قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية المحترم البربري للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والأربعون

رواية المحترم البربري للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والأربعون

رواية المحترم البربري للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والأربعون

كانت بحاجة لإنعاش روحها المتعبة من تحميلها ما لا تطيق لمجرد استفزازها وإشعارها بأنها دومًا على خطأ حتى لو كانت بريئة، ولجت آسيا إلى الحمام الملحق بغرفتها بالمشفى لتغتسل، تأملت ما تُرك على جسدها من ندبات وآثار كدمات وجروح لتتأكد أنها لن تعود إلى ما كانت عليه مسبقًا حتى لو ادعت العكس، كتمت بيدها شهقة موجوعة حينما أخفضت يدها لتلمس بطنها متذكرة قسوة كلمات معتصم بأنها لن تحمل ذات يوم في أحشائها جنينًا تمنحه الحب الذي افتقدته في حياتها، كان وقع الكلمات عليها كاسحًا، ستغدو مثلما أتت إلى تلك الحياة وحيدة، يتيمة، بلا مشاعر طمأنينة وأمان تحتويها، بل ستظل مذنبة في أعين الجميع مهما حاولت أن تبرأ ساحتها وتدافع عن نفسها، كفكفت عبراتها التي امتزجت مع الماء الساخن لتنظر إلى وجهها المتعب في المرآة، بدت كشبح امرأة أرهقها الزمن بمصاعبه، لم تعد الأنثى المغرية المسلط عليها أضواء الشهرة والتي تفتك نظراتها الساحرة بعقول الرجال وتجعلهم صرعى لفتنتها المميتة، أشاحت بعينيها بعيدًا عن انعكاس صورتها المؤسف لتكمل ارتداء ثيابها بتعبٍ.

خرجت آسيا من الحمام فوجدت والدتها في انتظارها وعلى ثغرها ابتسامة صغيرة، استقبلتها بنفس الحنان الودود قائلة لها:
-كويس إنك خدتي دش، وشك نور يا حبيبتي
صمتت ابنتها ولم تنبس بكلمة، قاومت نادية وخزة مباغتة ضربت عضلة قلبها وادعت الابتسام رغم الدمعات التي انسابت من طرفيها، هدأ الألم فاقتربت من ابنتها لتتمكن من المسح على بشرتها برفق قبل أن تكمل ببسمة سعيدة:.

-الدكتور قال إنك تقدري تخرجي النهاردة ومافيش قلق من حالتك
أغمضت آسيا عينيها لتستمتع للحظات لتلك اللمسة التي تفتقدها، كانت بحجة إلى أن ترتمي في أحضانها لتبكي وتشكو لها بصدق ما تعانيه، أرادت الصراخ وإلقاء اللوم على كل من سبب لها جرحًا في حياتها ليجعلها تتخبط وتقاسي الأمرين، لكنها عزفت عن ذلك مدعية جمودها ثم فتحت عينيها لتقول باقتضاب:
-كويس.

تراجعت عنها بهدوء وأولتها ظهرها، تحركت نادية خلفها متسائلة بقلق خائف وواضح أيضًا في نظراتها نحوها:
-إنتي راجعة معانا البيت، صح؟
التفتت ناحيتها لتحدق فيها بوجهٍ مليء بالغموض مجيبة إياها: -هو أنا عندي حل تاني غيره.

تنهدت والدتها بارتياح لكونها لن تتركها ولو في الفترة الحالية، ستبذل قصاري جهدها لتقنعها بالعكس وتجعلها تنعم بالدفء الأسري فتتخلى عن تلك الرغبة المزعجة بالرحيل، دق وحيد الباب مستأذنًا بالدخول:
-ها يا آسيا، جهزتي؟
ردت عليه: -أيوه
بينما أضافت نادية بتلهفٍ: -الحمدلله إن الأزمة دي كمان عدت على خير، أنا قلبي اطمن لما شافها واقفة على رجلها من تاني.

عجزت آسيا عن التطلع إليها، فحنوها يضعفها كثيرًا ويؤثر عليها، حز في قلبها ألا تركض إليها تتوسل عطفها، هي بحاجة للتسلح بالخشونة والجفاء لمواجهة معتصم وغيره ممن عكروا حياتها، سارت بتمهل إلى خارج الغرفة تتبعها والدتها التي تكافح بشراسة لإخفاء مرضها، وصل ثلاثتهم إلى المدخل الرئيسي للمشفى حيث تصطف سيارة معتصم بالخارج، لم يترجل منها ليقابلها بل ظل جالسًا في مكانه متجاهلاً حتى النظر إليها، أجلستها نادية في الخلف وجلست بجوارها، في حين شغل وحيد المقعد الأمامي لينطلق بعدها ابنه في اتجاه المنزل ملتزمًا بالصمت رغم محاولات نادية الجدية لخلق أحاديث بينهما، وكأن آسيا تقرأه جيدًا فلم تعلق إلا بالمقتضب الموجز مجاملة لوالدتها.

لم تتوقف عبراتها عن الانهمار منذ أن أدركت أنها ضحية ملعوب شيطاني، وكلما تذكرت ما مرت به انتحبت أية أكثر وانخرطت في نوبة جديدة من البكاء حتى تورمت عيناها كثيرًا وتلونت بحمرة مقلقة، زارها نبيل ليطمئن عليها، سعدت بوجوده ودافعت عن موقفها قائلة:
-والله ما كنت أعرف إنه بالقذارة دي، هو ضحك عليا واستغلني وأنا بغبائي صدقته
أشفق عليها معللاً: -عشان إنتي لسه صغيرة مش فاهمة الناس كويس.

ثم تحولت نبرته للعتاب وهو يكمل: -بس مش قادر أسامحك على ده، كان المفروض تعرفينا من أول يوم، أنا و معتصم أخواتك، واللي يخصك يخصنا.

ردت بندمٍ وقد طأطأت رأسها: -أنا أسفة، بس افتكرته بني آدم محترم نيته شريفة
فرك نبيل رأسه عدة مرات مرددًا بحيرة: -اللي مجنني إنه إزاي عرف يوصلك؟!
أجابته بصوتها الباكي: -مقابلاتنا أغلبها كانت صدفة، وأول مرة شوفته كانت عند المكتب بتاعكم
تركزت أنظاره عليها بعد ما تلفظت به من كلمات خطيرة أثارت ريبته، هتف بها بجدية تامة:
-احكيلي بالتفاصيل يا أية، لازم أعرف كل حاجة عشان أعرف أجيب حقك.

أومأت برأسها مرددة: -حاضر، بس صدقني أنا مكونتش أعرف إنه على صلة ب آسيا وفي كمان مشاكل بينكم ومع معتصم بالذات!

وافقها الرأي قائلاً: -أنا متأكد من ده، الرك على ابن عمك إنه يصدق إنها بريئة، طبعًا الشك زي تملي هيعميه ويظلمها وجايز يقول إنها ورا اللي حصلك.

مسحت أنفها بمنشفة ورقية ثم سألته باستغراب: -معقولة؟
تحدث من زاوية فمه زافرًا بامتعاضٍ بائس: -إنتي مش عارفة تركيبة دماغه عاملة ازاي
ردت عليه: -أنا هاتكلم معاه وأقوله على كل حاجة
بدا نبيل واثقًا من فشلها في ذلك حتى لو أتت له بعشرات البراهين التي تثبت براءتها، أخرج زفيرًا آخرًا مهمومًا من صدرها وهو يعلق:
-يا ريت بس يصدق!

تباطأت خطواتها وهي تسير نحو باب المنزل الذي احتضنها في الفترة الأخيرة، فالأتي سيحمل في طياته الكثير بالنسبة لها، توقفت عن المشي حينما استدار معتصم بجسده نحوها مغلقًا عليها الطريق ومانعًا إياها من المرور، رمقته آسيا بتلك النظرة الحادة الكارهة له، سألته ساخرة وهي تشير بعينيها:
-إيه؟ مش هاتخليني أدخل؟
اقترب منها ليهمس لها مؤكدًا عن ثقة كبيرة: -اعرفي إن أيامك هنا بقت معدودة.

ردت عليه متسائلة: -تحب أمشي دلوقتي؟ أنا أصلاً مش فارق معايا، أقولك سلام يا معتصم بيه، اشبع باللي عندك.

كادت أن تتحرك من مكانها لكنه قبض على ذراعها ليجذبها منه إليه، ضربت صدره بكفها وهي تستند عليه كرد فعل لشده العنيف، كز على أسنانه هامسًا لها:
-استني هنا!
رمقته بنظرة ساخرة من تصرفه غير المفهوم، سألته مستفهمة: -إنت حيرتني معاك، مش عارفة بصراحة إنت عاوز إيه بالظبط؟ تموتني ولا تطردني ولا...

لم تكمل جملتها بسبب سؤال والدتها القائل بقلقٍ: -في إيه يا ولاد؟
أرخى معتصم قبضته على الفور من على ذراعها وأخفضها نحو خصرها ليحاوطها منه، رسم على وجهه بسمة زائفة وهو يقول لها:
-ولا حاجة يا ماما، دي آسيا اتكعبلت وهي ماشية وأنا كنت بأسندها
رفعت الأخيرة حاجبها باستنكار، حدجته بامتعاض وهي تميل عليه لتهمس له: -إنت ملك الكدب!

تجاهلها متعمدًا التحديق في وجه نادية التي كانت تراقب تصرفاتهما باهتمام ملحوظ، أضافت قائلة بابتسامتها الحنون:
-ربنا يخليكوا لبعض، تعالوا جوا يا حبايبي، احنا كلنا تعبنا النهاردة ومحتاجين نرتاح!

رد عليها معتصم بتكلفٍ: -حاضر، اسبقينا يا ماما.

لكزته آسيا في جانبه كتعبير عن رفضها لما يفعله فور أن أولتها والدتها ظهرها ليحررها بعد ذلك، ثم نظرت له شزرًا وكأنه نكرة قبل أن تمرق إلى الداخل، استشاط في مكانه حنقًا، تسمر في مكانه لثوانٍ ليقاوم تلك العاصفة الهائجة بداخله، فشكوكه تكاد تنهش في عقله الذي استسلم لتلك الأكاذيب الخدَّاعة وبات أسيرها، كور أصابع يده ليضرب بقبضته الحائط بضيق، بدا متخبطًا في مشاعره وأفكاره حتى لم يعد يفرق بين الصواب والخطأ، تنفس بعمق واستعد للدخول آملاً في نفسه ألا يخرج عن طور هدوئه الزائف ويتحكم في أعصابه حتى الأخير.

تحملت فوق قدرتها المحدودة مقاومة حدة الألم الذي يعتصر قلبها من آن لآخر كي لا تثير قلق من حولها لتنشغل فقط بما تعانيه ابنتها من مشكلات كبيرة، أثر عليها ذلك بالسلب فظهر وهنها على جسدها بشكل مضاعف، وما إن تأكدت نادية من عودة ابنتها للمنزل حتى استأذنها بالصعود إلى غرفتها لترتاح، تثاقلت خطواتها وبدت تكافح للصعود على الدرج الداخلي، بلغت غرفتها وهي بالكاد تلهث لالتقاط أنفاسها، ضعفت عضلة قلبها وخذلها جسدها بعد أن استنزف ما لديه من طاقة لتنهار عند عتبة الباب، أثارت بسقوطها المفاجئ فزع وحيد الذي صرخ باسمها عاليًا:.

- نادية
هرع إليها ليرفعها إلى صدره مرددًا بهلعٍ: -في إيه يا نادية؟ حصلك إيه؟ ردي عليا!
نظرت له زوجته بعينين مخيفتين وهي تهمس له بصعوبة: - آسيا، بنتي..
ضمها إليه يرجوها: -عشان خاطري متكلميش
هرول معتصم صاعدًا الدرج بعد تلك الصرخة المخيفة ليجدها تفترش الأرضية بجسدها ووالده يحضتنها بخوفٍ، جثا على ركبته أمامها وأمسك بكفها بين راحتيه ليفركه متسائلاً بقلقٍ شديد:
-مالك يا ماما؟

استشعر تلك البرودة المخيفة في يدها وجزع قلبه من تخيل الأسوأ، لحقت به آسيا لتقع أنظارها على والدتها الغائبة عن الوعي، تجمدت قدماها في مكانها من صدمتها، أجبرت نفسها على التحرك في اتجاهها، فزعت وارتعدت أطرافها وهي تدير رأسها في اتجاه وحيد الذي صرخ مستنجدًا:
-اطلب الإسعاف بسرعة يا معتصم، مامتك حالتها خطرة.

سيطرت على آسيا حالة لحظية من الشلل المؤقت في تفكيرها فبدت كالبلهاء وهي تطالعه بنظراتها الغريبة محاولة استيعاب الموقف وتفسيره، أدمعت عيناها بقوة حينما رأت تلك الزرقة المفزعة التي كست ملامح وجه والدتها لتبدو أقرب إلى الموتى عنها إلى الأحياء، انتفضت في مكانها عندما هدر صائحًا بتوسلٍ:
-اوعي تموتي يا نادية، ماتسبناش دلوقتي، احنا كلنا محتاجينك!

هزت رأسها باستنكار رافضة تصديق احتمالية تركها للعالم الفاني، رغمًا عنها صرخت آسيا بخوف حقيقي نابع من فؤادها وهي تجثو على ركبتيها بجوارها:
-ماما!

حدث ما كانت تخشاه وتوفيت والدتها قبل أن تروي ظمأها من حنانها الأمومي ليهتز الجميع بموتها المباغت، بكتها آسيا بحزنٍ كبير، وتأثرت برحيلها رغم أنها لم تنعم فعليًا بحبها إلا لفترة بسيطة لكنها ملأت حياتها بإحساس الراحة والاطمئنان، وبالرغم من مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على حدوث تلك الفاجعة إلا أنها ظلت على وضعيتها الحزينة المنكسرة، تناست كل شيء ليظل وجه نادية البشوش الضاحك متجسدًا أمامها، ألمها أنها كانت تسعى جاهدة لإرضائها وهي لم تمنحها إلا العناد والشقاء، ومع ذلك لم يضعف أملها فيها ليتضاعف تأنيب ضمير آسيا، عاقبت نفسها برفضها تناول الطعام إلا من بضعة لقيمات تبقيها على قيد الحياة، وانحبست في غرفتها مع صورتها التي التقطتها مؤخرًا معها لتبكي فقدانها بحرقة.

لم يكن حال معتصم مختلفًا عنها، بل كانت أحزانه مضاعفة، فقد خسر والدته للمرة الثانية ليشعره ذلك بالخواء والوجع المهلك، انقطع عن عمله وأهمل فيه غير عابئ بتبعات ذلك لينزوي مع نفسه يبكيها منفردًا، باتت السجائر سلواه الوحيدة لينفث عما يجيش في صدره من آلام تعتصره، أدمن التدخين بشراهة خلال الأيام الماضية متجاهلاً تأثيرها الخطر على صحته، بدا المنزل كئيبًا موحشًا بدون وجود نادية، حتى الطعام تحول للعلقم في الأفواه، حاول وحيد أن يبدو صلبًا قويًا ليجعل الأمور تسير بسلاسة كما كانت توصيه نادية دائمًا إن رحلت فجأة، ولج إلى داخل غرفة ابنه ليجده مهملاً في هيئته وتاركًا للحيته تنبت بهوجائية، ورغم تفهمه لحالته النفسية إلا أنه عارض انعزاله بتلك الصورة، جلس إلى جواره بالشرفة يسأله بهدوء:.

-هاتفضل كده كتير
التفت معتصم نحوه ليجيبه بصوته المنكسر: -إيه مش من حقي أزعل عليها؟
رد عليه نافيًا: -لأ طبعًا، بس مامتك مكانش هيرضيها الوضع ده
اختنق صدر معتصم وخرج صوته مكتومًا عندما هتف بقهرٍ: -يا بابا أنا اتكسرت، هي مش بس ربتني، دي كانت كل حاجة في حياتي
نكس وحيد رأسه قائلاً بأسفٍ: -مش إنت بس يا معتصم، نادية خدت معاها حاجات كتير لما ماتت.

صمت للحظة ليضبط انفعالاته المتأثرة ثم تابع: -بس صدقني يا ابني مكانتش هاتبقى مبسوطة وإنت عامل في نفسك كده
أخرج ابنه زفيرًا مهمومًا من صدره ليرد بعدها: -أنا محتاج وقت يا بابا لحد ما أفوق من الصدمة
هز رأسه بإيماءة صغيرة متفهمًا رغبته ثم أضاف بعدها: -طيب، بس يا ريت تاخد بالك من آسيا كمان
ضاقت نظرات معتصم وتركزت حواسه مع والده، تناسى مشاكله معها في خضم أحزانه، تابع وحيد موضحًا بجدية:.

-هي بنتها وكانت روحها متعلقة فيها في آخر أيامها، أكيد هترتاح في رقدتها لما تلاقيك واقف جمبها.

رد عابسًا دون تردد: - آسيا مش محتاجاني
صحح له والده اعتقاده الخاطئ عنها قائلاً: -إنت غلطان، لو بصيت عليها هتفهم قصدي إيه، حاول تطبطب عليها وتقف جمبها!
نفخ هاتفًا باقتضاب: -ربنا يسهل
-ماشي يا معتصم، أنا هاسيبك على راحتك دلوقتي.

قالها وحيد وهو يهم واقفًا لينصرف بعدها من الغرفة تاركًا ابنه في حيرة جديدة بشأن وضعه مع آسيا، دفن معتصم رأسه بين راحتيه كاتمًا أنفاسه الحارة بينهما، اختنق من مجرد التفكير فيها وكأنها ثقلاً يطبق على أنفاسه ويستنزفه ليل نهار، اعتدل في جلسته موسدًا يديه خلف عنقه ليحدق أمامه بضيق ممتعض، تنهد محدثًا نفسه بإنهاك:
-النهاية اتكتبت بينا...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة