قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والخمسون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والخمسون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والخمسون

هل يُجدي الندم بعد زلات الخطأ؟ ذلك السؤال ظل يتردد في رأسها بعد أن تداركت حجم الخطر الذي أوقعت نفسها فيه، بإصرارها غير الموفق على حضور مثل تلك النزاعات، ظنًا منها أنها قادرة على المناطحة كالرجال، دون أن يُستخف بها، وتُعامل كفريسةٍ سهلة المنال، فهي ليست في حضرة واحدٍ من الأشراف، وإنما تتعامل مع شرذمة من الأشرار. الأهم من ذلك، والذي استحوذ على تفكيرها لحظيًا قبل أن تُصدم بالمبلغ، إن عفا تميم عن ذلك الوغد، وأغفل عن وقاحته في الرد، فهل يغفر له تلميحاته غير البريئة نحوها؟ بالطبع لا، لن يسمح أبدًا بتمرير الأمر دون عقابٍ مؤلم.

خرجت من شرودها السريع، وتجمدت في مكانها مذهولة أمام الرقم الضخم الذي طلبه، بينما هدر تميم في استنكارٍ غاضب:
-كام؟!
تولى شيكاغو لكز حُسني في كتفه محذرًا باستهزاء:
-اظبط نفسك، إنت شطحت بخيالك.
بينما صاح خليل محتجًا في حنقٍ:
-دي، مش قي، مة الوصولات الفع، لية، آخرهم كان 50 ألف.
نفض حُسني الأذرع الممسكة به، وراح يتجول بنظراته الواثقة على الأوجه المتطلعة إليه، قبل أن يركزها على خليل ليخاطبه بنبرة ذات مغزى:.

-هي دي قيمتهم دلوقتي، ولو مش عاجبك هفتح بؤي وآ...
قاطعه تميم في التو متسائلاً:
-وبعد ما ندفعهم هتعمل إيه؟
التفت ناحيته ليجاوب بابتسامة خبيثة:
-ولا كأنكم تعرفوني، هنسى إن ليا بنت أخت.
استجمعت فيروزة شتاتها بعد الصدمة الفورية لتقول بشيءٍ من المنطقية:
-ادينا وقت نحضرلك الفلوس، هما مش جاهزين معانا.
-هأو، على مين يا حلوة.
النظرة الشرسة المنتفضة في عينيه مع نبرته القوية المحذرة جعلتها تجفل حين قال:.

-احفظ أدبك في الكلام!
رفع حُسني يده معتذرًا بسخرية:
-لا مؤاخذة..
ثم حملق في وجه تميم متابعًا كلامه في صيغة تساؤلية:
-وإيه اللي يضمنلي ماترجعوش في كلامكم؟
وقبل أن يحصل على الجواب، اتجه بناظريه إلى فيروزة كأنما يقصدها وهو يقول:
-أصله شكله اتفاق حريم.
احتدت نظراتها من وقاحته؛ لكن تميم بادر بإخراسه وإيقافه عند حده بقوله الصارم المزمجر:
-حريمنا ب 100 راجل، وطالما ست الكل قالت كلمة، يبقى تبلع لسانك وتخرس.

كذلك تدخل ناجي منذرًا إياه:
-بعد إذنك يا معلم تميم، لو لسانه طال تاني بحاجة معجبتنيش هاقطعه.
لم يخفِ حُسني بسمته الهازئة من استعراض العضلات المفتولة، والتراشق بالألفاظ الحادث أمامه، فقال في لمحةٍ من السخرية:
-ماشي يا فتوات الحارة، قدامكم أسبوع، جهزوا الفلوس، وأنا مستني.
إشارة من يد تميم ل فيروزة تأمرها بالتحرك دون أن ينطق، فامتثلت له بإيماءةٍ من رأسها، وبدأت بالسير معه؛ لكن استوقفها صوت حُسني الصائح:.

-بس قبل ما أمشي عاوز عشراية حق بهدلتي هنا...
استدارت تنظر إليه، فوجدته يستغل الفرصة ليقول مهددًا بابتسامةٍ وضيعة:
-ولا يرضيكي يا قطة أطلع من هنا أعمل محضر في خالك؟
اختلج الغضب قسماتها، وصاحت تنعته في غلٍ:
-إنت واحد حقير!
خرج تميم عن طور هدوئه الزائف، واندفع مُطبقًا على عنقه قاصدًا خنقه وهو يكز على أسنانه مدمدمًا:
-مش قولتلك تخرس وتحفظ أدبك؟

لم يتحرك أي من الرجال لمنعه من إيذائه، مما جعل الخوف يدب في قلب فيروزة، أحست بالخطر محدقًا به، فهرولت ناحيته ترجوه:
-خلاص يا تميم، سيبه علشاني.
اللعب على أوتاره الحساسة، وتحفيز الكامن في مشاعره، خلال المواقف المتأزمة، لن يكون مفيدًا الآن، توسلته مجددًا في خوفٍ متضاعف:
-مايستهلش إنك تودي نفسك في داهية، سيبه، لو سمحت.
لمعت عينا حُسني بنشوة الانتصار، وقال بصوتٍ مختنق:
-اسمع كلامها، مش هينفعك موتي.

رضخ مضطرًا، ولم يسكن ما اشتعل بداخله من نيران الغضب، حرره، وتراجع بعد أن أعطى نظرة صارمة ل فيروزة لتبتعد عن محيط ذلك اللعين، فاستجابت دون كلام، وأبقت على مسافة آمنة بينها وبينه حُسني الذي مسح بلسانه أسنانه الصفراء في فكه العلوي، وعلق ببرودٍ مستفز:
-أنا نيلة النيلة، بس عاوز اللي يسكتني، عشان زعلي مش حلو.

وقعت عيناه مصادفةً على السوار الذهبي الذي برز من أسفل المنديل الملفوف حول معصم فيروزة، ظهر وهجه المغري في حدقتيه الطامعتين، واستطرد يطلب منها بوقاحةٍ فجة:
-هاتي الإسورة دي وأبقى كده مرضي.
تلقائيًا التفت يدها على السوار لتحميه، وضمت كفيها معًا إلى صدرها، كأنما تخشى فقدانه، بينما هدر به تميم مرة ثانية في غضبٍ أهوج:
-إنت اتجننت؟
رد مبررًا وهو يتراجع خطوتين للخلف لينأى من بطشه المهدد:.

-ده عرض وطلب، عشان أسهلها عليكم.
زأر به تميم في نبرة خشنة قاسية:
-هتاخد اللي عاوزه على الجزمة...
ثم أشار إلى رجاله آمرًا:
-طرأوه من هنا.
ردد حمص بتحفزٍ وهو يشمر عن ساعديه لينقض عليه:
-تمام يا ريسنا.
في لمح البصر، كان شيكاغو ممسكًا بذراعه الآخر يكبله، ومن الخلف انضم إليهما ناجي، حاول حُسني الفكاك، وصاح في تذمرٍ محتج:
-بالراحة عليا، أقبض همشي، غير كده هستموتلكم فيها.

الأمر لم يكن من قبيل الصدفة أن يحمل ذلك المبلغ في جيبه، أو يزيد قليلاً؛ لكنه أحضر معه ما قد يلزم استخدامه، إن حدث طارئ ما، وتأزمت الأوضاع في وقت العزاء، لذلك لم يفكر تميم مرتين وهو يخرج من جيبه رزمة من النقود المطوية، ألقاها عند قدمي حُسني وهو يصيح به بصوتٍ جهوريٍ غاضب، للغاية:
-خدهم، وغور من هنا.

التواجد في هذا الخلاء المقفر، ليس بالطبع المكان المناسب للعتاب، أو حتى إبداء الاعتذار، لن تساعد الأجواء على تحقيق ذلك. حاولت فيروزة أن تبدو لطيفة، أن تبدد ما عمَّ من توترٍ ومشاعر حاقدة، دنت من مقدمة السيارة، تلك التي يجلس عليها تميم بعد أن أرسل حُسني مع رجاله بعيدًا عن هنا، لمحته من زاويتها فرأت الغضب ما زال مستبدًا بملامحه، بلعت ريقها، وضمت شفتيها معًا، وهي تردد بصوتٍ يرن في عقلها:.

-ربنا يستر، وميكونش لسه مضايق.
أطلت فيروزة برأسها من النافذة المفتوحة على خالها الجالس بالمقدمة، وهمست إليه:
-هتكلم مع تميم دقيقة، وهنركب.

منحها الموافقة، فاستقامت في وقفتها، وبدأت تشحذ قواها لتبدو متماسكة، ثابتة الانفعالات، انتفضت حين رأته يستدير لينظر إليها في وجومٍ، قبل أن يبتعد عن السيارة، ويمشي إلى الأمام بضعة أمتار، ترددت لحظيًا في اللحاق به؛ لكن لا مفر من المواجهة، تنفست بعمقٍ قبل أن تستجمع نفسها لتدنو من البقعة الواقف بها. بلغته، وصارت قبالته، توقعت أن ينظر ناحيتها، أن يمنحها الاهتمام الذي تحبه منه؛ لكن لدهشتها صار يحيد بعينيه بعيدًا عنها، كأنه ينبذ اقترابها، تأملت تعابيره، فوجدتها قاسية، صلبة كالحجر، قاومت الخوف الذي اعتراها لهنيهة من رؤيته على تلك الحال، وسألته بلطافةٍ:.

-إنت زعلان مني؟
نفخ في سأمٍ، ورد متسائلاً دون أن يمنَّ عليها بنظرة واحدة:
-تفتكري إيه؟
همَّت بالرد والتبرير:
-أنا...
لكنه قاطعها بغير تساهل:
-راجعي نفسك، وبعدين قرري.

أدركت من تلميحه المبطن خطئها الفادح في عدم الوثوق به أولاً، وثانيًا عدم توفيقها في انتقاء المناسب من العبارات حين تحدثت معه، هناك سمات مختلطة من العنجهية، التعالي، وربما عدم التقدير وهي تفرض عليه أرائها، لم تضع في الاعتبار أنها كانت تحادثه –أمام رجاله- بالمنطق أو التروي، وإنما تكلمت معه بلسانٍ شبه لاذع، قد يكون جرحه في بعض المواضع، وقد يكون احتوى على القليل من الاحترام لشخصه المهيب، ومع هذا لم يكن إلا صبورًا حليمًا معها. شعرت بالخزي من نفسها، وتحركت نحو مرمى بصره، وقالت في خجلٍ حرج:.

-إنت عارف إني مكانش ينفع أسيب خالي يروح لوحده، وهو في ظروفه دي، وأكيد مقصدش حاجة من اللي حصلت جوا، أنا برضوه كنت بحاول أمنع كارثة من إنها تحصل.
جمد نظراته الخالية من أدنى ذرة تعاطفٍ معها، قبل أن يسألها:
-وأنا قصرت مع خالك؟
ضغطت على شفتيها للحظةٍ قبل أن تهز رأسها نافية وهي تجاوبه:
-لأ.

باعد ناظريه عنها، وتطلع إلى الأفق بنظراتٍ غائمة، غير مسترخية، انزعجت لتجاهله المتعمد، وأحست بالضيق يضرب صدرها، تأملت ملامحه من جديد، فرأت في وجهه التواءة زاوية فمه في سخطٍ صريح، حاولت أن تبدي ندمها، فاعتذرت عن رعونتها قائلة:
-أنا أسفة.

الاعتذار المجرد من أدنى إحساسٍ بالمسئولية، أو إدراك فعلي للخطأ في تقدير مدى خطورة بعض المواقف من عدمها لم يكن مقبولاً له، استمر تميم على حالته المستاءة، واستدار لينظر إليها في غير رضا وهو يعنفها:
-ماينفعش كل حاجة تاخديها عِند كده، لمجرد إنك عايزة تثبتي موقف.
لم تنجح نظرته القاسية في منعها من التبرير بإصرارٍ:
-ده غصب عني، أنا متعودتش حد يشيل المسئولية غيري، فصعب أتغير بين يوم وليلة.

عقب في لهجةٍ صلبة يشوبها العتاب أيضًا:
-بس سهل تعتمدي عليا، توثقي فيا، لكن اللي بشوفه منك غير كده، وده مش حلو.
استحقت ذلك التقريع، وأحنت رأسها في حرجٍ وهي تخاطبه:
-أنا فعلاً اتصرفت باستعجال، و...
كأنه لم يسمع ما تقول، فقاطعها مجددًا وهو يهتف بنبرته الغاضبة رغم خفوتها:
-إنتي يبقالك الكلام لو قصرت معاكي في حاجة.
رسمت ابتسامة مهذبة على شفتيها وهي تواصل الاعتذار بوداعةٍ:.

-خلاص، حقك عليا، أنا غلطانة، ماتزعلش بقى.
تمهل في رده عليها، فتحرقت شوقًا للتأكد من عفوه عن زلتها؛ لكنه خيب رجائها، وأخبرها بعد صمتٍ قليل في فتور:
-ربنا يسهل.
هبَّ بها الضيق، فصاحت في تشنجٍ:
-لو سمحت حاول تفهمني، قدر موقفي.
انفعالها عليه بعد اعتذارها منه لم يكن في محله، أو حتى موفقًا، بل إنه زاد من الطين بلة، فراح يزيد من تقريعه لها:.

-موقفك؟ ده على أساس إنك لما تظهري قلة الذوق، وتركبي دماغك وتمشي اللي فيها يبقى 100 100 وزي الفل؟!
تدلى فكها السفلي وهي تطالعه بتلك النظرة الآسفة، حدجها بنظرة أخرى أشد جفاءً وهو ينهي عتابه اللاذع:
-راجعي نفسك قبل ما تبرري حاجة.
استدار تاركًا إياها في مكانها؛ لكن صوته تردد آمرًا:
-ويالا بينا، ولا عاجبك الأعدة هنا؟
-حاضر.

قالتها بصوتٍ خفيض، وهي تطأطأ رأسها في ندمٍ مليء بالإحباط، قبل أن تقوم برفع رأسها لتعود إلى السيارة، وشعورها بالضيق يتعاظم بداخلها.

حجرة الصالون تحولت إلى ما يشبه حلقة اجتماعات مغلقة، شديدة الأهمية، تُطرح فيها كافة الاقتراحات، لاختيار المناسب، وتنفيذه في النهاية. كان لابد من تواجد آمنة خلال تلك الجلسة، ومشاركتها في الرأي، إذ ربما تخرج بشيءٍ مفيد. كانت فناجين القهوة ممتلئة إلى ما قبل المنتصف، ومع هذا نهضت فيروزة وأحضرت العصير البارد ليشربه الجميع. أصغت إلى والدتها حين تساءلت في حيرة وهي تضع أمام كل فردٍ كأسه:.

-هنتصرف في الفلوس إزاي؟ ده مبلغ كبير!
نظر إليها خليل في عجزٍ وهو يقول:
-مش ع، ارف، بس مش مع، ايا يغطي.
ظل تميم مشدودًا في جلسته على الأريكة، متجاهلاً فيروزة، لا ينظر نحوها، يتابع ما يدور أن يعلق على كلامه، ومع هذا عقب على خالها ناطقًا بهدوئه الجاد:
-ماتشلش هم يا عم خليل، أنا موجود.
التفت الأخير ناحيته ليهتف في حرجٍ:
-وإنت ذنبك إيه؟
أضافت عليه آمنة بنفس التعبير المتحرج:.

-احنا شاغلينك يا ابني بمشاكلنا، وإنت مش ناقص.
دون أن يبتسم قال:
-وأنا مش غريب.
ردت آمنة في استحسانٍ شديد:
-أكيد، ده إنت سندنا بعد ربنا سبحانه وتعالى.
استقرت فيروزة في مقعدها المقابل ل تميم، وراحت تكلمه في جديةٍ، وكامل نظراتها عليه:
-بس ماينفعش نورطك في حاجة ملكش يد فيها، كفاية الأذى اللي كان هيحصلك بسببنا.
توقعت أن ينظر إليها باهتمامٍ، لكنه بدا غير مكترث بالتطلع إليها، وقال بصوتٍ جاف:
-أنا مش ممانع.

أصابها المزيد من الضيق لأسلوبه المتجافي، وأحست باعتصارة مؤلمة تعصف بقلبها، لم تخطئ للدرجة التي تستحق بها معاملة كتلك! تراجعت عن شرودها اللحظي لتتنبه إلى رقية التي اقتحمت الغرفة، لتقفز في حِجر تميم، وتتعلق بعنقه بذراعيها الرفيعين متوسلة إياه:
-ماتخلهوش ياخدني يا عمو.
تذمرت آمنة لوجودها، وقامت ناهضة لتوبخها:
-إيه اللي جابك يا رقية؟ مش احنا قولنا بنتكلم كلام كبار؟ عيب نسمعه؟

تشبثت أكثر ب تميم، والتصقت به رافضة الابتعاد عنه، دفنت رأسها في كتفه، وقالت ببراءة:
-أنا مش عاوزة أمشي من هنا.
مسح تميم برفقٍ على ظهرها، وهمس إليها مؤكدًا:
-مش هايحصل، وده وعد مني.
أبعدت رأسها عن كتفه لتنظر إلى وجهه وهي تبتسم، ثم قالت في مرحٍ قبل أن تعطيه حضنًا آخرًا:
-أنا بحبك.
بالكاد نجحت عمتها في انتشالها من حضنه، وسحبها بعيدًا عنه، أمسكت بها من رسغها، وجرتها خلفها قائلة بقسماتٍ شبه منزعجة:.

-تعالي معايا.
رغم مغادرتها للغرفة، إلا أن أنظار تميم بقيت معلقة بطيفها الراحل، ثارت بداخله رغبة مُلحة في الدفاع باستماتةٍ عنها، وعدم السماح مُطلقًا بالتفريط فيها. عاد الحوار إلى مساره مرة ثانية مع استئناف خليل للحديث بترديده:
-أنا ك، نت محوش قرش، ين على جمب، يدوب يجيبوا 100 ألف.
استطردت فيروزة مضيفة بلعثمةٍ حرجة:
-وأنا معايا فلوس ورثي من آ...

حثتها حواسها على النظر إلى وجه تميم في تلك اللحظة، فأبصرته متحفزًا، متقلص العضلات، لا ينظر ناحيتها، فبترت كلامها، وصححت من جملتها:
-قصدي الميراث اللي خدته، حوالي 150 ألف.
علق خليل بعد حسبةٍ سريعة:
-ك، ده نص الم، بلغ.
تساءلت آمنة وهي تستلقي في مكانها مرة أخرى:
-هندبر الباقي منين؟
اقترحت فيروزة في صوتٍ جاد، ونظراتها تزوغ أحيانًا تجاه تميم، علّها تجده يختلس النظرات ناحيتها:
-ممكن نكمله لو بعنا حتة الأرض.

ردت عليها والدتها وهي تسوي مقدمة حجاب رأسها بيدها:
-بس دي صعب نلاقيلها مشتري دلوقتي بسعر مناسب.
تكلم تميم بمنطقيةٍ، وعيناه تنظران إلى خليل:
-فعلاً، ولو اتباعت بيع المضطر هتخسروا فيها كتير.

ما هذا الشعور الذي يجتاحها بالاختناق وهي يتم تجاهلها عن عمدٍ من قبله؟ ثقلت أنفاسها، وبدأت تعابيرها في الانكماش تأثرًا للأمر، لقد نجح حقًا في إزعاجها بإظهار عدم مبالاته بشأنه، بل إنها تكاد تصل للجنون إن استمر على هذا المنوال. تركزت عينا فيروزة عليه في غيظٍ وهو يهتف:
-في اقتراح عندي، ما تاخدوا الفلوس مني على سبيل السلف، بحيث ننجز في الوقت.

انفجرت فيه بكل ما يعتريها من مشاعر حانقة، فخرج صوتها متعصبًا بشكلٍ يدعو للتعجب:
-لأ طبعًا، نص مليون إيه اللي سلف؟!
اندهش تميم لانفعالها الغريب، ونظر إليها بقليلٍ من الحدية، ثم علق بتريثٍ:
-ما إنتي معاكي نص المبلغ، أنا هكمل بالباقي، دي رقية غالية عندي زي ما غالية عندكم.
تحرج خليل من مساعدته السخية، وأردف معترضًا عليه:
-والله يا ابني...
رفع كفه مقاطعًا في هدوءٍ مُصر:
-مافيش جدال في الحتة دي يا عم خليل.

طرحت فيروزة مشاعرها الناقمة جانبًا، وبدأت تتحدث في عقلانية، إليه بالأَخَص:
-ممكن نوافق بس بشرط، ده بعد إذنك يا خالي.
نجحت في اجتذاب نظراته إليها، وشعرت بالسرور يتسلل إليها لأنها ظفرت بانتصارٍ صغير، أخفت ابتسامتها السعيدة، وحافظت على جدية ملامحها وهو يسألها:
-إيه شرطك؟
حمحمت قائلة على مهلٍ وهي ترمش بعينيها:
-أنا ممكن أديله فلوس المهر، ويعتبروا دين علينا نسددهولك.

توقعت أن ينزعج للاقتراح، أن تتبدل تعابيره لشيء مغاير غير ملامح الصخر والوجوم؛ لكنه من جديد خالف ما كان متوقعًا بترحيبه:
-دي فلوسك وإنتي حرة فيها.
ردت عليه بحديةٍ؛ كأنما تصحح له لتغيظه فتذيب الجليد المغلف لوجهه:
-بس دي مش فلوسي، دي فلوسك إنت.
كان أكثر برودة مما مضى، وقال بترفعٍ:
-المهر مابيتردش يا أبلة طالما هنكمل الجوازة، إلا لو كنتي هتنهيها.

فزع قلبها، وانعكس هذا على الشحوب المريب الذي اجتاح بشرتها، فهتفت مستنكرة بشدة:
-أنا مقولتش كده.
أراح ظهره للخلف، وتكلم بنظرة قرأت فيها الجفاء:
-براحتك يا أبلة.
طريقة تلفظه بلقبها الذي اعتادت منه التدليل كان مختلفًا، يميل إلى الرسمية والجمود، لم تستطع تحمل المزيد من هذا الأسلوب، فاض بها الكيل، وانهار قناع جمودها، لذا كالطفل الصغير المتذمر، صاحت تعارضه وهي تلوي فمها:
-خلاص نبيع أي حاجة عندنا.

سألها مستحضرًا المنطق في حل الأزمة:
-وعادي تخسروا ألوفات، وترموها كده؟ ده مش كلام ناس عاقلة وبتفكر.
عاندته بتبرمٍ طفولي:
-ماهو يا تقبل إنهم يكونوا دين، يا نلغي الاقتراح.
ثم رمقته بنظرة مليئة بالإصرار، فما كان منه إلا أن قال ببرودٍ أكبر استثار بقايا هدوئها:
-اللي إنتي عاوزاه يا أبلة.

كانت كالترس الذي يدور في الفراغ، وهي تحاول استمالته إليها، بعد فشلٍ ذريع في جذبه لتبادل أطراف الحديث معها، فور أن انتهوا من تقرير مصير الأموال المدفوعة للمقيت حُسني. وقفت فيروزة مع تميم عند عتبة باب الشقة ترجوه بنعومةٍ ولطف:
-خليك معانا شوية، منها ترتاح، وتاكل حاجة، ده إنت من الصبح دايخ ويانا من هنا لهناك، والأكل يدوب بيجهز.

قابل دلالها المستحب إليه بجمودٍ عجيب، فقال بنبرة ساد فيها طابع الرسمية:
-مالوش لزوم يا أبلة.
ابتسمت قائلة بإصرارٍ وهي تنظر إليه ملء عينيها:
-احنا مش هناخد وقت في تجهيز السفرة، دول عشر دقايق بالكتير.
أولى وجهه شطر السلم مقتضبًا في الكلام معها:
-شبعان...
أوغر صدرها بعزوفه الصريح عنها، وساد في ملامحها تعبيرًا حزينًا، زاد وضوحًا مع ابتعاده وهو يخبرها:.

-بيتهيألي مافيش حد هيضايقكم، وعمومًا أنا هسيب حد من طرفي قريب من البيت عشان لو في حاجة جدت.
خرجت نبرتها راجية مستعطفة إلى حدٍ كبير وهي تطلب منه:
-طب خليك معايا أنا شوية.
أحست بغصةٍ تنتشر في حلقها، وبالوحَشة تعصف في كيانها حين رفض بجفاءٍ:
-مش عاوز.
كسا العبوس كل وجهها، وتقوست شفتاها للأسفل في ضيقٍ بائن، لم ينظر ناحيتها وهو يودعها بنفس اللهجة الرسمية:
-سلام يا، أبلة.

تأملت حالها بأسى، ما هذه الكآبة التي حلت بها لابتعاده الغاشم، اندفعت مقبلة عليه على بسّطة السلم، وسألته بصوتٍ مهموم:
-أبلة! هو إنت لسه زعلان مني؟
هبط الدرجات دون أن ينظر إليها، وكلمها في غير تعاطفٍ:
-خدي بالك من نفسك، تصبحي على خير.
نادته بصوتٍ مختنق وقد استندت بقبضتيها على حافة الدرابزين:
- تميم! استنى!

ندائها الناعم المحمل بالندم هز كيانه، جعل كامله يرتج؛ لكنه تسلح بجموده الزائف، وأطال في قساوته مودعًا إياها من جديد:
-سلام عليكم.

خشيت أن يكون بانسحابه الغريب على وشك هجرانها، والانزلاق من بين أصابعها، بل إنها توهمت أنه قد يعيد التفكير في مسألة ارتباطهما بشكلٍ جدي؛ كان ذلك جليًا عليه: في تصرفاته، في نبراته، في نظراته، وحتى في ملامحه. انقبض قلبها للفكرة، وهاجت مشاعرها السلبية وتفشت كالوباء في كل خلية حية تنبض بداخلها، أحست باضطراب أنفاسها، بثقلٍ يجثم على صدرها، تراجعت مبتعدة عن السلم وهي تردد لنفسها في توجسٍ حقيقي:.

-يا ربي، هو أنا عكيت الدنيا أوي كده...؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة