعف وغيظ وقلت بصوت متهدج: أنت وحدك لا تتوقف عن ترديد هذا الهراء!
ادخل يمناه في جيب سترته الخفيفة، تقدم نحوي ببطء بعرجته الصغيرة، ثم وقف أمامي مباشرة وقال يحدق إلى كلتا عيناي بعينيه الزرقاء الناعسة: أنتَ الجميع، أنت كارل ودامين. يمكنك أن تكون من تشاء! دانيال هو. نحن.
ولكنني. أريد أن أكون أنا وحسب!
انت لا تستوعب مدى تمتعك باحظ، يمكنك أن تكون ضعيفاً متى شئت، لطيفاً، هادئاً، مندفعاً و قوياً متى شئت. يمكنك أن تكون كل شيء.
أضاف يخرج يده من جيبه: كن ضعيفاً أمام كل شيء. عدى ما يُدعى بالمشاعر.
م. ما الذي. يحمله في يده!
نظرت إليه بضياع وتشتت وهو يرفع السكينة الحادة أمام وجهه يحدق إليها وهو يتمتم بصوت خافت مليء بالتبلد والبرود: ظهر الفزع على وجهك فور رؤيتك لها، لأنك تدرك جيداً كم سيكون من المؤلم ان تلامس جلدك أو حتى طرفه.
دامين. لماذا يوجد سكين بحوزتك!
سألته بتوتر واضطراب في حين قال بصوته المنخفض: في حين لا يمكنني الشعور نحوها بأي شيء، لا يتبادر إلى ذهني أي شيء، لا ألم أو خوف، لا معاناة أو توتر، لا شيء يعتريني! أنت لن تستوعب دان، يُقال للمرء اهرب عندما تشعر بالخطر، فور رؤيتك منحدر زلق، أو حيوان مفترس، أو حتى مجرم هارب.
أضاف يحدق إلى كلتا عيناي مباشرة: يهرب المرء خوفاً من التعرض للألم، خوفاً من المعاناة، هرباً من الموت.
أخفض عيناه يحدق إلى السكين وقد شرد وهو يهمس بينما يطرف ببطء: لماذا على أنا الهرب تحديداً، إن كنتُ لن أقع ضحية الألم أو الخوف، إن كنتُ لن أتذوق الموت بتفاصيله كما يحدث مع المرء، فما الغرض من الهرب، إلى ماذا سأهرب ومما سأهرب.
دامين.
لا يبدو. في وعيه!
هذا ما فكرت فيه بإضطراب وأنا أراه يمسك يدي اليمنى ويضع فيها السكين ويرغمني على رفعها وهو يهمس: سيلتفت أبي إليك حتماً ولكن ينقصك الشجاعة، ينقصك أن تفهم مدى الفرق الهائل بيننا لتتمكن يوماً ما من أن تصبح أنا، يمكنك الوقوع طريحاً للفراش مثل كارل ولكنك لا تفهم ما أقوله أنا. لأنك لن تمر فيه ما دمت لم ولن تتفهمه أو حتى. تحاول.
ارتجفت أناملي وحاولت انتزاعها ولكنه أمسك بيدي بقوة وقد كان من البديهي الا يشعر برغبتي العارمة في مقاومته فهو يفتقر الى تحديد مستوى القوة التي يجب عليه استخدامها، فها هو يعتصر كفي بكفه ويرغمني على رفع يدي أكثر نحو عنقه!
أنظر إلى وجهي جيداً دان، ضع السكين على عنقي بينما تحدق إلى بتمعن وتركيز، اجرح عنقي بينما تنسلخ عن نفسك، أنت وأنا. لسنا أضعف من هذه السكين هنا، هي ليست حادة بما يكفي ليعتريك الألم.
هل أنا.
هنا؟! أو أنني. في حلم!
هل أنا في كامل وعيي بينما تشدني كلماته بقوة!
بينما يرغب جزء مني في الاستسلام لكلماته!
وأحول جاهداً أن. أكون هو! أن أكون فتى لا ينتابه الألم. سيلفت الأنظار بقوته وندرته!
سيلقى انتباه الناس من حوله وهو يريهم فظاعة اصابته او جرحه بينما يتحرك بثقة!
إن كان الوقوع طريحاً للفراش سهلا فلا ينقصني سوى. التحلي بالقوة أمام أي ألم!
هذه السكين. أنا لست أضعف منها!
لماذا يسيل اللون الأحمر من عنق دامين؟!
لماذا تلطخت عنقه!
ولماذا حيوانات الحظيرة تبدو هائجة متوترة!
عندما تحركت أناملي بخفة. أدركت ان الضغط حول كفي قد اختفى ربما مُنذ. زمن!
عندما رأيت يده اليمنى إلى جواره ويدي وحدها أمام عنقه.
أدركت أنني أمسك بالسكين أمام عنقه لأجرحه!
هل هذه. غصة بكاء؟!
هل أبكي؟ لا! هذا ما أرغب فيه ولكنني. عاجز!
أنا عاجز عن التعبير لسبب ما.
وكم كان من الغريب الشعور بوجود أذرع تحيط بي! الجسد الذي يحتويني الآن كان أكثر ما كنت بحاجة إليه.
الأعين الرمادية الواسعة التي تحدق إلى باهتمام وقلق على بُعد مسافة جعلتني انظر من حولي بأعين ناصلة ببطء.
لم أكن في الحظيرة! لا مزيد من أصوات الحيوانات الهائجة. أنا. لا زلت هنا!
كما لو يسخر عقلي مني ويمنحني المزيد من التفاصيل لأتذكر فظاعة رغباتي!
هذه الفتاة.
وأنا الذي كنت أنعتها طوال الوقت بالمزيفة كنتُ. أرمي بِأجزائي المُبعثرة عَليها وحسب!
هل كانت تقول الحقيقة للتو؟ هل تفهمني؟
كان هذا ما يدور في ذهني فقط وانا أستوعب الآن فقط أن الذراعين التي تحيط بي كانت لأبي الذي يربت على رأسي بهدوء!
أيكون هذا.
العناق الأول الذي أحظى به من أبي!
بحق الإله لم أعد أفرّق بين الواقع والخيال أو بين الذكريات والأوهام!
لم أعد أفهم ما أمر فيه مؤخراً ولكنني أدرك جيداً أنني. لأول مرة في حياتي كُلها أشعر بالقبول!
ومع أنه لم يتفوه بكلمة ولا أدري حتى متى قام باحتوائي ولكنني أسمع كلمات لم يقلها أو ينطق بها!
هل العناق الأبوي بهذا الدفء حقاً؟ هل هو كذلك بالنسبة للجميع أم أنني.
أشعر أكثر من اللازم!
أنا هنا لأجلك لم يتفوه بها ولكنني ولأول مرة أشعر بسهولة استشعار أمر لم يُنطق!
هذا غريب.
ومع أنني كنت للتو فقط مُحمّل بالكثير على عاتقي، منغلق ومنكمش على نفسي جراء خجلي، مُحبط من نفسي بشدة ولكنني الآن.
لا أريد التراجع ليسوء الأمر، لا أريد التسبب بالمزيد من المتاعب! لا أريد استغلال عائلتي لأبرز نفسي أكثر!
أنا حقاً. أرغب في أن أستشعر أهميتي بينهم دون الحاق الضرر بأحدهم أو التقليل من شأنهم.
هذا العناق. لا يملك أبي أدنى فكرة كم أشعر من خلاله ب. وجودي.
لأول مرة أشعر بأنني اتواجد بينهم حقاً!
أنا هنا.
لربما كان عقلي سيتمادى ويقنعني انني بحد ذاتي مجرد وهم! ولكن هذا الدفء الذي يغمرني الآن. ربما هو كل ما كنتُ بحاجة إليه منذ زمن وحتى هذه اللحظة ليدحض تلك الرغبات المظلمة التي تتغذى على مخاوفي.
طالما انا موجود حقاً، ولستُ بالسوء الذي قالت عنه للتو، هل على بالفعل التمسك بالرغبة في البدء من جديد؟
أستحق فرصة! أستحق أن أتغير لأكون نقيض ما كنتُ عليه!
دوى صدى صوتها في عقلي ليرغمني على النظر إليها مجدداً، لأراها قد وقفتْ تهندم ملابسها بينما تبتسم لي برضى!
هل. ستفهمني؟
لماذا تميل الى تبسيط الأمر؟ هل هذه هي طريقتها في المواساة؟ اظهار عيوبها والتحدث عن اخطائها لتُهوّن عليّ الأمر؟!
لم أكن. لأستطيع فعل هذا مع أي شخص! لم أكن لأتحدث عن عيوبي أبداً.!
هل هذا هو الوقت المناسب؟
هل يتحتم على أن أوقف نفسي التي تحاولي التمرد علي؟ الوقت المناسب لأكون أقوى مما كنتُ ضعيفا أمامه طيلة هذه السنوات؟
إن كانت قد منحت نفسها الشعور العالي بالاستحقاق للبدء من جديد فلما لا. أمنح نفسي فرصة أنا أيضاً.!
ومع أنني لا ادرك حتى. ما هي الخطوة الأولى!
في الحقيقة أنا. لستُ مخيراً!
علي المحاولة وحسب! ولكنني.
لا ادري حتى. كيف!
أغمضت عيناي بينما اتنفس بعمق، وبمجرد دخول الهواء العميق إلى صدري شعرت بمذاق الحياة بينما ارفع يدي لأربت على ظهر أبي وقد قلت له بصوت حاولت جاهداً أن يبدو طبيعياً قدر الإمكان رغم البحة العالقة فيه: إن علم كارل وكيفين ولاري. فسيطالب الجميع بعناق أيضاً.
انتزع نفسه فوراً ونظر إلى بجفاء قبل ان يدفع صدري بقوة لارتد قليلاً، توازنت بسرعة بينما اتنهد بعمق.
جابت عينيه الزرقاء على وجهي بحدة حتى تساءل يشير بذقنه بإمتعاض: عنقك بخير؟
رسمت ابتسامة جانبية بينما أقف واهندم ملابسي متمتاً: من المبكر سماع هذا السؤال.
لفت انتباهي تقدم والدها نحوي ليقف مقابلي وعينيه تتفحصني من رأسي إلى اخمص قدمي قبل ان يقول بتعالٍ مزعج: بشأن انقاذك ابنتي. شكراً جزيلاً.
قالها وهو ينظر الى عنقي فقلتُ بفتور وجمود: شعار رجالك هو التدخل بعد فوات الأوان.
أنا لست بساحر لأتنبأ بما قد يحدث، على كل حال.
أضاف يشير حيث الأرائك: لنتحدث ولكن قبل ذلك.
تحرك ليعود أدراجه حيث الأريكة التي كان يجلس عليها مسبقاً ليتناول من على الطاولة عُلبة، وعندما تحركت كتاليا وتبعها أبي وجدت نفسي أتحرك كذلك خلفهما وما ان وصلت قرب الأريكة التي يجلس عليها أرثر حتى القى نحوي بالعلبة.
التقطتها فوراً ونظرت إليها أعقد حاجباي.
علبة هاتف جوال جديد. بآخر إصدار!
نظرتُ إليه باستنكار فقال يتكتف ببرود: انه بدلاً من هاتفك الذي فقدته.
لقد سُرق مني، لم أفقده.
أجبته فوراً وبعدائية ثم أعقب بينما اضع الهاتف على الطاولة مجدداً واجلس على الاريكة العريضة التي يجلس أبي عليها: سأشتري لنفسي هاتف غيره.
تمتمت كتاليا بشيء من الامتعاض: لا وقت لكبريائك دانيال خذ الهاتف انت بحاجة إليه في ظل ظروف مماثلة!
فتحت فمي لاعترض ولكنها أعقبت بجدية: يمكنك اعادته إلى أبي عندما تشتري آخر!
اعتقد أنه. لا بأس في هذه الحالة إذاً، هذا ما فكرت فيه وانا ازفر بفتور وهمست بانزعاج: فليكن.
نظرت بطرف عيني حيث لارز الذي كان هادئاً جداً! لم يحاول استفزازي مثل كل مرة، لم يحاول التدخل في النقاش وفرض رأيه! هذا. غريب.
بل منذ ان دخلتُ إلى الجناح ورأيته يقف عند الحائط هناك لا أدري متى اتجه بعدها ليجلس على الأريكة وحده ولكن من الواضح انه جلس منذ البداية بالفعل.
لون وجهه باهت ولم يبدو وكأنه يتفاعل مع أي شيء يحدث!
لمحته يخرج هاتفه من جيبه لينظر إليه لثواني فقط قبل أن يعيده.
هذا الرجل.
أ. أياً يكن.
لم يتطلب الوضع أي مقدمات فقد تفاجأت بأبي الذي قال ينظر إلى آرثر بجدية: الوضع يسوء أكثر، ومن الواضح أن بقاءها في منزلي لم يعد آمناً آرثر لذا أستميحك عذراً بأن تنتقل كتاليا إلى مكان آخر يوفر لها حماية كافية.
ه. هاه!
طرفت بعيناي بعدم استيعاب أحدق إلى أبي الذي أكمل بهدوء: ولأصدقك القول أنا لست مستعداً لرؤية أبنائي يتعرضون للمزيد من الخطر، أعتقد ان ما حدث اليوم كافٍ جداً.
ما الذي.!
بدت هي متفاجئة تحدق إليه بعدم تصديق وقد فغرت فمها قليلاً لتهمس وقد تورد وجهها بشدة: سيد هاريسون. أنا ل. لم أقصد تعريضكم للخطر لقد.
قاطعها ينظر إليها بجدية: الأمر ليس كما تعتقدين كتاليا، على الصعيد الآخر أنتِ معرضة بالفعل للخطر ومن الضروري ان تكوني في مكان مناسب وهذا لا يتوفر في منزلي المتواضع! اسكن في شارع مزدحم ويعج بالضجة فكيف لي ان أبقيك آمنة هناك!
يرغب في. رحيلها عن منزلنا!
أخفضت رأسها وبدت تكبت استياء واضح قد سيطر عليها رغم حفاظها على هدوءها وهي تتجنب النظر إليه لتقول: فهمت.
فهمت؟ هذا كل شيء؟! ببساطة!
تدخلتُ اعقد حاجباي واضرب على مسند الأريكة بخفة بأناملي: ما الذي سيتغير ان خرجت من منزلنا على أي حال! طالما يلاحقها الخطر أينما تذهب ف.
قاطعني أبي بحدة وعيناه الزرقاء قد تعلقت على وجهي بجفاء: انا لن اقف مكتوف الأيدي حتى أراكَ تتعرض للمزيد من الإصابات أو يتعرض الباقين للخطر!
يبدو لي أنك وافقت على بقائها معنا وانت تعلم منذ البداية أنها في خطر فلماذا لم تضع هذه الاحتمالية مسبقاً؟ لماذا الآن فقط!
تدخلت هي لتقول بحزم تحكم كلتا قضتيها على حجرها: مهلاً دانيال إنه محق في كل كلمة ومن حقه الحفاظ على الامان لعائلته! لقد اخترت البقاء معكم رغم.
صمتت قليلاً وترددت كثيراً وهي تسترق النظرات نحو والدها، الذي قال بجمود: رغم علمك أن باتريك لن يتركك وشأنك، رغم علمك أنه مجنون وقد يفعل المستحيل ليحقق مبتغاه، ورغم تحذيراتي لكِ بالتوقف عن منح الثقة لمن حولك، على كل حال لقد ناقشت انا وهاريسون هذا الأمر مسبقاً، قمتُ بتجهيز شقة لكِ في مبنى سكني مناسب.
لماذا لا تعود إلى المنزل معك إذاً.
تساءلت باندفاع احكم قبضتي وأردفت بتهكم وشعور غريب يتصاعد في جوفي: ستختار أفضل وأنسب المواقع عوضاً عن منزلك؟ ما الذي يدفعك لتجنب عودتها إلى منزلها تحديداً؟!
أبقت هي رأسها مخفضاً في حين نظر هو إلى بانزعاج واضح!
وفي النهاية وجدتها تقول بصوت منخفض: أبي. هذا أمر يثير حيرتي أيضاً، انت لم تعد تعرض على العودة إلى المنزل، سألتك مسبقاً ولكنك لم تمنحني أي إجابة!
رفعت رأسها تنظر إليه بملامح مشتتة، ابعدت خصلات شعرها خلف اذنها وقالت بجدية يجوبها اضطراب قد اتضح في نبرتها: انت تعلم جيداً أنني لست مستعدة للعودة ولا أجرؤ على. لقاءهم ولكنك لم تعد تصر على عودتي! أبي هل تشير إلى أن الخطر الذي قد اتعرض له. وارد ان ينشأ من منزلنا؟! هل هناك فرد في عائلتنا لا يمكنك أن تثق به؟! على الحذر منه؟
أعقبت برجاء: تحدث واخبرني بما على معرفته! تعيش عائلتنا في منزل يضم معظم افرادها فممن على الحذر تحديداً؟ هل ينوي أحدهم الانتقام مني جراء المساس بإسم العائلة مثلاً؟ هل احلق بأفكاري بعيداً؟
تمتم لارز ببرود: الأمر لا يتعلق بإسم العائلة.
أضاف بما جعلها تحدق إليه بوجه يخلو من التعبير: ومع ذلك لن يرغب أحدهم في عودتك فعلاً.
نظر آرثر إليه بحدة: لارز لا تبدأ!
هذا الوغد. كيف يجرؤ على قولها مباشرة! لا أدري تحت أي ظروف قد غادرت منزلها ولكن.
ثم لقد كان يلتزم الصمت طوال هذا الوقت، فهل يكون هذا اول ما يتفوه به عندما يتحرك لسانه!
تمالكت نفسي لولا قوله وهو يدير سبابته التي استفزتني بشدة: ولكنها الحقيقة عمي وإن كان سماعها مزعجاً، لا أحد مستعد لعودتها، هي لن تحتمل كلماتهم ولومهم طوال الوقت، وهذا ما فعلته مسبقاً فلقد غادرت واختارت ان تسد كلتا اذنيها عن كلماتهم، لذا أُخبرها بصراحة بأنه. لا جديد ينتظرها.
قالت بصوت حاولت الحفاظ فيه على هدوءها: لارز، أياً يكن ما تشعر به نحوي، هذا لا يمنحك الحق في التحدث أمامي بكلمات من شأنها استفزازي.
نظر إليها بتمعن وجادلها بهدوء: ما أشعر به نحوك لا علاقة له بقول الحقيقة.
أنا على دراية تامة بها، لذا لا داعي لتذكيري بها بوقاحة.
ولكنكِ تركت كل شيء على ما كان عليه، لذا اعتقد أنكِ لم تفعلي أي شيء يمحي الحماقات التي ارتكتبها حتى الآن سوى. الهرب.
وجهها متورد وعينيها تنم عن غضب واضح، كانت تعض على طرف شفتها بقهر وقد بقيت تنظر إلى لارز الذي ينظر إليها وكأن. شيئاً لم يكن!
ما الذي فعلته هذه الفتاة لتستحق كل هذا من عائلتها!
أياً يكن ما فعلته إنه. يتمادى!
لارز. أنا حقاً سأمنحك آخر تحذير، ان كنت مُصراً على الاستمرار في خوض هذا الحديث فسأطلب منك الانتظار في الخارج.
قال آرثر ذلك بعصبية وحزم في حين تنهد لارز وأشاح بوجهه بعيداً وقد لمحته يضع يده على جيبه حيث وضعه هاتفه قبل ان يزفر بفتور.
تدخل أبي بجدية ليعود إلى صلب الموضوع: آرثر، أنا مستعد لإبقاءها في منزلي ولكن كما ترى، الوضع يزداد سوء ولا أرى ان المخاطرة خيار حكيم بما يكفي.
نظرت بطرف عيني إليها لأجدها تهز قدمها دون توقف وبدت متوترة بشدة.
أنا لا أفهم حقاً ما الذي كانا يتحدثان بشأنه. ولكن هذا اللارز. لا يتردد ولو للحظة عندما يتعلق الأمر بمضايقتها!
حدقت إليه بتمعن وتساءلت في نفسي عن ما يُسيّره لذلك!
مهلاً.
كتفيها.
انها ترتجف دون توقف! هل هي بخير حقاً؟!
مع ان وجهها لا يظهر سوى الانزعاج ولكن جسدها له رأي آخر تماماً!
تبدو.
بطريقة ما.
مهزوزة و.
وحيدة!
هذا ما شعرتُ به وكلتا كتفيها ترتجفان دون توقف. تهز قدمها وتحاول الحفاظ على هدوءها.
إن كانت قد ارتكبت حماقة من شأنها التسبب بِكل هذه الفوضى.
فلن يكذب جسدها ويبقى صامداً إن لم تكن تشعر بالتأنيب والقهر جراء ما حدث!
لقد قالت ذلك للتو وبوضوح! بأنها تستحق فرصة.
لا يجب ان تعود بكلماتها مهما حدث! فلقد علّقت آمالي على كل ما قالته قبل قليل ولن أتنازل عن التمسك بهذا الأمل!
ارتخت ملامحي رغماً عني أرى شيء أشبه بلمعة الدموع في مقلتيها وهي تزم شفتيها بقوة كما لو تكبح نفسها وتمنعها من البكاء!
مهلاً هي ليست بخير حقاً! ما الذي.
انا لا أدري. لماذا! ولكنني وجدت نفسي أتنحنح قليلاً لعلها تلتفت نحوي، وما ان انتبهت حتى اشرت لها بقبضة يدي خفية نحو لارز لأسألها بعيناي ان كان بإمكاني إيساعه ضرباً!
بقيت تنظر إلى بصمت.
للحظات مطولة!
ثم وجهت عينيها نحو لارز الذي كان ينصت إلى آرثر وأبي وهما يتحدثان حول شقتها الجديدة، حتى تفاجأت بها تعيد وجهها إلى الأمام وهي تبتسم بهدوء.
قبل أن تتسع ابتسامتها واعادت ناظرها إلى وقد حركت ثغرها بطريقة تنم عن قول إيّاك .
انقشع ذلك الظلام الذي كان يحوم حولها وارتخى كتفيها قليلاً.
لا أدري ما الذي دفعني للتوتر لدى رؤيتها مُحاطة بتلك الهالة الكئيبة فجأة. ولكنني أعلم أنني لا أريد لمن تفوه بكلمات مليئة بالأمل الذي ارغب في التمسك فيه أن يغرق مجدداً في أي عتمة.
كما لا أعلم ولكن. هل سأشكك الان وصاعدا في كل تصرف يبدر مني وبأهدافي؟
ان كان هذا ما سأفعله.
فمتى ستنتهي سلسلة التساؤلات هذه!
ولكن لا مهرب من اضطرارهما إلى التظاهر بالمواعدة مؤقتاً، حتى لو غادرت منزلك هاري ولكنني لازلت بحاجة إليه ليكمل دوره حتى أرى ما يمكنني فعله في أقرب فرصة، أنا. أعتذر على تورطه في هذا الشأن
قال آرثر ذلك بجدية لأبي الذي رد عليه بهدوء: لا بأس يمكنني تفهم هذه النقطة تحديداً، فلقد تمادى بنفسه ولا مجال للعودة.
هي ستغادر بالفعل ولكن. سأستمر في لعب دور الصديق الذي يواعدها؟
ما قصة موضوع المواعدة على أي حال؟! لماذا من الضروري أن تمتلك صديقاً لتواعده!
تمتمت كتاليا تحدث والدها على مضض: لا أريد توريطه أكثر أبي، يكفي ما حدث اليوم، ماذا لو قلتُ أنني. انفصلت عنه وحسب؟
اجابها بإنزعاج: حقاً؟ بعد الكم الهائل من الهواتف التي نقلت ما حدث على بثوث مباشرة ستتراجعين ببساطة؟
تفاجأت بها تحاول اقناعه: يمكنني اقناعهم لأخرجه من الموضوع! أقصد. سأقول بأنه فعل ذلك وفاجأني ورفضته لاحقاً!
علقتُ بامتعاض: ياللوقاحة! ليس من السهل مواجهة المجتمع كرجل مرفوض بعد ما حدث أمامهم!
رسم لارز ابتسامة جانبية مضمرة وهمس بما أزعجني: عذر مثير للشفقة.
رمقته بتحذير وانزعاج احاول الا اتجادل معه، هذا الرجل يصعب تصديق قدرته على الاستفزاز بكلمات مختصرة! أنا أبحث عن سبب واحد يمنعني من ايساعه ضرباً لذا عليه ان يحافظ على المسافة بيننا لا سيما وهو لا يتوقف عن تحريك سبابته!
رمقني ببرود و هو ينفي برأسه بخفة ولا مبالاة، في حين قالت هي بجدية: مهلاً أنا جادة في هذا الأمر، إن كان هناك فرصة واحتمال ولو كان صغيراً لإبقاء دانيال خارج هذه الورطة فيمكنني المحاولة على الأقل! ان كنت مصراً أبي على أن المواعدة امر مهم فلا أمانع ان تختار هذه المرة أي شخص يمكننا ان نضمن عدم تعرضه للخطر حتى لو كان ذلك الرجل الضخم التابع لك! ليس من الصعب ان اختلق اي عذر مقنع من شأنه أن ي.
نجاحي في اختلاق الكثير حتى الآن لا يعني انني سأنجح أيضاً في مجاراة عذرك الذي تنوين اختلاقه! طالما وصل الأمر إلى هذا الحد فعلينا ان نجاري الوضع معاً وحسب!
انهيت كلماتي بإنزعاج ولكنها جادلتني فوراً وقد امتلأت نفسها بالاصرار والعناد: أنصت جيداً أيها الأحمق هذا يكفي! انت لم تتعرض للإصابة لمرة واحدة ولا نية لي في ان يتفاقم الأمر أكثر، ذلك الرجل الذي يعمل لدى أبي مفتول العضلات ولا فكرة لديك عن ضخامة جسده! سيكون بقاءه إلى جانبي يحتمل ضرر أقل ولابد وأنه سيكون على تواصل أكبر مع أبي! ارتكبتُ الكثير من الحماقات ولا أنوي جلب المزيد من المصائب، سأعرّفك عليه لاحقاً وسترى كم تبدو عضلاته ضخمة عظيمة، إن كان قادر على حماية نفسه ف.
فلتذهب عضلاته إلى الجحيم لقد قلت بأنكِ ستواعدينني أنا!
.
.
الصمت الذي تلى قولي كان. صمت ثقيل جداً!
ولكن نظرات الجميع الموجهة نحوي كانت أثقل بكثير!
ما الخطأ في اصراري على مجاراتها ومساعدتها!
أرغب في ان استكمل دوري وحسب!
لقد كان خياري وحدي وعاهدت نفسي ان اتحمل مسؤولية ذلك الخيار!
ا. اتحمل مسؤولية خياري؟
هل أنا. مجدداً.
هل أفعل هذا مرة أخرى لأرضي الآخرين وأرضي ذلك الجانب مني؟!
هل اخترت خوض هذه التجربة الحافلة بالمخاطر فقط لأشعر باهميتي؟ لأورط نفسي عمداً؟ انا حقاً. لا أدري!
ولكن.
لا يمكنني مجاراة نفسي الآن! ان كنت سأواصل التشكيك في كل شيء أقوم به فربما سأفقد عقلي!
عينا أبي لا تتوقف عن التحديق إلى بتركيز وتمعن، بينما ضاقت عينا آرثر وهو يضع قدما على الأخرى ويعيد جذعه قليلاً للوراء.
أنا.
لا زلت أريدها أن تعتمد علي! أشعر بضرورة فعل شيء ما!
يا فتى. أنتَ تتصرف بغرابة.
قال والدها ذلك وهو يحدق إلى ليكمل بحزم: إيّاك وان تغتر بنفسك لمجرد انني قمت بالامتنان لك قبل قليل، عندما وافقتُ على ان تواعد ابنتي كنت مضطراً لمجاراة الجنون الذي بدر منك ولكن لا ترغمني على افتعال حدث مجنون آخر اقوم فيه بانتزاع ابنتي من هذه المسرحية!
استفزتني كلماته ولكني ابتسمت على إثرها لأقول اريح يدي للخلف على ظهر الكرسي أنظر إليه ببرود: إذاً لا أمانع مجاراة جنونك، قُم باختلاق اي عذر يرغمها امام الناس على ان تنهي امر المواعدة، وسأقوم بدوري بالتفوه بما من شأنه ان يفسد ذلك.
عقد حاجبيه بعدم استيعاب في حين قلت بهدوء: اقحمتُ نفسي في شأنها، ولا أنوي التراجع.
علق لارز يتنهد بينما يريح ظهره للوراء: عمي سيكون هذا أفضل من اقتراحها، ذلك الرجل الذي كانت تقصده ستبدو معه كابنته لا حبيبته.
اعترضت كتاليا بإنزعاج: كفاك سخفاً!
في حين تصلب فك آرثر بينما ينظر إلى وبدى يحاول جاهداً تغيير الموضوع وهو يقول بحزم: ارى ان الحديث هنا مضيعة للوقت فلا أحد يتوقف عن التشعب في الموضوع، خلاصة القول. ستنتقلين الليلة إلى شقتك، ستكون في مبنى ذو نظام أمني عالي، لا يُسمح بدخول الغرباء إلى المبنى ويوجد الكثير من الاجراءات الأمنية عالية المستوى، في الطابق نفسه يوجد ثلاثة شقق أخرى وجميع قاطنيها هم رجال حرس يعملون لدي، ستستمرين في مواعدة هذا الشيء حتى أتمكن من التخلص منه.
علق أبي بهدوء: آرثر، هذا الشيء يكون ابني، أعلم أنه وقح سليط اللسان ولكن اترك امره لي.
قلّبت عيناي بانزعاج وتمتمتُ بخفوت: على كل حال، ستستعين بفريق المهمات الفاشلة لحماية ابنتك؟ حظاً موفقاً.
بدى غاضبا جراء قولي وقد جزّ على فكه بقوة بينما تدخلت هي بحزم: دانيال يكفي.
رمقتها بنظرة سريعة ثم شبكت يداي خلف رأسي بصمت.
بقي يحدق إلى بغضب حتى تجاوز الأمر وأضاف يحدثها بجدية: سيارتك موجودة في موقف سيارات المبنى. توقفي عن استخدام وسائل النقل العام.
قال ذلك وهو يخرج من جيبه مفتاح سيارة ويضعه على الطاولة أمامه لتقول هي وقد ارتفع حاجبيها بحيرة: سيارتي!
بدت في حيرة وهي تحدق إلى المفتاح على الطاولة ثم تنظر إليه وقد بدت مسرورة بطريقة ما!، مفتاح كورفت إذاً، هذه الفتاة يبدو انها تخلت عن كل شيء وتركت الكثير خلفها!
رفعت رأسها تنظر إليه وهو يعقب قوله: سأقوم بإيداع مبلغ في حسابك البنكي، لا تتجهي إلى أي صرافة مغلقة في الشوارع ولا تركبي برفقة رفاقك واحرصي ان تكوني من تقود السيارة دائماً، انتِ ضعيفة امام الكحول لذا لا تكوني حمقاء وتتناولي أي شيء يُقدم لكِ!
قلّبت عينيها وقالت بلا حيلة: الكثير من التوجيهات الحازمة!
ثم تساءلت: هل يوجد المزيد!؟
وقف لارز وهو يتحرك ليقف خلف الأريكة التي يجلس عليها آرثر ليقول بهدوء: يوجد المزيد من التوجيهات. الموجهة إليك.
قالها وهو يحدق إلى أنا فعقدت حاجباي باستنكار ونظرت إليه بترقب، لماذا أنا؟
هذا ما تساءلت بشأنه في نفسي قبل ان ينظر إلى أبي ويقول له بأعين ناصلة وقد عادت تلك الهالة المليئة بالإحباط الغريب تحوم حوله: سيد هاريسون، هل يمكننا الخوض في الموضوع الآن؟
نظرتُ إلى أبي بإستنكار وقد اعتدلت في جلستي لانزل يداي اترقب ما سيقوله ليبادر أبي متحدثاً دون ان ينظر إلي: توقف عن البحث عن عنه.
قالها مباشرة ودون مقدمات.
هو بالكاد يتقبل الحديث عنه عادةً فلماذا هو مباشر جداً الآن!
بل وأردف يومئ برأسه إيجاباً: اعلم انك تحاول جاهداً العثور عليه، وأعلم انه يتواجد في الأرجاء، والأهم. أنك لا تستوعب أنه لم يعد جزء منا وتصر على اعادة لم شمل أسرة لن تعود كما كانت. لنكتفي بتورطك بالمشاكل التي تحيط بكتاليا، لا تجلب المزيد من المشاكل وتخلق الكثير من الفرص ليتعرض احدكما للأذى.
كنت أعلم جيداً أنه لن يتجاهل هذا الأمر أكثر.
لم يكن يمنحني فرصة الحديث عن دامين ولكنه وأخيراً. يتحدث بشأنه! حتى لو كان يطلب مني التبرؤ منه تماماً ولكن لا زال أبي لا يفهم أن كل ما لامس عقلي اليوم وتذكرته كان مقتطفات من ذكريات مقرفة لا تشير سوى إلى ان دامين كان أيضاً. مُجرد ضحية!
هل كنت تعلم أنني حاولت مرارا وتكرار إيذاء دامين؟!
اجابني بتحذير: لا تتفوه بهذا الاسم امامي، وبالنسبة لسؤالك أنا أعلم. الوحيد الذي كان غافل هو أنت دانيال.
لم يكن مجرد رد منه أو تصريح.
وإنما شُعلة احرقت شيئاً في جوفي وارغمتني على الشعور بالحرقة لأنظر إليه بصمت.
لم ينفي ما قلته.
كنت أتمسك بآخر أمل لأتأكد من فظاعة ما قمت به تجاه دامين لعلها مجرد أوهام تغزو رأسي لتشتتني ولكنه أكد ذلك دون تردد أو مراوغة.
كنت آمل انه مجرد خيال او فوضى يختلقها عقلي!
تحرك لساني وقلت أنظر إليه بجدية: أنا لن أتبرأ منه أبي، انا لم أقم بالإساءة إليك وحدك انت وكارل ولكنني تذكرت أمور كنت غافل عنها تتعلق به، لقد آذيته مرارا وتكرارا لذا لا ت.
إن كنت تهتم لأمره حقاً فساعدنا على الامساك به قبل ان يرتكب أي حماقة خرى.
أخرى؟!
تساءلت بينما استدير نحوه واعترضت بخيبة واحباط: هذا يكفي إلى متى على أن أكرر هذا! لا يوجد ولو دليل واحد على كونه المتسبب في ذلك الحريق! اختفاؤه ورحيله لا يعني أنه المُتسبب! رغبته في التخلص من القرية ليست دليلاً كافياً! انا مُنهك من تكرار هذا!
عدتُ إلى القرية بِسبب حريق آخر قد نشب في المحاصيل المحيطة بدار الأيتام.
ما الذي.
دار الأيتام!
لا يمكنه أن. يكون جاداً!
وجهه يتسم بالجدية ولم يكن من الصعب ملاحظة بريق الضيق والقهر في كلتا عينيه!
يحدق إلى كلتا عيناي مباشرة ولم يبعد ناظره عني! حتى عندما أكمل قوله بصوت مرتجف مفجراً كلماته ذات العيار الثقيل: السيدة جوليا، قد توفيت مختنقة أثناء مساعدة الأطفال على الخروج.
الاستياء على وجه كتاليا، والهدوء والاهتمام على وجه والدها. ثم ملامح لارز التي لانت بوضوح إلى الخيبة والحزن أكثر جعلتني أدرك ان ما يقوله ابي لم يكن من ضرب الخيال ولم يكن عقلي يجتهد في اختلاق المزيد!
هذه المرة.
التهم الحريق دار الايتام في كلوفيلي!
هذه المرة. لفظت مديرة الملجأ آخر انفاسها وهي تخرج الأطفال؟! هذه المرة رأى الأطفال الحريق بأم أعينهم ورغب الموت في معانقتهم لولا. جوليا!
لم تكن تتردد في الترحيب بي كلما ذهبت برفقة أبي إلى الملجأ! لم تكن تعترض على تصرفاتي الشقية والفوضى التي اتسبب فيها احيانا! هي لم تكن توشي بي لأبي حول تهريب بعض ايتام الملجأ ليلعبوا معي انا وكيدمان في وقت متأخر.
داهم عقلي صورة ضبابية لها وهي تبتسم لي بتوبيخ يجوبه حنان وهي تمسك بي متلبساً بينما. أتلف الزراعة في فناء الملجأ والحقد والغيرة تعتريني! لماذا بحق الإله. أتذكر هذا الآن؟! متى قمت بهذا! أقصد. متى نسيت أو. أين كانت هذه الذكريات في عقلي تحديداً!
كيدمان ولارز كانا يقولان الحقيقة.
كنت اقوم بإتلاف المحاصيل التي يزرعها أبي. فقط لكونه يمنح أؤلئك الأطفال ابتسامة ودية لطالما رغبت فيها نحوي أنا.!
كنت تحت سيطرة الغيرة وقد عُميت عن. الكثير!
عندما استشعرت ثقلا على كتفي اليمنى ادركت ان ابي قد ربت عليها وهمس بأسى فشل في تغليفه بنبرة هادئة: لحسن الحظ نجى كافة الأطفال، عدى فتاة صغيرة اصيب ساقها ولكنها تتلقى العناية، دانيال، قبل ما يقارب السبعة أشهر نتج عن ذلك الحريق عدة ضحايا وانت تعلم الآن بالفعل ان شقيقة كيدمان قد لقيت حتفها أيضاً لذا تعاون معنا، ساهم في القاء القبض عليه لنوقف هذه المهزلة.
لم أكن التقط انفاسي بسهولة، كنت أصارع للحفاظ على هدوئي واستقرار نسق تنفسي ولكنني تفاجأت بفمي يتحرك من تلقاء نفسه ليصرح بما دفنته في أعماقي بعيداً حتى عن نفسي: بماذا أشعر! بالحزن أم الفرح؟! بماذا أشعر بحق الإله!
عقد حاجبيه يردد بعدم فهم: فرح؟!
نفيت برأسي وقلت بكلمات حاولت جاهداً انتزاعها من جوفي وفي الوقت آنه دسها بقوة: عندما التقيت بكيدمان لم يتوقف عن لومي حول وفاة شقيقته! شككت بذكرياتي وبقدراتي العقلية إلى درجة اعتقادي انني السبب في الحريق بالفعل! اعتقدت انني. المتسبب الأول وربما لا أتذكر شيئاً! كنت خائفاً من سماع المزيد! كنت أخشى ان اكتشف يوماً أنني المفتعل والمتسبب ولكن. الحريق الثاني. أنا لستُ.
خانتني الكلمات وبقيت أنظر إليه بصمت، ثم وجهت عيناي نحو لارز الذي كانت مقلتيه قد ومضت ببريق يشبه الانكسار رغم البرود الذي يظهره.
نشأ في دار الأيتام ولابد وأنه يشعر بفقدان جوليا التي كان الجميع متعلق بها.
تلك المرأة قد عاملت كافة الأطفال كما لو كانوا جزء لا يتجزأ منها!
أتذكر كم كان يعاملني لارز ببرود آنذاك ولم يستسغني حينها، ولكنه لم يكن يتردد في اظهار الود لها!
ما الذي تعتقده؟
وجدت نفسي أسأل لارز بصوت مُجهد! لِينظر إليّ مطولاً وهو يخفض عينيه قليلاً قبل ان يرفع ناظره نحوي مجدداً ببرود: لَن أتهاون حتى يُلقى القبض عليه، سأدلي بأي معلومة ولو كانت صغيرة. إلى رجال الشرطة.
أومأتُ بفهم.
قبل أن أقول بهدوء: إلى ذلك الحين، سأحرص أن أثبت العكس.
عقد أبي حاجبيه وبدى سيعترض بغضب لولا ان أسرعت أقول: الحريق الأول، أو الثاني. لا شأن لدامين بكلاهما.
تدخل آرثر وقد ضاقت عينيه بشك: لماذا أنت واثق إلى هذا الحَد!
أجبته وشيء من الوهن يعتريني: لأن دامين لا يرى أي معنى للموت، لطالما تمنى ان يختفي كل من قام بإيذائه ولكنني اعلم جيدا ان رؤيتهم يعانون و يتألمون لم يكن ليشفي غليله. هو لا يرى أي معنى للألم لذا لن يُقدم على أمر من شأنه أن يتسبب بهذا لهم.
أعقبت بهدوء: اندلع الحريق الأول عندما قررتُ الرحيل عن القرية وقد ادّعى جميع من حولي ان دامين من قام بذلك رداً على رغبتي وقد تعذروا باختفائه بعد الحريق مباشرة، في حين أعلم جيداً أن رحيلي عن القرية لم يكن ليستفز دامين إلى هذا الحد فهو لم يكن ليمانع ان يتبعني بطريقة أو أخرى، لم يكن الأمر ليكون منطقياً ليوقفني بافتعال حريق ففي جميع الأحوال كنتُ سأختار الرحيل، الحريق الثاني لا يبدو منطقياً لي حتى أفهم باقي التفاصيل لأنني واثق تماماً أن دامين لم يخرج من المدينة ويعود للقرية.
تدخلت كتاليا بعدم فهم: الا يعتمد هذا على الوقت الذي اندلع فيه الحريق؟ فلقد.
ترددت قبل ان تقول تسترق نحوي نظرات متقطعة: يمكننا ان نخبرهم دانيال! لا بأس.
انها محقة، ربما رغبت في التكتم على ظهور دامين اليوم ولكنني لن اتردد الآن طالما يمكنني المحاولة لأقنعهم بتواجده في المدينة! أومأت لها إيجاباً ونظرت إلى أبي: متى اندلع الحريق تحديداً؟
قال بجمود وهو يبدو غير راضٍ عن كلماتي: فجر اليوم الذي غادرتُ فيه إلى القرية.
لم يكن دامين يتواجد في القرية حينها.
جلس آرثر باعتدال واسند مرفقيه على ركبتيه وهو يسألني بجدية: وما أدراك بهذا؟
لقد رأيتُ دامين! هل تملك أدنى فكرة عما يفعله أمام صورك في الأرجاء؟ هل تعلم أنه لن يتجاوز هذا الأمر؟! هل سيتركها وشأنها برأيك؟ لماذا لم تتحلى بالصبر قليلاً دان!
هذا ما قاله كارل عندما عدت أنا و كتاليا من اليخت، حينها كنت غاضباً ولم أسأله عن التفاصيل أو التفت لها، ولكنه على الأرجح قد لمحه في اليوم الذي يسبق عودتي.
نظرت إلى آرثر بهدوء: أخبرني كارل أنه قد لمحه بجانب لوحة إعلانية، لا أتذكر متى رآه تحديداً ولا أعتقد أنه ذكر التفاصيل لي ولكن حدث هذا بعد البث مباشرة، ربما اليوم الذي يليه لذا لن يكون الوقت كافياً لدامين ليذهب ويعود بهذه السرعة.
أعقبت والشكوك تنتابني وتنهش بي أحاول جاهداً ألا أركز على كلمات دامين التي تغزو عقلي: من الذي أعلمك بالحريق أبي؟ مِمن تحديداً قد وردك الاتصال؟
أتى الجواب الذي اشعل بي المزيد من الشكوك: راف.
راف.
هذا الرجل.
بقيت أنظر إلى أبي بإستنكار فأضاف من تلقاء نفسه: اتصل واعلمني باندلاع حريق حول ملجأ الأيتام، ثم قال بكل وضوح أن الجميع يردد شيئاً حول عودة دامين.
سيواصلون القاء اللوم على دامين حتى لو لم يكن متواجداً حقاً، كما أراهن إن كان هناك من لمحه منهم حتى.
لقد ابتكروا لعنة في القرية تخص دامين وأنا المثير للقرف قد. ساهمت بهذا دون ان أعي!
زفرت الهواء ببطء من صدري أحاول تمالك نفسي قبل أن أقترح: أريد لقاؤه، راف لم يجلب يوماً خبراً سعيداً، كل ما ينقله هو المآسي وحسب، بل وانتقل إلى المدينة مؤخراً فجأة بعد ان كان يصب كل تركيزه واهتمامه على عمله هناك، كان مستعداً لفعل أي شيء ليجني المزيد من المال فكيف آل به الأمر إلى المدينة. بعد انتقالنا إليها تحديداً؟
عقد أبي حاجبيه: ما الذي. تحاول قوله؟!
رفعت كتفاي: لا أحاول قول شيء بعد، أنا فقط. لا أثق بهم، لا براف أو حتى كبير عائلة مادوكس، أبي. لقد غادرنا القرية دون الحصول على فرصة للدفاع عن أنفسنا! كان الجميع يلقي بالاتهامات علينا وتحديداً على دامين دون دليل واحد مقنع! حتى انتهى الأمر بنا نتحمل مسؤولية تعويض الجميع بعد ان أخبرو الشرطة بكل شيء يتعلق بدامين وتصرفاته، لا شيء منطقي، لا شيء يحاكي العقل! هذا ما كنت أحاول دوماً قوله لكم ولكن لا أحد منكم. ينصت!
أضفت بجدية: فقط لأنني كنت مضطرباً وغافلاً عن الكثير من ذكرياتي الحساسة لا يعني أن تغلق أذنيك عما أقوله! ماذا لو كان دامين متورط في أمر لا يعنيه؟! كيف سنواجهه حينها!
احتدت ملامح أبي بشدة وبدأ الغضب يعتريه بوضوح فقلت بحزم فوراً: أياً يكن، أخبرني الآن هل انتهى امر الحريق الثاني بارغامك على دفع تعويض آخر؟! أبي هل حقاً لا يمكنك استيعاب ما يحدث!
نظر آرثر وأبي إلى بعضهما قبل ان يقول آرثر بهدوء وهو يبدو غارقاً في أفكاره: مهلاً.
أضاف بجدية يحدث أبي: هاري، لنجاري ما يقوله ولو مؤقتاً، يبدو أنه يتمتع ببعض المنطقية ولا بأس من الانصات إليه.
أجابه أبي بجمود: لقد استعان مادوكس والباقين بأقرب مركز شرطة للقرية للتحقيق في حادثة الحريق، هل.
توقف بتردد قبل أن يكمل يشيح بوجهه: هل يمكنك ان تستعين بأحد المحققين من المدينة ليحقق بهذا الشأن آرثر؟
أبي!
نظرت إليه بعدم استيعاب او تصديق وقد لمحني لينهرني بحزم: ماذا!
بطريقة ما.
قد استسلم لعناده!
كما لو اصابه الخوف من احتمالية ان تكون كلماتي. هي الحقيقة!
اثلج ذلك صدري بشدة وقد تنفست الصعداء لأقول: أخيراً!
رأيتُ من تنظر إلى تبتسم بهدوء وهي تلتزم الصمت، في حين كان لارز يبدو بالفعل شاحباً رغم حفاظه على البرود الذي يغلف نظراته وتصرفاته.
وقبل ان يتعمق الجميع في الحديث والخوض في هذا الشأن وجدت نفسي أقول لها بجدية وانا اقف: احتاج إلى مساعدتكِ.
نظر الجميع إلى بترقب في حين ارتفع حاجبيها وتساءلت: من النادر سماع هذا، ماذا؟!
أريد الإنسحاب من العمل الجديد المتعلق باللعبة الرياضية لفريق كرة السلة.
اتسعت عينيها للحظة، ظهر القلق والتفاجؤ على وجهها وهي تشهق بذعر وهي ترفع يديها مهدئة بينما تقف: لحظة واحدة! لا يمكنك ان تنسحب من العمل فجأة وتترك المجلة! دانيال لا علاقة لكل هذا بعملك كعارض أنت لا ت.
لم أقل بأنني سأنسحب من العمل برمته! أريد فقط. استبدال العرض الأخير بآخر.
طرفت بعينيها بعدم استيعاب قبل ان تتساءل: تستبدله؟
أومأت بجدية: سأخبرك بالتفاصيل لاحقاً.
بقيت محتارة وهي تتكتف وتقول بنبرة منخفضة: ولكن الغاء الأمر سيحتاج إلى. آه لا بأس انت لم تقم بالتوقيع بعد لأجل هذا العرض، فهمت. لنتحدث بهذا الأمر لاحقاً إذاً.
نظرتُ إلى لارز وقد قلت له بينما اتقدم نحو علبة الهاتف لأخذها من على الطاولة: أحتاج إلى رقمك، هناك ما على التحدث معك بشأنه فيما بعد.
لاحقتني عيناه ببرود وهو يدفع نظارته أعلى أنفه متمتماً: لست متفرغاً إلى حد الدردشة معك، ولكن لِنرى.
اخذت العلبة ونظرتُ إلى الجميع بهدوء قبل أن أقول بجدية: سأثبت لكم براءة دامين من موضوع الحريق، إلى ذلك الحين أحتاج إلى المساعدة في بعض الأمور. وقبل كل شيء، أنا لن أخضع لجلسات الهراء بشأن الطب النفسي وما شابه، يمكنني تولي أمري بنفسي.
تدخل أبي فوراً: دانيال هذا الأمر لا يمكنك اهماله، حتى لو كان قد بدأ يتلاشى ولكن عليك أن تحرص على.
سأحرص على اقتلاع نفسي مما أوقعت نفسي فيه، أنا لا ألومك أنت أو الآخرين على ما حدث، أنا من كان ضعيفاً أمام مشاعره السلبية وحسب.
ولكن آرثر قد تدخل ليقول بحزم: مهلاً، لا مفر من خضوعك للجلسات، عليك ان تصلح ما تم افساده، أمور كهذه من الصعب على المرء التعامل معها وحده.
وقفتُ في مكاني أنظر إليه للحظة.
قبل ان أقول بينما استدير: حاول اقناعي بذلك.
استدرت بالكامل لأغادر بينما ارفع يمناي بتلقائية نحو عنقي اتحسس الضمادة.
لا علاقة لدامين بالحريق. هذا أمر أنا واثق بشأنه ولكن على اقناعهم ليتوقفوا عن مطاردته كما لو كان مجرم هارب.
أما عقلي الذي ينهشني دون توقف. فعلي التعامل معه بحكمة وإلا. فقدته حتماً!
وقفتُ أنظر إلى يميني عندما فتحت الباب لأغادر الجناح. أحدق إلى من يقف متكتفاً ويسند ظهره نحو الحائط خلفه. وعلى الأغلب قد استرق السمع قليلاً أو حاول ذلك. ولكنني واثق ان الأمر كان مستحيلاً فالحائط الرخامي هنا والأبواب الثقيلة لن تسعفه بنقل ولو كلمة.
رمقني بطرف عينه وقد تفاجأت به يبتسم بتهكم وجفاء وقد لمحتُه يُغلق الهاتف الذي بدى وكأنه كان قيد الانصات لمكالمة شخص ما! وعندما تحرك مبتعداً ليغادر نحو الممر قال يرفع يده ملوحاً: حظاً موفقاً في اثبات براءة أخاك، إلى ذلك الحين لن أتوقف عن لومك بما حلّ بشقيقتي.
كيدمان.
تلك الجدران عازلة للصوت.
هل كان لارز من سمح له بسماع كل شيء؟!
أراهن على هذا.
هو لم يتوقف عن تفقد هاتفه في كل حين في الداخل، لا أعلم ولكنه مجرد. حدس.
علي كل حال أعتقد الآن أنني قادر على فهم غضبه وشعوره بالقهر تجاهي.
لقد كان كيدمان يبذل جهده في اعادتي إلى رشدي دون نتيجة، لم يتوقف عن محاولة تقويم مساري وهو يرى كيف كنت أنا ودامين. نؤثر على بعضنا البعض.
كيف نلتهم ظلال بعضنا البعض و لا نكتفي.
لا يمكنني لوم كيد على ما يشعر به، كلوي كانت مجرد فتاة صغيرة مريضة و. طموحة جداً.
سلبها هذا الحريق كل آمالها، بل سلبها هي إلى عالم آخر.
يرى كيدمان أن دامين المتسبب في ذلك الحريق، ويرى أنني كنتُ قادر بطريقة ما على إيقافه، كما أنه مقتنع تماماً بأن تصرفاتي كان لها دور كبير في تحريك دامين.
وهذا أمر قد استوعبته للتو فقط.
لم يكن دامين من يحاول التأثير على فقط أو تشكيلي كما يرغب.
وإنما فعلتُ ذلك أيضاً.
لقد أغرقتُ دامين في الظلام محاولاً انتزاع نفسي إلى الأعلى.
كتاليا:.
رفعت كلتا يداي أحاول اقناع أبي بجدية وعلى عُجالة: أبي لقد فهمت كافة توجيهاتك! سأنتقل إلى الشقة اليوم ولكنني بحاجة إلى مناقشة أمر ما مع دانيال أولاً!
اعترض أبي بحزم: لقد قلتُ بأنك ستنتقلين إليها الآن ولم أقل اليوم!
لماذا لا يسمعني! كل ما اريده هو التحدث مع دانيال حالاً!
نفيت برأسي بإنزعاج: امنحني بضع دقائق فقط!
تدخل السيد هاريسون وقال بهدوء: آرثر، لا بأس. لأصدقك القول أرغب في ان تتناول كتاليا عشاءها معنا اليوم قبل ان ترحل.
ارتخى كتفيا ووقفت انظر إليه بحيرة لأجده ينظر إلى بجدية قبل ان يرسم ابتسامة صغيرة على ثغره وهو يقول: لا أرى أنه من المناسب ان تغادري فجأة، كما ثقي بأنك قادرة على زيارتنا في أي وقتِ، لنتناول العشاء معاً اليوم، هذه المرة ساعديني في اعداده.
هاه!
طرفت بعيناي بعدم استيعاب قبل ان ابتسم بلا حيلة لأقول بتوتر: ولكن. سيكون مذاقه مريعاً.
رفع كتفيه بعدم اكتراث: في النهاية سيتناوله أبنائي، لا داعي للقلق.
ضحكت بخفوت على قوله في حين تنهد أبي وقال بهدوء: لا بَأس، ولكن سيكون آرون بانتظارك مساءً لأخذك إلى شقتك مباشرة.
أومأت له فوراً فأشار لي السيد هاريسون: لنعد إلى المنزل أولاً ونحضّر للعشاء ثم يمكنكِ التحدث إلى دانيال قبل رحيلك.
بطريقة ما.
ينتابني شعور غريب!
يصعب تفسيره ولكنني أعلم فقط أنه.
شعور مزعج!
ومع انني انتقلت إلى منزله مدركة انني سأخرج منه خلال فترة قصيرة ولكنني.
ربما نسيت هذا بالفعل!
ربما.
اعتدت على التواجد في منزله!
نظر أبي إلى الساعة حول معصمه ثم نحو لارز ليقول: لنغادر نحن أيضاً.
انتبهت إلى وقوف لارز الذي بدى شارداً للذهن منذ خروج دانيال، حتى افاق من شروده على كلمات أبي وأومأ له بصمت دون أن ينبس بحرف واحد.
لم أرى لارز هكذا من قبل.
منطفئاً وشاحباً جداً.
هو لا يبدو على ما يرام حقاً، ان يتعرض الدار الذي نشأ فيه لمثل هذه الحادثة ويَخسر السيدة جوليا التي اعتنت به أمر. يصعب عليه التعامل معه.
أشعر.
بالأسى.
احكمتُ قبضتي بينما أسير مع السيد هاريسون لنخرج، وما ان مررت بجانب لارز حتى دفعت كتفه بقبضتي بخفه وهمستُ بهدوء: لم تكن نهاية جوليا مأساوية وإنما مُشرِفة، كُن فخوراً بها.
تابعتني عيناه العسلية باستنكار وقد بدى نوعا ما.
متفاجئاً من قولي.
بل أن مقلتيه قد لمعتا ببريق غريب وهو يعقد حاجبيه قليلاً، أكملت طريقي وعاودت أهمس له بصوت منخفض: تبدو قبيحاً في جميع الأحوال، ولكن عد إلى طبيعتك وحسب.
ارتخت كلتا يديه إلى جانبه.
عيناه لا تفارقني.
حتى انتزع نظارته وأخفض ناظره بعيداً ثم حرك سبابته كعادته.
اكملت طريقي مع السيد هاريسون وعندما وصلت حيث الباب انحنيت لالتقط بينديكت الذي ينام بعمق منذ وصولنا، لابد وان تلك المطاردة قد أنهكته واستنزفت قواه بالكامل!
حملته بين ذراعي في حين كان لا يزال نائماً، داعبت شعره بينما استرق نظرة للوراء نحو لارز.
تحديداً سبابته.
دامين. إذاً.
كارل:
لفت انتباهي صوت هاتفي الذي تعالى رنينه فتركت اكواب القهوة الفارغة على الركن أمامي ونظرت إلى الشاشة التي تظهر رقم غير مسجل.
لا أعلم من يكون ولكنني لا اتجاهل الأرقام الغريبة على أي حال لذا سأجيب.
أجبت على الهاتف بهدوء: مَرحباً؟
هذا أنا كارل، أرسل إلى موقع المقهى حيث تعمل، على التحدث مَعك حالاً
هاه!
نظرتُ إلى الهاتف بحيرة ثم أعدته إلى اذني: هذا أنت دانيال؟! هل كل شيء على ما يرام!
أجابني وبَدى عجولاً: لا تقلق، فقط ارسل الموقع على رؤيتك.
لا يُمكنه تأجيل الموضوع إلى حين عودتي المنزل؟! ما الذي يريد التحدث بشأنه!
هذا ما كنت أفكر فيها بينما أجيبه بحيرة: حسناً لا بأس، ولكن حافظ على هدوءك لا ينقصني المزيد من المشاكل هنا.
قلت ذلك وانا أنظر إلى مويرا وتاتيانا اللتان تتجادلان حول أمر ما كالعادة.
انهى المكالمة وقد عاودت النظر إلى الرقم الذي اتصل منه، رقم جديد! ماذا عن هاتفه؟ هل قال شيئاً حول هاتفه بعد عودته مع الآنسة كتاليا؟! لا أدري. ربما!
ابعدت ناظري عن الشاشة عندما احتد جدالهما وقد تدخل ويل لتهدأة مويرا التي بدت غاضبة وهي تقول تجز على أسنانها: ولكنها أكثر من تجلس في غرفة الإستراحة ولا أحد قد ذهب إلى هناك فكيف اختفت محفظتي بحق الإله فجأة!
عقدت حاجباي باستنكار وقد حاولت تجاهل الأمر ولاسيما عندما دخل زبون ليطلب القهوة فسارعت لإعدادها، كان جدالهما ملفت وبعض الزبائن يحدقون إليهما ولم تكن سوى لحظات من محاولة ويل لتهدأة الوضع حتى سمعتُ تاتيانا التي تُمسك بمنشفة التنظيف بحزم بينما تستمر في تنظيف الطاولة: قُلت للتو لا تورطيني بأشيائك التي فقدتها جراء حماقتك او لقلة انتباهك، عدى ذلك سأفقد أعصابي وهذه المرة لن يردعني شيء من نتف كل خصلة من رأسك!
تتهمها علناً بتورطها بشأن محفظتها التي فقدتها فقط لأنها أكثر من تستخدم الغرفة هناك. مويرا لا تتوقف عن استفزازها بالفعل!
والأخرى لا تتهاون في مجاراتها أبداً.
تنهدتُ بعمق في حين علق الزبون أمامي بحيرة: هل. الجميع بخير هناك! يبدو لي ان زملائك يتشاجرون!
ابتسمت له بهدوء ونفيت برأسي فوراً: نعتذر على الإزعاج، سيعود الوضع إلى طبيعته قريباً، هل تفضل تناول شيء طازج إلى جانب القهوة؟ لدينا معجنات فرنسية طازجة وجديدة، ترغب في تجربتها؟
نظر حيث أشير إلى رف المخبوزات وبدى يحدق إليها ليختار وانهمك في ذلك حتى اتجه إليها واختار بعض المخبوزات ليناوله زميلي الآخر إياها في طبق التقديم، وما ان عاد إلى حتى ناولته القهوة التي انتهيت من اعدادها.
زفرتُ بلا حيلة بعد ان رحبت به وشكرته مجدداً وذهب إلى طاولة فارغة ليجلس، نظرتُ إلى زاك الذي اضطر للتدخل هو الآخر وهو يقول بصوت محذر خافت: يا رفاق لن يتجاوز المدير أي شيء آخر من شأنه التأثير على سمعة المقهى! توقفا!
سمعة المقهى إذاً، بطريقة ما يذكرني هذا بسمعة محل حلاقة أبي.
حاول زاك تهدئة الوضع ولكن مويرا قد اعترضت وقالت بإنزعاج: عندما سألتها عن محفظتي قالت لي بسخرية انها قامت بسرقتها! والآن تنكر معرفتها أي شيء!
كان من الواضح انها ترغب في استفزازها وحسب فلماذا صدقت كلماتها!
هذا ما كنت أفكر فيه عندما قالت تاتيانا بجفاء وهي تترك المنشفة على الطاولة وتستدير نحوها ببرود: إنه تحذيري الأخير، بعد ذلك ستبكين لأيام عديدة مويرا، لذا اغربي عن وجهي وابحثي عن محفظتك المُقلّدة بعيداً عني.
علا صوت مويرا وهي تقول بغيظ شديد: كيف تجرؤين على اتهامي بشراء محفظة مقلّدة! ثم توقفي عن تهديدي! لماذا ادعيت رؤيتك لمحفظتي إذاً؟ ولما لا تكوني من أخذتها فأنت وحدك من تمضي وقتها هناك في غرفة الاستراحة ولا أحد هنا يلهث بحثاً عن المال سواكِ! وكأنني لا أعلم أنكِ تعملين ليلاً في تنظيف دورات مِياه محطة القطار! ستفعلين أي شيء لجني المزيد من المال حتى لو دعاكِ رجل عاهر مقابل بضعة أوراق نقدية فلماذا قد تفوتك محفظتي! أسرعي وأخبريني حالاً أي.
كان صوت الصفعة جراء الكف الذي انهال على وجنتها أعلى بكثير من صوتها الذي انقطع فجأة وقد شهقت بألم وجثت على ركبتيها بذهول.
تسمرتُ في مكاني أحدق إلى تاتيانا التي جمدت ملامحها بشدة وهي تُحدق إليها بمقلتيها السوداء الواسعة وتهمس بصوت مسموع حانق: طفح الكيل.
أضافت بغضب: تجاوزتِ حدودك كثيراً!
ثم اقتربت منها مجدداً تحت دهشة ويل وزاك وانحنت لتمسك بشعر مويرا بقوة والأخرى تصرخ طالبة للمساعدة!
تدخل زاك بسرعة وحاول ان يفرق بينهما ثم تلاه ويل الذي يساعده بنفاذ صبر.
الزّبائن.
تحت تأثير الدهشة وعدم الارتياح!
هذا سيء حقاً.
والأسوأ، هو المدير الذي لا أدري متى وصل تحديداً وقد عاد إلى المقهى ينظر إلى هذا الشجار وتحديداً إلى تاتيانا التي تشد شعر مويرا بقوة وتضربها بحنق واضح!
لا تتدخل كارل.
ابقى بعيداً وحسب.
لا ينقصك مشكلة أخرى!
لم يكن من السهل العثور على فرصة عمل أخرى.
لذا إياك والتدخل.
هذا ما كُنت أقنع نفسي به، حتى نجح ويل وزاك في ابعادهما ليقول السيد وولتر بجمود يجز على أسنانه: إلى مكتبي حالاً.
تقدم وتحرك واشار للزبائن يرتدي قناع الهدوء وهو يرسم ابتسامة ارتجفت على اثرها شفتيه جراء غضبه: أعتذر لكم جميعناً، من المحتمل ان يختلف الموظفين في أي مكان ولكن هذه هي طبيعة الحياة، استمتعوا بوجباتكم او بمشروباتكم ونعتذر على ما حدث.
تحرك فوراً وبدت خطواته عصبية وهو يسير إلى مكتبه!
إنها المرة الأولى التي أراه يشتغل غيظاً، لن يهدأ حتى يتخذ اجراء معهما.
رأيت مويرا التي تمرر يدها في شعرها متألمة وقالت تخاطب الزبائن: اعتذر عن الازعاج.
ثم تحركت إلى مكتب المدير ولكن تاتيانا قالت بجفاء وهي تستكمل تنظيف الطاولة التي كانت تعمل عليها: انا لن اذهب، يمكنكِ الذهاب واخباره بأنكِ من افتعلتِ معي شجاراً ككل مرة، اخبريه انكِ اتهمتني بالسرقة ويمكنه أيضا الاستعانة بالكاميرات.
بالتفكير بالأمر.
يتم اتهامها بالسرقة.
تماماً كما فعلت بي في الحافلة!
لا بد وأن تدرك الآن كم هو مريع ان يتم اتهامها بأمر لا ذنب لها فيه.
كارل لا يمكنك ان تفكر بشماتة بما يحدث لها! تباً ما الذي دهاني فجأة.
تنهدتُ بلا حيلة وحَاولت ألا اهدر وقتي بجدالهما، مفكراً بسبب استعجال دانيال ورغبته في التحدث إلى دون ان ينتظر عودتي!
كما لا أدري إن كان أبي سيجيب على مكالمتي ان اتصلتُ به لأتأكد من موعد عودته، في جميع الأحوال سينهي المكالمة على عجالة ولن يمنحني فرصة الحديث أو السؤال.
زميت شفتي انظر إلى مويرا التي تقول بصوت خافت تحاول اقناعها: هل تمازحينني؟ علينا ان نذهب معاً! انا لست المخطئة الوحيدة هنا!
أجابتها الأخرى ببرود: بل أنتِ كذلك.
نظر ويل وزاك إلى بعضهما ليقول الأخير بانزعاج: أنتما، هذا يكفي حقاً! لننهي الأمر واذهبا إلى مكتبِه!
استمرت تاتيانا بتجاهلهم حتى تهاوى على مسامعنا كلمات مويرا التي قالت بسخرية جراء غيظها: بالطبع لن تذهب فهي لا تجرؤ على المواجهة، هذا ما تفعله على كل حال وهي تتنقل من مكان إلى مكان لأجل الوظائف الجزئية باحثة عن المال بينما تخفي وجهها بكمامة سوداء تتخفى خلفها.
لا أفهم. لماذا تعايرها بأمر عادي كهذا؟
هل العمل بالمزيد من الوظائف الجزئية أمر يدعو إلى السخرية؟!
عقدت حاجباي بحيرة عندما ظهر بريق يشبه السخرية والشماتة في عينا ويل وزاك! يبدو أن الأمر. يدعو للسخرية بالفعل في نظر الناس هنا.
هذا.
غريب!
كان من الطبيعي رؤية المرء يعمل هنا وهناك في القرية ليحصد المال ويعيل أسرته، هل هذا مخجل هنا؟!
طرفت بعيناي بعدم استيعاب أنظر إلى من قالت ببرود وهي تستكمل التنظيف وتنحني لتلتقط كيس المهملات الصغير: كمامة سوداء أو بيضاء، على الأقل كنتُ أقوم بالتنظيف بينما خطيبك مشغول في محطة القطار بمغازلة عشيقته الشقراء الفاتنة.
الصمت الذي ساد المكان كان مريباً!
عينا مويرا المتسعة التي تحدق إليها بعدم استيعاب تلاها ارتخاء لملامحها وهي تقول باستنكار: ما الذي. قلتِه؟!
رفعت تاتيانا كتفيها بلا اكتراث وتحركت لتتقدم باتجاه ركن القهوة حيث أقف ما ان انتهت، ثم اسندت جذعها نحو الركن للوراء وقالت تتنهد بملل تمرر يدها في شعرها الأسود القصير: كما سمعتِ.
احتدت عينا الأخرى وقالت بقهر تجز على أسنانها بينما تحاول الاقتراب منها: كيف تجرأت على قول هذا!
امسكها ويل من ذراعها وقال بانزعاج: هذا يكفي!
ولكنها اعترضت وقالت بغضب: عن أي شقراء تتحدثين! هل ستحاولين الآن زرع الشك بي لأشك في خطيبي! هل تحاولين تشويه صورته مدعية انه يقوم بخيانتي!
لتجيبها الأخرى بملل وهي تعقد حاجبيها: للتصحيح، انا لا أدّعي وانما يقوم بخيانتك فعلاً، يمكنكِ الذهاب إلى المحطة في الاوقات التي قد يظهر فيها هناك. برفقتها.
شددت على كلمتها الأخيرة وهي تحاول استفزازها بينما تبتسم بتهكم، ولكنها سرعان ما اردفت وقالت ترمقها بأعين واثقة وبنبرة مسموعة: محفظتك. يبدو انها تسترخي أسفل ركن المخبوزات هناك.
توجهت أنظارنا جميعنا نحو أسفل الركن، وبالتركيز يبدو انه يوجد بالفعل شيء ما هناك أسفل الركن!
ارتفع حاجبا زاك وهو يتجه نحو الركن وينحني يلتقط ما يبدو انه كان محفظة بالفعل: مويرا. هل اسقطتها هنا!
هذه الفتاة تاتيانا.
لماذا التزمت الصمت ان كانت تعلم انها اوقعتها هناك؟! لماذا لم تتحاشى الجدال معها منذ البداية!
عندما تورد وجه مويرا بوضوح أدركت انها قد اوقعتها هناك بالفعل بل وقالت بغضب تتجه نحو زاك: أ. أعطني اياها!
انتزعتها من يده ونظرت إلى تاتيانا لتقول بغيظ: اما عن حديثكِ عَن. خطيبي ف. فأنا لن أصدقك أو.
ترددت بوضوح وانتابها التوتر والقلق وهي تقول لويل وزاك: أنا. سأخرج قليلاً، سأخبِر المدير أنني بِحاجة إلى الخروج الآن، سأعوض عن خروجي غداً.
ولكن ويل حَاول إيقافها وهو يَقول بتحذير: مهلاً، اذهبا إلى مكتب المدير أولاً أنا لن اتحمل مسؤولية احداكما!
هذا ما قاله وهو يُقنعها ولكنها تحركت بسرعة إلى غرفة الاستراحة ويبدو أنها ستغير ملابسها بالفعل لتغادر!
بذهابها إلى هناك عاود الزبائن يتحدثون بأصوات خافتة قبل ان يعود الوضع الى طبيعته تدريجياً، ولكن الأمر الذي لم يبدو طبيعي هي تاتيانا التي تنهدت بعمق واعتدلتْ لتستند بمرفقيها على الركن تنظر إلى بملل.
نظرتُ للمكان من حَولي ثم العبث بهاتفي اتحاشى النظر إليها ولكنها بقيت تحدق إلى بملل!
تنحنحتُ وقد تمكن مني الاضطراب جراء تحديقها المتواصل إلى حتى سمعتها تهمهم بصوت خافت: لماذا هو مسالم إلى هذا الحد!
آه يا الهي، عليها ان تتركني وشأني.
هذا ما كنت أرجوه في نفسي وانا اضع هاتفي على الرف بجانبي حتى قالت لي بتهكم: أيها الرجل الشهم، لماذا لم تتدخل اليوم؟
رمقتها بنظرة سريعة وانا اتظاهر بتنظيف المكان بينما أقول بهدوء: أخذت عهداً على نفسي الا أتورط في المزيد من المشاكل.
أومأتْ بفهم وهي ترفع يديها للأعلى لتمدد جسدها: هكذا إذاً، ربما أنت مُسالم بالفعل.
سأتجاهل كل ما يحدث. يكفيني ما أمر فيه حقاً!
لماذا لا زالت تسترق النظرات نحوي؟ هل ترغب في قول شيء؟!
هذا واضح.
علي كل حال سأتظاهر بالغباء.
استكملت التظاهر بالانشغال حتى رأيتها تدخل الركن حيث أقف، بل انني تفاجأت بها تمسك بهاتفي تحت تأثير دهشتي لأراها ترفعه أمامي وهي ترفع شاشة القفل، وما ان فُتح القفل جراء التعرف على وجهي حتى ضربت بأناملها على رقم ما واتصلت به!
ما الذي.
يحدث!
تعالى رنين هاتفها وحينها أعادت هاتفي حيث كان، نظرت إليها بتفاجؤ وحيرة، ارتفع حاجباي بتلقائية عندما لمحت تورداً طفيفاً يعتلي وجهها رغم العدائية التي تظهرها على ملامحها! بل انها اشاحت بوجهها وقالت تتلعثم وتتعثر في كلماتها: سأعوضك بقسيمة شراء الكترونيات مقابل الامساك بهاتفك دون استئذان، على كل حال سأحتاج إلى. بعض التوجهيات.
نفيت برأسي بعدم فهم وقلت باضطراب: لِماذا. أخذتِ رقم هاتفي!
حركت قدميها تبتعد عن الركن وقالت على عجالة دون أن تلتفت: سأذهب لشراءه اليوم في وقت استراحتي، سأشتريه ولكنني سأبقيه في المتجر إلى حين انتهاء عملي، سأكون بِحاجة إلى التوجيه للتعامل معه ريثما أروضه.
أصاب عقلي التشتت المؤقت وأنا أحاول فهم ما تقوله قبل ان أدرك مخمناً رغبتها في شراء الكلب اليوم وترويضه!
ولأتأكد من ذلك تساءلت مخمناً فوراً: الدوبرمان؟
قالت دون ان تقف وهي تسرع لخدمة زبونة قد دخلت للتو: من برأيك يحتاج إلى الترويض إذاً!
لا يمكنني. استيعابها حقاً!
أخذت هاتفي فجأة لتسجل رقمي للحصول على استشارة بشأن الكلب الذي تنوي شراؤه!
ثم ألا يوجد حولها شخص ما يمكنها العودة إليه وحسب؟!
تنفست الصعداء بلا حيلة واخذت هاتفي لأنظر إلى رقمها.
هذه الفتاة. لم تنضج بعد.
لا زال على الحفاظ على مسافة كافية وعدم التورط في أي شيء يتعلق بالآخرين. كل ما أريده هو ان أمضي أيامي بسلام في هذا المكان وأستلم راتبي فقط.
أنا حتى لم أقم بحفظ رقمِها و تجاهلتُ الأمرُ برمته.
.
.
تفضل قهوتك، استمتع بها سيدي
قلتها ارسم على ثغري ابتسامة رسمية بينما أناول الزبون قهوته، عندما اخذها واتجه إلى طاولته لفت انتباهي صوتٌ عالِ بالخارج. وقد كان مألوف جداً!
هذا المُحرّك.
هل وصل دانيال؟
كنتُ محقاً إذ لمحته يتجه إلى المَقهى وقد أوقف دراجتهُ على جانب الرصيف، كان يقترب من المقهى فأسرعت امسح يدي بالمنشفة من أثر مسحوق القهوة وقد كنت أنوي الخروج من الركن لأحدثه في الخارج وانا اشير له الا يدخل بينما عقلي يستحضر ردة فعل ويل مسبقاً بشأن البث المباشر لدانيال!
لا يجب ان يراه أحد.
ليس هنا على الأقل!
لمحني دانيال ليدخل متجاهلا اشارة يدي وهو يتجه نحوي مباشرة بوجه هادئ غير مكترث البتة!
بحثت بناظري عن ويل آمل أنه ليس في الأرجاء هنا ل.
اليس هذا الرجل من قام بتقبيل تلك الفاتنة في البث!؟
اجفلتُ لتساؤل زبونة بدت في سن المراهقة وقد ايدتها صديقتها، ثم سرعان ما لمحتُ ويل الذي ينزل الدرج ممسكاً ببعض الأطباق وقد فات الأوان إذ رأى دانيال الذي وقف أمامي مباشرة.
أخذت نفساً عميقاً وزفرته بينما أقول لدانيال بأعين ضيقة: لماذا لم تتصل بي لنتحدث في الخارج دان!
رفع حاجبه الأيسر باستغراب ونظر من حوله بعدم فهم.
ثم بدى وكأنه أدرك السبب لأُفاجئ به يسأل الفتاة التي تحدث صديقتها عنه: ما الأمر؟
كانت نبرته. تحمل تهديداً واضحاً جعلها تحدق إليه بدهشة!
ولم تكن دهشتها أقل من الجميع، تباً ما الذي يفعله!
م. مهلاً هل قام بتهديد فتاة للتو؟!
بل لحظة. ما خطب عنقه! لماذا يضعه هذه الضمادة؟!
انتابني القلق ولكن المكان لم يكن مناسباً لذا أسرعتُ اخرج من الركن وقلتُ له امسك بذراعه احثه على التحرك: لنتحدث في الخارج.
سار معي يزفر بانزعاج ولكنه لم يعترض، تحركنا لنبتعد قليلاً وفي النهاية وقفنا بجانب دراجته، كان قد استند عليها ليجلس بينما تكتفتُ أمامه لأتساءل باهتمام: ما الذي أصاب عنقك!
اشار بيده بلا اكتراث: دعك من عنقي، لنتحدث في المهم.
استغربت قوله وبقيت أحدق إلى عنقه، وقد عاودت أسأله بإصرار: ليس قبل ان تخبرني كيف أصبت! ما مدى سوء اصابتك!
لهذا يصعب الوصول إليكَ كارل، رجل نقي مثلك لا يجيد التظاهر لن يكن من السهل مجاراته
عقدت حاجباي إثر قوله وقد تساءلت بعدم فهم: ما هذا فجأة؟
طرف بعينيه ببطء وهو ينظر إلى مطولاً قبل أن يتنهد وقال: لن أطيل المقدمات، لقد عاد أبي.
ارتخى كتفاي وتقدمت نحوه خطوة للأمام لأسأله بلهفة: متى! هل هو بخير؟
أومأ وقد استقرت عيناه على وهو يقول بصوت يميل إلى الخفوت: إنه بخير، لأصدقك القول. الخبر الذي عاد برفقته أمر سيزيد من وضعنا سوءاً، أنا بحاجة إلى مساعدتك لنتجاوز هذا، سيتم توريط أبي وتوريطنا كذلك في مشاكل لا علاقة لنا بها.
نفيت برأسي وسألته بشك: ما الذي تعنيه؟ هل وقعت مشكلة في القرية؟! من البديهي ألا يعود فجأة دون سبب مقنع. ما الذي حدث هذه المرة؟
عندما اخفض ناظره ببطء، وحدق إلى الفراغ بشيء يشبه التشتت والضيق، انتابني القلق وبقيت اترقب رده.
أخذتني الاحتمالات هنا وهناك حتى بقيت على أعصابي اترقب قوله بنفاذ صبر لأحثه: هل الأمر. بهذا السوء؟
أجابني دون ان ينظر نحوي: نشب حريق آخر في ملجأ الأيتام.
كما لو تعرضت لصفعة قوية جعلتني ارتد خطوة للوراء، ثقل غير محتمل قد انتابني وانا اردد كلماته في أذني!
حريق آخر؟!
بحق الإله ما الذي أسمعه!
ل. لا يبدو ان دانيال. يمازحني على الإطلاق! من السهل رؤية الانزعاج والضيق على ملامحه.!
تمالكت نفسي واحكمت قبضة يدي محاولاً الحفاظ على هدوئي حتى داهمتني أفكار لا حصر لها قلت على إثرها بعدم استيعاب وتشتت: ولكن. دامين هنا!
أومأ وبدى راضياً عن قولي فجأة: وهذا هو المهم، أنت تعلم جيداً أن دامين لم يعد إلى القرية.
عقدت حاجباي أحاوره بعدم تصديق: لقد رأيته بنفسي! لمحته في اليوم الذي غادر أبي فيه إلى القرية، متى نشب الحريق تحديداً؟!
أجابني فوراً وقد ظهرت تقطيبة صغيرة بين حاجبيه: في فجر اليوم الذي غادر فيه أبي، يمكنك ان تفهمني كارل؟! يمكنك ان تستوعب تورطنا في أمر لا ذنب لنا فيه! لطالما أخبرتكم أن لا علاقة له بالحريق الأول فكيف سيفتعل الثاني بينما هو في الأرجاء هنا!
أعقب بجدية: كارل، عليك أن تساعدني لنخرج أبي من هذه المشكلة! رفضتما الانصات إلى عندما اخبرتكما ان دامين بريء من حادثة الحريق وعليك ان تتعاون معي دون تردد!
فاجأني قوله وبقيت في مكاني مشتت!
ولسبب ما، راودني شعور غريب نحو دانيال! ففي مواقف كهذه.
سيميل الى ان يبدو عنيفاً وعصبيا بشدة!
لماذا هو هادئ ومتزن بكلماته أكثر من العادة كم لو كان. ينتقيها بعناية؟!
حاولت ان أصب جُل اهتمامي على الموضوع وأنا أقول بجدية: ما هي التفاصيل التي بحوزتك؟! وما رأي أبي في هذا الأمر؟
زفر بإنهاك وهو يقول برضى: يمكنك القول أنه بدأ يقتنع قليلاً، حسنا ليس تماما، على الأقل لم يعترض بشكل صريح على رغبتي في ان اثبت تلفيق التهمة لدامين دون ذنب مسبق، وأنتَ أيضاً عليك ان تنصت إلى جيداً وتسمع ما سأقوله لك، فمن يعلم إن كان الأمر سيتكرر او يسوء اكثر.
هذه المرة هل. يوجد أي ضحايا؟
فاجأني بقوله دون مقدمات وهو يشيح بناظره يمرر يده في شعره ويبقيها على رأسه بينما يجيب: مُديرة ملجأ الأيتام، جوليا.
جوليا!
المرأة التي اعتنت بأيتام الملجأ وكرست حياتها لهم!
امرأة وحيدة يتيمة اجتهدت منذ صغرها وعاهدت نفسها على توفير الرعاية لكل من خاض تجربتها. انتهى الأمر بها في المكان الذي.
شعرت بضيق شديد أجبرني على التوقف عن التفكير وانا أهمس بإنزعاج بينما رفعت يدي امررها على وجهي بيأس: المزيد من الفوضى. ما الذي يحدث بحق الإله! كل من لقي حتفه بسبب الحريق الأول كانوا مجرد أشخاص لا ذنب لهم في أي شيء، والآن جوليا.
كارل.
همس دانيال بإسمي ينظر إلى بترقب، فقابلت عيناه بتساؤل وذلك الضيق ينمو بداخلي لأحثه على ان يكمل ما يود قوله: ماذا؟
بدت نبرته هادئة إلا ان عيناه لم تكن كذلك! كما لو ينتابه الحقد والغضب بالفعل.
لماذا لا. يغضب بوضوح! ما الذي. يمنعه تحديداً؟
لماذا يبدو دانيال كما لو كان. عاجزاً عن التعبير أو ربما يكبح نفسه؟ هل هو حقاً بخير؟
هو حتى لا يتيح لي فرصة التفكير بما يقوله او يمنحني فرصة التعاطف بكل ما أوتيت بحواسي بقدر قلقي جراء هدوءه واتزانه على غير العادة! هو حتى قد لجأ إلى دون ان يتصرف بتهور!
كان أبي يتصرف كعادته كارل ولكن وجهه شاحب بشدة، لم نرى هذا الرجل يُظهر ضُعفه يوماً، لم يبدو مهزوزاً أو يائساً حتى بعد ما حدث مع دامين ولكنه اليوم. كما لو وصل إلى حده بالفعل.
انتابني القلق لأقول مفكراً: أعلم، ولكن. كما تعلم، ملجأ الأيتام يعني له الكثير، هو ليس مثل أي مكان بالنسبة له دان.
أومأ بفهم: لطالما اهتم بهم وأرسل الهدايا والطعام واعتنى بالزراعة هناك، لم يكن ليترك المكان الذي ترعرت فيه والدتنا دون أي اهتمام.
حاورته اتقدم نحوه أكثر لاسند ظهري على عمود الانارة خلفي: رغبت في سماع أي شيء. عدى ما تقوله الآن! ما الذي تقترحه؟ هل تشك في شخص ما؟
طرف بعينيه بتفكير وهو يهمس بجدية: لست واثقا مما يدور في عقلي حقاً ولكن. لماذا نحنُ من تورط بدفع التعويض لكافة المتضررين! لماذا يضطر أبي لبيع كافة ممتلكاته في القرية ليسدد هذه الأضرار! لماذا. رغم غياب الأدلة عن تورط دامين! كان أبي يعتقد انني ادافع عن دامين وحسب ولكنه رفض الانصات إلى ليستوعب حقيقة تورطه في أمر لا يعنيه!
عندما نشب الحريق قبل بضعة شهور وتزامن اختفاء دامين مع تلك الكارثة ظهر الكثير من الناس في القرية يدّعون رؤية دامين قبل وقع الحريق بدقائق معدودة في الحقل الذي تفحم تماما واختفت معالمه! وعندما قامت الشرطة بالتحقيق بالأمر تم اثبات نشوب الحريق بفعل فاعل ولم يكن نتيجة خطأ او تماس كهربائي أو حادثة عرضية وما شابه.
اختفاء دامين عزز شهادة الشهود وقد اتخذت الشرطة موقفاً حاسماً في كونه متورط بالفعل.
ورغم منطقية كلمات دانيال حول عدم وجود أي دليل واحد قاطع الا ان الأمر قد انتهى بأن يُشاع في كافة ارجاء القرية ما توصلت إليه تحقيقات الشرطة وهو. تورط دامين بالفعل والحكم عليه بالسجن بشكل غيابي!
الحريق الثاني.
لماذا يستهدف ملجأ الأيتام؟
ان لم يكن دامين.
فمن من مصلحته تضرر المنطقة المحيطة بالملجأ؟
هذا ما كان يدور في ذهني عندما انتبهتُ لخروج الآنسة تاتيانا لتغادر مسرعة وهي تسير بخطوات واسعة.
إنه وقت الاستراحة الخاص بها، ستذهب لشراء الكلب إذاً.
اشحت بوجهي لأعيد ناظري إلى دانيال، ولكنني سرعان ما أعدتُ ناظري إلى ما لمحتهُ لأجد نفسي اقف متسمراً في مكاني أحدق إلى من يسير بخطوات سريعة كذلك يضع يديه في جيبه و. يسلك الطريق الذي سلكته!
هذا السكّير.
مجدداً!