رواية الطاووس الأبيض ملحق إضافي للكاتبة منال سالم الفصل العاشر
كانت أعصابها مشدودة، تتوالى عليها مشاعرها المنفعلة كإعصارٍ قاسٍ، يجرف كل ما يقف في طريقه، لذا بمجرد أن رأته يلج للغرفة، استعدت للنهوض وتركه بمفرده، لم تكن بحاجة للمواجهة معه، أو حتى الجدال، لئلا تحتد علاقتهما ويحدث الأسوأ، لذا قامت بحمل الصغيرة على ذراعٍ، غير مكترثة بالصينية التي جاء بها، بينما طالعها تميم بنظرة غامضة بعدما وضع الصينية على الكومود، اتجه إليها، ثم استوقفها من ذراعها الآخر قبل أن تغادر متسائلًا في صوتٍ خشن؛ لكنه خفيض:.
-رايحة فين؟
اضطرت لترك طفلتها أرضًا حتى تتمكن من مجابهته، استقامت في وقفتها السامقة، وخاطبته في قدرٍ من العصبية:
-سيبالك الأوضة تقعد فيها براحتك، وأنا هافضل في أوضة هاجر.
ظلت قبضته ممسكة بذراعها، بل اشتدت قليلًا عليها، مما دفعها لحدجه بنظرة محذرة، تجاوز نظرتها المعنفة تلك، ليستطرد راجيًا بهدوءٍ، وقد لاحت في حدقتيه هذه النظرة الدافئة:
-ماتمشيش. عشان خاطري.
صوته الرخيم المليء بهذه النبرة الحانية، والمصحوب بنظرته الشغوفة تلك، كانت تربكها، فهي تعرف جيدًا كيفية النفاذ إلى داخلها لتؤثر فيها، في الحال اتخذت موقفًا دفاعيًا، ومناهضًا له، حيث نفضت ذراعها لتتحرر منه، وقالت في تصميمٍ، مباعدة عينيها عنه:
- تميم، أنا مش عاوزة أتخانق، بجد تعبت، كفاية أوي اللي حصل برا.
تركتهما الصغيرة يتجادلان بلا مبالاة، وهرولت ركضًا في مرح وبراءة نحو الباب الموارب لتخرج من الغرفة، حاولت فيروزة اللحاق بها، فمنعها من بلوغها بالإسراع تجاه الباب، في التو أغلقه بيده، واستند عليه، لتقف مشدوهة في مكانها وهي تحدجه بنظرة حادة، تنهد تميم مليًا، واستطرد قائلًا ببرود بعدما سد عليها الطريق بجسده:
-متقلقيش عليها، هي مع جدودها.
تحَّينه للوسائل الماكرة للانفراد بها كان مغيظًا لها بدرجة كبيرة، ناهيك عن كونه موترًا لها، لهذا رفعت إصبعها أمام وجهه تحذره، وقد اكتسبت بشرتها حمرة منفعلة:
-بص لو بتعمل ده كله عشان أسيب الشغل فمش هيحصل.
علق عليها بتبرمٍ طفيف:
-شوفي إنتي اللي بتفتحي المجال للخناق.
تقدمت خطوة تجاهه، وردت عليه بتشنجٍ:
-عشان عارفة دماغك فيها إيه، مش هترتاح غير لما تعمل اللي إنت عاوزه.
رمقها بنظرة طويلة لم يقطع خلالها تواصله بقطعتي الفيروز المتأججتين، ثم مد يده ليحتضن صدغها، داعب وجنتها الساخنة بإصبعه في رفقٍ وهو يخبرها بقلبٍ صادق:
-أنا عاوزك تكوني بخير، في أمان، بعيد عن اللبش اللي موجود في الشارع.
لم تتقبل لمساته الملاطفة، تلك التي يحاول بها اللعب على وتيرة إحساسها، فأبعدت يده قائلة بصوت جاد:
-احنا مش عايشين معزولين عن الناس، وارد ده يحصل في أي وقت وفي أي مكان.
ضاقت نظراته بشكلٍ ملحوظ، فأكمل في تحدٍ وهي تضع يدها أعلى خصرها:
-ولو حصل وحد اتهجم عليا، فأنا كفيلة أدافع عن نفسي.
سدد لها نظرة مستخفة قبل أن يسألها ساخرًا:
-إزاي؟
اغتاظت من استخفافه بقدرتها في الزود عن نفسها، فكورت قبضتيها، وضربته في صدره بقوةٍ وهي تجاوبه عمليًا:
-كده هو.
تفاجأ بما تفعل، وحاول صد لكماتها غير الدقيقة المتدافعة عليه بكفيه المفرودين وهو يكتم ضحكاته، ليعلق أخيرًا:
-طيب بالراحة، خلاص خوفت.
اشتاطت حنقًا من طريقته الهازئة منها، فصاحت به بتعصبٍ أكبر:
-إنت بتضحك عليا؟!
رغم قوة ضرباتها إلا أنها لم تجدِ نفعًا معه، فقد نجح في إيقافها قبل أن تمسه، ليردد بمزاحٍ:
-ما هو محدش بيضرب حد بالغشومية دي.
مع استهتاره، واستهانته المتواصلة، تمكن منها غيظها المتزايد واستحوذ عليها، فبلا إعادة تفكير قررت إصابته في مقتل، لذا رفعت ركبتها، وركلته أسفل بطنه بأقصى طاقاتها، ليتأوه من الألم المباغت الذي نال من معدته ودفعه للانحناء.
أظهرت فيروزة تشفيها لنجاحها في إيلامه وهي تبتسم ابتسامة عريضة:
-أنا بضرب كده تحت الحزام.
كز على أسنانه كاتمًا ألمه، وحدجها بنظرة قاسية مهمهمًا في صوتٍ خفيض:
-بقى ينفع كده آ.
استقامت واقفة في زهو لتطالعه بهذه النظرات المتفاخرة قبل أن تزيد في إغاظته بنجاحها في تسديد ضربة موفقة ضده:
-عشان تعرف إني مش سهلة!
لم تدم فرحتها طويلًا، ولم تعرف ما الذي حدث في التو، فالأمر كان كلمح البصر، حيث شعرت بذراعه تطوقها من خصرها بعدما انقض عليها، ليحملها في خفة، ويتجه بها نحو الفراش، ألقاها عليه وهو معها، وقبل أن تحاول لملمة شتات نفسها والنهوض، وجدته يمسك بها من رسغيها، ويسحب ذراعيها أعلى رأسها، ليثبتهما، كما نجح كذلك في تحجيم حركتها بقواه الجسمانية، فأصبحت أسيرته تمامًا. حاولت فيروزة المناص منه وهي تصيح في ضيقٍ:.
-حاسب يا تميم.
بادلها نظرة مستمتعة مغيظة لها، قبل أن يتكلم في شيءٍ من التباهي:
-انشفي يا أبلة، واجمدي كده، إيه مش عارفة تخلصي نفسك؟
استفزها أسلوبه المسيطر، فهتفت تنتقده:
-إنت بتستقوى عليا؟
أرخى قبضتيه عن رسغيها قليلًا، وقال بنبرته التي تحولت للدفء:
-عمري ما أعمل كده!
أسبلت عينيها تجاهه طالبة منه:
-طب سيبني.
انحنى عليها برأسه ليبدو قريبًا للغاية منها، عندئذ غمرتها موجات من الشوق والشغف، والرغبة في المزيد من هذا الوصال الدافئ، شملها بنظراته العطوف متحدثًا إليها في عبثيةٍ:
-مش قبل ما نتصافى...
لامس بشفتيه وجنتها، وتابع على نفس النهج العابث:
-ده أنا أمي موصياني.
ردت ساخرة:
-يا سلام! ده على أساس إنك حمامة سلام يعني؟
ضحك ملء شدقيه، وعقب عليها باسمًا، وعيناه تعاهدان إياها بما يسر النفس ويبهجها:.
-قولي قفص حمام، مش واحدة بس!