قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل السادس

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل السادس

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل السادس

طلبت تغيير مكان لقائهما المعتاد إلى آخر، لانشغالها معظم اليوم في متابعة الحالات المرضية هناك، وبالرغم من ترددها إلا أنها شعرت بالسوء لرؤية هؤلاء المسنين في حالة إهمال وهجر بعد أن تخلى عنهم ذويهم. أحست فيروزة بالضيق يستبد بصدرها، خاصة مع سماعها لمقتطفات عابرة عن كيف انتهى بهم المطاف هنا، لا يعانون من أعراض التقدم في السن والعجر فقط، وإنما قساوة الإهمال، وقلة الاهتمام. استدارت تنظر في اتجاه ريم التي لوحت لها بيدها وهي تقبل عليها أثناء هتافها:.

-تعالي يا فيروزة، هنقعد هناك.

في معظم مقابلاتهما دومًا تحبذ ريم اختيار الأماكن المفتوحة، والمتخمة بدرجات مختلفة ومتفاوتة من الخضرة لتلتقي بها، ولم تكن فيروزة ممانعة، فقد كانت بحاجة لبعض التغيير في نمط حياتها الذي أصبح شبه روتيني، ورؤية أماكن جديدة ربما لم تكن لتأتي إليها من تلقاء نفسها. انفردت الاثنتان ببعضهما البعض، وجلستا عند بعض الأرائك الشاغرة في نهاية الحديقة. استطردت ريم تسألها عن المستجد في أوضاعها المعيشية، وأصغت إلى ردودها بانتباهٍ تام قبل أن تقول مباشرة:.

-في جزئية دايمًا احنا بنلف وندور حواليها من يوم ما بدأنا مشوارنا سوا.
قطبت جبينها متسائلة بتحفظٍ:
-إيه هي؟
بأسلوبها الهادئ أجابتها:
-إنتي عارفاها كويس، وبتتجنبي الكلام عنها، مع إني حابة إنك تتخطي العقبة دي، وتواجهيها، اعتبريها زي تحدي جديد ليكي.
ظلت ملامح فيروزة متجهمة قليلاً، وقد فطنت إلى ما تحاول فعله، وتأكدت من مسعاها عندما أضافت:.

-يمكن أنا عندي لمحة بسيطة عن اللي شوفتيه في تجربتك مع آسر، وده من كلام ماهر، بس أنا عاوزاكي إنتي اللي تحكي، تتكلمي، تطلعي اللي جواكي...
حل المزيد من الوجوم على تعبيراتها، حتى نظراتها تبدلت من الاسترخاء للتحفز، بينما استمرت ريم تُحادثها:
-صدقيني ده هيفيدك أوي.

ما تريد معرفته ليس بهذا القدر من اليسر لتفصح عنه بسهولة، فقد احتاجت لكل شجاعتها لتطمره في أعماق أعماقها، لذا قررت الانسحاب من هذا اللقاء دون تفكيرٍ، هبت فيروزة واقفة، وعلقت حقيبتها على كتفها، لتقول بوجهٍ جامد كالحجر:
-سامحيني يا دكتورة، أنا مضطرية أمشي، عندي شغل.
وقفت ريم بدورها، وخاطبتها بلين الكلام وهي تتحرك ناحيتها:
- فيروزة، الهروب مش هو الحل...
وضع يدها على ذراعها وأكملت:.

-أحيانًا بنبقى مضطرين نواجه أكتر حاجة بنخاف منها عشان نعدي، ونكمل طريقنا صح.
سحبت ذراعها من قبضتها، وقالت بصوتٍ أجوف:
-دي صفحة وقفلتها.
ردت عليها بإيماءة سريعة من رأسها:
-صح، بس رواسبها لسه عايشة جواكي..
وقبل أن تعارضها استمرت في التوضيح لها:
-وأنا دوري أساعدك تتخطي العقبة دي وإنتي بكامل قوتك، وشجاعتك، بحيث مافيش حاجة ترجعك لورا، تمنعك من إنك تحققي اللي بتحلمي بيه.
ثم ابتسمت لها قائلة بتأكيد:.

-كمان أنا حاسة إنك هتعملي ده من نفسك قريب.
بطريقة ما نجحت في إثنائها عن عنادها قليلاً، فجذبتها ريم من مرفقها، وطلبت منها الجلوس بتهذيبٍ:
-مش معقول هنفضل واقفين، ده احنا لسه يدوب بنتكلم، ممكن تتفضلي لحد ما أجيب حاجة ناكلها سوا؟

تنفست فيروزة بعمقٍ قبل أن تعاود الجلوس على مقعدها، في حين انصرفت ريم لدقائق، لتأتي وفي يدها وعاءً يحوي ثمار الفاكهة الطازجة. أسندته على الطاولة، وجلست في الجهة المقابلة لتستأنف بعدها كلامها:
-إيه رأيك النهاردة نتكلم عن حد ليه أثر طيب وإيجابي معاكي؟
هزت كتفيها مرددة في فتور:
-عادي.
اشترطت عليها وهي تشير بإصبعها نحوها:
-بس حد يكون خارج دايرة الأسرة.
نظرت إليها في غرابةٍ، لتسألها بعدها:
-زي مين مثلاً؟

فكرت ريم قليلاً قبل أن تسهل عليها:
-ممكن من الجيران، أصدقاء في الشغل.

شردت فيروزة لبرهةٍ تحاول اختيار أحدهم لتتحدث عنه، بدت حائرة بعض الشيء، إلى أن وقعت أنظارها على ثمرة التفاح، حينها فقط تجلت صورته في ذهنها وهو يبتسم لها بابتسامة غريبة، كأنما يخصها بها، ارتفع حاجباها للأعلى، وقد ازدحم عقلها بالمزيد من الذكريات عنه، أصبحت ملامحها شاردة بشكلٍ ملحوظ. راقبتها ريم عن كثب، إلى أن قطعت استغراقها في التفكير لتسألها:
-الظاهر في حد معين في دماغك، صح ولا أنا استنتجت غلط؟

عادت إلى وعيها، وأجابت بردٍ شبه مائع:
-يعني.
ابتسمت ريم لتجاوبها، وتابعت أسئلتها لها:
-تقدري تكلميني عنه شوية؟
تحفزت دفاعاتها من جديد لترد بإنكارٍ:
-وليه ماتكونش واحدة؟
اعتمدت على هدوء نبرتها وهي تبرر لها:
-ده مجرد تخمين، مش فارق إن كان واحد ولا واحدة، المهم يكون ليه تأثير إيجابي على حياتك الفترة اللي فاتت.
أطلقت فيروزة زفرة طويلة محملة بالتردد، لتخبرها بعدها وهي ترمش بعينيها:
-عمومًا هو واحد.

علقت بإيجازٍ دون أن تفتر بسمتها الرقيقة:
-تمام.
من أسفل الطاولة فركت فيروزة أصابعها معًا في توترٍ، كأنها تنشد بتلك الحركة الحصول على بعض القوة والثبات وهي تبوح لها بشيء اعتبرت مجرد تطرقها إليه أمر حرج:
-مش قادرة أحدد طبيعة شخصيته إيه، ساعات كتير بحس إنه شهم أوي، فريد من نوعه، وساعات تانية بأقلق منه، وأخاف.
حافظت ريم على نعومة بسمتها وهي تنتقل لسؤالها التالي:
-طيب نسأل كده ليه ممكن تخافي منه؟

تجرأت وهي تجيبها:
-عشانه مش مفهوم بالنسبالي.
سألتها في هدوءٍ:
-من ناحية إيه؟
بعد لحظة من السكوت قالت وهي تستحضر في مخيلتها مواقف متداخلة له معها:
-تصرفاته، طريقته معايا مختلفة.
تساءلت في نبرة مهتمة:
-مختلفة إزاي؟
انتشر التردد على تعابير فيروزة، فاستطردت ريم توضح لها بلباقةٍ:
-أنا أسفة إني بسألك ورا بعض بالشكل ده، بس عايزة من كلامك ده عنه أكون صورة ليه بوضوح.

ضغطت على شفتيها في ربكةٍ، وتحاشت النظر ناحيتها كليًا، لتركز بصرها على ثمرة التفاح وهي تخبرها:
-حساه مهتم بيا بزيادة أوي، زي ما يكون مستني أطلب منه أي حاجة عشان يعملها بسرعة.
صمتت ريم لهنيهة قبل أن تعلق عليها:
-ما يمكن تكون دي طبيعته مع كل الناس.
أكدت عليها بأنفاسٍ مالت للاضطراب:
-ده حقيقي، بس معايا أكتر، وأنا حاسة بكده.
نقرت ريم بإصبعيها على الطاولة، ثم تشدقت قائلة:
-ما يمكن يكون اهتمام من نوع تاني.

زوت ما بين حاجبيها مرددة في استهجانٍ:
-نوع تاني، مش فاهمة!
اتسعت بسمتها قليلاً وهي تجيبها:
-حب مثلاً.
جحظت عيناها في صدمةٍ، ما لبث أن تحولت لحالة من الهجوم وهي تصيح في عصبيةٍ:
-لالالا، استحالة، إيه الهبل ده؟ حب إيه؟ مش معقول، مافيش حاجة من دي، أنا مش قادرة أستوعب إن آ...
قاطعتها ريم بتريثٍ:
-اهدي، أنا مقولتش حاجة غلط، وارد يحصل إن الشخص ده يكون بيحبك.
صاحت بنفس الحدةٍ، وقد اِربد وجهها بتعابير غاضبة:.

-أنا محدش بيحبني، ده مجرد اهتمام عادي، ليه بتقولي كده؟
حاولت امتصاص نوبة انفعالها وتثبيطها بإخبارها بهدوءٍ واضح:
-بالراحة يا فيروزة، أنا مقولتش إنك بتحبيه، بس طبيعي إن مشاعرنا تتحرك وتنجذب ناحية حد تاني، ومش شرط الحد ده يبادلنا نفس الشعور، ده توقعي.
ردت عليها تسألها في حدةٍ:
-دكتورة ريم ممكن نتكلم عن حاجة تانية؟ ولا أمشي؟
أشارت لها بيدها قائلة دون أن تتبدل قسماتها الهادئة:
-حاضر..

تركتها للحظات تستعيد انضباط نفسه قبل أن تستطرد مرة أخرى:
-صحيح احنا ناويين نعمل حفلة هنا نحتفل بيها بالمسنين، ونرفه عنهم، إيه رأيك لو تعملي الديكور بتاعها؟
نظرت إليها متسائلة في دهشةٍ:
-أنا؟
أكدت عليها ببساطة:
-أيوه، ليه لأ؟
ظهر التردد على محياها وهي تخبرها:
-بس أنا لسه ببتدي، خبرتي قليلة في تجهيز الحفلات، مافيش داعي، ممكن أبوظ الدنيا.
قالت عن ثقةٍ:.

-بالعكس أنا متوقعة إنك هتعملي أقصى جهدك عشان تنجحي، وده هيساعدك تنطلقي أكتر...
أوشكت على الاحتجاج والرفض؛ لكنها أصرت عليها:
-مش هاقبل بالرفض، يالا منتظرة منك حاجة رقيقة زيك.
لم تنكر أن إحساسًا قويًا بالحماس انتابها، كأن تلك الطبيبة تعرف كيف تعيد إليها ما افتقدته، نظرت إليها في امتنانٍ، وقالت:
-شكرًا يا دكتورة ريم.
بطريقتها الناعمة في الحوار أكدت عليها:.

-لسه فاضل في مشوارنا سوا شوية خطوات، وأنا واثقة إنك هتقدري تتجاوزي أي تجربة...
عمدت إلى بث المزيد من الثقة إليها فأضافت:
-قليل أوي اللي عنده قوتك يا فيروزة، ماتستقليش بده، واوعي تخلي حد يحبطك أو يمنعك عن أحلامك.
هزت رأسها وهي ترد باقتضابٍ:
-حاضر.
منذ اللحظة التي لجأت فيها للعلاج، بدأت فيروزة في ترميم الشروخ العميقة في روحها واحدًا تلو الآخر؛ لكن ظل واحد بعينه يحتاج لمعجزة لمداواته.

بناءً على مكالمة هاتفية منه، جاء على وجه السرعة إلى دكانه ليقابله، والقلق مسيطر عليه. وجود والده كذلك عزز الشعور بالخوف داخله، خشي سراج أن يكون طلبه قد قوبل بالرفض، حبس أنفاسه، واضعًا يده على قلبه –مجازًا- وهو يستمع إلى الشرط الذي أدلت به هاجر، تنفس الصعداء بعد أن عرف ماهيته، وقال مبتسمًا في سرور:
-أنا تحت أمر ست البنات.
علق عليه تميم وهو يقرب كوب شايه من فمه ليرتشف منه:.

-معلش بنتقل عليك، بس ده شرطها.
هتف نافيًا وجود أدنى شكوى بشأن ما تريد:
-يا معلم اللي تؤمر بيه، أنا موافق على طول.
أضاف بدير قائلاً بصوته الرخيم:
-وأنا بقترح تكون الست الحاجة معاك، ويبقى في مكان برا.
هز سراج رأسه موافقًا:
-وماله، شوفوا اللي يريحكم وأنا راضي بيه.
خاطبه تميم بملامح جادة:
-يبقى نخلي المقابلة على بكرة العشا بأمرالله، وأنا هتصل أكد عليك.
ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه سراج الذي هلل في رضا:.

-على بركة الله.
ربت بدير بيده على كتف ضيفه، وقال:
-مش هنعطلك أكتر من كده يا سراج، قوم شوف مصالحك.
رد عليه بنفس التعابير المبتهجة:
-متقولش كده يا حاج، أنا في الخدمة.
منحه ربتة أخرى على كتفه وهو يردد:
-تسلم.
نهض سراج من كرسيه الخشبي، واستأذن بالذهاب:
-سلامي للحاج الكبير.
رد تميم وهو يقوم من مكانه ليودعه:
-الله يسلمك.

ألقى عليهما التحية مجددًا قبل أن يغادر الدكان، تبعه تميم بنظراته حتى استقل سيارته وابتعد عن مرمى بصره، ليقول بعدها في ضيقٍ:
-الواحد مش مصدق إن عمره ضاع على كدبة.
تنهد والده وهو يهون عليه الأمر:
-كله مقدر ومكتوب يا ابني، وده كان نصيبك.
سحب شهيقًا عميقًا ملأ به رئتيه، قبل أن يلفظه بعدها مرددًا:
-الحمدلله.

قصد بدير تغيير مجرى تفكيره لشيء آخر، فاستطرد يخبره بابتسامة ماكرة، وتلك النظرة المتسلية ظاهرة على وجهه:
-عرفت إن أبلتك هتفتح الدكان بتاعها كمان يومين.
جلس تميم على المقعد بعد أن قربه من أبيه، وسأله في لهفة مراهقٍ حديث العهد بالحب:
-إيه ده بجد؟ هي جت هنا؟
كان سعيدًا لنجاحه في صرف أحزانه بالتطرق إلى ذكرها، تأمل ردة فعله المتشوقة، وجاوبه:
-أيوه، عدت عليا النهاردة عشان تعرفني، وتعزمني.

لعن سوء حظه لعدم تواجده معظم اليوم في الدكان بسبب انشغاله في إتمام بعض التوريدات، ومع هذا أخفى استيائه الطفيف ليقول في حماسٍ:
-لازم نوجب معاها يابا، نعملها حاجة محصلتش.
رد عليه قائلاً مع هزة صغيرة من رأسه:
-من الناحية دي متقلقش...
ثم شدد عليه بلهجةٍ غير مازحة:
-بس مش عايزك تظهر في الصورة، أنا هتكفل بكل حاجة، ما إنت فاهم مش عايزين كلام يتنتور على الفاضي يمسها ولا يضايقها.

ورغم عدم اقتناعه إلا أنه قال على مضضٍ:
-ماشي يا حاج، اللي تعوزه...
احتفظت عيناه بتلك الومضة المثيرة وهو يتم جملته:
-المهم هي تكون مبسوطة.

في الشعور بالألم الجميع يتساوى، أما في الفرح فتتباين ردات الفعل! بقلبٍ يدق في ترقبٍ وخوف، تطلع هيثم إلى شاشة التلفاز بعينين تلمعان بعبراتهما السعيدة، حيث أبصر ما ينمو في أحشاء زوجته، بينما نظرت إليه همسة في محبةٍ عظيمة، لم تتوقع أن تنتابه تلك المشاعر الجميلة لمجرد رؤية مبهمة، بدا في أوج سعادته وهو يتابع الحركات غير المفهومة للجنين، لم يحد بنظراته عنه والطبيب يخاطبه:.

-ما شاء الله، أنا شايف كل حاجة تمام، النمو طبيعي، والسائل الأمينوسي كويس.
ردد في سعادةٍ أكبر:
-الحمدلله يا رب.
أخبرهما الطبيب في هدوء وهو يكمل فحصه الروتيني على بطنها المنتفخ بجهاز السونار:
-والعضو الذكري كمان باين أهوو.
اتسعت عينا همسة في ذهول، وسألته بأنفاسٍ مرتبكة:
-هو، ولد؟
أكد عليها بثقةٍ:
-أيوه.
التفتت تنظر إلى زوجها المصدوم لتكرر على مسامعه:
-أنا حامل، في ولد.
ضحك الطبيب قبل أن يؤكد لها مرة أخرى:.

-أيوه يا مدام، ولا إنتو كنتو عايزين بنت؟
تكلم هيثم في فرحةٍ شديدة:
-أي حاجة، أنا راضي، المهم يجي بالسلامة...
احتضن كف زوجته بين راحتيه، وهنأها:
-مبروك يا هموسة.
ردت بوجهٍ مبتسم على الأخير:
-الله يبارك فيك يا حبيبي، إن شاءالله يكون سندك وضهرك.
نهض الطبيب من مقعده المجاور لسريرها الطبي، واتجه إلى الجانب الآخر من الغرفة ليوصيها بنبرة مرتفعة:.

-عايزيك يا مدام الفترة الجاية تهتمي بالأكل الصحي، ويكون فيه حديد وكالسيوم، ده مهم جدًا كل ما اتقدمنا في الحمل.
تلك المرة رد عليه هيثم
-حاضر يا دكتور أنا هتابع معاها.
ابتسم له الطبيب، وحادثه بلطافةٍ:
-وإنت بقى تفكر في اسم حلو للمولود وماتتعبش المدام معاك.
قال وأنظاره بالكامل مسلطة على حبيبته:
-ده أنا هاشيلها على كفوف الراحة.

لم تستطع تأجيل تلك الزيارة لتهنئة ابنتها على تأكيد نبأ حملها في جنين ذكر، وكأنها قد حازت على كأس بطولة دولية، جاءتها آمنة في نفس اليوم بالمساء مع توأمتها وابنة خالهما الصغيرة، مكثن جميعًا في غرفة نومها حول فراشها، قالت فيروزة أولاً وهي تمسح برفقٍ على ذراعها:
-إن شاء الله تبقي أم جميلة لأحلى حزومبل.
نهرتها آمنة في حدةٍ غريبة:
-بس متقوليش كده لأختك، ربنا يكملها اللي فاضل على خير.

مالت فيروزة على شقيقتها لتهمس لها بمزاحٍ:
-أمك من أنصار الذكور ولا إيه؟
أخفت ضحكتها بيدها، وردت بصوتٍ خفيض:
-مش عارفة.
هتفت رقية بمرحٍ وهي تقفز على الفراش:
-أنا عاوزة ألعب بالنونو.
وبختها آمنة هي الأخرى بصرامةٍ:
-بطلي تنطيط يا كوكي، واقعدي، بلاش الخايلة دي.
اعترضت عليها همسة بعبوسٍ صغيرة:
-سبيها يا ماما على راحتها.
قفزت الصغيرة مرة أخرى وهي تسألها:
-هتديني النونو؟
قهقهت ضاحكة وهي ترد:
-هاسيبهولك يا قلبي.

وضعت آمنة قبضتها على ذراع ابنتها تستحثها:
-اسمعي كلام الدكتور أهم حاجة، عايزينك تقوميلنا بالسلامة.
بالطبع لم يكن في مقدورها مجادلتها، فقالت في طاعة:
-حاضر يا ماما.
أمسكت رقية بعباءة عمتها، وطلبت منها وهي تتلوى بجسدها:
-عمتو، عاوزة أروح التويلت؟
نهضت من مكانها لتصحبها وهي ترد:
-تعالي.
جاءتها فرصة على طبقٍ من فضة لتستفرد بتوأمتها، وتسألها عما شغل بالها بشأنها، لهذا لم تضع الوقت، واستطرد قائلة بغموضٍ:.

-بأقولك يا همسة، عاوزاكي تكوني صريحة معايا في حاجة كده.
نظرت لها بغرابة، وأخبرتها في قلقٍ:
-في إيه يا فيرو؟
لعقت شفتيها، ثم سألتها بحذرٍ، وكامل نظراتها المتفرسة عليها:
-محصلش كده في مرة، إن آ، هيثم مد إيده عليكي؟
استنكرت ما قالته بوجهٍ ممتقع:
-إيه الكلام ده؟
ألحت عليها بلهجة جادة للغاية:
-معلش ريحيني.
رغم الحيرة المسيطرة عليها لتفكيرها في ذلك إلا أنها أكدت عليها بما لا يدع أدنى مجالٍ للشك في عقلها:.

-أبدًا والله، بالعكس ده أنا مبحسش بالأمان غير وأنا معاه.
في تلك الأثناء كان هيثم قد انتهى لتوه من إحضار المشروبات لضيوفه، استرق السمع دون قصدٍ منه للحوار الصادم بين الشقيقتين، غامت ملامحه كليًا، وشعر بالغضب يتصاعد في صدره لتشكيكها المتكرر في معاملته لزوجته. زفر الهواء ببطءٍ ليكبح غيظه، أراحه إلى حد كبير ردود همسة عليها، فهدأ ذلك من الاحتقان المتزايد بداخله، سمعها تضيف أيضًا:.

-وعلى فكرة أي حاجة عملها زمان قبل ما نتجوز مش فارقة معايا حتى أعرفها، يهمني هو بقى إيه دلوقتي.
قبل أن تلعب برأسها قرر هيثم الدخول وهو ينظر إلى فيروزة في حدةٍ، رحب بها بسخافةٍ، وبتعابيرٍ عبرت عن انزعاجه منها:
-منورة يا أبلة.
بادلته نفس الرد السمج:
-أهلاً بيك يا جوز أختي.

سحابة من الدخان الكثيف انطلقت دفعة واحدة من المبخرة الكبيرة الموضوعة أمامه بعد أن وضع بها حفنة من البخور، ولسانه ينطق بعبارات متلاحقة بصوتٍ خافت للغاية. تراجع فضل برأسه للخلف، وسعل باختناقٍ لعدة مرات، قبل أن يطلب من الرجل –الخمسيني- الجالس إلى جواره على المصطبة العريضة:
-كفاية يا شيخ، هاموت.

ضم الرجل طرفي قفطانه الأسود ليخفي بدلته السوداء القديمة، وتطلع إليه من طرف عينه بنظرة ساخطة، ثم ألقى المزيد في المبخرة، كأنما لا يعبأ برغبته، وبيده الأخرى أدار حبات مسبحته مغمغمًا بكلماتٍ غير مفهومة. تنحنح فضل بصوتٍ متحشرج ليجلي أحبال صوته، وعلى غير استساغة منه أخرج رزمة من النقود، ليناوله إياه، وهو يقول بغير رضا:
-خد يا شيخ.

بمجرد أن أخذها بدأ في عدها سريعًا، ثم حدجه بنظرة أشد نقمًا على وجوده وهو يخاطبه:
-دول ألف جنية بس!
بلزاجته غير المقبولة علق عليه قائلاً:
-حلوين يا شيخ، لفهم أوام بدل ما يتقل بركتهم.
ألقى بالرزمة في حجره، وهدر به في عصبيةٍ:
-إنت بتستعبط يا جدع إنت، دول حق الأسياد، فين أجرتي أنا؟
احتج عليه فضل بوجهٍ منقلب:
-ما إنت طالب كتير يا شيخ، هاجيبلك منين؟
أشاح الرجل بوجهه الحانق عنه، وهدر في غيظٍ:.

-خلاص بناقص منه ده عمل، إنت اللي عايزني مش أنا.
دمدم فضل بتزمتٍ وهو يخرج من جيب قميصه بعض الأوراق النقدية:
-خلاص خد ال 500 دول كمان.
خطفهم الرجل من يده، ونعته علنًا:
-أعوذ بالله منك، بخيل.
اشتاط فضل من تهكمه الصريح عليه، وقال بتعابير مستاءة للغاية:
-ليه الغلط بس يا شيخ؟!
نظر له شزرًا قبل أن يرد:
-هو إنت خليت فيها شيخ؟
أشار فضل بيده وهو يخبره:
-طب انجز كده، واعملنا عمل يطلع من نافوخها.

بعد زفيرٍ سريع التفت ينظر إليه متسائلاً:
-جبت حاجة من قطرها؟
برزت ابتسامة عريضة على محياه وهو يرد:
-أيوه، وصورتها كمان.
هز الرجل رأسه متمتمًا:
-حلو..
دس فضل يده في جيب سرواله القماشي ليخرج لفافة بلاستيكية سوداء، أعطاه للرجل الذي فتحه لينظر بداخله، تلمس قماش الدانتيل للثوب الداخلي بيده وهو يسأله:
-كانت لبساه؟
حك مؤخرة عنقه قائلاً بنظرات استغراب:
-مش عارف، هي تفرق يعني؟

اختلج وجه الرجل بعلامات السخط، وقال في قنوط:
-أه طبعًا، أومال هيجيب مفعول إزاي؟!
فكر فضل قليلاً، ثم أخبره بعد نحنحة سريعة:
-هو أنا لاقيته في الدولاب.
تفحص الرجل اللباس التحتي بعينين كالمجهر قبل أن يتكلم:
-شكله مش ملبوس.
بنظرة عبثية خبيثة سأله فضل بوقاحةٍ:
-هو إنت خبرة في الحاجات دي يا شيخ ولا إيه؟
رمقه بتلك النظرة الدونية وهو يرد:
-لأ بيبان عليه يا فالح.
ضحك فضل في لؤمٍ وهو يستظرف:
-خبرة إنت يا شيخ.

لم يعلق عليه الرجل، واكتفى بمنحه نظرة احتقارية، قبل أن يعاود التحديق في الصورة الفوتوغرافية ليضيف بعدها:
-أنا هعملك على الصورة، وأدفنه في قبر لسه مفتوح.
توهجت عيناه بشراسةٍ وهو يعقب في انتشاءٍ:
-حلو الكلام، بس ده هيخلص امتى؟
فرك الرجل ذقنه الطويلة كأنما يهذبها، ثم قال:
-هكلمك، بس الأسياد هيحتاجوا آ...
قاطعه قبل أن ينهي عبارته محتجًا في تنمرٍ صارخ:
-هما أسيادك دول مفاجيع ولا إيه؟

زجره الرجل صائحًا في عصبية رافضة لتطاوله غير المقبول:
-مش ليا، للأسياد يا ابن الأصول!
نهض فضل من مقعده غير المريح، وأخبره ببرود سمج وهو يلوح بيده في الهواء:
-أما أشوفك خلصت العمل نبقى نراضي الأسياد.
سدد له الرجل نظرة حاقدة للغاية ظلت تتبعه وهو يتحرك نحو باب غرفته المعتمة قبل أن يسبه في غلٍ:
-واحد بخيل وجعان...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة