قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والثلاثون

كأول شعاعٍ لفجر يومٍ جديد، بزغ النور بداخلها، وأخذ قلبها يقصف في ربكةٍ لذيذة، بعد ذلك الاعتراف غير المتوقع باشتياقه المتلهف لها. على عكس المعتاد منها، لم تهاجمه فيروزة، أو تمنحه تعابيرًا غاضبة لتصرفه الأهوج، بل حادت بنظراتها الفرحة بعيدًا عن وجهه، لئلا ينظر إليها ويكتشف مدى السرور الذي حل عليها، جراء تأثير كلمة واحدة صادقة، ونابعة من الفؤاد.

حدث ما حدث، ونطق القلب قبل اللسان، لم يكن نادمًا، ولم يبدُ مستاءً من رعونته، فمن وجهة نظره كانت تستحق أن تشعر بمدى رغبته في التودد إليها، والبقاء بقربها قدر استطاعته، حمحم تميم قائلاً بما يشبه الاعتذار، بعد أن لاحظ صمتها الحذر:
-أنا مش عايزك تضايقي مني، بس ده إحساسي فعلاً ناحيتك.

لم يعلم بأنه يزيد الطين بلة بتحرير اعترافٍ آخرٍ له، ف فيروزة كانت في حالة صراعٍ ما بين المشاعر المرحبة بهذا الشوق، والمشاعر المرتعبة من الانسياق ورائها، ومع هذا لم تقاوم لذة هذا الإحساس المغري، وتركت خدر كلماته يتسرب إلى داخلها، فالقليل من الكلام العذب قد يفعل الكثير في الوجدان.

سكوتها المريب منحه إشارة تحذير ضمنية، ليكف عن الإسهاب في التعبير عن مكنونات صدره، عَمِد إلى تغيير الموضوع، وسألها في اهتمامٍ:
-أخبار الشغل معاكي إيه؟
أجابت مختصرة بعد أن أجلت صوتها:
-الحمدلله.
تقوست شفتاه عن بسمة لطيفة، وهو يعقب:
-ربنا يزيدك، ويبقى من أنجح المحلات في المنطقة.
للغرابة اندهشت من تشجيعه لاستمرارها في العمل، ولم يمنع ذلك فضولها من التجرأ ومخاطبته:
-ممكن سؤال؟

بدا متشوقًا لتبادل الحديث معها، فقال بلهفةٍ ظاهرة في صوته:
-اتفضلي.
ضغطت على شفتيها للحظةٍ قبل أن تسأله مباشرة، وهي تدير رأسها لتنظر إليه ملء عينيها:
-هو إنت مش مضايق إني بشتغل؟
أمسك بها وهي تنظر إليه بنظرة المحقق المشككة في نواياه، فتابعت توضيحها بمنطقيةٍ:
-يعني واحد زيك قادر يصرف على بيت واتنين وعشرة، إيه اللي يخليك توافق إني أكمل في شغلي، ده في حالة لو جوازنا كمل.

أتاها رده بسيطًا، ومصحوبًا ببسمة عذبة:
-طالما الشغل في الحلال، ومخليكي مبسوطة، إيه اللي يزعلني؟
رغم وضوح كلماته، إلا أن الظنون ظلت تساورها، لذا لاحقته بجملةٍ أخرى تحوي القليل من الشك:
-بس إنت مكونتش كده مع مراتك.
غامت ملامحه نسبيًا للتطرق إلى ذكر علاقته ب خلود، تنفس بعمقٍ، وأخبرها بتريثٍ:
-هي مكانتش بتشتغل أصلاً، ولا كان في دماغها أي طموح غير إنها تتجوزني.
علقت فيروزة ساخرة بتهكمٍ غطى كافة قسماتها:.

-قصة حب طبعًا.
صحح نافيًا على الفور:
-لأ.
استغربت من حمئته رغم اقتضاب رده، ورمقته بتلك النظرة المتعجبة، فما كان منه إلا أن أضاف في نوعٍ من الهروب:
-وبعدين لازمتها إيه نجيب في سيرتها دلوقتي، هي في مكان أحسن دلوقتي، الأفضل ندعيلها بالرحمة هي وجميع موتانا.
همهمت في خفوتٍ:
-ربنا يرحمها.
ساد الصمت بينهما للحظةٍ قبل أن تبادر فيروزة بمقاطعته في غير احترازٍ:
-كنت بتحبها؟

كأنما ندمت على تسرعها في هذا السؤال، فلم تملك الشجاعة الكافية للنظر إليه، فحدقت أمامها، وصوته يخترق أذنها:
-يهمك تعرفي؟
حافظت على جمود ملامحها وهي تخبره، دون أن تنظر أيضًا في اتجاهه:
-لو مش عاوز تقول براحتك، عادي مش هتفرق.

رنة الضيق الظاهرة في صوتها أوحت له بأنها ربما قد تشعر بالقليل من الغيرة، لانتقال الحديث عن أنثى غيرها، كغريزة تلقائية موجودة بداخل المرأة، وإن لم تعلم بأنها كانت منافسة لها في الاستحواذ على قلبه! حاول تبرير ارتباطه العائلي بها، فاستطرد موضحًا:
-الحكاية إن آ...
قاطعته قبل أن تعلم شيئًا بصياحها المنزعج، وهي تشير بيدها نحو الأمام:
-هو ده عسكري اللي رايح ناحية بيتنا؟

تحولت أنظاره نحو مدخل البيت، والرصيف المحاوط به، ثم تساءل في تدقيقٍ:
-اللي هناك ده؟
أسرعت في خطاها وهي ترد:
-أيوه، ربنا يستر.
لحق بها تميم حاملاً الصغيرة النائمة، لتنطق فيروزة متسائلة في توترٍ قلق:
-خير يا شاويش؟
رمقها الفرد الأمني بنظرة فاحصة قبل أن يسألها في لهجةٍ تشوبها الرسمية البحتة:
-ده بيت خليل العربي؟
دق قلبها في خوفٍ، وتجاوزت عن رهبتها العفوية لتتساءل في لهفةٍ:
-أيوه، ده خالي، في حاجة؟

طالعها الفرد الأمني بنفس النظرات الثاقبة قبل أن تتحرك رأسه نحو الجانب ليصغي إلى من معها وهو يسأله:
-إنت عايزه في إيه يا شاويش؟
أجابه في تزمتٍ:
-مش أنا اللي عايزه، ده جايله استدعاء من البيه المأمور، ولازمًا يجي معايا يشوف جنابه.
أحست فيروزة بالدماء تفر من عروقها، وهتفت مدافعة عنه في توجسٍ مرتاع:
-استدعاء؟ ليه؟ هو معملش حاجة.
بنفس الجمود غير المبالي قال:
-أنا معنديش أي خبر، هو ساكن في الدور الكام؟

رد عليه تميم في هدوءٍ:
-موجود هنا، بس احنا محتاجين نفهم السبب، و آ...
قاطعه الفرد الأمني في غلظةٍ:
-ما قولت أنا معنديش خبر، وفي القسم هتعرفوا...
كانت فيروزة على وشك الكلام؛ لكنه سبقها في القول الآمر:
-حاسبوا من طريقي خليني أطلعله.
تجاوزها ليمر، فاشتاطت غيظًا من فظاظته، ولحقت به قائلة بنبرةٍ عازمة:
-أنا رايحة معاه، مش هاسيب خالي يتبهدل في الحالة دي من غير ما أكون معاه.
تبعها تميم هاتفًا في إصرار:.

-ومين قال إني هاسيبك إنتي أو هو لوحدكم؟ رجلي قبل رجلكم!
توقفت عن صعود الدرج لترمقه بهذه النظرة الغريبة المليئة بشيءٍ من الامتنان، ليواصل بعدها باقي حديثه:
-خلينا نطلع البت الصغيرة فوق، ونطمن، وأنا كمان هكلم المحامي يحصلنا على هناك.
لوهلةٍ شعرت بالارتياح لوجوده إلى جوارها، كانت بحاجة إلى ذلك السند غير المشروط، لهذا الدعم الكبير، وإن كان في أبسط الأمور.

وقفت ساهمة في الرواق الطويل لقسم الشرطة، نظراتها إلى حدٍ كبير شاردة، وصورٌ متفرقة تتجمع في ذهنها لما خاضته من تجارب غير طيبة في ردهات هذا المكان الباعث على الاكتئاب، قاومت الذكريات السيئة قدر استطاعتها، وراحت تفكر بغير هدى في أسباب استدعاء خالها القعيد للمثول أمام المأمور في هذا التوقيت المتأخر. دنا منها تميم إلى أن وقف إلى جوارها، لم تشعر بقربه إلى أن مال برأسه عليها ليطلب منها:.

-ارتاحي يا أبلة، مش هتفضلي واقفة كده حيرانة...
رمقته بنظرة قلقة، وهو ما زال يتابع الكلام:
-المحامي على وصول وهيفهمنا في إيه.
لن تنكر أن تواجده معها عزز من شعور الأمان بداخلها، تنهدت مليًا، وقالت في تبرمٍ:
-خالي من ساعة اللي جراله وهو ماشي جمب الحيط، مالوش دعوة بحاجة.
مرر تميم يده بين شعره القصير، ثم علق في هدوءٍ:
-أنا متوقع إنه يكون في سوء تفاهم.

احتدت نبرتها رغم خفوتها وهي تحتج عليه بغضبٍ بدأ في التجمع في عينيها:
-سوء تفاهم إزاي وهما باعتين استدعاء ليه؟ ومش من أي حد، ده المأمور!
كانت محقة في خوفها البديهي، ومع هذا امتص غضبها الوشيك بتأكيده:
-استبشري خير، وأنا موجود معاكي.
نظراته المطمئنة نفذت إليها لتبعث في روحها قدرًا من السكينة، لم تشعر بنفسها وهي تبتسم له ابتسامة مهتزة؛ لكنها عبرت عن امتنانها الخفي لوجوده.

في حركة رتيبة متكررة، نقر المأمور بأصابعه على سطح مكتبه، وهو يرمق الجالس على كرسيه المدولب بنظراتٍ طويلة متفرسة، قبل أن يعطي نظرة آمرة للفرد الأمني بغلق الباب بعد إحضاره عصير الليمون. ضم المأمور يديه معًا، واستطرد مخاطبًا خليل في لهجةٍ هادئة:
-احنا وصلنا إشارة من سجن النسا، مكتوب فيها إن مراتك طالبة تشوفك قبل ما يتنفذ فيها حكم الإعدام.

اتسعت عيناه ذهولاً، وهتف متمتمًا باسمها رغم ازدياد اللعثمة في نبرته:
- ح، م، دية.
أومأ برأسه مضيفًا كنوعٍ من الإيضاح:
-أيوه، في النوع ده من الطلبات، بنحاول نلبيها لنزلاء السجن، خصوصًا إنها مش آ..
قبل أن يتم جملته قاطعه برفضٍ صريح، وقد تضاعف النهجان في صدره:
-أنا م، ش عاي، ز أشوفها، دي مج، رمة.
لاحظ المأمور انفعاله، فسعى إلى تهدئته قائلاً:.

-هو مافيش إجبار يا أستاذ خليل، بس جايز يكون عندها حاجة مهمة حابة تقولهالك، وماظنش إن في فرصة تانية هاتكون متاحة ليها عشان تسمعها.
لو كان قادرًا على الحركة بشكلٍ طبيعي، لأطاح بكوب العصير الموضوع أمامه؛ لكنه مقيد بعجزه! تمسك خليل برفضه، وقال بتشنجٍ:
-دي، تست، ح، ق الم، وت.
نهض المأمور من مقعده، ودفعه برفقٍ للخلف، ثم دار حول مكتبه حتى أصبح في مواجهته، وأخذ يكلمه في تريثٍ:.

-عمومًا ده اختيارك، أنا بس عاوزك تعيد تفكير في الموضوع...
ثم مد يده ليسحب ورقة ما موضوعة على سطح مكتبه ليناوله إياها وهو يخبره:
-ده تصريح الزيارة، تقدر تروح في الميعاد المكتوب عندك، لو حبيت!
انتبه الاثنان لصوت طرقات خافتة على باب الحجرة، فتحرك المأمور عائدًا إلى مكانه، وصاح في لهجته الحازمة:
-اتفضل.
ولج إلى الداخل أحد أفراد الأمن، أدى التحية العسكرية أولاً، ليقول بعدها في رسميةٍ:.

-في محامي موجود برا جاي مع الأستاذ.
أشار له بالانصراف آمرًا:
-قوله مافيش داعي، الموضوع مش مستاهل.
طرق الفرد الأمني بقدمه على الأرضية في طاعة وهو يردد:
-تمام يا فندم.

ألقت نظرة عابرة على شاشة هاتفها المحمول، والذي لم يتوقف عن الرنين، لتضغط على زر إنهاء الاتصال بدلاً من الإجابة عنه، ثم تطلعت إلى تميم بوجومٍ، قبل أن تبدد فضوله الظاهر على محياه بإخباره:
-دي ماما، أكيد هتجنن على خالي، وعايزة تعرف حاجة عنه.
تفهم سبب عزوفها عن الرد، وأردف قائلاً في صوتٍ هادئ:
-إن شاءالله نطمنها.

عاد المحامي الذي جاء قبل قليل إليهما، وعلى وجهه تعبير غامض، تحركت فيروزة صوبه، وسألته في عجالةٍ:
-خير يا أستاذ؟
أجابها في صوتٍ رزين وهو يوزع نظراته بينها وبين تميم بالتساوي:
-المأمور رفض دخولي، وبيقول إنه الموضوع بسيط ومش مستاهل وجود أي محامي.
هنا نطق تميم بما بدا وكأنه تهليل:
-سمعتي بنفسك، إن شاء الله يطلع من جوا، ونعرف السبب.
تساءلت في حيرةٍ، وعيناها تتجهان نحو تميم، كأنما تستجدي العون منه:.

-بس ليه عاوزه؟
طمأنها بابتسامته العذبة، فقال:
-دلوقتي هنعرف.

تبدد الغموض، وأصبح السبب معلومًا للجميع، ورغم ذلك لم يسعَ أي طرف لنقاش هذه المسألة الحرجة دون رغبة حقيقية من صاحب الشأن في الحديث عنها، فوحده هو من يملك الحق في الاختيار وإقرار ما يريد فعله. أوقف تميم سيارته بمحاذاة الرصيف الملاصق للبناية، ثم ترجل منها ليساعد خليل على استخدام مقعده حتى أوصله إلى الداخل، حينئذ أصر الأخير على الصعود بمفرده مستندًا على عكازيه المتروكين في غرفة المخزن، لم يعارضه، وقدم له يد العون حتى اجتاز نصف المسافة، ومن ورائهما كانت تصعد فيروزة في تباطؤ مهموم.

بعد بضعة دقائق، كان خليل متواجدًا بالداخل مع شقيقته التي أسرعت إليه لتستعلم منه عن الأمر، بينما انتظرت فيروزة على مقربة من باب المنزل، لتقوم بتوديع تميم بعد التهاء من بالبيت عنه؛ لكن الأخير كان مشغولاً بالرد على الهاتف، سمعته يتكلم في صوتٍ خافت نسبيًا:
-تمام يا حاج، مسافة السكة.

لم يكن ناظرًا ناحيتها، جم تركيزه منصبًا على الهاتف، أنهى المكالمة والتفت خلفه ليجدها تستند على إطار الباب بظهرها، وترمقه بنظرة حانية، أنعشت الشوق بداخله، وجعلت الابتسامة تشرق على وجهه، كأنما بددت بصفائها أثقال اليوم الطويل. أطال النظر إليها، وهو يبتسم في سرورٍ من المُحال إنكاره، أصغى إليها حين نطقت في اعتذارٍ لطيف:
-سهرناك معانا.
قال في تلهفٍ دون أن تخبت بسمته:.

-متقوليش كده، أنا في الخدمة، وبعدين احنا بقينا عيلة.
هربت من نظراته المليئة بما تخشى السقوط فيه طواعية، وبإرادة كاملة منها، لتقول وهي تشير بيدها:
-أنا هدخل أشوف ماما.
تنحنح معقبًا عليها بعفويةٍ ظاهرة، وبنفس التعابير المبتسمة:
-طمنيها، وأنا هكلمك أطمن عليكي، قصدي عليها.
طرافته التي تطفو بين الحين والآخر في حوارهما كانت قادرة على جعلها تبتسم، رمشت بعينيها قائلة:
-إن شاءالله.

تحركت خطوة للداخل لتسحب الباب بيدها، وهو يودعها بتنهيدة حارة:
-تصبحي على خير.
منحته ابتسامة رقيقة عندما ردت:
-وإنت من أهله.
ظل يتراجع بظهره على البسَّطةِ حتى كاد أن يتعثر في خطواته وهو يهبط على الدرج، ليبدو كالأخرق أمامها، استعاد اتزانه، وتمسك بالدرابزين متسائلاً في مرحٍ:
-إنتو عملتوا السلمة دي إمتى؟
وضعت يدها أمام فمها لتكتم ضحكتها، قبل أن تخبره:
-هي موجودة من زمان على فكرة.
حمحم معقبًا بجديةٍ مصطنعة:.

-يبقى أنا اللي مش مركز.
هبط درجة أخرى على السلم، وقال بنظرة متيمة، وهو يلوح بيده في الهواء:
-سلام يا أبلة.
حركت رأسها بإيماءة خفيفة وهي تبادله الوداع:
-مع السلامة يا معلم.

لم يبعد عينيه عنها وهو يكمل هبوطه، إلى أن اختفت من مرمى بصره، ورغم هذا لم تغادر فيروزة موقعها، ظلت باقية ترهف السمع إلى دندنة لم تكن بالغريبة على أذنيها، حتى خبا الصوت، وانصرف من المكان، عندئذ تحركت عائدة إلى الداخل، مغلقة الباب خلفها، وصوت دقات قلبها يعلو بشكلٍ متواتر.

بخطواتٍ حثيثة، أخذت تمر بين الغرفة والأخرى لتتأكد من إطفاء الإنارة، وغلق النوافذ، وجمع المتسخ من الثياب، قبل أن تخلد للنوم. توقفت عند غرفة ابنتها، فوجدت أشيائها مبعثرة في أكثر من مكانٍ بالحجرة، لهذا تحركت آمنة للملمتها، وإعادة ترتيبها على تعجلٍ، أثناء قيامها بوضع حقيبة فيروزة على التسريحة، عَلِق ذراعها بمقبض الباب، فجذبتها بشدةٍ، لينفتح سحابها نصف المغلق على الأخير، وتناثر بعض ما بها على الأرضية، غمغمت في إرهاقٍ:.

-يادي الغلب.
انحنت لتجمع متعلقاتها بعد تحرير الذراع العالق، ووضعتها بالداخل، ثم تحركت في اتجاه التسريحة؛ لكن انعكس الوهج اللامع للسوار الذهبي في عينيها، لذا بتلقائية تأملت ما يلمع بفضولٍ، ويدها قد سبقتها لتلتقطه.
رفعت آمنة السوار نصب عينيها المفتوحتين على اتساعهما، وتطلعت إليه في انبهارٍ شديد، ظلت تنظر إليه وهي تتساءل في تحيرٍ:
-جابتها منين دي؟

تعقدت ملامحها في دهشة لا تخلو من التعجب، لم تدع الحيرة تأكل رأسها، فتركت الحقيبة في مكانها على التسريحة، وخرجت من الغرفة تبحث عن ابنتها لتسألها عنها.

استحوذت عليها رغبة غريبة، حثتها على الوقوف في الشرفة، وتأمل البقعة التي كان واقفًا عندها، كأنما تستحضر وجوده مرة أخرى، استراحت بمرفقيها على حافة السور، وتطلعت إلى الفراغ بنظراتٍ ساهمة، هائمة، وصوت تنهيداتها يكاد يكون مسموعًا وسط الصمت المحيط بها، ضحكت في نعومة وهي تستعيد مشهد تعرقل تميم على الدرج، وزادت ابتسامتها نضارة مع محاولتها تذكر الكلمات التي ظل يرددها لها.

انتفضت فيروزة في وقفتها المسترخية عندما سمعت نداء والدتها المتكرر، ثم استدارت عائدة للداخل وهي تتساءل:
-في إيه يا ماما؟
رفعت آمنة السوار في مستوى نظرها متسائلة:
-إيه دي يا فيروزة؟
جزعت الأخيرة لرؤية السوار بين أصابعها، وأقبلت عليها تختطفه في ضيقٍ وحنق شديدين، قبل أن تبادلها السؤال بآخر:
-إنتي شوفتيها فين؟
على ما يبدو لم تسمع ما قالته، واستمرت في سؤالها التحقيقي:
-ردي عليا، جبتيها منين؟

أطبقت فيروزة راحتها على السوار، كأنما ترفض التفريط به، وأخبرتها في إيجازٍ، دون أن يخف الكدر الظاهر عليها:
-دي هدية.
زوت ما بين حاجبيها مرددة في استغرابٍ:
-هدية!
أكدت عليها بلهجةٍ غير متساهلة:
-أيوه، وهدية غالية كمان.
ومضت عينا آمنة في إعجابٍ، ثم هتفت معلقة في مكرٍ:
-ما هو باين عليها، شكلك سمعتي كلامي.

توقعها غير الصحيح بتبديل مبادئها بين ليلة وضحاها تحت تأثير إغراء المال أصابعها بالانزعاج والإحباط، حاولت الإيضاح لها فقالت:
-الحكاية مش كده، آ...
قاطعتها في غير اهتمامٍ:
-أنا يهمني إنك تسمعي كلامي، وصدقيني مافيش حد هيخاف عليكي أدي.
غمغمت في قنوط ساخر:
-فعلاً.
ربتت آمنة على ذراع ابنتها، وشجعتها:
-إنتي بس ركزي في مستقبلك، وإزاي تأمنيه.
لم تطق سماع مثل تلك الكلمات السقيمة، وتحركت مبتعدة عنها لتقول بعبوسٍ:.

-تصبحي على خير يا ماما، أنا تعبانة.
كانت والدتها غير منتبهة للتجهم الكبير الذي اكتسى به وجه ابنتها، وظنت أنها مرهقة من مشقة اليوم، فراحت تقول في بساطة:
-وإنتي من أهل الخير يا حبيبتي.
فرت فيروزة من الجو الخانق المفعم بالطمع وما يخالف ما تتمسك به، لتنزوي بغرفتها وهي تضم السوار القابضة عليه في راحتها إلى صدرها، ألقت بجسدها على الفراش، وأخذت تكرر على مسامعها:
-مافيش حاجة هتغيرك.

فقط لو لم تتكلم والدتها بالسخافات الأخيرة لمضى يومها على خير، واحتفظت بذكرى متكاملة الأركان عن لقائها غير المرتب معه. تمددت فيروزة على جانبها، محاولة إجبار عقلها على استدعاء النوم؛ لكنه عاندها ولم يأتِ بسهولة، بقيت في حالة يقظة حتى وقت متأخر، وتأملت السوار الذي ارتدته في معصمها بنظرات مطولة؛ كأنما تبحث عن مفتاح الحب بين ذراته الثمينة، رفضت وضعه مع بقية المشغولات الذهبية، وفضلت إبقائه ملاصقًا لجلدها.

استراحت على ظهرها، وحدقت في السقف المعتم، زاره طيفه الذي بات عزيزًا، فالتوت شفتاها ببسمة بهية، لوهلةٍ دار بخلدها النظر إلى رقمه بهاتفها، فمدت ذراعها لتسحبه من على الكومود، حدقت في أرقامه بنظراتٍ جمعت بين الضيق واليأس، قبل أن تتساءل في تبرمٍ:
-هو ماتصلش ليه؟ مش كان قايل هيطمن عليا؟

نفخت في سأمٍ، وفتشت عما تلهي به عقلها، فانتقلت إلى مواقع التواصل الاجتماعي تقرأ بعض ما نُشر عبرها، ولكونها قد احتفظت برقمه في سجلات هاتفها المحمول، ظهر حسابه الشخصي أمامها. قفزت في رقدتها المسترخية، واعتدلت جالسة لتنظر إلى صورته بقلبٍ يخفق بقوةٍ، ارتعشت يداها لرؤيته يبتسم؛ كأنما يقصدها بابتسامته، وبدأ السؤال التالي يراودها، رغم أنها لم تنطق به سوى في طيات رأسها:
-أبعتله طلب صداقة ولا لأ؟

حكت مقدمة جبينها، وترددت لحظيًا قبل أن تحسم أمرها، وتضغط على زر الإضافة وهي تخبر نفسها:
-ما أنا خطيبته، إيه الغريب في كده.

على الجانب الآخر، وخلال انتظاره لآذان صلاة الفجر، وصل إلى أذنيه رنة إشعارٍ ما، تحرك تميم بثقلٍ نحو هاتفه الموضوع على التسريحة ليتفقده، وإذ بدقات فؤاده تنتفض وتصرخ في ابتهاجٍ حين رأى طلب الصداقة، دون إعادة تفكيرٍ ضغط على زر القبول وهو يدور حول نفسه في سعادةٍ مضاعفة مرددًا لنفسه:
-وربنا ما مصدق...
تحرك في حماسٍ في أرجاء الغرفة متسائلاً كمراهقٍ عاجز عن التفكير:
-طب أعمل إيه دلوقتي؟ أكلمها، ولا آ...

وضع يده أعلى رأسه، وراح يقول:
-ما هو برضوه مايصحش، هتبقى قلة ذوق مني.
عصر عقله اعتصارًا ليفكر في شيء ما يرحب عن طريقه بها بشكلٍ لطيف ومبهج، وأيضًا دون أن يتجاوز في تصرفاته معها، وجد يده تنتقل لا شعوريًا نحو الرسائل، ليبعث لها برمزٍ كان واثقًا أنه سيجعلها تبتسم، ولسان حاله ينطق عاليًا، بابتسامة عريضة أظهرت نغزاته الساحرة:
-ما هو التفاح للتفاح...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة