قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثامن

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثامن

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثامن

من أجرم هكذا في حقها لتغدو هشة من الداخل والخارج؟ حالها تبدل، وأحوالها تغيرت، لم تعد تلك القوية المعتدة بنفسها، بل كانت تذبل يومًا بعد يوم؛ وكأن رصيدها من الكفاح قد انتهى! وحين أفاقت من دوامتها، وبدأت تستعيد ما افتقده، عادت لنقطة الصفر خالية الوفاض، كأنما لم تحرز شيئًا. تطلع تميم إلى وجه فيروزة الغائب عن الوعي بقلقٍ بالغ، أظهرت ملامحه مدى خوفه عليها، قاد سيارته إلى أقرب مشفى وسط تركيزٍ شبه ضائع، كان ينظر إليها بين الفنية والأخرى، آملاً ألا تتدهور حالتها للأسوأ، خاصة أنه اختبر معها لأكثر من مرة شعور السقوط في بئر ظلامها.

بالكاد بلغ المشفى بأعصابٍ شبه متلفة، صاح عندما عبر البوابة الرئيسية مناديًا بصوته الجهوري:
-عايز دكتور.
أوقف سيارته عند المدخل الرئيسي، وترجل منها مناديًا بنفس الصوت الهادر:
-حد يساعدني أوام.

رفع أنظاره للأعلى بعد أن فتح الباب الملاصق ل فيروزة ليجد بضعة ممرضين يهرولون في اتجاهه بحاملٍ طبي، امتدت ذراعاه خلف ظهرها، وأسفل ركبتيها، ثم حملها من على مقعدها، وعاونهم في تمديدها على الحامل، قاموا بدفعها وإدخالها إلى الطوارئ في الحال، أسرع في خطواته ليلحقهم؛ لكن استوقفه أحد الموظفين طالبًا منه:
-مش هينفع يا أستاذ، حضرتك تعالى معايا عشان تملى البيانات بتاعتها.

على غير إرادته اضطر أن يتراجع ليسير مع الموظف؛ لكن ظل قلبه –ووجدانه- معلقًا بها!

لا يعرف بالظبط كم مرة نظر فيها إلى ساعة هاتفه المحمول، ليحسب الوقت الذي مر عليها منذ أن اختفت بالداخل، احترقت أعصابه من الانتظار، وكاد يصل لحافة الانهيار من شدة خوفه عليها، تنفس بعمقٍ لمرات عديدة، ليثبط ما يعتري صدره من مشاعر مستعرة، أراد المساعدة فمنح الطبيب المكلف بتفقد حالتها لمحات غير مرتبة عن طبيعة ما شهده في حالته، ليساعده على التشخيص الصحيح. جال بخاطره أن يهاتف هيثم ليستعلم منه عن الأسباب التي أدت لوصولها لتلك الحالة السيئة، لم يفكر مرتين، وضغط على زر الاتصال به، حياه في اقتضابٍ، ثم سأله بلا تمهيد:.

-هي الأبلة كانت عندكم يا هيثم؟
تردد صوته قبل أن يجاوبه:
-أيوه، بس مشت من بدري.
احتدت نبرة تميم وهو يعقب عليه بتعابيرٍ غائمة:
-ما أنا شوفتها، وحالتها زي الزفت.
ما كان من ابن خالته إلا أن قال له دون تجميلٍ:
-بصراحة أسلوبها يحرق الدم، ما إنت عارف طريقتها معايا.
بدأت معالم الصورة تتضح في ذهنه، فسأله بعد زفيرٍ ثقيل:
-إنتو شديتوا مع بعض؟
تنحنح في خفوتٍ ليجيبه بحذرٍ:
-حاجة زي كده.

انفجر صائحًا فيه دون أن ينتبه لتواجده في رواق المشفى الهادئ:
-مش أنا منبه عليك يا هيثم؟!
رمقته ممرضة ما تسير على مقربة منه بنظرة محذرة، فرفع يده كنوع من الاعتذار غير الشفهي، ركز مع رد هيثم المبرر له:
-هي اللي مستفزة اقسم بالله.
كز على أسنانه مانعًا نفسه من شتمه، وسأله على مهلٍ كأنما بهذا يحاول ضبط أعصابه:
-احكيلي على اللي حصل بالظبط.

بعبارات موجزة سرد له ما حدث من مشادة كلامية انتهت سريعًا دون أضرار فعلية من وجهة نظره. اشتاطت نظراته بشكلٍ واضح، وتفشى في وجهه حمى الغضب، يكاد يُجزم من يتطلع إليه في تلك اللحظة أن ملامحه تبدو كقنبلة موقوتة، صوت أنفاسه كان مسموعًا وهو يخبره:
-طيب، خليك عارف بقى إن جالتها الحالة إياها في الشارع، ووقعت من طولها، وأنا نقلتها على المستشفى.
هتف مصدومًا:
-إيه ده، معقولة؟!
عنفه تميم بزجرة شبه مسموعة:.

-يا ريت تكون مرتاح دلوقتي.
حاول التبرير فقال بتلعثمٍ:
- تميم أنا...
لم يعطه الفرصة لإيضاح موقفه، وقاطعه بلهجةٍ صارمة تحمل في طياتها الإنذار المهدد:
-اسمعني، وماتقطعنيش تاني، اللي حصل حصل خلاص، بس من هنا ورايح مافيش أي صدام معاها، ماشي؟
رد دون نقاشٍ:
-طيب.
استطرد يكمل بعدها:
-تاني حاجة، ماتبلغش حد من أهلها لحد ما أطمن الأول، وأشوف إن كان الوضع يستاهل يعرفوا ولا لأ، مافيش داعي للشوشرة على الفاضي.

بالطبع لم يكن ابن خالته في وضعٍ يخوله بالجدال معه، فأبدى طاعته قائلاً:
-ماشي.
ضغط على زر إنهاء المكالمة وهو يبرطم في غيظٍ متزايد:
-هي كانت نقصاك يا هيثم!
دس هاتفه في جيبه، وانحنى بجذعه قليلاً للأمام، ليستند بمرفقيه على ركبتيه، وواضعًا وجهه بين كفيه منتظرًا بأعصابٍ متلفة سماع ما يطمئنه.

وجد في قربه منها كل السعادة الممكنة، وفي بعده عنها كل التعاسة المروعة، لما لا تريح قلبه المشتاق، ويحدث بينهما الوصال؟ أم تراها تتركه على جمر العشق يقتات؟ بعد برهةٍ من انخراطه وسط حزمة لا بأس بها من الأفكار السوداوية غير المبشرة بالمرة، حل ظل طويل عليه، فرفع رأسه ببطءٍ لينظر لصاحبه؛ لكن سرعان ما قفز واقفًا ليسأله:
-خير يا دكتور؟
ابتسم الطبيب وهو يُبلغه بصوته الهادئ:.

-فاقت والحمدلله، كويس إنك ادتني فكرة عن حالتها.
سأله في لهفةٍ، وكامل نظراته عليه:
-يعني بقت أحسن؟
هز رأسه قائلاً بتردد بائن على وجهه قبل نبرته:
-ده على حسب...
حملق فيه تميم بوجومٍ شديد، بينما استمر الطبيب في سؤاله:
-هي بتاخد أدوية؟
أجاب بعد تفكيرٍ سريع:
-أيوه، أنا كنت جبته ليها قبل كده.
تساءل الطبيب وهو ينظر مليًا إليه:
-بانتظام؟
انعكست الحيرة على قسماته، وأجابه:
-مش عارف.
أخبره الطبيب كنوعٍ من التحذير:.

-ضروري تتأكد، بحيث الحالة دي متكررش تاني ليها، ونصيحتي ليها تبعد عن أي ضغوط نفسية الفترة الجاية.
أومأ برأسه هاتفًا:
-حاضر، اللي تشوفه يا دكتور.
مد الطبيب يده ناحيته بوصفة طبية دونها سابقًا، ثم قال:
-دي شوية مهدئات مافيش منها ضرر عليها، تقدر تصرفها من الصيدلية اللي هنا.
أخذها منه وهو يشكره:
-ماشي يا دكتور، تعبناك.

تأكد من إحضار ما يلزمها من أدوية قبل أن يتجه إلى الفراش الطبي المستلقية عليه بغرفة الطوارئ بالمشفى، لم يتم نقلها لغرفة خاصة بسبب إصرارها على المغادرة، كما أن حالتها لم تكن تستدعي البقاء تحت الملاحظة. اجتاح دوار مؤلم رأسها وهي تنزل ساقيها عن طرف الفراش الضيق، مما اضطرها للتشبث بحافته للحظاتٍ حتى تستعيد اتزانها، أقبل عليها تميم بعد أن حددت له الممرضة مكانها بين بقية المرضى المفصولين عنها بحواجز قماشية بيضاء اللون، نظر إليها في خوفٍ وسألها بجزعٍ:.

-إنتي كويسة؟ أناديلك حد من الدكاترة يشوفك؟
رفعت يدها لتشير له قبل أن تتكلم بصوتٍ نم عن تعبها:
-لأ، مافيش داعي.
تطلع إليها بنفس الخوف، لكنه تنهد بارتياح مخاطبًا إياها بعفوية تامة:
-خضتيني عليكي.

رفعت فيروزة عينيها الحزينتين لتحدق فيه باستغرابٍ، لم يندم لاعترافه النزق، رغب في أن تعلم بأهميتها الشديدة عنه، أن ما تعانيه بمفردها يؤثر عليه بقوة، قرأت في تعابيره اهتمامًا مبالغ فيه، فضاعف من شكوكها، بل إنه أوشك على تأكيد ما ناقشته في وقت سابق مع طبيبتها، أخفضت رأسها وهي تشعر بالارتباك والتخبط، لم ترغب في استنباط أمور وهي في تلك الحالة. استجمعت قوتها لتنهض بحذرٍ، فتقدم منها تميم خطوة مقترحًا في تهذيبٍ:.

-عايزة مساعدة؟
لف دوار آخر سريع برأسها مما جعلها تترنح، ومع هذا نجحت في التماسك، والاستناد بقبضتها دون قصدٍ على ذراعه الممدودة إليها، سحبتها على مهلٍ وهي تعتذر منه:
-سوري.
حمحم بخفوتٍ:
-ولا يهمك، أنا موجود معاكي لحد ما أوصلك البيت.
ثم أشار لها نحو طريق الخروج متابعًا كلامه ببسمة صغيرة:
-اتفضلي يا أبلة.

تباطأت في سيرها لئلا تدع الدوار المزعج يعصف برأسها، ولم يتعجل تميم ذهابها، كان متمهلاً في خطاه ونظراته تراقبها بحرصٍ واضح. لن ينكر أن الحزن الذي احتل قلبه خف بقدرٍ كبير بعد أن عادت إلى وعيها، وبادلته الحديث، وإن كان بكلماتٍ مقتضبة؛ لكنها تكفيه ليرضى.

تردد للحظاتٍ قبل أن يفتح لها الباب الملاصق للمقعد الأمامي لسيارته لتجلس فيه، توقع أن يُقابل عرضه بالرفض، وربما تطلب استئجار سيارة أجرة؛ لكن على غير المعتاد استقرت به في صمتٍ، وكان في أوج فرحته، غير مصدق أنها اختارت أن تكون إلى جواره مجازًا. أغلق الباب بهدوء وهو يخبرها بابتسامةٍ عريضة:
-حمدلله على سلامتك.

دار حول مقدمة سيارته، وجلس بسعادةٍ لا توصف خلف المقود لينطلق بعدها بسرعة بطيئة نسبيًا، في حين أراحت فيروزة رأسها على الجانب، تتطلع إلى معالم الطريق بنظرات جمعت مختلف درجات التعاسة. ما زال التردد ممسكًا ب تميم وهو يحاول جذب أطراف الحديث معها، بدت له فرصة لا تعوض، ليس فقط للحوار معها، وإنما أيضًا لانتشال الحزن من نفسها الكسيرة. أجلى صوته، واستطرد يخاطبها وهو يختلس النظرات ناحيتها:.

-الفترة اللي فاتت إنتي كنتي مضغوطة في تجهيز كل حاجة في محلك لواحدك، ده تلاقيه تعبك...
لم تنظر نحوه، واستمرت في تحديقها الشارد للطريق، فتابع مقترحًا:
-أما ربنا يفتحها عليكي شوفيلك بنت ولا اتنين يقفوا معاكي يساعدوكي ويخففوا الحِمل شوية.
كانت نظراته مشتتة، ونبرتها إلى حد كبير معذبة وهي تتساءل:
-هو أنا للدرجادي وحشة؟
تعجب من سؤالها الغريب، وأجاب نافيًا بما ظهر وكأنه تغزل بها:.

-إنتي أحلى من البدر في تمامه، أجمل ما شافت عيني.
انخفضت نبرته مع اختتام جملته الأخيرة متوقعًا أن تنهال عليه بتأنيب عنيف؛ لكنها بقيت صامتة، لا تنظر في اتجاهه، تألم قلبه في حرقةٍ، وأخبرها بعد زفيرٍ سريع:
-إنتي جدعة أوي، مافيش زيك، ماتخليش حاجة تكسرك.

لدهشته التفت تنظر إليه في حزنٍ عميق، بدت غير مقتنعة بما يحاول بثه في نفسٍ تهشمت مرة بعد مرة، فلم يبقَ إلا الفتات ليدعس كذلك تحت الأقدام! بادلها نظرة صامتة محملة بما يضمره قلبه لها، رجا أن تنفذ تلك النظرة العميقة إليها، لترى داخل روحه الذائبة عشقًا فيها. قطعت تواصلهما البصري لتعاود التحديق في المعالم المتداخلة من الطريق.

بعد بضعة دقائق كان يصف سيارته أسفل بيتها، انتظر أن تتحرك من مكانها وتخرج؛ لكنها ظلت جالسة، غير مدركة أنه أوقف المحرك، ناداها بصوتٍ شبه هامس وهو يشملها بنظراتها الحانية
-يا أبلة!
استدارت ناظرة إليه في غرابةٍ، فأخبرها ببسمة لطيفة وهو يشير بسبابته:
-ده البيت.

كأنما قد أفاقت لتوها من سرحانٍ مريب، دققت النظر حولها، واستوعبت ما قاله لتضع يدها على قفل الباب وتترجل من السيارة، تبعها قائلاً في توجسٍ تسرب إليه:
-أنا هستنى هنا شوية لحد ما أطمن إنك طلعت.
هزت كتفيها قائلة بعدم مبالاة:
-اللي إنت عايزه.
أولته ظهرها وتحركت بنفس الخطوات البطيئة، فهتف يوصيها بقلبٍ يحزه الألم:
-خدي بالك من نفسك...
انزلق لسانه متابعًا بحذرٍ تلك المرة:
-إنتي غالية عند الكل...

أطبق على شفتيه ليحبس الحروف في جوفه وهو يكمل في لوعةٍ:
-وأولهم أنا.

برزت عيناها في استنكارٍ حانق بعد أن رأتها من الشرفة تترجل من سيارته، وعلى الرغم من علمها الجيد بأن صاحبها لا غبار على أخلاقه، إلا أن ألسنة البشر لا تعرف التمييز، يميلون لاختلاق الأكاذيب، وترويج الشائعات من بضعة كلمات ملفقة. اختلجت تعبيرات آمنة بحمرة مستاءة، دارت بنظراتها في المكان لتتأكد من عدم رؤية أحدهم لابنتها قبل أن تنسحب من مكانها لتتجه إلى باب المنزل، والضيق يتزايد في صدرها. انتظرت بصبرٍ فارغ صعودها على الدرج، لتخرج إليها تسحبها من ذراعها من على أول البسطة، ثم دفعتها بعصبيةٍ إلى الداخل، أغلقت الباب وسألتها بصوتٍ محموم:.

-كنتي فين يا فيروزة؟
طاقتها المستخدمة للتبرير لم تكن متوفرة بالقدر الكافي، فأثرت الصمت، وواصلت سيرها المتخاذل نحو غرفتها، مشيت آمنة ورائها تسألها في نبرة شبه متعصبة:
-مش دي عربية المعلم تميم اللي إنتي نازلها منها؟ هو إنتي كنتي معاه؟
تنهدت فيروزة بعمقٍ، وسألتها بصوتٍ خافت وهي تجرجر ساقيها الهزيلتين:
-هتفرق؟
استبد بها ضيقها، وبلغت عصبيتها أقصاها فصاحت بها تؤنبها:
-يا بنتي ردي عليا، بدل ما الناس تاكل وشي!

وكأنها انتزعت فتيل لغمٍ دفن في حقبة سالفة دون أن تعي خطورته، احتدت نظرات فيروزة، واشتاطت وهي تلومها:
-الناس؟ هو ده اللي يهمك الناس هاتقول إيه؟ مش فارق معاكي أنا؟!
أخبرتها ببساطة:
-أيوه، ما احنا مش عايشين لوحدنا...
ثم رمقتها بتلك النظرة اللائمة وهي تتابع في قساوة لا تخلو من الاستفزاز:
-ده غير إنك أرملة، وأصحاب النوايا السوء ممكن يفكروا إن السِكة سالكة، وإنك آ...

لم تتحمل سماع هذا الافتراء الظالم وتسكت عنه، قاطعتها في عصبيةٍ ارتفعت وتيرتها في لمح البصر:
-نعم؟ إيه الكلام ده؟
ردت عليها والدتها بنفس الحدة:
-أنا بوعيكي باللي ممكن يتفهم غلط، الناس مش بتسيب حد في حالة.
اهتاجت فيروزة صارخة في وجهها، ومشاهد غير سارة تصارع بضراوة لاقتحام عقلها:
-الناس، الناس، الناس!
لم تحتوِ آمنة ابنتها، واستمرت في الضغط عليها:.

-أيوه الناس، لازم نعملهم اعتبار، إنتي مش عايشة لوحدك على جزيرة مقطوعة.
ارتعشت أطراف فيروزة في عصبيةٍ مخيفة، وهدرت بكل ما اعتراها سابقًا من حرقة مؤلمة:
-عشان خاطر الناس دول أنا اتهنت واتبهدلت...
كانت والدتها على وشك الرد؛ لكن أخرسها صياح فيروزة الرهيب:
-عشان كلام الناس اللي خايفة عليهم اترميت في الغربة لوحدي من غير سند ولا ضهر يحميني.
استمرت في رفع نبرة صراخها وهي تخبرها بألمٍ لا يزال نابضًا بها:.

-عايزة تعرفي حصلي إيه هناك؟
رمشت آمنة بعينيها في ارتعاب فزعٍ، فتعابير ابنتها، وحركاتها الانفعالية أخبرتها أنها في وضع سيء، دنت منها لتهدئها؛ لكنها نبذت ذراعها وتراجعت مبتعدة عنها لتتابع في حنقٍ:
-هاقولك، خدت على دماغي، وبقيت أضرب كل يوم، وأتذل وأتهان بأبشع الطرق، ومش قادرة أفتح بؤي ولا اشتكي.
نهج صدرها، وهدرت أنفاسها مع قولها:
-أنا كنت بين الحياة والموت، مرمية في المستشفى، محدش دريان بيا.

انتزعت حجابها عنها، وأدارت رأسها للجانب وهي تُحدث فرقًا في شعرها، لتنطق بعد ذلك بنفس الصوت الصائح:
-بصي شوفي كويس الغرز اللي مدرياها دي، من آسر بيه سليل العائلات المحترمة، اللي بتدعيله بالرحمة على طول...
هبطت الصدمة عليها كصاعقة بعد أن رأت ما ترك من أثر في فروة رأسها، وبدأت عيناها تحتجزان العبرات فيهما، في حين أرخت فيروزة يديها، واستقامت واقفة لتخبرها باعتزازٍ مخلخل:.

-هو اللي عمل كده فيا، عشان الشجاعة خدتني ووقفت قصاده وقولت لأ، كفاية ذل واستعباد وآ...
عجزت عن إخبارها بما اختبرته، وعاشته من معاناة بشعة أودت بها للحضيض. انخفضت نبرتها نسبيًا، وتهدل كتفاها في انكسارٍ واضح عندما قالت بصوتٍ مهزوم:
-كمل على اللي فاضل فيا...
سرعان ما عاد الهياج ليستبد بنبرتها وهي تضيف:
-أنا كنت هموت على إيده لولا إن ربنا كتبلي عُمر جديد.

رجتها والدتها في خوفٍ وقد فاضت عيناها بالدمع تأثرًا:
-اهدي يا فيروزة.
صياحها الصارخ أجبر الصغيرة رقية على الاستيقاظ من نومها بفزعٍ، خرجت متسللة على أطراف أصابعها من غرفة أبيها النائم بعمق بسبب تأثير الأدوية الثقيل، فركت عينيها الناعستين، وتقدمت للأمام، وجدت ابنة عمتها تتشاحن مع أمها في عصبيةٍ هوجاء، وقفت عند باب غرفتها، تتشبث بحافته، أو الأحرى أنها تختبئ ورائه خوفًا مما يحدث بينهما.

أمسكت فيروزة بمزهرية صغيرة، التفت أناملها حولها بقوةٍ، وصاحت بنظراتٍ عكست ظلامًا مخيفًا:
-طالما الناس هيتحكموا في حياتي، أنا مش عايزاها، ولا عايزة الناس.
تحركت آمنة في عشوائية تحاول منعها من التصرف برعونةٍ وهي تستعطفها:
-استني يا بنتي، اسمعيني بس.

نفضت يديها اللاتين تحاولان إيقافها، وقذفت بالمزهرية في عنفٍ مفرط نحو التسريحة، فسقطت مرآتها الكبيرة مهشمة بدويٍ مفزع، شهقت آمنة في رعبٍ، وصرخت رقية بخوفٍ، بينما امتدت قبضة فيروزة لتمسك بقطعة من الزجاج الحاد، وتطلعت إلى والدتها بنظراتٍ جوفاء خالية من الحياة وهي تخبرها:
-أنا خلاص تعبت من كل حاجة، بعمل اللي يريح الناس، لكن أنا فين من ده كله؟!
لطمت آمنة على صدغيها مستغيثة:.

-يا لهوي، الحقوني يا ناس، غتوني!
اشتدت قبضة فيروزة على نصل الزجاج القاطع، غير عابئة بالجروح التي نتجت عنها، ولا بالدماء التي نزفت منها، تخشب جسدها، وهدرت بأنفاسٍ منفعلة، وقد كست عيناها قساوة مخيفة:
-أنا هريحكم كلكم مني...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة