قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل السابع والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل السابع والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل السابع والثلاثون

جعل العوز، مع ضيق ذات اليد، تفكيرها مغايرًا لما كان عليه، فأصبحت أشد حرصًا على ما يُدر عليها المال؛ وإن كان مخالفًا للمعهود. طوت آمنة الإيصال الذي قامت بتسديده في الصباح، وناولته إلى شقيقها قائلة بزفيرٍ مهموم:
-كده أنا دفعت القسط التالت يا خليل، ويومين وهاخد حُجة الأرض من البايع.
رد في استحسانٍ وهو يدسه في جيب قميصه العلوي ببطء:
-ك، ويس.
عاتبته في تبرمٍ صريح:.

-مكانش ليها لازمة تعمل كده، إنت عارف إننا محتاجين كل قرش دلوقتي، أنا لوحدي مش هقدر أتصرف.

طالعها خليل بنظرة طويلة غير نادمة على إقدامه على تلك الخطوة، فتجميد ما كان معه من أموال سائلة، ووضعها في مساحة من الأرض، قد يتضاعف ثمنها أضعاف ما دفعه فيها في المستقبل، بدا القرار المناسب. كما أنه أصر على أن يتم تسجيلها باسم وحيدته، ليضمن توفير حياة كريمة لها بعد رحيله، فلا تضطر للجوء للغرباء أو طلب الإحسان من الغير. كان وجهه كلوحٍ من الجليد وهو يخبرها:
-بأم، ن مس، تقبل بنتي ب، فل، وسها.

اعترضت عليه بنفس التجهم:
-وأنا مكونتش هقصر معاها، بس إنت فاهم وضعنا بقى عامل إزاي، المصاريف يدوب على الأد، واللي رايح أكتر من اللي جاي بكتير...
نظر إليها في عجزٍ، فقد كان المقصود بتلميحها المتواري عن زيادة أعباء علاجه غير المنتهي، لم تهتم آمنة بنظراته المليئة باللوم، واستمرت في شكواها المريرة، فقالت:
-ده غير إن فيروزة عمرها ما هتفكر زيك ولا هتكون زيي، هي ماشية بدماغها.
وبخها في حدةٍ:.

-بنت، ك شافت كتير، مش هنبقى اح، نا وال، زمن عليها...
قست نظراتها ناحيته، فواصل كلامه بنفس النبرة الحادة رغم تلعثمه:
-زم، ان لما كنت، بصحتي أنا أذيتها ج، امد، ودلوقتي أن، ا ندم، ان على ك، ل حاجة عمل، تها فيها.
علقت عليه في يأسٍ:
-أنا نفسي تعمل زيك وتأمن مستقبلها، محدش ضامن بكرة هيحصل فيه.
لوى ثغره معقبًا في استهجانٍ:
-ي، اريت ماتبق، اش زيي.
نهضت من جواره، وتحركت مبتعدة عنه وهي تخاطبه في غيظٍ:.

-إنت يا خليل دماغك بقت أنشف من الحجر الصوان، من ساعة اللي جرالك وإنت اتغيرت.
رفع من نبرته قائلاً، ورنة الندم تظهر فيها:
-أنا خس، رت مكسبتش حاجة، خليني أح، افظ على اللي ف، اضل.
تغاضت عن الرد عليه، لتخاطب نفسها بنبرة متنمرة، والضيق يملأ صدرها:
-الظاهر الشقا اتكتب عليا لوحدي وأنا في السن ده.

الاشتياق، شعورٌ لم تتفقه أبعاده الكاملة بعد؛ لكنها كانت في أول مراحله، أصابها السأم لبعده، ونال منها الضجر لعدم رؤياه. حالة من الفوضى والتخبط انتشرت في رأسها، حتى كادت تصيبها بالإحباط، لحرمانها من مناوشاته اللطيفة معها، تلك التي ينجح في نهايتها في رسم الابتسامة على شفتيها، كأنما يعرف جيدًا كيف يجعلها تضحك بذكائه. خرجت فيروزة من مدخل البناية وهي تسحب رقية خلفها، أشارت بيدها للأمام قبل أن تشرع في عبور الطريق:.

-تعالي عشان نعدي من هناك.
تثاقلت خطوات ابنة خالها، بل بدا وكأنها تجذبها للخلف مستصعبة السير معها، فالتفتت الأولى لتنظر إليها في استغرابٍ، وقبل أن تسألها بادرت رقية قائلة بجسدٍ يتلوى قليلاً:
- فيرو، أنا عاوزة أروح التويلت.
توقفت عن المشي، وضاقت عيناها قائلة في استنكارٍ:
-وده وقته؟
كررت عليها الصغيرة وهي تضم ساقيها معًا:
- فيرو، مزنوقة.
تلفتت فيروزة حولها في حيرةٍ وهي تتساءل؛ كأنما تفكر بصوت مرتفع:.

-طب والعمل إيه؟
انخفضت نظراتها نحو الصغيرة، وسألتها رغم تيقنها بأنها لن تتحمل:
-مش هتقدري تمسكي نفسك؟
هزت رأسها نافية وهي ترد:
-لأ.
استدارت عائدة من حيث أتت، وهي تشد رقية معها، لتغمغم بصوتٍ لم يكن عاليًا:
-طيب تعالي نرجع ل همسة، مقدمناش إلا كده.
على غير المتوقع، وعند المدخل تحديدًا، تقابلت فيروزة مع الحاج بدير، ما إن رأهما الأخير حتى ألقى عليهما التحية مرحبًا بحرارةٍ واضحة:.

-يا أهلاً بالغاليين، نورتوا المكان.
ردت فيرزوة في تهذيبٍ:
-إزي حضرتك يا عمي؟
أجابها مبتسمًا في وقارٍ:
-الحمدلله في نعمة..
ثم ثبت نظراته على الصغيرة التي تهتز في توترٍ، وتساءل مستفهمًا:
-كنتو عند الحاجة ونيسة ولا إيه؟
ضمت شفتيها لثانية، قبل أن تجاوبه نافية في حرجٍ:
-لأ، ده احنا كنا عند همسة شوية، بس كوكي عاوزة تروح الحمام، فطالعين عندها تاني.
عاتبها عتابًا راقيًا:.

-يعني تبقوا موجودين هنا، وماتعدوش علينا؟ يعني لولا زنقة البنت مكوناش نشكوفكم؟!
بررت له في تحرجٍ واضح على محياها:
-احنا مش عايزين نزعج حضرتك.
أشار لها بيده الممسكة بعكازه لتتبعه في السير وهو يكلمها بمحبةٍ:
-إزعاج إيه بس، ده اسمه كلام برضوه، ده بيتك، تنوريه في أي وقت، تعالي يا بنتي.
همَّت بالاعتراض عليه، فقالت بترددٍ لا يخلو من الحرج:
-بس آ..
قاطعها في إصرارٍ غير قابل للنقاش وهو يتجه صعودًا في همةٍ:.

-والله أنا اللي هزعل، ده غير إن الحاجة بتسأل عليكي، وجدك سلطان هايفرح أوي لما يشوفك.
أمام دعوته السخية، عجزت فيروزة عن رفض طلبه، وقالت وهي تسرع في صعودها على الدرج:
-حاضر.

ظلت جالسة في بهو الصالة، غارقة في الصمت الخجل، حين ولجت لداخل المنزل، تاركة الصغيرة تنسل من يدها، لتتجه إلى الحمام، حتى تقضي حاجتها، بدا السكوت اختيارها الأمثل في زيارتها الاستثنائية لعائلته، خاصة في عدم حضوره، حقًا ترك غيابه القليل من الأثر الممتزج باللهفة في نفسها، أحست كم أن يومها فارغًا بدونه! يكاد يمر ببطء؛ وكأن الدقائق لا تمضي بيسر.

استغرقت فيروزة في تفكيرها عنه حتى انتبهت لصوت ونيسة المرحب بها:
-يادي النور، يادي الهنا، عروسة ابني القمر عندنا.
نهضت واقفة لتبادلها التحية الحارة، المصحوبة بالقبلات والأحضان القوية، قبل أن ترد بوجهٍ تورد بشكلٍ خفيف:
-شكرًا يا طنط على ذوقك.
ابتسمت وهي تدعوها للجلوس:
-نورتي يا بنتي، ده أنا بفرح لما بشوفك عندنا.

حمدت الله أن الأفكار المنتشرة في رأسها عن ابنها لا تُقرأ، وإلا لكُشف أمرها وأصابها الحرج الشديد، زينت ابتسامة لطيفة صفحة وجهها وهي تكرر شكرها:
-ربنا يخليكي يا طنط...
ثم أضافت وهي ترمش بعينيها في استحياءٍ مبرر:
-أنا أسفة على الدوشة اللي حاصلة من كوكي.
أخبرتها في عفويةٍ، وصوت ضحكتها يسبق كلامها:
-متقوليش كده، دي في معزة سلطان الصغير، والعيال ياما بيعملوا، وبعدين هاجر مصدقت تمسك فيها.
علقت في امتنانٍ:.

-حقيقي هي حنينة أوي وطيبة.
برزت ابتسامة عريضة على وجه ونيسة وهي تؤكد لها عن ثقة بائنة كذلك في عينيها:
-ماتتخيرش عن أخوها، الاتنين مافيش أحن منهم على غيرهم.
مجرد استحضار مشاهد تعامله الحاني مع الصغيرة، وحتى معها، جعل الدفء يتسلل إليها، سرعان ما تلاشت الصور الوهمية لتصبح كالسراب، عندما انضم إليهما بدير قائلاً وهو يتخذ مكانه للجلوس بعد أن بدل ثياب العمل بأخرى مريحة:.

-معلش يا ونيسة هتعبك شوية، اعمليلنا بإيدك الحلوة ليمون بالنعناع.
استقامت واقفة، واحتجت في لطفٍ أظهر إصرارها:
-ليمون إيه يا حاج؟ ده أنا هحضر السفرة، خلينا نتجمع وناكل سوا.
هنا نطقت فيروزة بوضوحٍ رغم تحرجها من رفضها السخيف:
-مش هينفع خالص، أنا مقولتش لماما، وكمان لازم أرجع بدري عشان خالي مايضايقش من تأخيرنا.
تفهم بدير أسباب رفضها المقنعة، وجدد دعوته قائلاً بوجهٍ مبتسم:.

-طيب اعملي حسابك بقى كلكم معزومين عندنا، ظبطي مع الحاجة والدتك، وبلغينا بالميعاد المناسب ليكم.
أومأت برأسها معقبة:
-حاضر ربنا يسهل.
استطردت ونيسة تخبرها بملامحها الضاحكة البشوشة:
-إن شاءالله الزيارات ماتتقطعش بينا، والله أنا المفروض كنت أعدي واسأل عليكي، بس تميم مسافر، ومحلفني ما أروح إلا ورجله على رجلي.

الإتيان على ذكره عفويًا أصابها بالتلبك، وجعل نبضات قلبها تتسارع، يا لدهشتها المتعجبة! أترديد اسمه فقط ينقلها بقوة إلى تلك الحالة من اللهفة؟ أجلت صوتها، وقالت في ابتسامة صغيرة:
-ربنا معاه.
هتف بدير في زوجته يأمرها:
-اللمون يا أم تميم، ولا هنقضيها رغي؟
ضحكت قبل أن تخاطبه في ودية:
-أعدتها مايتشبعش منها، على طول يا حاج هاعمل أحلى لمون يطري على القلب...
بدأت ونيسة في التحرك، ووجهت إليها كلامها:.

-شوية ورجعالك يا بنتي.
هزت رأسها في تفهمٍ، واستدارت ناظرة إلى بدير بعد أن اختفت عن مرمى بصرها، لتصغي إليه وهو يكلمها في جديةٍ:
-أنا مشيتها عشان أقولك كلمتين على جمب كده.
تحفزت في جلستها، وقالت:
-اتفضلي يا عمي.
استخدم سبابته في الإشارة وهو يردد:
-شوفي أنا طبعي ناشف حبتين، شديد على عيالي، ماحبش العوج، ولا الدلع اللي في غير محله.

أحست في قرارة نفسها أن الأمر على قدرٍ من الخطورة، فأوجزت في تعقيبها لئلا تشتت أفكاره:
-تمام.
دق قلبها في قوةٍ، وشعرت بضجيج نبضاته يتردد في أذنيها، استعدت للقادم من حديثه، وافترش على وجهها علامات القلق حين تابع:
-فعشان كده تلاقيني مشدد على تميم إنه يلزم حدود الأدب معاكي لحد ما ربنا ييسر ويتقفل عليكم باب واحد.

بدأت الآن تستوعب كل ذلك الجمود في علاقة ابنه بها، كأن هناك طوْدًا فاصلاً بينهما، ارتخت تعبيراتها المشدودة بالتدريج وهو يمنحها المزيد من التوضيح:
-جايز ده يخليكي تفتكري إني محبكها شوية معاكو، بس أنا بعمل لمصلحته قبل مصلحتك، فتلاقيني موصيه يحسن الأدب معاكي، ولسانه مايفلتش بكلمة كده ولا كده، يتقي ربنا فيكي، لأن اللي مرضاش بيه ل هاجر أنا مقبلش بيه عليكي.

التقدير، والشعور بالاعتزاز ازدادا عمقًا بداخلها بعد أن علمت ما غاب عن تفكيرها من تفسيرٍ ملائم لذلك الحذر في المعاملة، وما أشارت إليه أيضًا ريم خلال جلستها الأخيرة معها. عادت إلى رشدها بعد شرودٍ لحظي لتصغي إليه وهو يؤكد لها:
-بس مسيرك تعرفي وتشوفي غلاوتك عنده، وساعتها هتقولي عمك كان معاه حق يقرص عليه ومايسبلوش الحبل على الغارب.

المزيد من الاعترافات المتخمة بالحقائق المنقوصة جعلها تشعر بالانتشاء والسعادة، إذًا لم يكن كما كانت تظن أنه مجبرٌ على الزواج منها، بل هناك فيضٌ من المشاعر الجياشة المحجوزة وراء سدٍ من الجمود والجدية، قاومت سرحانها في التفكير فيه قدر المستطاع، وحمحمت قائلة بجديةٍ غير حقيقية:
-الصح والأصول ماتزعلش حد.

رفعت فيروزة وجهها الدافئ نسبيًا من الدماء المتصاعدة إليه، لتنظر ناحية الجد سلطان الذي أطل عليهما قائلاً في ترحابٍ يشوبه العتاب:
-يعني أبقى آخر من يعمل إن الغالية عندنا هنا؟!
رد بدير ناهضًا من مكانه:
-لأ يابا، احنا كنا هنقولك، دي يدوب لسه جاية...
ثم أفسح له المجال ليجلس مكانه، وانتقل إلى الأريكة الأخرى قائلاً:
-اتفضل يابا، ارتاح هنا.
وقفت فيروزة احترامًا وتبجيلاً له، ثم قالت في تهذيبٍ:.

-أنا جيت من شوية يا جدي.
رد سلطان مبتسمًا:
-نورتي يا بنتي.
ثم خاطب ابنه في غلظةٍ زائفة:
-فين المحمر والمشمر؟ إنتو عايزين تجوعوها ولا إيه؟
هنا انتفضت معترضة في تحرجٍ خجل:
-أبدًا والله، ده هما قايمين بالواجب وزيادة، بس أنا اللي مش عاوزة.
قال في نبرة موحية:
-أيوه، مش موجود اللي يفتح نفسك.

برقت عيناها في صدمة لتلميحه المفهوم، وازدردت ريقها وهي تجلس في تباطؤ في مكانها، ثرثر الجد قليلاً في بضعة مواضيعٍ متفرقة، قبل أن يخاطب ابنه بلهجة متسائلة:
-إنت مش خلصت كلام معاها يا بدير؟
حرك رأسه بالإيجاب عندما جاوبه:
-أيوه يابا.
استند الجد على مسندي الأريكة بقبضتيه ليدعما جسده وهو ينهض، ثم قال بعد زفرة سريعة:
-يبقى ده دوري تقعد معايا حبة، تعالي يا حبيبة الغالي.

نهض بدير بدروه تقديرًا لوالده، ووجه الأمر ل فيروزة:
-روحي يا بنتي ورا جدك.
اعترضت في ترددٍ:
-بس كوكي آ...
رفع بدير يده أمام وجهها، مقاطعًا إياها قبل أن تتم جملتها، ليطمئنها:
-متقلقيش عليها، هي مع هاجر، وبعدين دي ليها هنا زي ما ليكي.
تنحنحت قائلة في لطفٍ:
-ربنا يخليك يا عمي.
استأذن بالذهاب خلف الجد سلطان، وتباطأت خطواتها نسبيًا حين سبقها في الدخول أولاً، ليأتيها أمره بعد ذلك واضحًا:
-واربي الباب وراكي.

ولجت للداخل، وتركت فرجة صغيرة من الباب وهي تقول في طاعة:
-حاضر.
راقبته بانتباه واضح وهو يجلس في مقعده المجاور لفراشه، أشار لها لتتقدم نحوه، فامتثلت لأمره غير المنطوق، وسألته في اهتمامٍ:
-خير يا جدي؟
وجه أنظاره نحو تلك البقعة من طرف الفراش، حيث اعتاد حفيده الجلوس في مواجهته، وأمرها في حزمٍ:
-اقعدي هنا.
أومأت برأسها قائلة:
-طيب.

لم تكن فيروزة قد رأت الصندوق الخزفي الموضوع إلى جوارها، انتبهت إليه فقط حين أشار إليه سلطان بيده:
-افتحي الشتمجية دي.
انحنت قليلاً لتلتقطه بيديها، كان ثقيلاً بعض الشيء، أسندته في حجرها، وسألته في غرابةٍ:
-فيها إيه؟
قال بغموضٍ مُلح:
-افتحي بس.
لم تجادله، وأوجزت في انصياعٍ:
-حاضر.

تنفست بعمقٍ، وتحسست براحتيها حوافه البارزة، قبل أن ترفع الغطاء المطعم بالفضة للأعلى، لتنظر إلى المشغولات الذهبية التي تحتويه، تدلى فكها السفلي في دهشةٍ عظيمة، وأخذت تردد وعيناها تطوف على مقتنياته باهظة الثمن:
-ماشاءالله.
خاطبها الجد بنفس النبرة الهادئة:
-في إسورة عريضة محطوطة على الوش.

لم تكن بحاجة للبحث عنها، فقد كانت الأبرز في لفت الأنظار، امتدت يدها لتسحبها من وسط باقي الحُلي، ورفعتها إليه متسائلة:
-دي يا جدي؟
لمحة من الحزن العميق انتشرت في عيني سلطان وهو يؤكد لها:
-أيوه هي.
مدت يدها الممسكة بحذرٍ بالسوار العريض والمقسم إلى تضليعات مربعة ناحيته، قبل أن تقول في نبرة مهذبة:
-اتفضل يا جدي.
رفع راحته معترضًا على أخذها وهو يأمرها بنبرة لا تُرد:
-خليها معاكي.

حملقت فيه مذهولة، وسألته في ربكةٍ متوترة:
-أعمل بيها إيه؟
سحب سلطان نفسًا عميقًا يثبط به نوبة الحزن التي اجتاحته، ثم حرك يده ليرفعها نحو وجهه في تمهلٍ، ليمسح الدمعة النافرة من طرفه، وقال بنبرة شبه مختنقة:
-دي هدية ليكي، حافظي عليها لأنها غالية عندي.
خفق قلبها في تأثرٍ، وتطلعت إليه في غير تصديقٍ وهي تسأله:
-ليا أنا؟

باعد أنظاره الحزينة عنها، ليقول في هدوءٍ، كأنما يستحضر طيف محبوبته الغالية في فضاءات عقله:
-أنا كنت شاريها للمرحومة فُتنة مراتي في أول جوازنا، مقلعتهاش من إيدها، كانت بتعزها أوي، زي ما تكون حتة منها، فضلت لبساها لحد ما راحت لدار الحق.

زاد تأثرها لاعترافه، وأحست بالقيمة المعنوية لهديته عن قيمتها المادية، انخفضت نظراتها لتتأملها في إمعانٍ، وعيناها تحتجز عبراتٍ رقراقة بداخلهما. واصل سلطان استرساله في شوقٍ ما زال نابضًا به:
-كان صعب أفرط فيها، وأديها للي مايعرفش قيمتها عندي، دي حتة مني، ماتطلعش غير للغالي زيها.
شعرت بدفءٍ يجتاح بشرتها جراء الدموع المنسابة على وجهها، خاصة عندما قال:
-بس دلوقتي أنا مطمن، لأنك هتحافظي عليها كويس.

لم تخفِ دمعاتها المتأثرة وهي تقول بتحيرٍ حقيقي، يسود فيه الامتنان الشديد:
-أنا مش عارفة أقولك إيه يا جدي.
منحها الجد نظرة عطوفة وهو يخبرها:
-لما بشوفك بفتكرها، فيكي حاجات كتير منها..
لامس قلبها بكلماته العذبة عن زوجته، رأت في عينيه، كما سمعت في نبرته حبًا حقيقيًا لم تضعفه الأيام، أو ينسيه الفراق المُر. تقوس فمه عن بسمة بسيطة وهو يحادثها:
-تتهني بيها يا بنتي.

بالرغم من نبذها الشديد لمثل تلك النوعية من المغريات المخادعة، إلا أن امتلاكها لهذا السوار تحديدًا كان ذي قيمة معنوية غالية، فاقت ما دونه بكثير. وجدت فيروزة نفسها تضمه إلى صدرها، وتشدد من قبضتها عليه، قبل أن تهتف مؤكدة بغصةٍ عالقة في حلقها:
-دي من أغلى الحاجات اللي جاتلي، أوعدك يا جدي إني مفرطش فيها أبدًا مهما حصل.
قال، وبين شفتيه نفس البسمة اللطيفة:
-وأنا متأكد من ده.

ظلت فيروزة تنظر إلى السوار في تركيزٍ، كأنها ترى فيه ماضيًا ممتلئًا بالمشاعر العزيزة، أطالت النظر إليه حتى قاطع تأملها الشارد صوت الجد القائل:
-مش هعطلك، سلمي على اللي عندك كلهم.
أغلقت الصندوق، وتركته إلى جوارها على الفراش، ثم نهضت من مكانها تودعه بابتسامةٍ باهتة:
-الله يسلمك يا جدي.

وضعت فيروزة السوار بداخل حقيبتها بحرصٍ واضح، قبل أن تخرج من الغرفة، وتغلق الباب خلفها، انفلتت منها شهقة مباغتة وهي تستدير بغير احترازٍ لتجد تميم أمامها، وعلى وجهه إشراقة بددت أي ضيق استبد بها تجاهه. رمقته بنظرة غاضبة كتعبيرٍ عن اعتراضها على ظهورها المفاجئ هكذا بعد غيابٍ دام لعدة أيام. وجدته يبتسم لها في بهجةٍ لا يمكن إنكارها وهو يستطرد قائلاً:
-أنا مصدقتش لما أمي قالتلي إنك موجودة هنا.

نجحت في إخفاء توقها لرؤيته، وعاملته برسمية واضحة:
-إزيك يا معلم؟
زادت بسمته اتساعًا حتى ظهرت النغزات في صدغيه وهو يعترف لها ببطءٍ ضاغطًا على كل كلمة يتفوه بها:
-بقيت أحسن بكتير لما شوفتك..

لن تنكر أن السعادة تسللت أيضًا إلى قلبها المُعذب في ابتعاده، وبدأت آثار هذه الفرحة تظهر على وجهها في صورة ابتسامةٍ رقيقة، لم تقاومها، تركتها تتشكل مع نظراته الهائمة إليها، لتجد الكثير من التوق يطفر من عينيه وهو يبادلها النظرات. قطعت التواصل البصري بينهما لتسير في الردهة، وهو من خلفها يسألها:
-هو إنتي كنتي عند جدي؟
أجابت دون أن تنظر إليه، مستشعرة تدافع دقات قلبها، كأنما ترقص في ابتهاجٍ لحضوره:
-أيوه.

هتف يسألها في توجس مرح:
-أوعي تكوني بتشتكيني عنده؟ ده مكانش كيس زبالة اتحدف بالغلط علينا، وربنا ما أنا اللي رميته!
لم تكبت ضحكتها القصيرة الغادرة تعقيبًا على كلامه، وردت في غموضٍ:
-لأ متقلقش.
تنفس عاليًا في ارتياحٍ، وخاطبها بنفس الأسلوب الودي:
-كده أنا أطمن.
تحولت أنظارهما نحو الجانب حين نادى بدير بصوته الصارم:
-يا تميم!
غمغم في خفوتٍ وهو يشير بإصبعه:
-أبويا.

هزت رأسها في تفهمٍ وهي تكتم ضحكة متسلية لرؤيته يتصرف بتأدبٍ زائدٍ عن الحد، كأنما يخشى العقاب الشديد إن تم لمحه يسيء التصرف، بالكاد نطقت في ثباتٍ وهي تشاور بيدها نحو الأمام:
-اتفضل روحله.
ضم تميم إصبعيه معًا وهو يرفعهما نصب عينيها، ثم أخبرها هامسًا:
-ثواني وراجعلك..
ليهرول مبتعدًا عنها وهو يرفع من نبرته هاتفًا:
-أيوه يابا.

شيعته بنظراتها إلى أن اتجه إلى والده الواقف عند أعتاب غرفة نومه، سمعته يخاطبه بلهجته الآمرة موصيًا إياه:
-تنزل توصل خطيبتك للبيت، ماتسيبهاش تمشي لواحدها.
اعترضت فيروزة من مكانها:
-مالوش لزوم يا عمي، مافيش داعي أتعب حد معايا.
وجه بدير نظراته إليها، وقال في نبرة لا تُخير:
-لا ما يصحش.

استدار تميم برأسه هو الآخر ناحية فيروزة، ورمقها بتلك النظرة الساهمة المصحوبة بابتسامة بلهاء، ما لبث أن تبددت وتحولت قسماته للوجوم عندما لكزه والده في كتفه يحذره في صوتٍ حازم:
-ومتتأخرش، مفهوم!
تنحنح في خفوتٍ قبل أن يبدى طاعته له:
-حاضر يا حاج، مسافة الطريق.

كانت البدايات بينهما جافة، خالية من أدنى مشاعر الألفة، والقبول، أما في تلك اللحظات، فهناك نوع من الاهتمام المطعم باللهفة والشوق، خاصة من جانبها، وذاك ما كانت تصبو إليه بغير ممانعة!

جمعت كل القوة المتبقية بداخلها بعد مجهود اليوم الشاق، لتبدو جامدة، صلبة، غير متأثرة بوجوده؛ لكن على ما يبدو خانتها قواها، وتأزرت مع حواسها لتظهر مدى سرورها بعودته، وكانت عيناها أول من فضحها، لهذا قاومت النظر إليه طوال سيرهما معًا، أثناء حمله للصغيرة رقية التي استرخت ونامت على كتفه. بعد لحظات متكررة من التردد تكلمت فيروزة أخيرًا، فيما يشبه المعاتبة:
-على فكرة أنا مش معايا رقمك.

رد مبررًا، ونظرة شوق تطل من عينيه إليها:
-أنا ملحقتش أديهولك، اتلخمنا في كام حاجة، بس ملحوئة...
توقف عن السير، وطلب منها في نبرة مهذبة:
-ممكن الموبايل؟
توقفت هي الأخرى، ولم تتلكأ وهي تعطي له خاصتها، لتقول بابتسامةٍ صغيرة، كأنما كانت تتحين الفرصة لهذا:
-اتفضل.
التقطه من راحتها، وأخذ يعبث به موضحًا ما يفعل:
-أنا بتصل عليا عشان أسجلك عندي، ولو عوزتيني في أي وقت كلميني.

عزوفه عن محاولة التودد إليها أصابها بالغيظ، لهذا وجدت نفسها تسأله فيما يشبه التحفز:
-ليه هو إنت مش هتكلمني؟
آه لو تعلم أنه يضع كل العراقيل ليحجم من مشاعره الثائرة المُطالبة بكل ذرة فيها، بان في عينيه كل الشغف وهو يكلمها بغير صوتٍ كابتًا اعترافه:
-إن كان عليا عاوز أكلمك ليل نهار، مفارقيكش لثانية واحدة.
طال صمته الهائم، فتدارك نفسه ليقول في تريثٍ:.

-لو حابة أعمل كده فهتلاقيني بكلمك من وقت للتاني اطمن عليكي.
شعرت بالفتور في رده، فقالت بعبوسٍ بعد أن استعادت هاتفها منه:
-عادي، براحتك.
واصلت السير مجددًا، فسمعته يقول وهو يلحق خطواتها:
- كوكي نامت من التعب.
لم تنظر إليه عندما علقت على جملته:
-أه بتلعب طول اليوم بقى.
نظرة متفرسة لوجهها جعلته يدرك مدى انزعاجها من ردوده الجافة؛ لكن ما باليد حيلة، أطلق زفيرًا سريعًا، ثم سألها في هدوءٍ:.

-مش ناوية تشوفي الشقة؟
نظرت إليه متسائلة في غرابةٍ طفيفة:
-أنهو شقة؟
أجابها بنزقٍ:
-اللي هنسكن فيها فيما بعد...
ضمت ما بين حاجبيها في استنكار، فعدَّل من جملته موضحًا بحذرٍ:
-يعني عشان لو معجبتكيش أدور على حاجة تانية مناسبة، عقبال ما ربنا ييسر ونكتب الكتاب حتى لو بعد سنة.
مطت فمها قليلاً، كأنما تفكر فيما ستخبره به، لتقول:
-لما أروح مع همسة شقتها هابقى أعرفك.
هز رأسه قائلاً في تفهمٍ:
-ماشي.

ضميره اليقظ يمنعه من التجاوز معها في أي تصرفٍ، كان تميم يسير إلى جوارها، حاملاً الصغيرة النائمة على كتفه؛ لكنه غير ملتصقٍ بها، لا تتشابك الأيدي، ولا تتعانق الأذرع، أوجد مسافة نصف متر بينهما؛ ومع هذ ثار القلب الجائع لحبٍ لطالما رجا التمتع به، فحرك كيانه، واستحث لسانه، لينطق معترفًا بلا احترازٍ:
-وحشتيني...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة