قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية انشق قلب القمر للكاتبة شاهندة الفصل الرابع والعشرون

رواية انشق قلب القمر للكاتبة شاهندة الفصل الرابع والعشرون

رواية انشق قلب القمر للكاتبة شاهندة الفصل الرابع والعشرون

كانوا يتسامرون بينما يتناولون القهوة في جو عائلي مريح لم يعاصره أي منهم منذ زمن بعيد، رغبة قبعت في قلب كل منهم ابتهلوا إلى الله تحقيقها وهي أن تطول هذه اللحظات، أعلن هاتف غادة عن اتصال وارد تلقته بعيدا قليلا عنهم ثم اتجهت إليهم تحمل ملامحها حزنا تنظر تجاه مالك باضطراب جعله يعقد حاجبيه ينتظر كلماتها متوجسا، كلمات وجهتها لوالدتها قائلة: الدكتور رائد معروف اتصل بيا من مستشفي الصفا، بيبلغني بموت مروان ياماما.

ظهر الهلع علي وجه والدته ممتزجا بالحزن والصدمة وهي تشهق بقوة بينما قال مالك بحيرة: مروان مين اللي مات؟
نظرت إليه والدته بعينين متسعتين وكأنها تدرك للتو وجوده بينما تعلقت به العيون بطريقة جعلته أكثر توجسا وغادة تقول بهمس حزين: مروان رياض السكري.

تجمدت ملامحه بالكامل قبل أن ينهض ببطئ ويلقي نظرة إلى والدته التي اغروقت عيناها بالدموع، تحدثت عيناه بمرارة الذكريات وكأنها عادت إليه دفعة واحدة فتنقلت من قسوة لمرارة ثم إنكسار وغضب امتزج بالألم، صرخت بكل قوة مقلتيه.

ألن يدعني القدر وشأني؟ هل سيظل ينكئ الجراح ويحيي الماضي بكل قسوته؟ هل سأظل أحيا بين أنينه و لوعته؟ ألن يحل سلامي و تقر مهجتي؟ تبا. ياله من ظلام تجذبني كل أركانه ويلعنني حتى أغرق في قاع من الوحل أريد منه فكاكا، طاهرا كنت فلا أبغي تدنيسا ولا أرغب جحيما، كفاني ماض تلظيت فيه بالنيران حتى احترقت الروح ومن الرفات بعثت ولن أرتضي من جديد احتراقا.
أنا مضطر استأذن.

قال عبارته بجمود فوجدت فيروز نفسها تتبعه دون ارادة منها بينما قالت قمر بعتاب: كان لازم تقولي الخبر ده قدامه ياغادة. ياحبيبي ياابني وكأنه بينكسر من أول وجديد.
غصب عني ياماما، الدكتور قاللي ان هيام جتلها صدمة عصبية ومامتها بعدها جتلها ذبحة وطبعا عايزين حد يستلم الطفل ويدفنه، والأستاذ رياض مبيردش علي تليفونات المستشفي فاتصل بيا عشان نروح احنا نستلم الجثة.

لا حول ولا قوة الا بالله. ياقلبي ياابني، كان تعبان. أكيد كان تعبان، أنا شفته وياريتني ماشفته، موجوع قلبي عليه وصورته قدام عينية، ملوش ذنب في أهله، ربنا اختاره لإنهم ميستاهلهوش، أنا مش عارفة قلب رياض ده ايه؟ حجر؟ والله لو حجر كان لان وحن علي ابنه. هقول ايه. انا لله وانا اليه راجعون.
قالت غادة: طب وهنعمل ايه دلوقت؟

قال مصطفي الذي ظل صامتا حتى الآن: ودي فيها كلام؟ هنروح نستلم الجثة وندفن الطفل طبعا، اكرام الميت دفنه.
قالت قمر: متتعبش نفسك يامصطفي...
أمسك يدها قائلا: تعبك راحة، وبعدين مينفعش أسيبك لوحدك في الموقف ده، مش هتقدري تستحمليه.
هزت رأسها بينما تقول غادة: وأنا هقعد مع كريم وكرملة لحد ماتيجوا.
نظر مصطفي حوله قائلا: وهي فيروز راحت فين؟

راحت ورا مالك، أنا شفتها. أكيد هتتكلم معاه. مالك دلوقتي محتاج حد يكلمه ويهديه ومفيش أحسن من فيروز، متدينة زيه وهتعرف تهديه بالدين والقرآن زي ماكان بيعمل معايا.
ياحبيبي ياابني. ياتري عامل ايه دلوقتي؟
خلاص ياقمر، فيروز معاه زي ماغادة قالتلك، يلا بينا احنا عشان نلحق ندفنه قبل العشا.

هزت رأسها وهي تنهض وتتجه معه للخارج بينما أطرقت غادة بحزن، تشعر بأن عمر السعادة قصير، لا يطول مع عائلتها يضربهم القدر بكمده ماان يدق القلب فرحا.

كانت تهرول خلفه تقول لاهثة: أستاذ مالك من فضلك استني ثواني، حقيقي مش قادرة أجري أكتر من كدة.
توقف فجأة حتى كاد أن يصطدم بها وهو يقول بحنق: يبقي متجريش.
طالعته بصدمة هامسة باسمه فشعر بالذنب يجتاحه، ليس خطأها ماحدث بماضيه ولا يصح أن ينفث عنه من خلالها ليتحاشي النظر إلى عينيها قائلا: من فضلك ترجعي، ابعدي عني دلوقتي لإني...

قاطعته قائلة بحزن: مجروح. متخان. بتتألم. قفلت باب قلبك علي الجرح وسايب الشيطان يوسوسلك ويرجعك للضلمة من تاني.
رفع عيونه إليها قائلا بمرارة: تعرفي ايه عن الضلمة اللي محاوطاني، تعرفي ايه عن ألم الخيانة؟

حكيتلك قبل كدة. جرحنا واحد، اتخانا من ناس قريبين مننا موتوا كل حاجة حلوة في حياتنا، الانسان الضعيف وبس هو اللي يستسلم وميقاومش، يضعفه جرحه ويموته لكن الانسان القوي المؤمن بالله عارف ان أي محنة بيتعرضلها ابتلاء وكل ابتلاء وليه حكمة وآخره فرج، أنا لقيت فرجي في بابا و ولادي وانت كمان لقيته في مامتك واخواتك. متضعفش تاني يامالك لإنك لو اتكسرت هتكسرهم معاك.
انت ليه بتقوليلي الكلام ده دلوقتي؟

لاني شفت في عيونك توهة كانت في عيوني زمان، بس من حظي لقيت الايد اللي سحبتني منها ونجتني من جحيم كان مستنيني في النهاية فحبيت أكون الايد دي ليك. امسكها وتبت فيها واخرج من توهتك لإنك وبعد كل اللي سمعته عنك وشفته منك متأكدة انك متستاهلش المصير ده. خلي ايمانك بان ربنا بيحبك وعشان كدة نجاك منهم وهيعوضك خير يخرجك من كل حزن وألم.

كانت تمد يدها إليه أثناء الكلام فطالعها للحظات بتردد، تدرك من عينيه صراع بين نار تتأجج بقلبه وبردا وسلاما يناديه، ليحسم الصراع قائلا: لأول مرة ألاقي حد ممكن يوصل لعقلي بعد أمي ويقنعني بكلامه. الواحد فعلا مهما حس انه قادر يعدي من أي محنة لوحده بييجي عليه الوقت اللي بيحتاج فيه ايد تتمدله بالمساعدة والحقيقة عرضك كريم جدا يا فيروز. همسك بإيدك نظريا لإني معتقدش اني مستعد أمسك جمرة من نار في ايدي.

ابتسمت وهي تنحي يدها جانبا: بصراحة كان لازم اختبر تركيزك وكمان تدينك والنتيجة ناجح وبامتياز. ممكن بقي لو سمحت ترجعني البيت عشان تطمن طنط قمر عليك.
هز رأسه ثم سار جوارها بهدوء، يسترق النظر إليها بين اللحظة والأخري يدرك في قرارة نفسه أنها مميزة تماما كوالدته وأختيه، يقع أسيرا لسحرها رغم محاولته ألا يفعل فمازال القلب مجروحا ولكن خفقاته تخبره الآن أن الجرح علي وشك أن يلتئم قريبا.

تأملت غادة بقلب مفعم بالحب أخاها الذي يشارك فيروز اللعب مع الصغار بلعبة مينوبولي بينما اعتذرت هي عن المشاركة، لقد عاد أخاها مع فيروز إلى المنزل وكأنه شخص آخر، لم يسأل عن والدته والعم مصطفي، ولم تخبره عن مكانهما، بالتأكيد فطن إلى مكان تواجدهما الآن فلم يبغي استفسارا، تري ماالذي قالته له فيروز لتصبح ملامحه بهذا السلام الذي لم تره علي وجهه منذ زمن، لقد استطاعت فيروز أن تنفذ إلى عقله وتقنعه بكل تأكيد كما تفعل معها دوما وكما كان أخاها، تشبه هذه الفتاة مالك إلى حد كبير، وكأنهما توأمين في الروح، اتسعت عينا غادة في إدراك أنهما ربما يكونان حقا توأمي روح، ولم لا؟ يناسبان بعضهما البعض وكأن كل منهما خلق من أجل الآخر، كما أن كلاهما لا شريك لهما ويحتاج للآخر، ياحبذا لو صارا حقا شريكين؛ لأسعد هذا غادة وقر عينها فلا تتمني أفضل من فيروز لأخاها عوضا عن كل جراح ماضيه، تري هل تجد هي الأخري عوضا؟ رجلا حنونا شهما وشجاعا يحبها من كل قلبه ويخشي عليها من أي خطر ويمنحها أمانا بلا حدود إلى جواره. أطلت صورة الضابط ممدوح في مخيلتها بهذه اللحظة، لتنفض أفكارها بسرعة. نعم ممدوح يحمل كل ماتتمناه في شريك حياتها ولكنه لم يبد يوما اهتماما شخصيا بها وإنما حمايتها كانت واجبه تجاه أخاها ومنذ أن أدي واجبه لم يتصل بها ولو لمرة واحدة أو يحاول حتى رؤيتها، انتفضت علي صوت رسالة جائتها، فتحت الهاتف بقلب يتوق لإن تكون هذه رسالة منه، جرت عيونها علي الرسالة لتكتم شهقتها ولكنها كانت مسموعة بما يكفي لتجذب انتباه مالك فيتطلع إلى ملامحها المضطربة وهي تقرأ شيء ما في هاتفها، ليعقد حاجبيه وهو ينهض ويتجه إليها يأخذ هاتفها منها ويقرأ الرسالة بدوره فتزداد تقطيبة جبينه تعقيدا.

كان يجلس في هذا المكان الذي اعتادا الجلوس فيه، يتطلع إلى الأمام بشرود، لقد حملته قدماه إلى هنا ولم تحمله تجاه منزل حبيبته، تساءل بقلب محبط عن السبب فأخبره عقله أنه الخزي، لقد خذل فتاته حين طلب منها الزواج في الظل ومع ذلك ارتضته زوجا، نعم استغل حبها له وكان أنانيا يعلم أنها ستخضع لسلطان العشق فلم يأبه لأي شيء آخر، لم يفكر في مصير هذا الزواج ان علمت به جيهان، ولم تكن نيته تسريح الأخيرة حتى ظهر وجهها الحقيقي أمامه اليوم. أم تراه ظهر بالماضي وكان معميا عنه بالهوي وما إن رحل العشق حتى رحل معه الزيف بدوره؟ ربما كان الفراق قدرا محتوما عن حبيبته لإنه يستحق قلب جيهان الأناني كقلبه ولا يستحق أبدا قلبا محبا كقلب مي، لن يستطيع الذهاب إليها الآن حتى بعد أن خلت حياته ممن كانت تمسكه بها سببا في الفراق فهناك شيء انكسر بعلاقته مع مي لا يجبره ألف اعتذار، ربما تراه الآن كما يري نفسه ضعيفا وأنانيا. ربما أضحت لا تكن له حبا بل ربما باتت تبغضه وتلعن اليوم الذي أحبته فيه، فراقهما صار محتوما حقا، ولكنه تساءل بمرارة.

كيف السبيل إلى حياة تخلو منها وقد حفرت تفاصيلها الجميلة في كل ركن من كيانه محتلة ذكرياته كما احتلت قلبه وخفقاته، قد كانت حياته صحراء قاحلة صارت معها جنة فيحاء وحين افترقا جفت الحياة وكأنها لم تزهر يوما، من يعيده بضعة أيام إلى الوراء؟ لأعلنها علي الملأ وتشدق بها في كل مكان...

أحبك حبيبتي ولا أرتضي غير عشقك عشقا، هيا. لا تترددي، اقبلي احتلال قلبي دون منازع واعزفي معزوفتك علي أوتاره لتصفق لك خفقاته وتعلنك عازفته الوحيدة للأبد.

تنهد بحرقة وعيناه تدور بالمكان تحيي آخر ذكري له هنا. كانا سعيدين كما لم يكونا أبدا وكما لن يكونا بعد الآن. ضاقت نفسه بألم الذكريات فنهض يضع بعض المال علي الطاولة ثم استدار مغادرا ليتجمد كلية وهو يراها تقف هناك علي باب المطعم تطالعه بعينين دامعتين قبل أن تستدير علي عقبيها مهرولة ليتبعها دون تردد مناديا إياها، لم تجبه وهي تعبر الشارع دون أن تنظر فإذا بسيارة تطلق زمورها تنبيها لها، تجمدت مكانها عاجزة عن الحركة تغمض عيناها تنتظر قدرا لا مفر منه فشعرت بيد تسحبها لتستقر علي صدر صاحبها تستمع إلى خفقاته المجنونة كجنون صوته وهو يقول: الحمد لله، للحظة حسيت اني خسرتك بس ربنا كان رحيم بيا.

تمالكت نفسها التي استكانت بحضنه جوار خفقات قلب عشقته بجنون، لتنفضه بعيدا عنها قائلة بمرارة: هتفرق ايه لو مت أو عشت ياكرم؟
أمسك يدها قائلا برجاء: تفرق يامي، صدقيني تفرق.

هزت رأسها قائلة بعيون امتلأت بالعبرات وتساقطت فوق وجنتيها الرقيقتين: لأ مش هتفرق. خلاص مبقتش موجودة في حياتك ولا انت موجود في حياتي. الموت للي زيي بقي رحمة لإني مش قادرة أعيش بعد مافقدت كل أمل ليا في بيت يجمعنا مع بعض طول العمر، المرة اللي فاتت لما بعدت عني اتعذبت قوي بس اللي هون عليا عذابي هو ايماني من الأول ان مفيش أمل قدامي، حب اتولد جوايا من أول يوم شفتك فيه لكني كنت عارفة انه حب من طرف واحد فمحلمتش بأكتر من لحظات تجمعني بيك كصديق، كنت راضية بيهم ولما اختفيت كانوا ذكري حلوة عشت عليها لحد ماشفتك من جديد، وقتها وقعت في حبك من تاني والمرة دي لقيت في عيونك أمل خلاني أحلم غصب عني، مشاعر شفتها في عينيك. في اهتمامك. في ابتسامتك ليا خلوا الأمل يكبر جوايا وفجأة لقيت حلمي بيتحقق وبتطلب مني الجواز، بتطلب مني أكون جنبك طول العمر، الدنيا وقتها مساعتش الفرحة اللي حسيت بيها ويمكن استكترتها عليا فخدتها مني بسرعة قوي. قلبي وجعني وكأن سكاكين الدنيا بتجرح فيه وكل جرح أصعب من التاني وخلاص مبقتش قادرة أتحمل، الدنيا من غيرك سودة وكأن الموت حاوطها. قلتلك مش هتفرق أموت دلوقتي أو بعدين. أنا كدة كدة ميتة في بعدك ياكرم.

قال بنبرات متهدجة: كل ده جواكي ياقلب كرم؟ يعني انت لسة بجد بتحبيني ومكرهتنيش؟
قالت بألم: محدش بيحب قوي يقدر يكره حبيبه. وأنا بحبك أكتر من نفسي.
طب وضعفي وأنانيتي؟

أنا مش شايفة غير قوة، نبل محدش قدر يفهمه لما قررت تتمسك بجيهان عشان فضلها عليك، حتى لو كان كدب ووهم عيشتهولك هي عشان تفضل معاها فده ميمنعش انك أصيل ياكرم، أما الأنانية فكانت سببها الحب، اللي بيحب حد بيحب يبقي جنبه في كل وقت، مبيفكرش ايه اللي هيحصل بعد كدة لانه بشر مش ملاك، لكن لما حد بيواجهه باللي مفكرش فيه زي ماعمي عمل معاك وقتها بتروح الانانية وبيفضل الحب وتفضيل مصلحة الحبيب وسعادته علي نفسه، زي ماانت عملت وبعدت، قرار كان محتاج منك قوة وتضحية مش ضعف وأنانية وانت قررت ونفذت.

مي تتجوزيني؟
قطبت جبينها فأردف قائلا بابتسامة: متفتكريش انك كنتي غلط، لأ أنا فعلا بعدت عشان سعادتك لكن اللي كان واقف بيني وبينك راح وانتهي، انا انفصلت عن جيهان.

اتسعت عيناها بصدمة بينما يردف: قرار كان لازم أخده من زمان لكن مخدتوش غير لما فتحت عيوني وشفتها علي حقيقتها، من غير تفاصيل جيهان قدرت تخليني آخد القرار وبسهولة كمان بعد ماعبرت عن مشاعرها ناحيتي، وبعد ماعرفت ان لسة جواكي مشاعر من ناحيتي مش هتردد ثانية واحدة عشان اتقدملك من أول وجديد.
لينزل راكعا علي قدم واحدة قائلا بعيون عاشقة: تقبلي تتجوزيني يامي؟ تقبلي تكوني شريكة حياتي الوحيدة وأم ولادي؟

تجمهرت الناس حولهما فلم تنتبه لهم في خضم سعادتها وإلا لكان أصابها الخجل وهي تومئ برأسها بدموع طفرت فرحا ولكن صوت التهليل حولها جعلها تنتبه فطالعتهم بابتسامة خجولة قبل أن تعود بعينيها إلى كرم الذي نهض يحييهم بسعادة رجل حصل للتو علي موافقة عروسه للزواج منه، ينحني بطريقة مسرحية لتتسع ابتسامتها الخجولة بحب.

نهض يخطف الملف من يد أمين الشرطة بلهفة يتطلع إلى محتوياته بعيون تلمع انتصارا ليقول بحماس: عفارم عليك ياسيد. هو ده الشغل يارجالة. حد شافكم أو العقربة لمحتكم؟
لأ ياباشا محدش شافنا، احنا دخلنا بالليل بعد ما الناس ناموا.
كان يقلب في الأوراق بينما يقول: غريبة مع ان حماتي المصونة نومها خفيف، أكيد الناس اللي أجرتهم مستوي شغلهم عالي قوي، محترفين يعني. علي سنقر ولا حمكش؟

حمكش يارياض باشا، بس الست إلهام مكنتش في البيت أساسا.
توقفت يده عن التقليب في الأوراق وهو يطالعه عاقدا حاجبيه قائلا: أصلها ايه، دي عمرها ماعملتها. لا اتأخرت ولا باتت برة البيت.
قال سيد متلعثما تبدو ملامح الحزن عليه مما أوجس قلب رياض: سامحني ياباشا، أنا والله لسة عارف النهاردة ومكنش فيه وقت أبلغ حضرتك عشان كان لازم أبلغ حمكش ورجالته ينفذوا.
زادت تقطيبة جبينه وهو يقول: عارف ايه؟ ماتنطق ياسيد أحسنلك.

الست إلهام جتلها ذبحة صدرية وبايتة في المستشفي من امبارح.
ودي حاجة تزعلك كدة، أمال لو مكنتش عارف اني مبطيقهاش أساسا موتة تاخدها وتريحنا منها.
الموت أخد حد أحسن منها وللأسف مقدروش يوصلوا لحضرتك بعد ما الست هيام جتلها صدمة عصبية عشان تروح تدفنه فاتصلوا بالهانم والدتك وراحت استلمته ودفنته.
انت قصدك...
ترك جملته معلقة فقال سيد بحزن: أيوة ياباشا، البيه مروان ابنك. تعيش انت.

اخرج دلوقت ياسيد واقفل الباب وراك.

هز سيد رأسه باحترام مغادرا بينما جلس رياض في مكانه، يشعر بشيء يقبض قلبه بقوة. هل هذا حزن ما يستشعره؟ وكيف يحزن علي من لم يعده يوما ابنا له بل كان عبئا يربطه بزيجة لا رغبة له فيها؟ ربما يشعر بالذنب فهو السبب في أن يأتي للحياة وقد يكون سببا في رحيله عنها، لا يدري كيف يشعر ولكن هناك بالتأكيد غصة تقبض صدره تمنعه اليوم عن الذهاب إلى هذا الملهي الليلي كما انتوي أن يفعل، سيؤجلها للغد عل هذه الغصة ترحل عنه ولكن هناك مكان يجب أن يذهب إليه حتى يشفي غليله الذي دام طوال الفترة الماضية وهو يشعر بروحه مقيدة تقبع تحت يدها ترضي عنه فتتركه وشأنه أو تغضب عليه فتقبض روحه دون رحمة. الآن عادت إليه روحه فعادت إليه حريته ليمارسها كيفما يشاء.

كانت تنقل بصرها بين الصور المعروضة أمامها بصدمة، اغروقت عيناها بدموع امتزجت بدموع صغيرتها التي تقبع بأحضانها تستشعر ربما ألم والدتها وهي تري زوجها يحتضن امرأة أخري في احدي الصور بينما يقبلها علي وجنتها بصورة أخري، لا تصدق ميسون عيناها. كيف طاوعه قلبه علي خيانتها؟ لقد كانا سويا البارحة فقط يتطارحان الغرام، يسمعها أحلي الكلمات فتجيبه بأحبك سيدي ومولاي. معشوقي الذي بيده خفقات قلبي تتضرع مبتهلة عشقك حتى تلثم ثغري فيرتعش توقا لحب خالد لا يموت. ما الذي حدث إذا؟

هل كان وهما ماشعرت به بين يديه من عشق خالص لها؟ أم أن عيناها تخدعانها؟ وجدت باب مخدعها يفتح وتظهر أمامها حماتها العتيدة تطالعها باهتمام زائف وهي تقول: أنا سمعت هانيا بتعيط قلت أكيد انت مش موجودة جنبها، مالك ياميسون. هانيا تعبانة ولا ايه؟

رفعت لها ميسون الصور فأمسكتها ناهد تطالعها قبل ان تضع يدها علي فاهها تمنع شهقة مفتعلة قبل أن تقول: معقول وليد رجع لنفين؟ هم مش سابوا بعض لما اتجوزك. وبعدين الصور دي وقعت في ايدك ازاي؟
قالت ميسون بألم: انت تعرفيها؟
طبعا، دي نفين بنت شكري الأسيوطي شريك مراد القديم، نفين كانت خطيبة وليد وانفصلوا.
قالت ميسون بسخرية مريرة: الظاهر غير رأيه.
كبري دماغك ياميسون، جوزك مهما لف هيرجعلك.

تقبلي انت يخونك آنكل مراد وتعديها؟ معتقدش، أنا كمان مستحيل أقبل الخيانة أو أرضاها علي نفسي وقلبي وكرامتي.
قصدك إيه؟
قصدي ان حلمك اتحقق وخلاص وليد هيرجع لحضنك لاني مستحيل أستني علي ذمته لحظة بعد اللي شفته منه وسمعته منك.

لتنهض تحمل الصغيرة وتسحب حقيبة يدها بعصبية تغادر الحجرة بخطوات بائسة غاضبة حزينة بينما تتابعها ناهد بعيون ظهرت بهما فرحة طاغية ترتسم علي شفتيها ابتسامة ظافرة وهي تبتهل إلى الله أن يكون رحيلا دون عودة.

دلف إلى الحجرة فوجدها هناك علي السرير ضعيفة كما لم يرها يوما، اقترب منها ووقف جوارها فتحت عيونها ببطئ تطالع زائرها بوهن قائلة: رياض. البقاء لله ياابني. ربنا يجعله شفيع ليكم يوم القيامة و يعوض عليكم، أمال فين هيام؟ هي لسة تعبانة؟
قال بسخرية: معرفش أصلي مشفتهاش.
قطبت جبينها قائلة: مشفتهاش! وده اسمه كلام برضه؟ دي مراتك وواجب تتطمن عليها قبل ماتزورني.
مبقتش مراتي خلاص. لسة مطلقها حالا.

انت بتقول ايه؟
مال عليها يقول بتشفي: بقول اللي كان نفسي من زمان أقف قصادك وأقوله، مش رياض السكري اللي واحدة زيك تلوي دراعه بشوية ورق وتجبره يتجوز واحدة خاينة وحقيرة زي بنتك. الورق أهو.
أشار إليها بالأوراق مردفا: رجعلي ورجع مصيري في ايدي، بنتك خليها عندك جوزيها حد تاني غيري وابعدوا عني بقي لإني قرفان أبص حتى في خلقتكم.

أمسكت إلهام قلبها بضعف تقول بألم: بس هيام عمرها ماحبت غيرك، ياابني بلاش تعمل فيها كدة. كفاية عليها صدمة موت مروان وفراقه عنها، فراقك انت مش هتقدر تتحمله وممكن تموت أو تتجنن.
استقام قائلا ببرود: في ستين داهية. ميهمنيش.
كاد أن يغادر فاستوقفه صوتها الغاضب وهي تقول: طب ايه رأيك ان فيه نسخة تانية من الورق محدش يعرف طريقها غيري ولو مرجعتش هيام لعصمتك هقدمها بايدي للبوليس.

اقترب منها يقول بصوت كالفحيح: انت مش راضية تحلي عني انت وبنتك. مش كدة؟
طالعته بكره قائلة: لو عليا مش طايقاك ومكنتش أتمني تبقي جوز بنتي، جوز بنتي كان حبيبي مالك، راجل بجد وابن أصول، لكن هقول إيه بنتي طلعت هابلة لأبوها وحبت واحد زيك وأنا مش مستعدة أخسرها بسببك وهحاربك بكل قوتي ولآخر لحظة في عمري.
مالك مش كدة؟ وهتحاربيني لآخر لحظة في عمرك. يبقي انت اللي اخترتي.
قصدك ايه...

قاطعها بسحب الوسادة فجأة من تحت رأسها ووضعها علي وجهها يضغط بقوة بينما تدفعه عنها بيديها، زاد من ضغطة يده فانتفض كل جسدها في محاولة للإفلات منه ولكنها كانت أضعف من أن تقاومه كثيرا، سكنت حركتها تماما فرفع عن وجهها الوسادة يطالع وجهها الشاحب وعيناها المتسعتان ولكن روح الحياة قد غادرتهما للأبد، وضع الوسادة تحت رأسها مجددا ثم أغلق جفنيها قائلا ببرود: الله يرحمك ياحماتي.

ثم غادر بهدوء يتطلع يمينا ويسارا فلم يري أحد، ليتجه صوب الحجرة الأخري والتي أخبره سيد عن وجود هيام بها، فتحها ودلف فوجدها بدورها نائمة في سريرها، اقترب منها وجلس علي الكرسي جوارها، أمسك يدها فلم يصدر منها حركة قال بسخرية: هربانة في حالة بيقولوا عنها صدمة عصبية مش كدة؟ كان نفسي تكوني واعية كفاية عشان تسمعيني وتفهمي كلامي، اليوم ده بقالي أكتر من سنة مستنيه. ابني والورق اللي لويتوا دراعي بيه انت وأمك عشان أتجوزك راحوا وراح أي شيء ممكن يربطني بيكي، أنا عمري ماكرهت قدك، كان بين ايديكي راجل بيحبك وبيموت فيكي بس انت خنتيه بكل بساطة. هتقولي ماانت كمان خنته، أنا ياستي شيطان وعملتها غيرة منه، طول عمره والناس كلها بتحبه وتقول مفيش منه، أخد كل حاجة. حب أمي وإخواتي والبنات والناس، مسابليش غير الدور التاني في حياتهم وأنا طبعي لازم أكون الأول، حرمني من البنت اللي حبيتها زمان لما طلعت بتحبه فحرمته البنت الوحيدة اللي حبها، هتقولي وايه ذنبه؟ هقولك ذنبه انه قلبه أبيض والناس بتشوف فيه الملاك لكن قلبي أنا بيشوفوه إسود وبيقولوا عليا شيطان. خلاص أنا شيطان. عجبتكم كدة. معتقدش. بس عاجب نفسي وحابب ان الكل عاملي حساب وبيخافوا مني، أصل البشر كدة يخافوا ميختشوش، ما علينا طولت عليكي ولازم أمشي. كلمتين بس هقولهوملك في وشك لانك مش هتشوفيني تاني، أنا غيرت عنواني وطلبت نقلي من هنا. مش عايز أشوف أي حد يفكرني بالقرف اللي كنت عايش فيه معاكم، انا طلقتك ياهيام وآه أمك هي كمان الله يرحمها، قضاها بقي، ماهو محدش قالها تقف قدام القطر، أكيد هيدهسها. يلا. البقاء لله.

ترك يدها وهو ينهض ويلقي عليها نظرة أخيرة ساخرة قبل أن يبتعد مغادرا لتنزل في هذه اللحظة دمعة من عينيها المغلقتين تحمل حسرة وغضب وحزن، وندم.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة