قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الخامس

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الخامس

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الخامس

الإيذاء النفسي يبقى أثره عالقًا في الذهن، لا يمحى من الذاكرة بعد بضعة أيام، دومًا يطفو على السطح كلما تعرض الشخص لمواقف شبيهة، تضغط على أعصابه، وتحفز خلايا عقله على استعادة ما مضى. حاولت فيروزة تخطي تلك العقبة، والتأقلم مع تبعاتها؛ لكن إحساس الألم والضرب الموجع انتشر في أوصالها؛ كأنما قد تلقت للتو نفس التعنيف الشرس في كل مرة أبدت فيها مقاومتها لما يُفرض عليها جبرًا.

نظرة تعيسة سددتها لذاك الذي ادعى لتوه أنه لم يمس امرأة بسوء، جال بمخيلتها ذكرى تطاوله على زوجته في حضرتها، كأسلوبٍ صارمٍ منه لإيقاف اتهاماتها المخزية آنذاك تجاه توأمتها، لقد لجأ لنفس الأسلوب القاسي لإخراسها، عاملها بخشونةٍ، وهذا أكثر ما تخشاه في منح ثقتها له أو لغيره؛ لكن ما لبث أن عادت لتتذكر أنها منحته صفعة قاسية أحرجته بها أمام الغرباء، انتقامًا منه على شيء لم يفعله عند دكانه، ومع هذا لم يُعاملها بالمثل رغم المناوشات اللفظية بينهما في أول الأول، وإيحاءه برغبته في إيذائها إن كانت خاصته.

الكثير من التخبط والحيرة عصف بعقلها فأصبحت صافنة الذهن، غير منتبهة لتوقف السيارة عند بيتها، صوته المنادي جعلها تلتفت إليه بتعابيرها الواجمة:
-احنا وصلنا يا أبلة.
استدارت ناظرة من نافذتها إلى مدخل البناية، وقالت بقليلٍ من الحرج:
-آ، شكرًا.
على الفور ترجلت من السيارة دون أن تنبس بالمزيد، وبقيت أنظار تميم عليها، والذي سرعان ما لكز بقبضته ذراع ابن خالته يأمره:
-انزل معاها وصلها، مايصحش.

كان الضيق ما زال مستبدًا ب هيثم، فعلق معترضًا بتبرمٍ:
-ليه هي قاصر؟
رمقه بتلك النظرة القوية وهو يخبره:
-خلي عندك ذوق، وبعدين بدل ما يكون في حد مستخبي كده في الضلمة يطلعلها، وقولها تقفل باب المدخل وراها.
كان محقًا في حرصه الزائد، خاصة بعد تجربة صدامهم مع اللصوص، لذا قال على مضضٍ وهو يفتح الباب:
-طيب، أما نشوف أخرتها
تابعهما بنظراتٍ مهتمة وهما يختفيان بالداخل، ولسانه يردد بصوتٍ خفيض:.

-ربنا يقرب البعيد وتعرفي إنك مهما عملتي عمري ما هزعل منك.
رفع تميم يده ليضعها على جانبه الأيسر متابعًا بزفير طويل:
-إنتي موجودة جوا ده.
دقائق وخرج هيثم قادمًا نحوه، استقر من جديد إلى جواره، فاستطرد يسأله:
-كله تمام؟
-أيوه، خلاص وصلتها...
لم يحاول تميم الاستفسار عنها أكثر من هذا، يكفيه أن يجدها في مأمن من أي أذى ليطمئن ولو بقدرٍ بسيط، عاد ليقود السيارة وابن خالته يعلق في فتورٍ:.

-العربية محتاجة تتنضف وإلا هتعمل ريحة.
ألقى نظرة شبه فاحصة على المياه المتسربة للداخل بسبب ارتفاعها بالشوارع، وقال في لهجة جادة:
-بكرة هوديها المغسلة، بس إدعي ربنا يبقى الجو عدل.
حرك هيثم رأسه متمتمًا:
-يا رب.

تأكدت من وضع آخر طبق قامت بغسله في مكانه، قبل أن تخرج من المطبخ وتغلق الإضاءة خلفها، كانت والدتها ما زالت مستيقظة وتجلس أمام التلفاز تتابع أحد الأفلام العربية القديمة في البهو المتسع، جلست فيروزة إلى جوارها، وترددت للحظاتٍ قبل أن تستطرد قائلة بوجهٍ غامض في تعبيراته:
-عايزة أسألك في حاجة يا ماما.
لم تنظر ناحيتها، وردت بآذان صاغية:
-قولي يا حبيبتي، أنا سمعاكي.
فركت أصابع كفها معًا، وتشجعت لتقول:.

-هو هيثم مد إيده على همسة قبل كده؟
ارتفع حاجبا آمنة للأعلى في استنكارٍ مصدوم، وهتفت تلومها:
-إيه الكلام ده يا بنتي؟
بتعابيرٍ ما زالت غير مقروءة أجابتها:
-ده مجرد سؤال عادي.
نفت والدتها على الفور وهي تشير بيدها:
-ماحصلش أبدًا، ده بالعكس على طول بتشكر فيه.
باعدت فيروزة أنظارها عنها، وطلبت منها بما يشبه الرجاء:
-برضوه ابقي اسأليها بينك وبينها، اطمني منها، مش هنخسر حاجة.
علقت عليها آمنة بتوجسٍ قلق:.

-إيه اللي خلاكي تقولي كده؟ هو في حاجة حصلت؟
بالكاد خنقت غصة علقت في حلقها قبل أن تبرر لها:
-لأ، مافيش، أنا بس بطمن على أحوالها، معدتش في حد مضمون في الزمن ده.
ابتسمت أمها وهي تخبرها بحسن نية كعادتها:
-مش كل الناس مؤذية يا بنتي، في ولاد حلال موجودين حوالينا.
ظلت فيروزة تتطلع أمامها بعينين واجمتين، ظهر فيهما الألم، وخاطبت نفسها بصوت بقي حبيس أعماقها:
-أنا معرفتش غير المؤذيين وبس.

قاوم على قدر المستطاع إشعال سيجارة أخرى للتنفيس عما يستعر بداخله من احتراقٍ لا يعرف سبباه؛ لكنه كان يزداد قوة كلما تذكر علامات الأسى المرسومة على ملامحها، وتلك النظرة المليئة بهمومٍ لا يعرف كيف تحويها بداخلها، كم تمنى أن ينفذ إلى روحها، ليزيح عنها ما يؤلمها! استند تميم بمرفقيه على حافة سور شرفته، محدقًا في الفراغ بنظراتٍ لا ترى سوى طيفها، تصلب جسده مع اللمسة الحنون على ظهره، فاستدار برأسه للجانب ليجد والدته تقف إلى جواره وهي تسأله:.

-سرحان في إيه يا حبيبي؟
ادعى الابتسام وهو يرد:
-مافيش حاجة يامه.
سألته ونيسة في اهتمامٍ:
-الشغل ماشي معاك كويس؟ ولا فيه مشاكل؟
قال بعد زفيرٍ بطيء:
-من ده على ده، بس كله بيعدي الحمدلله.
ربتت على كتفه تدعو له بحنوٍ:
-ربنا يصلح حالك يا حبيبي، ويسرلك كل عسير.
ابتسم لها وهو يحني وجهه على مقدمة رأسها ليقبلها:
-يا رب.
عمَّ الصمت بينهما للحظات، قطعته ونيسة هاتفة بترددٍ ملحوظٍ عليها:.

-بأقولك إيه يا ضنايا، إنت كنت كلمت سراج صاحبك عشان أختك؟
فرك طرف ذقنه بيده، وقال:
-اتلبخت والله، بس بكرة الصبح هاطلبه، وأبلغه باللي هي عايزاه.
أشرقت الابتسامة على تعبيراتها، واستمرت تدعو له في عاطفة:
-ربنا يفرحني بيك إنت وأختك ويعوضكم كل خير يا رب.
بادلها الابتسام، ولف ذراعه حول كتفيها مرددًا:
-الله كريم.
سألته مجددًا في نبرة مهتمة:
-مش عايز حاجة قبل ما أنام؟
أخفض ذراعه، وقال:
-تسلمي يا أمي.

غادرت ونيسة الغرفة، وتبعها تميم بنظراته إلى أن أغلقت الباب خلفها، فتابع تحديقه الشارد هامسًا بأنين:
-يا ريتني أقدر أعرف اللي جواكي!

أمسكت بالمقشة اليدوية، وقامت بجمع وكنس بقايا اللب الذي بصقه ابنها على السجادة، لتعيد الغرفة إلى ما كانت عليه من نظافة وترتيب قبل أن يأتي ويفسد عليها مجهودها. تسمرت سعاد في مكانها مشدوهة بعد أن قذف بقنبلته في وجهها، وصاحت تلومه في استهجانٍ:
-عروسة إيه دي اللي أشوفهالك؟ يا ابني ده احنا لسه مش عارفين نحل مشكلتك مع أم عيالك وآ...
قاطعها فضل في حدةٍ بعد أن تجشأ بصوتٍ مقزز:.

-بوز الإخص دي ماتجبيش سيرتها، هي السبب في النحس اللي أنا فيه.
رمقته بتلك النظرة غير الراضية؛ لكنه تابع بوعيدٍ صريح:
-اصبري عليا بس أفوق من اللي أنا فيه، وهحاسبها هي والبأف اللي جابته يعلم عليا هنا وياخدني على خوانة.
واصلت سعاد توبيخها اللائم له وهي تنحني لتزيل ما جمعته من أوساخ بالجاروف والفرشاة:
-إنت مش ملاحق تعادي مين ولا مين؟ ما تخليك في حالك، وتشوف أكل عيشك، ده الأبقى ليك ولعيالك من بعدك.

صاح في سخطٍ، وتلك النظرة الكريهة تطل من عينيه:
-وأحرم نفسي من متع الدنيا ليه؟ ده من حقي.
اعتدلت في وقفتها، وأوشكت على متابعة تحذيرها له؛ لكنه أسكتها قبل أن تبدأ بترديده الفظ:
-بأقولك إيه يامه، روحي نامي، الكلام معاكي زي قلته، لا هيودي ولا هيجيب.
نظرت إليه في استياءٍ، واستدارت منصرفة من غرفته قائلة:
-ربنا يهديك لحالك.

صدق فيما أخبره به بالأمس، حيث اشتم تميم رائحة عطن بسيارته جراء امتلاء بدنها بالمياه غير النظيفة، لذا كان أول ما قام به بعد نزوله من البيت هو الاتجاه بها إلى مغسلة السيارات. أعطى المفاتيح لأحد العاملين بالمكان، وأوصاه مشددًا:
-روق عليها، عايزها تبقى فلة من جوا.
قال العامل في حماسٍ واثق:
-هخليهالك على الفبريكا يا سيد المعلمين، كأنها عروسة.

رفع تميم ذراعه، ووضعه على كتفه ليربت عليه بقوةٍ طفيفة وهو يتحداه:
-أما نشوف كلام جد ولا أونطة.
هز رأسه مؤكدًا عليه:
-يا باشا ده المغسلة كلها تحت أمرك، ولو الشغل معجبكش نعيده تاني...
ثم أشار له ليجلس وهو يدعوه:
-مسافة بس ما تشرب الشاي هتكون خلصانة.
عقب في استحسانٍ:
-ماشي يا سيدي.

سحب تميم مقعدًا، وجلس بعيدًا عن الضجيج المحاوط به، وإذ بذلك العامل يأتي إليه بعد بضعة دقائق وفي يده حافظة نقود حمراء اللون، ناوله إياها قائلاً:
-معلم تميم لاقيت البوك الحريمي ده واقع تحت الكنبة اللي ورانا.

نظر إليه في دهشةٍ قبل أن يأخذها من يده، بينما انصرف العامل ليكمل مهمته دون الحاجة للحصول على أي تفسيرٍ منه. تفقد تميم الحافظة بنظراتٍ فاحصة مستريبة، سرعان ما تبددت حيرته إلى نوعٍ من الصدمة اللذيذة، خاصة وقد رأى نقشة لريشة الطاووس المميزة تزين حوافه الجانبية؛ وكأنه حاز على قطعة تلامسها، وجد نفسه يضمها إلى صدره بابتسامة بلهاء لا يعرف أنها تشكلت على ثغره.

تدارك نفسه، وأخفى في لحظة ملامح الوله التي تباغته ليبدو جاد التعبيرات، تردد كثيرًا في فتحها والتأكد من امتلاكها لها، برر لنفسه تصرفه في عزمٍ:
-ما جايز تكون مش بتاعتها.

رغم يقينه بأنها تعود إليها، إلا أن رغبة الفضول التي استحوذت عليها كانت لها الغلبة، ألقى نظرة خاطفة على من حوله ليتأكد من عدم تركيز أحدهم معه، تسلل إليه شعور الارتياح لانشغال الأغلب، فتشجع لفتح حافظتها، اضطربت دقات قلبه بخفقان متتابع أصاب كافة حواسه بنوعٍ من الشعور المتقد، مع رؤيته لصورتها الشخصية الموضوعة على الجانب خلف غلاف شفاف، سرت رجفة طفيفة في كامل بدنه وهو يتأملها بنظراته المتيمة عشقًا بها، دومًا تثير فيه كتلة من الأحاسيس التي لا يشعر بها سوى معها، تلقائيًا تحرك إصبعه ليلمس وجهها في بطءٍ كأنما يريد أن ينسخ ملامحها في وجدانه، وقبل أن تفيض به عواطفه الجياشة، وتطغى على إدراكه العقلاني، أغلق الحافظة، وأطبق عليها كفه مستشعرًا بقوة هذا الشعور المشتاق المضطرم في فؤاده. هب واقفًا من مكانه، وصاح بلهجةٍ جاهد ليخفي ارتباكه فيها وهو يخاطب عامل المغسلة:.

-أنا رايح مشوار وراجعلك تاني.
رد عليه الرجل وهو منكفئ على مقدمة سيارته:
-براحتك يا معلم.
بخطواتٍ أقرب إلى القفز، عبر الطريق في خفةٍ وهو يدور بنظراته سريعًا على الجانبين. في الظاهر أراد إعادة ما فقدته دون قصدٍ منها؛ لكن في الباطن أراد ملء الروح بنظرة من جوهرتيها، لعَّل النفس تهدأ، والقلب يسكن!

جثت على ركبتيها لتنظر أسفل الفراش، قبل أن تستقيم واقفة لتفتش في نفس الأدراج التي بحثت فيها منذ لحظاتٍ، تحركت والدتها على خطوتها، وأخبرتها في حيرة:
-دوري يا بنتي كويس، جايز شيلتيها هنا ولا هنا.
ردت فيروزة في عصبيةٍ وهي تشير بيدها نحو حقيبتها:
-أنا متأكدة إنها كانت جوا الشنطة.
سألتها والدتها بشكٍ:
-مش يمكن نستيها في المحل؟
قالت وهي تتجه نحو التسريحة في يأسٍ حائر:
-احتمال برضوه، هاروح أدور هناك.

لفت حجابها حول رأسها، وأكملت حوارها معها في ضيقٍ:
-ربنا يستر وما تكونش ضاعت.
عادت آمنة لتسألها من جديد:
-هي كان فيها فلوس كتير؟
نظرت لها من طرف عينها، وأخبرتها وهي تحكم غلق طرفي الحجاب معًا بدبوسٍ صغير:
-مش أوي، بس هايبقى موال عقبال ما أطلع بطاقة تانية.
حاولت بث الأمل فيها، فرددت في تفاؤلٍ:
-إن شاء الله ربنا هيعترك فيها.
رغم عدم اعتقادها في عثورها عليها إن كانت فُقدت حقًا غمغمت في تعجلٍ:
-يا رب.

خرجت من الغرفة لتتجه إلى باب المنزل، وهناك التقطت حذائها من دولاب الأحذية، انتبهت لصوت قرع الجرس، فتساءلت فيروزة وهي تكمل ارتداء الفردة الأخرى:
-مين جاي السعادي؟
ردت عليها والدتها وهي تسير ناحيته:
-مش عارفة.
كانت فيروزة الأسبق في فتحه، تفاجأت من وجوده أمامها، فهتف في استغراب يشوبه الدهشة:
-معلم تميم!

الأحلام بعيدة المنال أصبحت قيد التحقيق الآن، وكأن وقت استجابة الدعوات قد أزف، وها قد لمس بوادر ذلك. أخفض تميم رأسه بعد نظرة سريعة إليها، ثم استطرد مرحبًا:
-صباح الخير.
تحرجت من وقاحتها غير المقصودة، وردت بعد أن ضغطت على شفتيها للحظة:
-صباح النور.
مد يده ناحيتها بحافظتها قائلاً:
-اتفضلي.
أخذتها منه بتعابير ابتهجت في سرورٍ، ورددت بنبرة أكدت له سعادتها بعثوره عليها:.

-إيه ده؟ إنت لاقيتها، ده أنا قلبت الدنيا عليها.
لم يقاوم رغبته القوية في النظر إليها في تلك اللحظة، ويا ليته ما فعل! فملامحها المشرقة سلبته عقله، فشرد يطالعها بإمعانٍ، كأنما يريد أن تبقى صورتها عالقة في ذهنه إن فارقها وذهب مضطرًا هكذا للأبد. لم تكن منتبهة لطريقة تحديقه بها، مما منحه الفرصة لضبط انفعالاته قبل أن تستريب في أمره، تنحنح يخبرها بعد ذلك:
-كانت واقعة في العربية.

انضمت إليهما آمنة، وهتفت مرحبة به بودٍ شديد:
-اتفضل يا معلم تميم، مش عيب يا فيروزة تسبيه واقف على الباب كده؟
على الفور اعتذرت منه ببسمة زادت من قسماتها نضارة:
-أنا أسفة مخدتش بالي..
تنحت للجانب، وأشارت له بيدها:
-اتفضل.
قال وهو يوزع نظراته بينهما:
-لا مافيش داعي، أنا كنت جاي أرجع الأمانة، خوفت لا ماتلقيهاش وتقلقي.
كررت عليه آمنة شكرها على صنيعه الطيب:.

-والله كتر خيرك يا ابن الأصول، يا عيني دي كانت شايلة هم إنها تكون ضاعت.
تلقائيًا تحولت أنظاره نحوها مجددًا، فوجدها تتفحص ما بداخلها، لهذا سألها:
-في حاجة ناقصة فيها؟
أجابته وهي تخرج هويتها لترفعها نصب عينيه:
-لأ، مافيش، ده أنا بتأكد من البطاقة.
شقت ابتسامة عذبة طريقها على شفتيه مع رؤيتها تبتسم في نعومة، واستطرد يكلمها:
-معاكي حق يا أبلة...

السعادة بكافة معانيها حلت عليه في تلك اللحظات العابرة، ودَّ لو استمرت لساعات وساعات؛ لكن ما باليد حيلة، أبعد عينيه عنها، وقال في حرجٍ:
-احم، لا مؤاخذة يعني، أنا بس كنت، فتحتها عشان أشوف بتاعة مين، ولما لاقيت صورتك آ...
جاهد ألا ينظر إليها وهو يتم جملته:
-اتأكدت إنها تخصك.
كانت مشغولة بإعادة ترتيب محتويات حافظتها وهي ترد:
-تمام، تسلم يا معلم تميم، أنا مش عارفة أشكرك على إيه ولا إيه؟

تجرأ مرة أخرى لينظر إليها بتلك النظرة الساهمة، قبل أن يرد في لطفٍ:
-مافيش بينا شُكر، أنا تحت أمرك يا أبلة في أي حاجة.
أحست آمنة بعدم تقديرها لضيفها الذي أغرق عائلتها بالكثير من المجاملات، فأصرت عليه تستضيفه:
-يا معلم مايصحش كده، اتفضل عندنا شوية، تشرب شاي، وآ...
قاطعها معتذرًا بلباقةٍ:
-وقت تاني، المهم عم خليل بخير؟
ردت بإيماءة من رأسها:
-أه الحمدلله.
استأذن بعدها في تهذيبٍ:.

-دايمًا يا رب، عن إذنكم، وأشوفكم على خير.
تقدمت آمنة خطوة لتودعه بمزيدٍ من الحرارة:
-تسلملنا يا ابني، شرفت وأنست، ده بيتك في أي وقت تشرف فيه.
وقفت فيروزة في مكانها تخاطب والدتها بحيرة:
-هو لسه في ناس كده؟
استدارت آمنة لتواجهها وهي ترد مادحة:
-بصراحة ما شوفتش في شهامته ولا جدعنته.
تحركت ابنتها خطوتين لتتجاوزها، وقالت بعد تنهيدة سريعة:
-ده حقيقي...
سرعان ما سيطر على نبرتها حزنًا خفيًا حين تابعت:.

-يا رب يفضل كده، ومايجيش يوم واتصدم فيه زي غيره!
لم تعلم أنه ما زال واقفًا على السلم يرهف السمع إلى حديثهما العابر عنه بحماسٍ متقد، خفقة قابضة آلمت صدره مع جملتها الأخيرة، فجعلته يزداد تخبطًا وريبة في أمرها، ما زال ذلك السؤال الحائر يدور في رأسه وهو يكمل هبوطه على الدرج:
-إيه اللي حصلها وأنا معرفوش...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة