قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الرابع

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الرابع

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الرابع

فعل الخيرات، لا يحتاج إلى لحظة من التردد للإقدام عليه، وإنما هي سمة متأصلة غرزت في النفس منذ الصغر، تعوَّد صاحبها على القيام بها أينما تطلب منه هذا دون أن يشعر بالندم، كما أنه لا ينتظر عبارات الثناء عليها. تحرك تميم باللوح الخشبي الجاف –بخطواتٍ سريعة- متجهًا إلى حيث تنبعث شرارات الكهرباء من الأسلاك العارية، ومن خلفه جاء هيثم، وعلى مسافة لا تبعد نسبيًا عنهما وقفت فيروزة تراقب المشهد بقلبٍ شبه وجل، فإظهار البطولة في بعض المواقف قد تودي بحياتك في الأخير، فكيف له أن يضحي بحياته هكذا ببساطة لأناس لا تجمهم به أدنى صلة؟!

كتلة من اللهب اندفعت مرة واحدة جعلت تميم يتراجع تلقائيًا للخلف لينأى بنفسه من الخطر، ويحمي وجهه من الشرارات الحارقة، حذره هيثم بتوجسٍ، وهو يضع يده على كتفه:
-خد بالك.
رد في قلقٍ لم يخفه:
-ربنا يستر...
حاول مد اللوح الخشبي نحو مفاتيح الكهرباء لفصل التيار عنها وهو يتساءل:
-كلمت الحاج هنداوي؟
أجابه ابن خالته، وعيناه تركزان على ما يفعله:
-أه، ونازل من فوق.

طقطقات أكثر حدة أجبرتهما على اتخاذ خطوتين للخلف، صاح خلالها هيثم محذرًا بجزعٍ:
-حاسب.
بكفين مضمومين إلى صدرها، اشرأبت فيروزة بعنقها محاولة رؤية ما يحدث في الأمام، شعرت بخوفٍ غريزي يتسرب إلى بدنها كلما ارتفع صوت الطقطقات المخيف؛ فمتابعة الموقف وهي في قلب الحدث، يختلف كليًا عن سماعه كقصة عابرة وسط ثرثرة عادية. ركزت كامل انتباهه عليه، وانزلق لسانها يدعو له سرًا:
-ربنا يسترها عليه.

بالكاد نجح تميم في إخفاض أول مفتاح ليفصل عنه التيار الكهربي، وخاطب ابن خالته:
-لسه السكينة التانية.
حذره ابن خالته من جديد وهو يضغط بيده على كتفه:
-خلي بالك.
نظر إليه تميم قائلاً بتبرمٍ:
-إنت موترني على فكرة.
أبعد هيثم يده عنه، ورفعها للأعلى كتعبيرٍ عن عدم إزعاجه له، فواصل الأول عمله بحرصٍ شديد، ونجح في إخفاض المفتاح الآخر ليصبح اللوح بلا أي خطورة. تنهد تميم في ارتياح، ولهج لسانه شاكرًا:.

-الحمدلله، ربنا سترها، ولحقناها.
وضع هيثم يده على صدره قائلاً بزفيرٍ طويب:
-ربنا كريم.
تساءلت فيروزة من خلفهما في توترٍ:
-إيه الأخبار؟
استدار تميم برأسه ليواجهه، وقال وبين شفتيه ابتسامة عذبة:
-اطمني، عدت على خير.
رأى البسمة تزين محياها وهي تطرد الهواء من رئتيها في ارتياحٍ مرددة بصوت مرتخي سمعه:
-الحمدلله.

تحولت الأنظار نحو الرجل الخمسيني الذي خرج من باب جانبي للبناية القصيرة يتساءل في لهفةٍ قلقة، وهو يلف جسده بقفطانه البني:
-خير يا ولاد؟ حصل إيه؟
أجابه هيثم أولاً بوجهٍ متقلص في عضلاته:
-كان في ماس هيحصل لولا ستر ربنا.
جحظت عينا الرجل، فحاول تميم طمأنته:
-اطمن يا حاج هنداوي، فصلنا الكهربا خلاص، والدنيا أمان.
تنفس الأخير الصعداء، وشكره بتعابيرٍ عبرت عن امتنانه العظيم:.

-ده من لطف ربنا إنك موجود، بالله كان زمان النار قادت في الحتة كلها، ما هو معظم البيوت هنا خشب، ولا كان حد هيدرى ولا يحس إلا بعد خراب مالطة.
علق تميم في سرورٍ:
-ده من رحمة ربنا بينا.
ربت الحاج هنداوي على جانب ذراعه مرددًا بحبورٍ:
-ربنا يجازيك خير عننا.
خاطبه هيثم بلهجةٍ مالت للجدية:
-هاتوا كهربائي يظبط اللوح ويقفله بدل ما هو مكشوف كده.
استدار برأسه ناحيته ليوجه كلامه إليه:.

-من زمان وأنا عايز أعمله، بس بأتلبخ في حاجات كتير، وأنسى.
أضاف تميم بابتسامة صغيرة:
-أهوو جت الفرصة اللي يتعمل فيها.
هتف يؤكد عليه دون إعادة تفكير:
-من النجمة بأمر الله هيحصل.

لحظات وكان بعض الجيران قد هبطوا من منازلهم لرؤية ما يحدث بعد أن استقرت الأوضاع، وخف تساقط الأمطار. تركهم تميم مع ابن خالته يحكي لهم بإيجازٍ عن بطولتهم في نجدة الزقاق بمن فيه، وعاد إلى مهجة الفؤاد التي لم تتوقف عن منحه ابتسامةٍ أقل ما يُقال عنها أنها كالبدر في تمامه، امتدحت سرعة بديهيته ومهاراته العضلية قائلة:
-برافو عليك، بتعرف تتصرف في المواقف اللي زي دي.

بإشراقة كانت لتراها عظيمة على وجهه لولا العتمة السائدة في المكان حادثها بحماسٍ:
-الواحد ياما شاف، وخد خبرة من اللي سبقوه.
تنحت للجانب ليتمكن من العودة إلى داخل دكانها، وإعادة اللوح الخشبي الذي اقترضه في مكانه، تبعته في هدوءٍ، وسألته بفضولٍ ما زال يراودها من حين لآخر:
-إنت بتعمل ليه كده؟
التفت ببطءٍ ليتطلع إليها مليًا بنظراتٍ جاهد ألا تكون كاشفة لأمره، قبل أن يرد عليها متسائلاً:
-بعمل إيه؟

أجابته بعد زفيرٍ سريع:
-بتساعد غيرك قبل ما يطلب حتى ده منك.
ابتسم وهو يجاوبها:
-عشان بحب كده.
انقشعت المسافة ما بين حاجبيها، وقالت بما يشبه الاستهجان؛ كأنما تستحضر في ذهنها مواقف عشوائية من انعدام الرجولة معها:
-مش كل الناس زيك.
نظر إليها بغرابةٍ، فأكملت موضحة:
-إنت حالة فريدة.
سألها بتوجسٍ طفيف:
-وده حلو ولا وحش؟
جاءه ردها محايدًا عندما ردت:
-يعني أفتكر إنه على حسب تقدير اللي قصادك.

لم ينكر تميم أنه كان في قمة استمتاعه بحديثه المطول معها، بدا وكأنه يجالسها في جلسة رومانسية على أضواء الشموع الخافتة، ووسط بتلات الزهور الناضجة، ودَّ لو دام الحال لفترة من الزمن دون أن يقاطعهما أحد. انتبه لإطالته في نظراته الشاردة على معالم وجهها، وعلق عليها على مهلٍ:
-مش مهم عندي يقدر ولا لأ، كل اللي بيبقى فارق معايا إني أعمل الصح واللي مقتنع بيه.
شعر بلمحة من الاستنكار في صوتها وهي تعقب:.

-بس اعذرني اللي زيك بقوا قليلين أوي.
كان تعليقه تلقائيًا ومندفعًا:
-كفاية إني فريد في نظرك..
رفعت حاجبها للأعلى في دهشةٍ، ورأى تأثير كلامه العفوي على توتر ملامحها، ثم عدَّل من مقصده قائلاً:
-يعني بتعامل بأخلاقي الحلوة دي مع الكل.
اكتفت بالإيماء برأسها، فحاول أن يغطي على هفوات لسانه المتكررة بتغيير مجرى الحوار، فاستطرد يخبرها:
-وعلى فكرة محلك بقى شكله عظمة أوي، إن شاءالله يكون فاتحة خير عليكي وعلينا...

خشي أن يُساء تفسير فلتة غادرة من لسانه الأهوج، لذا صحح لها من جديد:
-وعلى الكل أقصد.
تنحنح بعدها بصوتٍ خشن ليسألها:
-إنتي خلصتي؟ ولا إيه نظامك؟
أجابته بهزة مؤكدة من رأسها:
-أيوه..
أشار لها بيده وهو يتحرك نحو الخارج قائلاً بلهجةٍ بدت آمرة:
-طيب تعالي معانا نرجعك البيت، مايصحش تمشي والطريق متبهدل كله.
اعتذرت منه بملامح جادة:
-مالوش لازمة، دي الحكاية كلها خطوتين.

التفت يرمقها بنظرة جمعت بين الرجاء واللطافة قبل أن يصر عليها:
-مش هاقبل ترفضي، أنا مستني برا.
تحرك مجددًا فاستوقفته بندائها:
-معلم تميم!
صوتها الناعم المنادي باسمه هكذا في لهفة، جعل الدماء تتدفق في شرايينه ليخفق قلبه، كأنما تهلل في سعادة لأنها اختصته بذاته بمنحة ميزة فريدة بنطق حروف اسمه. التفت كليًا ليواجهها بتعابير يغلفها مسحات من السرور، حمحم متسائلاً:
-أيوه.

دنت منه حتى أصبحت على بعد خطوة، عند أعتاب باب محلها. وقف كلاهما يتطلعان إلى بعضهما البعض في صمتٍ لحظي، قطعته بإخباره بابتسامة منمقة، مصحوبة بنظرة كانت واثقًا أنها دافئة، بل ورجا من الله أن تدوم للأبد:
-شكرًا على كل حاجة.

عجز عن الرد، كأن الكلمات فرت من بين شفتيه، أمام هالة البهاء التي تخدر بها حواسه، كلما أصبح قريبًا منها، وبات في محيط تأثيرها القوي. غادرت المكان ولم تغادر فؤاده، وإنما تربعت منذ اللحظة الأولى لانطلاق جذوة الحب على عرشه، واستقرت في قرارٍ مكين.

جلس ثلاثتهم في السيارة، وبدأ تميم يشق طريقه متقدمًا نحو الشارع الرئيسي بسرعة شبه بطيئة، لكون المنطقة غارقة في بركٍ غير ضحلة من تراكم مياه الأمطار. أخفضت فيروزة نظراتها لتحدق فيما تسرب من مياه إلى داخل السيارة، وهتفت تخاطبهما في انزعاجٍ:
-مش معقول المياه عالية للدرجادي.
بادر تميم بالرد عليها قبل زوج توأمتها مفسرًا سبب تلك الأزمة:.

-ما هو النوة المرادي شديدة، والبلاعات مش قادرة تقاوم، ده غير منسوب المد بتاع البحر.
علق هيثم ساخرًا:
-الناس مش محتاجة تروح البحر، احنا جبناه لحد عندهم، توصيل للمنازل.
ضحكت على طرفته، ورأها تميم من انعكاس مرآته الأمامية، فتضاعفت النبضات الولهة طالبة بالمزيد من الضحكات النضرة. سرعان ما لاحظ تبدل تعبيراتها المسترخية لأخرى شبه حادة وهي تستطرد متسائلة وهي تشير بيدها عبر الزجاج:.

-هو مين اللي متشعبط هناك كده؟
سألها محاولاً النظر إلى حيث أشارت مع متابعته لقيادة السيارة:
-فين؟
أوضحت أكثر بقولها:
-هناك، ناحية المواسير دي.
بدت زاوية الرؤية جيدة من ناحية هيثم الجالس أمامها، فأطل برأسه مسلطًا نظراته على البقعة المشار إليها، وأردف قائلاً بتخمينٍ:
-شكله حرامي.
شهقت فيروزة مرددة في صدمةٍ:
-معقولة؟

ركز تميم بصره نحو منطقة أخرى، لاحظ وجود ما يدعو للريبة، فقد وجد أحدهم يدور بعينيه في المكان، وهو يرتكن بظهره على دراجة بخارية؛ كأنما تم تكليفه بمراقبة المنطقة وتأمينها، احتدت نظراته نحوه، وأشار ناحيته بسبابته قائلاً:
-ده في واد ناضورجي مستنيه قدام أهوو.
ردد هيثم وهو يفرك كفيه معًا:
-كمان، طب هدي العربية شوية.
ابتسم له تميم ابتسامة مغترة وهو يغمز له:
-شكل الليلة النهاردة فل على الآخر.

بادله الابتسام ورد:
-متوصي بينا.
لم تفهم فيروزة ما الذي يدور بينهما من حوارٍ غامض، وسألتهما:
-هنعمل إيه؟
تهادت سرعة السيارة بشكلٍ ملحوظ حتى توقفت تمامًا، والتفت تميم برأسه ليخاطبها بلهجته الآمرة:
-خليكي في العربية ماتنزليش، احنا هنتعامل.
اتسعت عيناها مذهولة؛ لكنه تابع أوامره وهو يفتح الباب:
-اقفلي بالقفل من جوا.
هتفت مقترحة من تلقاء نفسها:
-ما نبلغ البوليس.
أجاب عنه هيثم بانتشاء متحمس طغى عليه:.

-هنكلمهم لما يتروق عليهم الأول عشان يلموا الجثث.
برزت عيناها أكثر في محجريهما من مجرد تخيل المشهد الدموي في رأسها، لم يكن بمقدورها شيء لمنع هذا العنف الوشيك، فقط تقدمت بجسدها للأمام لترى من داخل السيارة ما يحدث بالخارج.

سار الاثنان متجاورين إلى بعضهما البعض، بأكتاف منتصبة، وخطوات ثابتة، تنم عن شموخ وقوة ظاهرة على جسديهما، أجلى تميم أحبال صوته بنحنحة خشنة، ليستطرد بعدها قائلاً:
-عايزين نشوف أخبار عضلاتنا إيه؟
وافقه هيثم الرأي وهو يشمر عن ساعديه:
-بالظبط.
بصوتٍ جهوري رن صداه في جنبات البنايات صاح تميم:
-إنت يالا، بتعمل إيه عندك؟

انتفض الشخص المخول بمراقبة المكان من على الدراجة البخارية المستند عليها، وقد بدا متفاجئًا برؤية أحدهم يكشف أمره، بينما تجمد الآخر المعلق في الهواء مدهوشًا بتسليط كشاف الهاتف المحمول عليه لتبين مكانه وسط الظلمة التي تعم زاويته، ارتفع نداء هيثم لافتًا الانتباه:
-حرامي يا جدعان في المنطقة ناحية بيت سويلم.

بدأت أصوات فتح النوافذ، وصخب متداخل يسود في الأرجاء، كدلالة ملموسة عن تجاوب السكان مع ما سمعوه من تحذير شفهي. أسرع القائم بوظيفة (الناضورجي) بركوب دراجته للفرار، وكاد يدهس في طريقه تميم لولا أن أزاحه هيثم عن مساره الأهوج وسط صراخه المرتفع:
-حاسب يا تميم.

بأعجوبة تفاداه؛ لكنه كان سريع الحركة في التقاط حجرٍ قريبٍ منه ليقذفه في اتجاه اللص، ارتطم برأسه في عنفٍ، وجعله يترنح من الألم، ومن ثم يفقد توازنه، ليُطرح أرضًا. أناسٍ غير معلوم من أين جاءوا تحديدًا التفوا حوله للإحاطة به، وضربه، وصوت التهليل ما زال يرن من مختلف الحاضرين:
-حرااااامي.

بمجرد أن هبط اللص الآخر عن ماسورة المياه التي استغلها في الصعود، حتى قبض عليه بقية المتواجدين بالشارع، وأبرحوه ضربًا حتى لم يعد في جسده عظمة سليمة. زم هيثم شفتيه معترضًا:
-احنا ملحقناش نعمل حاجة.
قال وهو يهز كتفيه في هدوءٍ:
-حظه بقى.

بأعصابٍ ما زالت مشدودة، ظلت فيروزة حبيسة السيارة، تتلهف في خوفٍ وقلق لمعرفة ما الذي آلت إليه الأمور، خاصة بعد ازدحام المنطقة، وتعذر الرؤية من الحشد الذي تجمع في لمح البصر. تنفست الصعداء بمجرد أن رأت الاثنين يخترقان الصفوف ويقبلان عليها، بقيت عيناها على تميم تفحصه بتلقائية؛ كأنما تتفقد إن كان مصابًا من عدمه، طمأنها بابتسامةٍ جعلتها ترتبك، وتستعيد إحساسًا كانت تتعمد دفنه في أعماقها، فتح الباب وجلس خلف المقود يخاطبها قبل أن تشرع في سؤاله:.

-الناس قاموا بالواجب قبلنا.
استقر هيثم في مكانه مضيفًا عليه:
-كنتي هاتشوفي مفرمة، بس يا خسارة.
ابتسم تميم وهو يتابع مازحًا:
-الخناقات جاية كتير، ماتستعجلش.
على عكس ما توقع استنكرت فيروزة ميول كليهما للعنف البدني، وصاحت معبرة عن رأيها في استهجانٍ:
-هو إنت بتتبسطوا من الحاجات دي؟
اندهش تميم من ردة فعلها الحادة، وأدار رأسه ليتطلع إليها عن كثبٍ، والحيرة تملأ عقله، خاطبته مباشرة كأنما تنذره:.

-أخرتها ممكن تكون وحشة.
لم يستسغ هيثم كلامها، لذا رد عليها بنبرة غير مبالية:
-ربنا بيكملها معانا بالستر.
اتجهت أنظارها إليه، وقالت بشيءٍ من العصبيةٍ:
-أنا مش بحب كده.
لاحظ مدى التوتر الذي صارت عليه، فاعتذر منها على الفور:
-خلاص يا أبلة حقك علينا، احنا أكيد مش بنبقى نازلين نتخانق، في ورانا شغل ومصالح بنسعى عليها.
في حين هسهس هيثم ساخرًا منها:
-طرية.
حذره تميم بوجه اشتد على الأخير، ونظراتٍ أكثر صرامة:.

- هيثم!
كز على أسنانه مبرطمًا:
-أديني ساكت.
قاومت فيروزة ذكريات العنف التي بدأت في مناوشتها، وجعل بدنها يرتجف من تذكر قساوة الضربات الوحشية التي نالت منها في لحظات قوتها، وأوقات ضعفها. طرأ ببالها أن تكون توأمتها تعامل بالمثل من زوجها، وتخشى البوح بهذا، لهذا دون ترددٍ سألته بلهجةٍ شابها التهديد:
-أوعى تكون بتتعامل كده مع همسة، والله ما هسكتلك.
أدار رأسه للخلف لينظر إليها بضيقٍ، ثم سألها في انزعاجٍ:.

-وإيه اللي دخلها دلوقتي في الخناقة اللي ماتمتش دي؟
كانت إجابتها مباشرة ومنطقية:
-طالما ده أسلوبك وارد لو زعلتك في حاجة تمد إيدك عليها وآ...
قاطعها نافيًا في حدةٍ، وقد وجمت قسماته:
-ماحصلش...
وأضاف عليه تميم مؤكدًا بجديةٍ تامة:
-ولا هيحصل!
بدت غير مقتنعة بما يقولان، فأعاد عليها تميم خطابه بتريثٍ:
-احنا مش كده يا أبلة، بنعرف امتى نتعامل ومع مين.
رمقته بتلك النظرة المتشككة فكرر عليها:.

-واستحالة نمد إيدنا على واحدة ست مهما حصل.
أشاحت بوجهها بعيدًا عن نظراته المثبتة عليها، رافضة تقبل أي عذر يبرر العنف الجسدي. سحبت فيروزة حقيبتها من جوارها، وضمت إلى صدرها، ثم كتفت ساعديها حولها؛ كأنما تشكل بها درعًا يقيها شرورًا لم تتعافَ كليًا منها بعد، لتغمغم في سخطٍ بوجهٍ قد انقلب بكامله من أثر الذكرى:
-كلام!

رأى تميم الوجوم الذي استبد بملامحها، والتعاسة التي احتلت نظراتها، حز ذلك في قلبه بشكلٍ كبير، نمَّت قسماتها عن انعدامٍ واضح في عدم تصديق ما تفوه به من حقيقة التزم به على مدار سنوات عمره، التفت يطالع الطريق بعينين غائمتين، وخاطب نفسه قائلاً بعزمٍ:
-دي حقيقة، ومسيرك هتتأكدي...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة