قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والخمسون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والخمسون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والخمسون

الجانب الآخر غير المعروف عنه، وتحديدًا إليها، كان يسود في التور، حين تبلغ قسوته منتهاها، وقت تعرض الأقرب، والأغلى إلى أزمةٍ ما. كان من التعقل بحيث لم يتصرف بغير تخطيطٍ أو تفكير، ادعى تصديقه لهذا الكذوب الطامع، وانطلاء خدعة اكتفائه بمبلغ مالي ضخم، فور أن يتلقاه، نظير بضعة إيصالات لا تستحق القلق لأجلها. أراده أن يقع في فخ الحيلة، أن يصدق بأنه بمقدوره الاحتيال على غيره، لتقوده قدماه إلى حتفه، ونهاية مصيره المغلف بالطمع.

صدَّقَ تميم -بسذاجة مفتعلة، وحماقة زائفة- ما قاله حُسني خلال ابتزازه خال فيروزة، وأكد على كونه متهورًا قليل الحيلة، لن يستطيع صده، في حين أنه كان يجهز له فخًا محكمًا للتخلص منه، دون أي ريبة. ما كاد يفسد الأمر هو مجيء فيروزة ومحاولتها التفاوض مع حقيرٍ مثله، لن يكتفي بما يأخذه مُطلقًا، ففور أن تنفذ النقود من جيبه، سيعاود الكرَّة، ويطلب الأموال، بأي حيلة كانت مشروعة أم لا. تجاوز عن عصبيتها وانفعالها الزائد أمام رجاله ليمسك أعصابه، ويتصرف بحنكة، الأمر يدعو للتعامل بعقلانية ليحدث المراد في النهاية.

في اللحظة التي ألقى فيها رزمة النقود عند قدميه خلال تواجدهم بهذا المكان المهجور، كان ناجي يقف من خلف حُسني، ولديه قطعة في ورقة مفضضة من (الحشيش)، دسها في جيبه دون أن يشعر، مستغلاً التهائه بجمع المال، بعدئذ جذبه بصحبة حمص و شيكاغو إلى الخارج، ثم استقل به سيارته إلى أقرب موقفٍ لنقل المواطنين بالمواصلات العامة، وهناك جاءت المهمة التالية لرجليه، بمراقبة ذلك الوغد دون أن يشعر بهما، ريثما يتم التقدم ببلاغٍ يفيد بقيام أحدهم بالترويج وبيع المخدرات عن طريق تلك المنطقة النائية، مستغلاً غفلة رجال الأمن عن معرفة هذا الأمر الخطير الذي يدور في الأرجاء.

ألا يعود فارغ اليدين كانا من أقصى طموحه لهذا اليوم، شعر حُسني بالانتشاء يغمره من رأسه لأخمص قدميه، وجيبه مملوءٍ بمالٍ يكفيه لعدة أيامٍ، قبل أن يحصل على جائزته الكبرى. جالت في رأسه عشرات الأفكار الحماسية عما يمكن أن يفعله، وراح يسرح في خيالٍ متخم بالأحلام المبهجة. خرج من شروده الممتع على لكزةٍ في كتفه أعادته إلى أرض الواقع المزعج، نظر إلى جانبه فوجد أحدهم يعطيه مالاً ويطلب منه:.

-قول للسواق اتنين ورا.
نظر له بوجهٍ منقلب، وأخذ النقود ليعطيها لمن يجلس في الأمام مرددًا:
-اتنين ورا يا أخ.
نظرة مشمئزة صدحت على وجهه وهو يرى من يجلس حوله، ثم استطرد مرددًا لنفسه بنحنحةٍ خفيفة:
-كفاية ضنك بقى.
استمر في مخاطبة نفسي بآمالٍ واعدة:
-الواحد محتاج يشبرق على نفسه، ويسيبه من العالم الفقر دي اللي تجيب ورا.

عاد للتحليق في فضاءاته الواهية، فلم ينتبه للحديث الجانبي بين السائق ورفيقيه الجالسين في المقدمة، فقال الأول وهو يمعن النظر في أفراد الأمن الظاهرين على مدى البصر:
-دي حملة ولا إيه؟
قذف السائق سيجارته شبه المنتهية من نافذته، وعلق في تأففٍ:
-ربنا يستر، الظابط اللي واقف فيها من النوع الرزل، وياما كدر ناس.
رد عليه الأول محذرًا:
-طب قول لحبايبنا في الموقف اللي جايين على نفس الخط ياخدوا بالهم.

هز رأسه مرددًا بجديةٍ معكوسة على ملامحه قبل نبرته:
-ما أنا هعمل كده لما نعدي منه.
صوتٌ جهوري صدح في الفراغ الساكن آمرًا:
-اركن الميكروباص ده على جمب.
حمحم السائق قائلاً في طاعة واضحة وهو يخفض من سرعة السيارة:
-حاضر يا باشا.

قام بركن السيارة بمحاذاة الرصيف، وبدأ في تلقي أوامر الضابط التالية، من تفتيش المركبة بدقة، الإطلاع على هوية من يستقلونها، بالنسبة لمعظم الركاب كان الأمر روتينيًا ومعتادًا القيام بمثل تلك الحملات الأمنية، لهذا لم يرتابوا فيما يحدث.
نظرة مدققة ألقاها الضابط على الأوجه المتفاوتة في ردات فعلها تجاهه، قبل أن يعطي أمره التالي:
-نزلي الناس دي، وفتشهم.

تذمر الركاب من تسلطه الواضح، وبدأت شكواهم في الظهور علنًا؛ لكنه أخرسهم بأمره الصارم:
-واللي مش عاجبه، سيبه على جمب، لحد ما نشوفه على مهلنا.
همَّ أحدهم بالاعتراض ساخرًا:
-طب ليه يا باشا؟ ده احنا أنضف من الصيني بعد غسيله؟
زجره بنظرة قاسية من عينيه:
-إنت هتعارضني؟
رد معللاً سبب احتجاجه:
-أصل مايصحش اللي بيحصل ده، احنا ناس محترمة، ولا إكمن راكبين مكروباصات؟

سار الضابط ناحيته، حتى أصبح واقفًا قبالته، ثم ربت بيده القوية على كتفه قائلاً بتهكمٍ:
-الكلام ده لما يكون الخط معلهوش ديلرز مدارين وسط الناس المحترمين.
التفت برأسه نحو أحد رجاله يأمره:
-هاته، وشوف مزاجه.
غمغم السائق في صوتٍ خفيض للغاية وهو يرى ما يحدث معه ومع الركاب من تسلط مزعج:
-الليلة السودة بتبان من أولها.

في تلك الأثناء لم يكن حُسني مشغولاً بما يحدث من تفتيش أمني، مثله مثل أي راكب آخر بادر بالتقدم للانتهاء من هذا الأمر السخيف؛ لكن سرعان ما اكتسبت تعابيره قلقًا متوترًا، حينما تم إخراج الورقة المفضضة من جيب بنطاله، جحظت عيناه في ذهولٍ للمفاجأة غير المتوقعة، ووقع قلبه بين قدميه في صدمةٍ عندما تم أخذ النقود المطوية من جيبه الآخر. احتج على سلبه ما كان يملك صائحًا:
-دي فلوسي، واخدها فين.

اقتاده الفرد الأمني ناحية الضابط قائلاً في لهجة رسمية:
-تمام يا باشا، لاقينا معاه رزمة الفلوس دي، واللفة دي كمان.
امتدت يد الضابط لتفحص أولاً الورقة المفضضة، قربها من أنفه، واشتم رائحتها المميزة دون أن يفضها، رفع أنظاره نحو حُسني متسائلاً بنظرة غامضة:
-وده إيه ده كمان؟
أمام ناظريه، فتحها، وجعلها في مستوى نظره هاتفًا في نبرة مليئة بالاتهام:
-الله! ده حشيش!

برزت عينا حُسني في ارتعاب مفزوع، وصاح نافيًا هذه التهمة الصريحة:
-وربنا مدسوسة عليا، دي مش بتاعتي.
مط الضابط فمه للحظةٍ، وتساءل بنبرة محققة:
-يعني طالما مش تعاطي يبقى إتجار؟ صح كده؟
تهمة أكثر إدانة وقعت على كاهليه، فحملق فيه مدهوشًا، وقد اتسعت حدقتاه بشدة، خاصة والضابط يكمل:
-ودول طبعًا فلوس البضاعة اللي بتلمها.
على الفور أنكر ذلك بحمئةٍ:
-لأ وكتاب الله.

ضحك الضابط هازئًا منه قبل أن يتوقف عن الضحك ليخبره:
-احلف من هنا للصبح، ده إنت ليلتك فل معانا.
ثم استدار آمرًا أفراد قوته الأمنية:
-خدوه لحد ما نشوف حكايته إيه.
حاوطه العساكر من جانبيه، وقيدوا حركته في لمح البصر، أحس حُسني بانهيار عالمه الذي لم يكتمل سوى في وحي خياله، وهتف في توسلٍ:
-يا باشا اسمعني.
تجاهله الضابط، وعاد لممارسة عمله آمرًا سائق المركبة التالية بالتقدم نحوه:
-اللي بعده.

رغم صراخه الباكي إلا أن الجميع تجاهل ما يحدث مع حُسني، فما ينتظره الآن مصيرًا مجهولاً محملاً بمفاجآت غير سارة على الإطلاق.

انزوى بعيدًا عن الضوضاء المنتشرة بالقرب منه، ليتمكن من الحديث هاتفيًا إلى رجله، كانت عينا ناجي مرتكزتان خلال مخابرته على تميم، حيث بدا الأخير أكثر وجومًا، وضيقًا، حاد بهما بعيدًا عنه ليتساءل في جديةٍ تامة:
-عملت اللي قولتلك عليه؟
أخبره حمص بنبرة متحمسة:
-كله في التمام يا ريس، اترحل على كلبوش خلاص.
لانت تعابيره الجامدة، وظهر عليها الارتياح وهو يعقب عليه:
-زي الفل، خليه يتعلم هو وقف ضد مين.

تساءل حمص في اهتمامٍ:
-أي أوامر تانية؟
قال في هدوءٍ وهو يلف ذراعه خلف عنقه ليدلكه:
-لأ، ريحوا إنتو، وعدوا عليا عشان تاخدوا حلاوتكم.
هتف في سرور منهيًا معه الاتصال:
-ماشي يا كبيرنا، يدوم العز.
بوجهه المبتسم عاد ناجي إلى المقهى، ليجلس على مقعده المواجه لرفيقه، وخاطبه في ابتسامة منتشية:
-خلاص يا تميم، بقى بِخ.
لم يبدُ على ملامح الأخير أدنى تأثر، ونطق في إيجازٍ:
-كويس.

أشار بعدها ناجي لعامل المقهى ليأتي له بكوبٍ من الشاي، ثم حملق في رفيقه متسائلاً بنوعٍ من الفضول الحائر:
-بس مش حرام ترمي 10 ألاف جنية في الأرض؟
نظر إليه نظرة غامضة قبل أن يكلمه وهو يشعل سيجارة أخرجها من علبتها:
-ومين قالك إنهم راحوا هدر؟ ده الليلة خلصت كلها بكده.

من وجهة نظره -مقارنةً بالتفريط في هذا المبلغ الضخم- كان التصرف معقولاً، مناسبًا إلى حدٍ كبير للتخلص من هذا الجشع الدنيء، ومع ذلك تساءل ليشبع نزعة الفضول بداخله:
-على كده الجماعة يعرفوا باللي عملته؟
نفخ تميم الدخان في الهواء، وقال بتعقلٍ واضح:
-مالوش لزوم، خليها تيجي صدفة، عشان محدش يقول متورطين فيها.
أبدى إعجابه بقراره، وعلق مبتسمًا:
-صح الكلام.

جاء العامل ومعه الصينية المحملة بكوبين من الشاي الساخن، رص كل واحدٍ أمام صاحبه، ثم انصرف بعد أن أسند كوب السكر الصغير في المنتصف بينهما. أمسك ناجي بالكوب من حوافه، تجنبًا للحرارة الساخنة، رفعه إلى فمه، وارتشف رشفة صغيرة قبل أن يضعه في مكانه مرة ثانية، لم يستطع كبح تطفله، وتجرأ متسائلاً بخفوتٍ:
-مش ملاحظ إن حريمك زودوها شوية قصاد الرجالة وآ...

اختلجت تعابير تميم غير المسترخية مسبقًا المزيد من أمارات الضيق، قاطعه قبل أن يواصل إتمام جملته في نبرة حازمة:
- ناجي، إياك! إنت عارفني مابتسهلش في اللي يمس عيلتي.
رد مبررًا نزقه:
-أنا عارف والله، بس اللي أقصده تكون حِمش شوية، يعني زي ما إنت فاهم، لما بتسيب الحبل على الغارب للحريم، بيسوقوا فيها، ويركبوا، ويدلدلوا.
رمقه بنظرة قاسية محذرة قبل أن يحرجه بفظاظةٍ:
-مايخصكش برضوه...

ثم نهض من كرسيه هاتفًا في صيغة يملأوها الصلابة:
-خلص شايك، وحصلني، لسه ورانا شغل متعطل.
رمش بعينيه مرددًا في حرجٍ:
-ماشي، أوام.
شيعه ناجي بنظراته المنزعجة نسبيًا وهو يبتعد عن المقهى بخطواتٍ شبه متعصبة، قبل أن يردد معه نفسه في تهكمٍ:
-الواحد مايعرفش يتفك معاك في كلمتين!

تعاقب الليل، وجاء النهار، ثم هبطت ستائر الليل الجديد على السماء فغطتها، لم تصدق فيروزة ما يحدث معها من تجاهل تام من ناحيته، وكأن شأنها لا يعنيه، شردت في الفراع تتساءل في تحيرٍ متزايد، أتراه لا يزال غاضبًا منها؟ ألم تبذل ما يكفي من الجهد لإظهار ندمها؟ زفرت في سأمٍ، وقالت كأنما تُحادث نفسها في عزمٍ متزعزع:
-طيب هبعت أسأل عليه، وأشوف كده، جايز يكون مشغول.

أرسلت إليه برسالة نصية، وتلهفت لمعرفة رده، خاصة حينما جاءتها إشارة إطلاعه على ما قامت بإرساله، ولصدمتها الكبيرة لم يعلق، فصاحت مستنكرة بملامح وجهٍ جمعت بين الذهول والاستهجان:
-مش معقول، مابيردش على رسايلي مع إنه شافها!
قررت مهاتفته، وراحت تهز ساقها في عصبيةٍ متوقعة أن يُجيب على اتصالها؛ لكن خابت ظنونها، واستمر على نهج تجاهله، فاشتاطت غيظًا من عنجهيته معها. كزت على أسنانها مرددة في استياءٍ:.

-لأ كده كتير بصراحة، أنا مش عارفة أعمل معاك إيه؟
تحركت عائدة إلى سريرها، وجلست عند حافته، تُفكر في حيرةٍ؛ ولكن بصوتٍ مسموع:
-شكلك واخدها جد، طب أراضيك إزاي يا تميم؟
شعرت بالصداع يضرب رأسها من كثرة التفكير، فتمددت على الفراش، وسحبت الغطاء على جسدها وهي تعترف لنفسها بندمٍ حقيقي:
-دماغي دي ساعات بتوديني في داهية.

من جديد عشش الحزن في قلبه، وتشعب في عروقه، ليغدو مسيطرًا على كامل وجدانه، حتى أن اليأس تفشى في روحه، فأصبح متشائمًا عن ذي قبل بدرجة كبيرة. كعادته في كل مرة تسوء فيها الأمور وتتأزم، يلجأ إلى متنفسه الوحيد، إلى من يثلج صدره بالكلمات، ويطيب أوجاعه بالآمال. تربع تميم جالسًا عند قدمي جده المستريح أرضًا على سجادته، وراح يشكو إليه ما امتلأ به الفؤاد من همومٍ وأثقال، فما كان من سلطان إلا أن نصحه برويةٍ:.

-على الأقل إديها فرصة.
أطلق زفرة بطيئة ثقيلة قبل أن يتابع شكايته:
-يا جدي حاولت، بس في كل مرة يحصل فيها موقف أتدخل فيه، عشان أحل المشاكل اللي واقعة فيها، بتحسسني إن مش أهل للثقة دي، إني غريب عنها، ومابفهمش.
أصغى إليه في إمعانٍ، ثم علق بهدوءٍ:
-أعذرها، وإنت اتكلمت مع الدكتورة بتاعتها.
أتاه تعقيبه مفعمًا بالضيق والإحباط:.

-حصل، ومستعد استحمل بدل العذر مليون، بس ألاقي نتيجة، لكن في الآخر برجع معاها لنقطة الصفر.
اليأس المستبد به كان كفيلاً لجعل الجد يدرك أن مسألة ارتباطهما على المحك، تفرس أكثر في تعابيره متسائلاً:
-وناوي على إيه؟
هز كتفيه قائلاً في صوتٍ شبه متألم:
-مش عارف، هي ليها حرية الاختيار.

لم يعلق سلطان، واستمع إلى صوت أنفاسه الثقيلة وهو يحاول ضبط نبرته، لئلا يشعر بما يعتريه الآن. بالحزن ذاته السائد في صوته اعترف إليه حفيده:
-أنا بحبها، بعشقها لدرجة محدش يتخيلها، بس لو مش عاوزاني يبقى خلاص..
دمعة نافرة طفرت من طرف، أزاحها بإصبعه وهو يضيف في مرارةٍ:
-أنا مش عايز أكون نسخة من خلود، أتأذي من اللي بحبه لمجرد أفضل معاه والسلام.
اعتدل سلطان في جلسته، وقال وهو يدير حبات مسبحته:.

-ربنا يصلح حالك يا ابني.
تصنع تميم الابتسام، ونطق معتذرًا:
-دوشتك يا جدي معايا.
رفع كفه معقبًا في تنهيدة شبه متعبة:
-وأنا يعني بعمل إيه طول اليوم؟ أديني قاعد مستني اليوم اللي أرتاح فيه.
غامت تعابير تميم أكثر لمجرد التفكير في خسارته، وهتف داعيًا المولى بصدق:
-ربنا يديك طولة العمر، ويحفظك لينا، ده أنا من غيرك ولا حاجة.

أنهى جملته وهو يميل على كف جده ليقبله في احترامٍ وتقدير، ليقوم سلطان بعدها بالربت على ظهره والدعاء له:
-إن شاءالله هتتعدل قريب، ربك مع المنكسرين جابر.

بعد اتصالٍ مبكر للتنويه بقدومهم للزيارة، تأكدت آمنة من إعداد حجرة الصالون وترتيبها بشكلٍ لائق ومنمق، لاستقبال ضيوفها الهامين، ما إن جاءوا على الموعد، حتى رحبت بهم بودٍ كبير وبمحبةٍ غامرة، لدرجة أنها غطت إلى حدٍ ما على مشاعر الحزن المتوقعة بالنسبة للفقيد الراحل قبل يومين؛ لكن من كانت تنتظره فيروزة غاب عن المشهد، ولم يأتِ مثلما ظنت. استطرد بدير كلامه قائلاً:
-كان واجب نروح معاكو البلد.

التفتت آمنة تنظر إليه وهي تخاطبه:
-كفاية مجيتكم هنا يا حاج، وبعدين تميم ماسبناش للحظة.
التطرق لاسمه جعل نبضاتها تتسارع شوقًا ولهفة إليه، أمازال على جفائه القاسي معها؟ ألم تشتاق العين لرؤياها؟ وَجِمت، وتآكل داخلها ضيقًا. حاولت الالتهاء عن حزنها البائن على محياها، وانشغلت بالاستماع إلى الحوارات الجانبية دون تعليقٍ أو مشاركة، جالت نظراتها التائهة على وجه ونيسة وهي تردد:
-ربنا يجعلها آخر الأحزان.

سمعت والدتها ترد بعد تنهيدة سريعة:
-يا رب.
قفز قلبها مجددًا في مكانه، حتى كادت تظن أن في قفزته المباغتة صوتًا فاضحًا لأمرها، حين تساءلت والدتها في تلقائيةٍ مهتمة:
-أومال تميم فين صحيح؟
أجابت ونيسة بابتسامةٍ صغيرة ولبقة:
-كان واقف تحت من شوية، قال يوصلنا، وبعد كده يطلع يشوف الشغل اللي وراه.
هزت رأسها هاتفة في تفهمٍ:
-ربنا يقويه ويعينه.
ساد حزنٌ أكبر على محياها وهي تفكر في أسى:.

-بقى كده، موحشتكش خالص؟ إيه قسوة القلب دي؟
قضيت ما تبقى من الزيارة شاردة في أفكارها التعيسة، راودتها الهواجس عن احتمالية تخلي تميم عنها، خاصة مع اقتصار حديث عائلته عن أمور العزاء، والموت، وما يحدث من خلافات تخص الميراث وغيره، لم يتم التطرق مُطلقًا للحديث عن مسألة خطبتها، أو حتى إتمام الزيجة، أو تأجيلها، مما عزز من تلك المشاعر السلبية بداخلها.

ثلاثة أيام مروا عليها كأحمالٍ ثقيلة لا تنضب، ولا يخف ثِقلها. كاد يأسها يتملك منها، لولا أن هداها تفكيرها للكلام المباشر معه، فإن كان لا يحبذ وسائل الاتصال بكافة أشكالها، إذًا فلتكن المواجهة المباشرة، وليحدث ما يحدث، فليس هناك ما تخشى خسارته، بعد ذلك العذاب الموجع للقلب. لجأت فيروزة إلى حيلة القيام بزيارة مباغتة في منزلته، لتضمن تواجده، ولم تقدم على تلك الخطوة إلا حين رأته من نافذة منزل شقيقتها يصعد للأعلى، فاستأذنت توأمتها بالذهاب لبضعة دقائق للأسفل بحجة إلقاء التحية على الجد سلطان، ثم العودة إليها لإكمال العمل المنقوص.

بكل ألفةٍ وعدم تكلف، تقابلت ونيسة معها، ومنحتها كل الترحيب الحار الذي تستحقه، مما اعتبرتها دلالة طيبة على عدم وجود أي خلافات مُبيتة، فأنى لها تستقبلها بهذه المحبة وهي لا تريدها؟ شعرت بالارتياح لذلك، وبدأت تعلل سبب زيارتها الاستثنائية:
-أنا كنت فوق مع همسة، بنلم كام حاجة ناقصة، عشان نوديها على الشقة، وقولت أعدي أسلم عليكم، يعني ماينفعش أكون هنا، وماجيش.
ابتسمت لها الأولى في صفاءٍ، وشكرتها بلطفٍ:.

-كلك ذوق يا بنتي، ده بيتك، تنوري في أي وقت.
اختطفت فيروزة النظرات نحو الردهة، محاولة الوصول بعينيها إلى باب غرفته الموصود من زاويتها؛ لكنها لم تتمكن، كانت تحتاج لتبديل موضع جلوسها، لتصبح الرؤية أكثر وضوحًا. رسمت ابتسامة صغيرة على ثغرها، وتساءلت:
-أومال هاجر عاملة إيه مع عريسها؟
جاوبتها بأريحيةٍ:
-في نعمة والحمدلله، مبسوطة معاه، ربنا يهدي سرها، هي صبرت ونالت.
حافظت فيروزة على ثبات بسمتها وهي ترد:.

-هي تستاهل كل خير.
أضافت ونيسة قائلة بعفويةٍ جعلت الشوق يدب في قلبها:
-عقبال يا رب ما نفرح بيكي إنتي و تميم قريب.
تضرج وجهها بحمرة طفيفة، وغمغمت في نبرة خجولة:
-يا رب.
البقاء بلا حراك في انتظار خروجه على إثر سماعه صوتها كان أمرًا سخيفًا، لذا استجمع جأشها لتسألها بسذاجةٍ مصطنعة:
-صحيح هو مش هنا ولا إيه؟
أخبرتها ونيسة بأسفٍ غير زائف وهي تستخدم يدها في الإشارة:.

-نزل من شوية، قبل ما تيجي ب 5 دقايق، لو كان يعرف إنك جاية كان استنى.
سرعان ما حلت غمامة من الإحباط على تقاسيم وجهها، اهتزت بسمتها اللطيفة، وبدأت متكلفة نوعًا ما وهي ترد:
-أها، ربنا معاه.
اقترحت عليها في جديةٍ حين لاحظت ضيقها:
-تحبي أكلمه أقولك إنك هنا؟
يا لحظها التعس! لن تتمكن من رؤيته، وستعود كما جاءت خالية الوفاض، معذبة الفؤاد! خرجت من سرحانها اللحظي لتعترض في تهذيبٍ:
-لأ، مافيش داعي، خليه على راحته.

كادت تُنهي زيارتها بعد أن فشلت في تحقيق مسعاها، لولا أن انضم إليهما الجد سلطان، فوقف في مكانه بطلته المهيبة مستندًا بكفيه على رأس عكازه، وجَّه حديثه إلى فيروزة قائلاً بلهجةٍ مالت للجدية:
-كويس إنك موجودة.
نهضت من مكانها لترحب به:
-إزيك يا جدي؟
رد في هدوءٍ تشوبه الجدية:
-الحمدلله، أنا عاوزك في كلمتين.
توجست خيفة من أسلوبه الباعث على الريبة، ومع ذلك ردت:
-أنا تحت أمرك.
قال وهو يستقر في أريكته المعتادة:.

-الأمر لله وحده.
تجمدت عينا فيروزة عليه، متوقعة الأسوأ قادم في الطريق، انقبض قلبها، وتوترت حواسها حين استطرد مخاطبًا ونيسة ليصرفها:
-بإيديكي الحلوة يا ونيسة اعمليلي فنجان قهوة.
قامت من جلستها وهي تقول:
-من عينيا.
شكرها على مجهودها مظهرًا تقديره:
-تسلميلي يا غالية.
بصبرٍ فارغ انتظرت ابتعادها لتسأله بتعبيراتٍ قلقة:
-خير يا جدي؟
استنشق الهواء بعمقٍ، ليستهل بعدها مفتتح حواره معها:.

-عارفة يا بنتي، المواقف هي اللي بتحدد معادن الرجال، في ستات هتلاقيها بتصنع راجل يكون ضهرك، تتسندي عليه، ويحميكي وقت اللزوم، وستات تانية يدوب أخرها تربي بغل عندها في البيت، لا ينفع، ولا يستر.
تلك الدباجة الغريبة أكدت ما أنبأها به حدسها من وجودِ خطب ما بشأنها، بلعت ريقًا غير موجودٍ في حلقها، وعلقت بإيجازٍ:
-فعلاً.
لفظ دفعة من الزفير من صدره، وتابع بصوته الرخيم الهادئ:.

-الراجل مهما كان صبور، وحمول، فبيجي عليه وقت مابيستحملش فيه قلة القيمة ولا الإهانة، حتى لو كان من عزيز عليه، ولا إنسان بيعزه.
خمنت تلميحاته المبطنة، وهتفت تسأله دون مراوغة:
-هو تميم اشتكالك مني في حاجة؟ أكيد قالك على اللي حصل مع خالي؟
نظر إليها بثباتٍ، وقال منتقيًا كلماته:
-مش شكوى على أد ما هو زعل من اللي حاصل.
زاد العبوس في ملامحها وهي تبرر له:.

-أنا خوفت عليه إنه يتهور، واتفاجئت بتصرفه، فاتعاملت بحدة شوية...
لم ينطق معلقًا بشيء، فاستمرت في التوضيح، بشيءٍ من الندم:
-بس لما قعدت مع نفسي وراجعتها، لاقيتني غلطانة، وبحاول أعتذرله، بس هو مش قابل.
أتاها تعقيبه منطقيًا:
-لو الراجل اتقل من احترامه، وخصوصًا من واحدة ست، صورته في عيون رجالته بتتهز، ودي مش أول مرة.
استشعرت الخطر في استئناف علاقتها الشائكة مع تميم، فوَجل قلبها، وهتفت تقول في جزعٍ:.

-أنا مقصدش والله، ده كان شيء تلقائي.
حذرها سلطان بلهجةٍ غير لينة:
-حافظي على هيبة راجلك، ده لو فعلاً شايفاه كده، راجلك مش غريب عنك.
كادت تبكي خوفًا من خسارته، وهمست في تلعثمٍ:
-يا جدي...
أدار الجد عكازه بداخل راحته في حركة دائرية مستمرة، وأخبرها دون أن تتغير نبرته الجادة:.

-إنتي غالية عندنا كلنا، وهنكون سندك على طول مهما حصل، حطي ده في راسك، اللي بيدخل وسطنا، بيبقى من أهلنا، مش شرط نسب ولا غيره، المهم يكون عاوزنا نبقى أهله.

طفرت الدموع من عينيها تأثرًا، فراحت تفتش في حقيبتها عن منديلٍ ورقي تمسح به آثار بكائها الموجوع قبل أن تعود ونيسة، حاولت استعادة ثباتها، والظهور بمظهرٍ غير متأثر، خاصة مع إشغال سلطان للأخيرة بطلباتٍ مفتعلة، حتى اطمئن لعودة الأوضاع لشكلها الطبيغي، فراح يمتدح زوجة ابنه في ثناءٍ:
-مافيش زيك بيعرف يعدل دماغي بقهوته.
استأذنت فيروزة بالذهاب، وقد نهضت من مكانها، فاعترضت عليها ونيسة في دهشة:.

-ما تخليكي أعدة، هو أنا لحقت أرغي معاكي.
تصنعت الابتسام وهي تكرر اعتذارها بتهذيب:
-مرة تانية، عشان ألحق همسة، زمانها ملبوخة مع ابنها.
كانت حجة منطقية للهروب مؤقتًا بأحزانها ومخاوفها؛ لكن رغم هذا منحتها الفرصة لإعادة تقييم القادم من حياتها من منظورٍ مختلف تمامًا.

ما عاد أي شيء يهم لديها سوى استعادة ما كانت عليه معه، ودَّت بشدة لو تمكنت من إعادة الزمن إلى الوراء، إلى حيث ما قد يُقال عنه مجازًا مُشادَّتهما الكلامية، وقتئذ لتركت له حرية التصرف كاملة في شأن عائلتها دون تشكيك أو تخوين، بلغ إحباطها منه مبلغه وقد أوشك الأسبوع على الانقضاء، فمن المفترض أن يكونا على اتفاقٍ واضح بشأن ما سيتم مع الجشع حُسني، كررت محاولة الاتصال به واستغلال تلك الحجة القوية للتواصل معه، وها قد أتت بمفعولها، لم يردّها؛ لكنه صدمها بإرجاء الحديث عن هذا الأمر لسببٍ لا تعلمه بعد.

لم ترغب في سبر أغواره، ومناكفته، لئلا تزيد من إفساد العلاقة، حاولت أن تبدو مهتمة به، لا متلهفة بشوقٍ عليه، فتنحنحت متسائلة:
-إنت مش ظاهر ليه؟
جاوبها بفتورٍ:
-عادي.
شعرت بالجفاء في نبرته، ومع ذلك تابعت سؤالها التالي بتفاؤلٍ:
-كله تمام معاك؟
رد في إيجازٍ موجز:
-أه.
تغاضت مرة ثانية عن تباعده المحسوس، وانتقلت لسؤالٍ روتيني آخر مستهلك على المسامع:
-خلصت شغلك ولا إيه؟
علق ببرودٍ:
-يعني.

استفزها بطريقته المتجافية، فلم تتمكن من ضبط أعصابها، والتمسك بهدوئها الزائف أمام جموده القاسي، خرجت عن شعورها، وصاحت في تشنجٍ:
-هو إنت مش طايق تكلمني؟
كان مترفعًا –ومغيظًا- في جوابه:
-مكونتش رديت.
صرخت بكل ما اعتلاها من كبت وغيظ:
-إنت رديت عشان اللي اسمه حُسني، مش عشاني.
علق في لهجةٍ جافة للغاية:
-عادي.
بلغت ذروة استحمالها، فاستمرت في صياحها بصبرٍ نافذ:
-على فكرة مش بحب الأسلوب الناشف ده.

توقعت أن يتأثر لعصبيتها، أن يتراجع عن بروده؛ لكنه واصل إغاظتها بردوده المقتضبة:
-براحتك.
خبا صوتها المنفعل بعد صمت ثقيل سمع فيه أنفاسها المضطربة حين قالت بيأس تعيس:
-هو أنا بتكلم معاك بالشكل ده؟ إيه اللي اتغير فيك؟
رد بعد لحظة من السكوت:
-أنا زي ما أنا.
سألته في ألمٍ ظاهر في توسلها المستتر:
-أومال في إيه؟
أخبرها ببساطةٍ:.

-مافيش، أنا بس قولت أعاملك زي ما بتعامليني، وخصوصًا قصاد رجالتي أو الغُرب، إيه الغريب في كده؟
هذه المرة أبدت ندمها بصدقٍ:
-أنا أسفة، خلاص أنا عرفت إني كنت قليلة الذوق جدًا، وغلطانة، حقك عليا، مش هيحصل تاني.
لانت نبرته الجامدة وعاتبها:
-هيفيد بإيه الأسف؟ وإنتي مستقلية بيا، وأنا عمري ما هحرجك قصاد حد، وأظنك مجرباني.
أحست بالاختناق يسود في صوتها وهي تعيد عليه اعتذارها:
-سامحني، مش هيتكرر، صدقني.

زفرة ثقيلة سمعتها تخرج منه قبل أن يعقب:
-ربنا يسهل.
آلمها بُعاده القاسي، والتاعت بهجره الجافي، ظنت أن قلبه خلا من الميل إليها، فلم تعد تستهويه، استطاع أن يسمع رنة الضيق في صوتها وهي تستطرد:
-إنت مكبر الموضوع.
أوضح لها في هدوءٍ:
-ماينفعش أصغره، ولا حتى أفوته، مهما كان الاحترام حلو ومطلوب، مالوش علاقة براجل ولا ست...
صمتت والقلب يتألم، وزاد هذا الشعور مع إكمال تميم لجملته:.

-لو مش عاوزة تقولي حاجة تانية، فأنا هقفل.
تنفست بعمقٍ لتسيطر على بكائها الوشيك، ثم قالت ممهدة كإشارة تحذيرية:
-أوكي، هي حاجة أخيرة، ويا ريت تسمعني كويس.
رد في هدوءٍ:
-اتفضلي.
عرفت من أين تؤكل الكتف، كيف تُعيد الشريد إلى أوطانه، كيف تضمه إلى داخل دائرته، بكلماتٍ سريعة مباشرة جمعت بين التهديد والقبول نطقت فيروزة بثباتٍ ووضوح:.

- تميم لو مسامحتنيش، مش هقولك إني موافقة يكون كتب الكتاب والدخلة على آخر الشهر، سلام...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة