قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثلاثون

مفهوم الحب من ناحيتها كان محدودًا، قاصرًا على ما قرأت عنه، أو سمعته على الألسن المرددة لنفس العبارات المستهلكة للتعبير عنه؛ لكن معايشته بكافة جوارحها ووجدانها كان للأسف غير متاحٍ لها سابقًا، بل كانت أبعد ما يكون عن التنعم في ملذاته المغرية، أما الآن فلا تستطيع تحديد ماهية الشعور المداعب لقلبها، أو حتى التفقه لما يختلج صدرها من مشاعر مربكة، بيد أنها تحبذ أساليب المراوغة السائدة فيه، تلك التي تمنحها تارة الأفضلية في شيء، وتعطي ندها تارة أخرى التفوق في شيء آخر على النقيض معها، الشد والجذب بينهما امتلأ بخليطٍ من التضاد، المصارحة، اللين، الحزم، المتعة، والمرح.

لن تنكر أن الجانب الآخر منه كان مَغيظًا، مزعجًا لها، ويجعلها تشعر كأنها فتاة بلهاء؛ لكنه رغم هذا كان مفيدًا بشكلٍ ما، فقد ساعدها على اكتشاف مشاعر لم تختبرها من قبل، انتشل من أعماقها ما ظنت أنه غير موجود بها، ولن يظهر على السطح مهما حدث، أصبحت الآن شابة أخرى غير تلك المهشمة الكارهة لمباهج الحياة، أيعقل أن يكون ارتباطها به قائمًا على المشاعر الحقيقية الأصيلة؟ ربما حين تغدو العلاقة رسمية بينهما يتضح لها ما يبدو غير مفهومٍ –مؤقتًا- في مشاعرها المتخبطة ناحيته.

أدركت فيروزة بعد حين أن مناوشته المستفزة لها نجحت في تبديل مزاجها المتعكر، لآخر رائق، يشع بالحماس، ويمتلئ بالنشاط. عادت إلى المنزل على عكس ما خرجت منه، استقبلتها همسة في قلقٍ ظاهر على وجهها، ودنت منها متسائلة:
-عاملة إيه دلوقتي؟ مش عايزاكي تضايقي من آ...
قاطعتها بهدوءٍ، وبإشارة من يدها أمام وجهها:
-قفلي على الموضوع ده، أنا مش هتكلم فيه.
ردت مبررة موقفها:
-أنا بس عاوزة أطمن عليكي.

أخبرتها بعد زفير متمهل:
-أنا كويسة.
حاولت همسة التفرس في وجهها لمعرفة سبب هذا التغيير العكسي الكبير، زادت حيرتها عندما لم تصل لشيء، وسألتها:
-هو إيه اللي حصل؟

لاح في مخيلتها مشهد لقائها العابث مع تميم، شردت متذكرة تلميحه المتواري وتشبيهه لها بثمرة التفاح، لم تشعر بابتسامتها التي احتلت ثغرها من أثر الذكرى اللطيفة، شردت للحظاتٍ غير منتبهة لشقيقتها التي ظلت تلوح لها بيدها أمام وجهها بضعة مرات وهي تناديها:
-يا فيروزة! إنتي معايا؟
انتبهت لها، وقالت بتعابير اكتسبت جدية زائفة:
-أيوه يا همسة، في إيه؟
أشارت بسبابتها نحو الردهة وهي تخبرها:.

-بقولك دي علا موجودة في الأوضة جوا، بتظبط اللوك بتاعك.
تنهدت بعمقٍ، وعلقت:
-طيب، أنا داخلة عندها.

لم تتجادل فيروزة مع والدتها أثناء مرورها على المطبخ، رأتها منكفأة على الطعام، فابتعدت في صمت، واتجهت إلى غرفتها، مقاومة التعاسة اللحظية التي تنخر في سعادتها، رغمًا عنها يفرض عليها عقلها مقارناتٍ بديهية بين ماضٍ ولى عنها وبين مستقبل قريب منها، سعت جاهدة لتنحية الماضي جانبًا، وإيقاف تلك المقارنات السخيفة، لتركز على من يتسلل رويدًا رويدًا إلى داخل ما بين ضلوعها، آملة بين جنباتها ألا تخيب رجاواتها في شخصه.

أدلت كل واحدة بدلوها، واحتدم الجدال بينهما إلى حدٍ ما، إلى أن انتهى الأمر بارتدائها الثوب الذي أهدته لها رفيقتها، كان ملائمًا للغاية؛ كأنما تم تفصيل قماشته على جسدها بالضبط. تطلعت فيروزة إلى هيئتها في المرآة بنظرات طويلة مدققة، وكلتا يديها تمران على جانبيها في بطءٍ، كأنما تشعر بملمسه على أناملها، وضعت علا كفيها على كتفيها بعد أن وقفت خلفها، وسألتها وهي تنظر إلى انعكاسها في نفس ذات المرآة:.

-ها إيه رأيك؟

أحسنت رفيقتها اختيار التصميم مع اللون، فلم يكن ضيقًا ليبرز مفاتنها، ولم يكن مبهرجًا بدرجة زائدة تصيب العين بالانزعاج، بل ناسبها بدرجة جعلتها تشعر بالرضا عن حالها، كانت أقرب إلى أميرة خرجت من حكايتها، حيث خلى من فتحة عنقٍ عريضة، فغطى قماشه معظم رقبتها، أما عن كميه، فكانا ينسابان على طول ذراعيها حتى يضيق طرفيه عند معصميها، بينما يتموج الفستان في طبقاتٍ تزداد اتساعًا بالتدريج بداية من الخصر وحتى نهاية الثوب. رمشت فيروزة بعينيها قائلة في إعجابٍ:.

-الصراحة، هو حلو أوي.
ضحكت علا في تفاخرٍ، وعلقت:
-عشان تعرفي كان عندي حق.
تصنعت فيروزة الجدية، وأخبرتها:
-بس دي لسه قاعدة اتفاق، يعني آ...
قاطعتها قبل أن تكمل جملتها مؤكدة عليها:
-وماله، اتفاق، قراية فاتحة، إن شاء الله جواز، ده مايمنعش إنك تلبسي شيك، لنفسك مش لحد تاني.
جاءت همسة ومعها حقيبة معدنية مليئة بمساحيق التجميل ذات الماركات الشهيرة، وضعتها على التسريحة، وأيدتها في رأيها:.

- علا معاها حق، كنتي فين من بدري، بدل الدوخة دي معاها.
استمرت في ضحكتها وهي ترد:
-عشان تعرفوا بس...
امتدت يدها لتنتقي ما ستبدأ استخدامه من الحقيبة وهي تتابع:
-طيب يالا نشوف هنعمل إيه في الميك آب، قبل ما تلبسي الطرحة.

داهمها أضعاف ما كانت تشعر به من توترٍ، في اللحظات التي سبقت قدوم عائلة سلطان إلى المنزل، حاولت التحلي بالهدوء، وضبط نبضاتها المتلاحقة؛ لكن تكالبت حواسها ضدها، كما لو كانت في خصومةٍ معها، ورغم كونها تُعايش نفس الموقف، إلا أن إحساسها فيه كان مُغايرًا، بدت مشاعرها مرهفة، أكثر حساسية، وأكثر قلقًا عن ذي قبل، وهذا ما لم تستلذه، فهي تفضل الظهور بمظهر الثبات لا التردد أو الارتباك.

رفضت علا البقاء معها وحضور اللقاء الودي، وانصرفت بعد أن أنهت مهمتها، متعللة بأن التجمع عائلي، لا يصح أن تتواجد فيه، لتظل فيروزة مع شقيقتها في غرفتها، تشبك يديها معًا لتقضي على الرجفة التي تنتابها بين الفنية والأخرى. أمسكت همسة بزجاجة العطر ونثرت منها على مقدمة الثوب قائلة:
-كده معدتش في حاجة ناقصة.
سعلت فيروزة من الرائحة النفاذة، وطلبت منها:
-كفاية يا هموس، ليه كل ده؟

أجابته بقسماتٍ جادة وهي تضيق ما بين حاجبيها:
-يا بنتي الجو حر، وعشان ريحتك تفضل حلوة.
التقطت أنفاسها بعد سعالٍ متكرر، واحتجت قائلة بتبرمٍ:
-بس مش بالشكل ده، أنا نفسي اتخنقت.
استمرت في نثر الرائحة على كل ثوبها وهي تطلب منها:
-خلاص أهوو، خدي الروج تقلي بيه على شفايفك.
انزوى ما بين حاجبيها متسائلة:
-ليه كمان؟ ما هو ثابت.
ابتسمت وهي تعلل لها:
-عشان يا حبيبتي يبقى فريش عليكي.

سئمت فيروزة من المبالغة الزائدة منها، وهتفت في نبرة قاطعة:
-مش هاعمل أي حاجة زيادة، أنا كده تمام.
توقفت همسة عن إزعاجها، وتركتها جالسة على طرف الفراش، ثم تحركت نحو النافذة، لتتطلع إلى الطريق، ما إن رأت السيارات تتوالى تباعًا لتصطف أمام الرصيف المجاور للمنزل، حتى انتشر الحماس في وجهها، وكذلك في نبرتها وهي تقول:
-شكلهم جوم.

تصلبت فيروزة في جلستها، وأحست ببلوغ التوتر لديها أقصاه، لجأت للتنفس بعمقٍ لتهدئ من حالها، وتابعت بعينيها خروج توأمتها من الباب وهي تشدد عليها مستخدمة أيضًا سبابتها في التأكيد:
-خليكي مستنية هنا لحد ما ننادي عليكي.
صاحت ساخرة في تبرمٍ:
-شوفتني قومت جريت على الباب.
مرت عليها الثواني بطيئة، مرهقة لأعصابها، تعلقت عيناها بعتبة الباب حين جاءت إليها رقية لتخبرها في براءةٍ وهي تصفق بيديها:
-العريس جه يا فيرو.

أومأت برأسها قائلة ببسمة متوترة:
-ماشي يا كوكي.
أشارت لها بيدها لتتحرك وهي تكلمها بعفوية مرحة:
-يالا عشان تبوسيه.
برزت عيناها في محجريهما في ذهولٍ، وهتفت في استهجانٍ شديد:
-نعم؟! عيب الكلام ده!
بررت لها بلطافة بريئة:
-مش كل العرايس بتعمل كده؟
رمقتها بنظرة صارمة قبل أن تخبرها بنبرة أقرب للتهديد:
-مش أنا يا حبيبتي، ويا ريت منقولش الكلام ده تاني، عشان مازعلكيش، ماشي؟

لوت رقية ثغرها، وانقلبت تعبيراتها المبتهجة إلى أخرى عابسة، ثم بضربت بقدمها الأرض في عصبيةٍ، ودمدمت قائلة وهي تركض خارجة من الغرفة:
-طيب.
رفعت فيروزة كفيها إلى وجهها لتتحسس برقةٍ ملمس بشرتها الدافئ، فصدمة كلمات رقية العفوية قد عكست تأثيرها في التو عليها، سحبت من جديد شهيقًا عميقًا، ورددت لنفسها في حزمٍ؛ كأنما تعزز من طاقة ثباتها، فلا تظهر عليها أي بادرة ضعفٍ أو خجل:
-نهدى كده مافيش حاجة حصلت!

بحفاوةٍ كبيرة، وترحيبٍ حار استقبلت آمنة ضيوفها المنتظرين، وصوت ضحكاتها الرنان يرن في الأرجاء، أجلستهم بغرفة الصالون لتتبادل معهم حديثًا وديًا تمهيديًا يسبقه أسئلة روتينية عن أحوالهم، قبل أن ينتقل الحوار إلى الموضوع الذي أتوا من أجله. سحبت همسة زوجها نحو الخارج في حذرٍ، واحتجزته في الردهة لتعاتبه على تأخيره غير المقبول:
-اتأخرت ليه يا هيثم؟ مش كنت جيت من بدري؟

كان الإرهاق باديًا على ملامحه وهو يجيبها:
-يدوب عقبال ما قفلت كام حاجة، وظبطت مع العمال، ورجعت وغيرت هدومي.
شملته بنظرة فاحصة طافت على بدلته البُنية التي ارتداها على قميصٍ من اللون البيج، قبل أن تمتد يديها نحو ياقته لتخبره بلهجةٍ شبه آمرة:
-هات أظبطلك الكرفتة.
أمسك بطرف رابطة العنق، وقال بتذمرٍ:
-لازمتها إيه الخنقة دي مش فاهم.

ضبطت عقدتها، وجعلت وضيعتها في المنتصف قبل أن تعلق في رضا، وبابتسامة زهو واضحة:
-عشان تبقى شيك.
مازحها هيثم بغمزة من طرف عينه:
-ليه ناوية تجوزيني تاني؟
انقلبت تعابيرها للوجوم، وحذرته بلهجةٍ غير متسامحة:
-طب فكر تعمل كده بس!
أطلق ضحكة قصيرة، قال بعدها وهو ما زال مبتسمًا:
-أنا اكتفيت بيكي يا هموسة.
ربتت على جانب ذراعه تستحثه على الحركة وهي تتابع:.

-أيوه كده، خليك لطيف، روح مع الضيوف لحد ما أجيب الحاجة الساقعة والجاتوه.
عقب على تعليقها ساخرًا من اهتمامها الزائد:
-ضيوف مين؟ دي العيلة يا بنتي، مش حد غريب.
نفخت في نفاذ صبرٍ، وخاطبته بتشددٍ:
-اسمع الكلام من غير جدال.
غمغم مع نفسه بهسيسٍ غير مفهومٍ لها:
-قولة حاضر بتريح...
ما لبث أن رسم ابتسامة عريضة على فمه، وهز رأسه قائلاً في طاعة:
-حاضر يا ستي.

لم يتخلف سراج عن الحضور، فأراد –باعتباره فردًا من العائلة- مشاركة صهره فرحته في إتمام الاتفاق الرسمي مع عائلة زوجته المستقبلية، وربما تقديم الدعم له، وإظهار الأسباب والدوافع الحقيقي إن تطرق الحديث إلى مسألة بقائه بالسجن، وأصبح عائقًا في إكمالها. جلس على يساره ولوح بيدها يدعو له:
-ربنا يتمم على خير.
رد تميم بملامح يشوبها الخوف:
-يا رب.
أردف الجد سلطان الجالس على الأريكة العريضة قائلاً:.

-متقلقش، كله خير.
على عكس ما بدا نهارًا كان تميم في أوج قلقه، ردات فعل طاووسه دومًا غير متوقعة، يخشى أن تقوم برفضه للرد على سخافته معها اليوم، لفظ الهواء من صدره على مهلٍ، وهو يدعو الله بصدقٍ أن يتحقق ما يصبو إليه.

حين أطلت بهذا الحُسن السارق للقلوب، والخاطف للعيون، انفتح دولاب عواطفه الجياشة على مصراعيه، وامتلأت عيناه بعلاماته الواضحة. أحبها تميم بالقدر الذي جعله مستعدًا للتضحية بأي شيء في سبيل أن تبادله نفس المشاعر المتيمة، وتشعر بما يختلج قلبه منذ أن أدرك حقيقة أحاسيسه ناحيتها، ربما بوادر ذلك الوله قد بدأت تداعبها؛ لكنه يريدها أن تتمرغ باستمتاعٍ بين صنوفه اللذيذة.

سارت فيروزة متبخترة في خطاها، يداها تمسكان بجانبي ثوبها، ترفعه قليلاً عن الأرض، لئلا تتعثر فيه؛ تهادت أكثر في مشيتها كأنما تتعمد اللعب على أوتار فؤاده المُعذبة بعشقها بهذا التباطؤ المثير. بخلت عليه بنظرةٍ، ويا لها من قاسية! أتحرمه من متعة النظر إليها في هذا اليوم الموعود؟ ألقت التحية على الجميع، وحرمته من كلمة واحدة، ألن ترأف بعاشقٍ أضناه ذلك الحب المستحيل؟ حتى في جلستها اختارت الزاوية البعيدة عنه، لتختبر قوة جَلَده في حضورها الطاغي.

أراح تميم ظهره للخلف، وأخذ يوزع نظراته على جميع المتواجدين في الغرفة، إلا هي! كانت نظرته لها قصيرة، مليئة بمزيجٍ من الحب، الرغبة، الاشتياق، واللهفة! انتبه لصوت والدتها التي بادرت مادحة:
-بسم الله ماشاءالله، البدر هل علينا.
انزلقت همسة قائلة من تلقاء نفسها:
-ده كده مش حاطة حاجة يا طنط، بالعافية لما أقنعناها.
ردت عليها ونيسة بابتسامة يتخلل الضحك
-هي ما شاء الله عليها مش محتاجة...

ثم تطلعت إلى ابنها تسأله مباشرة:
-ولا إيه رأيك يا تميم؟
كأن صاعقة ضربت برأسه، اتجهت كل الأنظار إليه كما لو أمسك به أحدهم بالجرم المشهود، ابتسم قليلاً، واختطف نظرة سريعة نحو والده الذي كان متحفزًا في جلسته، كأنما يترقب ردة فعله، فكان صمته خير إجابة، لأنه يعلم جيدًا عدم تساهله في أمور المناغشة والغزل علنًا، ولينأى بنفسه من الإحراج قال في تهذيبٍ:
-هي تستاهل كل حاجة غالية.

لكن بين جنبات نفسه، قال معترفًا بصوتٍ غير منطوق، وعيناه ترتكزان على وجه فيرزوة:
-هي أحلى ما شافت عيني.
استطرد سلطان ممسكًا بزمام الحوار بنبرة جمعت بين الجد والهزل:
-سيبونا بس من أمور الدلع والحاجات الحلوة دي، هاتيجي بعدين، ومسيره يسمع القمر بتاعنا أحلى كلام، بس خلينا نتكلم في المهم.

أطرقت فيروزة رأسها في استحياءٍ من تلميحاته التي تأرجحت بين المبطن والمفهوم، وبدأت الخيالات الحالمة في اقتحام عقلها، ليزيد هذا من تلبكها. تولى خليل دوره في الكلام مرددًا بتمهلٍ:
-اح، نا مش هنخت، لف إن شاءالله.
أيدته آمنة بتصريحها:
-ربنا ما يجيب خلاف، ده احنا عيلة.
عاد سلطان ليضيف في جديةٍ وهو يدير عكازه بين راحته:.

-هو مش مدح لا سمح الله في حفيدي، بس يعلم ربنا هو تعب في كل مليم كسبه بالحلال، وهو مصمم يتكفل بكافة شيء تحتاجه بنتنا، رافض إننا نساعده.
هتفت آمنة معلقة بوجهٍ مبتسم:
-إنتو بيت كرم طول عمركم.
أشار سلطان لابنه يخاطبه بلهجةٍ آمرة:
-كمل إنت يا بدير الباقي.
هز رأسه في طاعةٍ، قبل أن يوجه حديثه إلى خليل، ونظراته تتوزع بالتساوي على أهل العروس:
-اتفاقنا ده بس عشان نبقى على نور، وكل الحاضرين هنا شاهدين عليه.

صاحت آمنة مرددة في حبورٍ:
-ده إنتو كلمتكم وعد.
استحسن قولها، ثم تابع ويده تشير نحو ابنته:
-المهر 100 ألف، وشبكة زيهم، المؤخر زي هاجر، نص مليون جنية، وجاهزين يدفعهم بعد كتب الكتاب.
كتمت آمنة شهقتها الغبطة وعيناها تنظران تلقائيًا إلى هاجر، قبل أن تعاود النظر إلى بدير، وهي تهتف في سرورٍ معكوس في كل وجهها:
-أد القول يا حاج.

ما تقوم به عائلته من طرح عروض سخية لإقناعها بقبول الزواج به لم يكن في باله، كان شاغل تميم الوحيد حاليًا وسط كل هذه الحوارات السائدة أن تقوم برفضه لشخصه، حينئذ سينفطر قلبه؛ فالمال مهما كان مُغريًا، فإنه لا يشتري الحب، والعشق الحقيقي لا ثمن له! اختلس النظرات إليها ليعرف رأيها من ملامحها؛ لكنها كانت غير مقروءة، مبهمة، يسودها جمود مخيف، وهذا أكثر ما أرعبه! راح ينظر إلى أبيه الذي أضاف:.

-أما العفش فالعروسة هتختاره كله على ذوقها، ما هو بيتها زي ما بيقولوا كده مملكتها، فمن حقها تنقي اللي هترتاح فيه.
أشارت آمنة بيدها معلقة في رضا واضح:
-عداكم العيب.
تدخلت هاجر قائلة بحماسٍ، وهي تهدهد رضيعها:
-ده سراج وراني كام معرض فيهم حاجات خرافة، لو عايزاني أديكي أساميهم قوليلي.
علقت فيروزة بكلمة مقتضبة بعد أن نظرت في اتجاهها:
-تمام.

استغرقت آمنة في التفكير مع نفسها لبعض الوقت، فكل المغريات تقدم لابنتها الأرملة على طبق من ذهب، وكأنها شابة حديثة العهد بالزواج، والحق يُقال أنها لم تسمع أو ترى في سنوات عمرها من يفعل هذا لإحداهن، فيما عدا سليلة عائلة سلطان، لكونها ابنة الحسب والنسب، أما ابنتها فلم تملك من المقومات المادية ما يؤهلها للمناطحة معهم، لذا إن رفضت كل هذا لأتصفت بالغباء الأكيد، ولهذا لم تدخر وسعها في التعليق على كل ما يُقال لتبدي استعدادها التام للقبول ولو عرض عليها أقل من هذا بكثير. توقفت عن تفكيرها التحليلي لترد غير ممانعة:.

-دي أمرها سهل.

في تلك الأثناء، غادر هيثم بهدوء حجرة الصالون، باحثًا لنفسه عن مكانٍ يدخن فيه إحدى سجائره، كانت الشرفة الخيار الأمثل، فأراح مرفقه على حافة السور، وحملق بشرود في العتمة الممتدة أمامه، شعر بلمسةٍ رقيقة على ذراعه، فأدار رأسه للجانب لينظر إلى زوجته التي انضمت إليه، تفرست الأخيرة في ملامحه التي كساها الحزن لتسأله في توجسٍ:
-مالك يا حبيبي؟ في حاجة مضايقاك؟
بلع غصة عالقة في حلقه، وأجابها بوجومٍ:.

-أصل اللي بيحصل النهاردة بيفكرني بيوم خطوبتنا.
استندت برأسها على كتفه، وعلقت في ابتسامة رقيقة:
-صح نفس الأعدة، بنفس الناس.
شعرت بتصلب جسده أسفل رأسها وهو يجاوبها بنبرة مريرة:
-أيوه، بس الفرق لا أمي ولا أختي موجودين.
أحست بوخزة من الألم تضرب صدرها، وأبعدت رأسها عنه لتستقيم واقفة، ثم نظرت إليه متسائلة في حذرٍ لا يخلو من خوفٍ تفشى فيها:
-هو، إنت زعلان إن تميم هيتجوز أختي؟

عمَّ الصمت بينهما لما يقرب من دقيقة قبل أن يجاوبها بحزنٍ:
-لأ، ده النصيب، بس صعبان عليا اللي حصلها، ملحقتش تعيش حياتها ولا تتهنى.
نكست رأسها في أسفٍ، وقالت:
-ربنا يرحمها برحمته الواسعة، هي في مكان أحسن دلوقتي.
اجتاحه حزنًا أعمق وهو يضيف:
-وأمي شوفي بقت فين دلوقتي!
رغم أنها لم تسلم من لسانها السليط، وطباعها الحادة، إلا أنها علقت في هدوءٍ، خانقة بداخلها تلك المشاعر المستاءة التي نبضت فيها:.

-مسيرها تخف وصحتها تبقى أحسن عن الأول.
قال في غير تفاؤلٍ، وقد طفرت دمعة متأثرة من طرفه:
-الله أعلم.
مدت همسة يدها لتمسح العبرة النافرة من عينه، ثم أخبرته في محبةٍ:
-إن شاءالله خير، دوام الحال من المحال.
وأد هيثم أحزانه التي تجمعت في صدره مضطرًا، ولف ذراعه حول كتفي زوجته ليدفعها برفقٍ خارج البلكون وهو يكلمها:
-تعالي بدل ما يفكروا إن في حاجة.
حاوطته هي الأخرى من خصره، وقالت في غير ابتسام:
-ماشي يا حبيبي.

نظرة أخرى خاطفة من عينيه نحو وجهها الساكن، بدا كما هو غير متأثر، يظهر فقط على بشرتها توردًا محببًا إليه، جعله يطيل النظر إليها دون أن يرف جفناه. وجد تميم نفسه يشرد في لون الحجاب الذي التف حول رأسها، وراح يعقد مقارنات في مخيلته بين ما رأه من ألوان ترتديها تتماشى معها، لن ينكر أن الحمرة الخفيفة مع نقاء اللون السماوي جعلها كهالةٍ جاذبة للأعين، تأسر من وقع تحت تأثيرها طواعية، وتسحبه نحو مجهولها الغامض باستسلام لا ندم فيه. شتت تميم أنظاره عنها، وتحفز في جلسته وهو يتنحنح في خفوتٍ، خاصة عندما هتف والده موضحًا:.

-الشقة عندكم اختيارين ليها، تميم عنده بيت تاني فوق شقة هيثم الجديدة، يعني ده لو حبت تسكن في نفس العمارة مع أختها، أو نشوفلها حاجة تانية مناسبة ليها، في المكان اللي تحبه.
هنا تكلم خليل مخاطبًا ابنة شقيقته بصيغة تساؤلية:
-رأي، ك إيه يا في، روزة؟
لاذت بالصمت لهنيهة قبل أن تخبرهم في حرجٍ:
-كتير أوي اللي إنتو عاملينه ده.
تحدث الجد ممازحًا ببسمة عريضة وهو يشير بنظراته نحو تميم:.

-الغالي للغالي، وبعدين عشان الواد ده يعرف إنه دفع دم قلبه في واحدة هتفضل معاه العمر كله، ويفكر مليون مرة قبل ما يفرط فيكي.
دون احترازٍ انزلق تميم مؤكدًا:
-هو أنا أقدر يا جدي!
استمرت نظرات سلطان على حفيده وهو يخبره بنبرة جادة:
-ما أنا مش هعيشلك كتير، بس أضمن حقها من بعدي.
ردت عليه آمنة في جزعٍ:
-طولة العمر ليك يا حاج.
انتقلت نظرات سلطان نحو فيروزة يسألها تلك المرة مباشرةً:
-ها يا بنتي؟ مناسب ده ليكي؟

ضجيج قلبه في تلك اللحظة كان يصدح في أذنيه، حبس تميم أنفاسه مترقبًا قرارها الحاسم، واشتدت قبضتيه على مسندي الأريكة من فرط قلقه من احتمالية رفضها، أخفض رأسه محدقًا في الأرضية، ونهجان صدره قد بات ملحوظًا، في حين تطلعت فيروزة إلى الجد مليًا، وحدسها كأنثى يخبرها أن أعصابه على المحك، استمتعت بتلك الثواني الغالية قبل أن تجاوب بإيماءة من رأسها:
-أيوه.

سرت همهمات رضا بين الحاضرين، كان أكثرها مسموعًا التنهيدة الصادرة من تميم، فقد نال في نهاية السعي الدؤوب جائزته، رفع عينيه على الفور، وحدق ناحيتها وشرارات الحب تتطاير منهما. التقت النظرات الساحرة، بالنظرات الشغوفة، لتمتزجا معًا في انسجامٍ، وكأن العالم خلا إلا من سواهما، أخذت جذوة الغرام في الاتقاد، لعل الأشواق المنتفضة في صدره، تنفذ إليه، فتلامس عينة مما يدخره لأجلها لاحقًا.

امتلأ المكان بأصوات الزغاريد المبتهجة، وتسابقت النساء في إطالتها، ليعلم الجيران بلمحة خاطفة ومشوقة عن النبأ السار. حول سلطان أنظاره عن العروس ليخاطب البقية:
-يبقى على بركة الله، نقرى الفاتحة.
ارتفعت الكفوف للأعلى، وبدأوا في قراءة سورة الفاتحة كاستهلالٍ لخطبةٍ موفقة، ما إن انتهوا حتى هتفت ونيسة بفرحةٍ:
-الصينية فين يا هاجر؟

خفضت ابنتها من يدها لتلتقط الصينية الصغيرة المسنودة إلى جانب الأريكة، ناولتها إياها وهي ترد:
-أهي يامه.
حينئذ وضعت ونيسة الصينية في حجرها، وأخرجت من حقيبتها حليًا من الذهب، كانت أولهما قرطين للأذن مصممين على هيئة ريش الطاووس المميز، بالإضافة إلى (بروشٍ) على هيئة زهرة الأوركيد، نهضت من جلستها لتتجه نحو العروس التي وقفت احترامًا لها، ثم خاطبتها وهي تمد يديها بالصينية ناحيتها:.

-دي بقى هدية بسيطة ليكي مني، وبكرة الصبح تنزلي مع عريسك تنقوا الشبكة.
تأملت ما ابتاعته لها مرددة في حرجٍ:
-كتير والله، مكانش ليه لازمة.
أصرت عليها في وداعةٍ:
-ده إنتي بقيتي بنتي التانية خلاص.
لم تستطع رد هديتها، فقبلت بها، وأخذتها من الصينية، لتقوم بعدها ونيسة باحتضانها، وهي تدعو لها:
-ربنا يجعل نِعم الزوجة لابني، ويجعله سندك في الدنيا يا رب.

تلقائيًا اتجهت عيناها من فوق كتفها ناحية تميم الذي رمقها بنظراته الوالهة، في حين أطلقت آمنة زغرودة أخرى كتعبيرٍ عن سعادتها البالغة بالأمر، لتهلل بعدئذ:
-ربنا يديم المعروف والخير بينا جميعًا.

عادت فيروزة إلى مكانها لتجلس وهي تنظر عن كثبٍ للهديتين الموجودتين في راحتها، عمقت من تأملها لهما، كانتا مميزتان؛ لكن البروش نشط ذاكرتها بذكرى رؤيتها لشبيه ما كان بحوزتها كمشبكٍ للرأس في درج الكومود الموجود بغرفة تميم، أمن المحتمل أن يكون هذا البروش تحديدًا من اختياره؟ أيعلم أن ما يحتفظ به خاصتها ولهذا قصد إيصال رسالته المتوارية لها عن طريقه؟ تجاوزت عن حيرتها لتسمع صوته القائل في لهجة جادة:.

-أنا عندي طلب بعد إذنك يا جدي ويابا.
منحه والده فرصة الحديث بتعابيره الهادئة:
-قول يا تميم، عايز إيه؟
تشجع مقترحًا على الجميع في جراءةٍ غير متوقعة:
-نخلي كتب الكتاب على طول، مالهاش لازمة الخطوبة، وتضييع الوقت.
صُدمت فيروزة بما ينوي فعله، واتسعت عيناها ذهولاً. قبل أن يفكر أحدهم في الاعتراض عليه علل أسبابه بمنطقيةٍ:
-وبعدين عشان نعرف نخلص اللي ناقصنا من غير ما حد يقول كلمة كده ولا كده.

من تلقاء نفسها هتفت والدته محتجة:
-هو حد يستجري ينطق أصلاً عليكم بحاجة؟
أجابت آمنة وكأنها تبدي تأييدها الكامل لرغبته بشكلٍ ملتوٍ:
-الناس مابتسبش حد في حاله يا حاجة ونيسة، تلاقيهم يعملوا من أي كلمة يسمعوها فيلم ولا شبورة، وكله بالباطل، المهم تفضل سيرة الواحدة دايرة على اللسان.
مصمصت شفتيها متمتمة بهزة خفيفة من رأسها:
-في دي مظبوط، ربنا ينجينا من الناس دي.
تحركت آمنة لتقف إلى جوار ابنتها، وسألتها بتلهفٍ:.

-موافقة يا فيروزة؟ ردي يا بنتي.
أجابت على سؤالها بآخر أظهر ترددها:
-هو كتب الكتاب هايكون إمتى؟
لعق تميم شفتيه، وراح يخبرها بحذرٍ:
-يعني مش بعيد، أسبوع ولا اتنين بالكتير، ونخلي الدخلة بعدين، مش هنستعجل في دي.

بدا اقتراحه مناسبًا إلى حدٍ كبير، ترقبت آمنة تعليق ابنتها النهائي بصبرٍ شبه نافذ، وتجمد تميم في مكانه منتظرًا سماع رأيها الأخير في مزيجٍ من اللهفة والخوف. ألحت الأم على ابنتها بعد أن اعتبرت سكوتها قد زاد عن المحتمل:
-أهوو كده حل معقول، ها قولتي إيه؟
هتف الجد معقبًا في جدية:
-سيبوها تاخد وقتها، وتفكر، مش عايزين نضغط عليها.
كاد تميم يجن من صمتها المريب؛ لكنها بددت كل المخاوف دفعة واحدة بإعلانها الهادئ:.

-أوكي، مافيش مشكلة.
من جديد تنهد عاليًا وهو يهلل في بهجةٍ لا توصف:
-على خيرة الله.
انطلقت الزغاريد مرة أخرى، أعقبها تهنئة سراج السعيدة لصهره:
-ألف مليون مبروك لأجدع معلم في الحتة كلها.
رد مجاملاً وهو يومئ برأسه:
-الله يبارك فيك، وعقبال ليلتك الكبيرة.
ضحك قليلاً، وأخبره في طرافةٍ:
-يا مسهل، لسه تكة ونوصل للدخلة.

مع كلمته الأخيرة كان تميم يتطلع ملء عينيه في نشوةٍ عارمة إلى من باتت خطيبته، وقريبًا من ستصبح في عصمته!

امتلأ الوسط بصوت بعض الأغاني المتنوعة ما بين شعبي وشبابي، بعد أن قامت همسة بتوصيل هاتفها المحمول، بسماعة ضخمة أحضرها زوجها في وقت سابق، للاحتفاء بشقيقتها التي تم خطبتها للتو. تبدلت أماكن الجلوس وأصبحت فيروزة مستقرة في الأريكة العريضة إلى جوار تميم رغم وجود مسافة معقولة بينهما؛ لكن إصرار الغالبية –خاصة النساء- على جلوسهما معًا جعلها ترضخ في النهاية. وزعت آمنة كؤوس الشربات على عائلة سلطان، قبل أن ترصص همسة صينية الأطباق المليئة بقوالب الجاتوه على الطاولة لتناول كل فردٍ خاصته على حدا. دنت من توأمتها قائلة بعبثيةٍ، وتلك الابتسامة الفرحة تزين محياها:.

-قولي لعريسك ياكل يا فيروزة.
رمقتها بنظرة حادة لم تكترث بها شقيقتها، وأصرت على إعطائها صحنه، لتقدمه له بنفسها، وضعته فيروزة قبالته قائلة بتلميحٍ مفهومٍ له:
-اتفضل، دي بالشيكولاته، غير التورتة اللي إنت جبتها.
أخذ الطبق منها، وابتسم معلقًا في لطفٍ:
-ما أنا واخد بالي.
اقتطع بالشوكة جزءًا من عند الحافة، وتذوقها متلذذًا بها، قبل أن يخبرها بنبرة ذات مغزى:
-طعمها حلو، زيك.

نظرت إليه نظرة محذرة، استقبلها بتحدٍ يشوبه الاستمتاع، فالبريق الذي يشع من حبتي الفيروز يستحق التأمل، أبعدت عينيها عن نظراته الطويلة، لتتساءل وقد التقطت أذناها كلماتٍ مقتطفة لما كان يدندن بها في نهار اليوم:
-مش دي الأغنية اللي كنت بتغنيها؟
أكد لها بعد لاك ما في جوفه:
-أه هي..
أسبل عينيه نحوها، وتابع مبتسمًا في إشراقة بهية:
-أنا مكملتلكيش بقيتها..

تطلعت إليه في اهتمامٍ، فدندن مع الكلمات العالية بولهٍ جعل وجهها يتقد بحمرة ساخنة:
-مش هتبقي لغيري، أيوه أنا غيري مافيش!
حاولت الحفاظ على جديتها وهي ترد:
-لا والله.
ابتسم ببلاهة وهو يؤمى برأسه مرددًا:
-أه والله.

حادت بنظراتها بعيدًا عنه وهي تقاوم شبح ابتسامة مستمتعة بصحبته، كان يثير بداخلها مزيجًا من الأحاسيس العجيبة، كلها تصب في صالحه، كأنما قد اتحدت معًا لتدعم من موقفه، انتشلها تميم من سرحانها السريع بالنداء عليها:
-يا أبلة!
التفتت ناظرة إليه، وهي ترد في رسميةٍ بحتة:
-نعم يا معلم.
جاءه تعقيبه مازحًا:
-الاحترام بينا حلو مافيش كلام، صح ولا إيه؟
بالكاد كتمت ضحكتها وهي تخبره بإيجازٍ:
-طبعًا.

أسند تميم الطبق على الطاولة أمامه، واستطرد يكلمها في لهجةٍ مالت للجدية قليلاً:
-أنا كنت عاوز أقولك على حاجة كده.
أبدت اهتمامها قائلة وهي تلعب بشوكتها في قالب الحلوى:
-اتفضل.
تنحنح متابعًا بتريث:
-فاكرة يوم كتب كتاب هاجر، لما كنتي قاعدة في المطبخ لوحدك؟
هزت رأسها قائلة:
-أيوه.

أراد في قرارة نفسه ألا يكون بينهما أسرار، أن يكون مرئيًا لها، لهذا تشجع لإخبارها بحيلته السابقة. حافظ على ثبات بسمته وهو يعترف لها:
-ساعتها عملت نفسي بتكلم في التليفون، وإني مش شايفك عشان تسمعيني وأنا بقول مش هجبرك على الموافقة، وهبعد ومش هظهر في حياتك تاني.
تعقدت ملامحها نوعًا ما وهي تتكلم في اقتضابٍ:
-فعلاً.
ظل مبتسمًا عندما أضاف:.

-الصراحة الكلام ده كله كدب، ومن ورا قلبي، وكانت حركة معمولة عشان تبدأي تفكري في كلامي بجدية.
أخفى الجزء الخاص بجده، لكونه غير مستحبٍ له، الأفضل أن يتلقى التوبيخ وحده، رأى في نظراتها نحوه استنكارًا جليًا لما اعتبرته لعبته السخيفة. عبست قسمات فيروزة وهي تسأله في ضيقٍ:
-يعني كنت بتضحك عليا وبتستغفلني؟
هتف نافيًا على الفور:
-أبدًا والله، مقدرش أعمل كده فيكي...
تحركت يده نحو موضع قلبه، وأكمل مبررًا تصرفه:.

-أنا بس كنت عايزك تحسي بده.
تلبكت أمام اعتراف منقوص بشيءٍ يكنه لها، ورمقته بنفس النظرة الجامدة قبل أن تخبره بتجهمٍ:
-عمومًا الفاس وقعت في الراس خلاص، وأنا مش هحرجك إكرامًا للناس اللي جت النهاردة هنا.
سألها في قلقٍ استبد كليًا بوجهه:
-يعني إنتي ناوية تفضي الجوازة قبل ما تكمل؟
راوغته في إجابتها:
-احتمال وارد.

لم يحبذ مطلقًا اللعب على وتيرة مشاعره، أو الاستهانة بها، لهذا قست ملامحه، وشاح بعينيه بعيدًا عنها، ليستطرد قائلاً بلهجةٍ خلت من أدنى مظاهر المرح:
-وعلى إيه؟ خلاص ننهيها من دلوقتي طالما دي رغبتك.
انقبض قلبها مع ختام كلماته، وشعرت بالدماء تفر من عروقها، لهذا اعترفت دون تفكيرٍ:
-مالك قفشت كده ليه؟ بهزر معاك على فكرة.
عاد ليتطلع إليها في نظرة معاتبة وهو يسألها:
-والله؟ زي أي جوازة والسلام برضوه؟

تحرجت من تذكيره بزلة لسانها السخيفة، وقالت بردٍ لم يرقه وهي تزين محياها بابتسامة مفتعلة:
-اعتبرها واحدة قصاد واحدة، إنت عملت عليا حركة، وأنا رديتهالك، يبقى خالصين.
سألها في جدية بحتة، وكامل عينيه عليها:
-كده خدتي حقك مني؟
حركت رأسها قائلة، وقد اتسعت بسمتها السخيفة قليلاً:
-أيوه.
أومأ برأسه معقبًا بغير هزلٍ وهو يشير لها بيده:
-زي الفل، خلينا بقى على جديده، ونرمي اللي فات كله ورا ضهرنا.

صمتت قبل أن تمنحه ردها:
-أوكي بس لو زعلتني هزعلك.
تعقد جبينه هاتفًا في استهجانٍ:
-وده اسمه إيه ده كمان؟
هزت كتفها قائلة ببرودٍ:
-مجرد تحذير عادي.
سدد إليها نظرة طويلة غامضة، قبل أن ينطق بعد زفير بطيء، وهذا اللمعان المريب يتراقص في حدقتيه:
-زي الفل يا أبلة.
لم تسترح لتلك النظرة، كما أن اعتماده لهذا الأسلوب الرسمي الجاف في ردوده عليها استفزها بشكلٍ ما، فراحت تتنمر عليه بنبرة شبه حادة:.

-إيه حكاية زي الفل دي اللي مسكهالي؟ كل ما أقولك حاجة تقولي زي الفل!
حمئتها الغريبة جعلت فكه السفلي يتدلى في غير تصديق، ليهتف بعدها ضاربًا كفه بالآخر:
-مش معقول! هو موسم الخناق بدأ بدري ولا إيه؟ ده أنا ملحقتش أدلع.
انفرجت شفتاها عن غيظٍ واضح، وسألته في تحفزٍ:
-عايز تقول إني نكدية؟
دافع عن نفسه في التو:
-هو أنا نطقت بحرف؟
خشي من تصاعد الأمور بينهما من لا شيء، فمد يده ليمسك بطبقه وهو يغمغم:.

-أقولك أنا هاكل جاتوه.
ما إن حمل طبقه بيده حتى وضعت صحنها على الطاولة، كأنما تعانده، فاقتطع بشوكته قطعة من القالب، وتذوقها في اشتهاءٍ، قبل أن يميل بجذعه ناحيتها ليهمس لها بما بدا وكأنه يغازلها:
-حلو على فكرة، سكر محلي محطوط على كريمة!
تراجعت بظهرها للخلف، ورفعت حاجبها للأعلى قائلة في جديةٍ:
-يا سلام!
اعتدل تميم في جلسته، وغرز الشوكة مجددًا في قالبه، ليحصل على قطعة أكبر، قربها منها قائلاً ببسمة مهذبة:.

-طبعًا، تدوقي يا أبلة؟
هزت رأسها رافضة بنفس التعابير الجادة:
-لأ، شكرًا.
لانت قسماته وهو يداعبها قائلاً بتنهيدة تصحبها غمزة من طرف عينه:
-ليه بس؟ ما تخليني أجرب أحط الشوكة في بؤك؟ هتكسري بخاطري.
لمعت عيناها بشكلٍ غامض، قبل أن تقرب رأسها منه لتخبره بهمسٍ وهي تضع يدها على جانب فمها:
-باباك بيبص علينا على فكرة، وشكله ناويلك.

تلقائيًا حانت منه نظرة سريعة نحو أبيه، فوجده يطالعه بنظرة قوية مغزاها أنه لن يقبل بأي تجاوزٍ يحدث تحت شعار الخضبة، حرك تميم جسده على الأريكة، ليزيد من المسافة الفاصلة بينه وبين طاووسه المشاكس، ليدمدم بعدها بعبوسٍ ساخر، وكل تركيزه أصبح منصبًا على بقايا قالب الجاتوه:
-أه عارفها البصة دي، كده هيحط الطبق كله في وشي...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة