قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل التاسع

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل التاسع

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل التاسع

باسترخاءٍ ظاهر عليه وهو مستلقي على فراشه، ضم ساقه فوق الأخرى، وأراح ظهره للخلف مستندًا على وسادتين تحتاجان لإعادة نفض القطن المحشو بداخلهما، نظرة سريعة سددها نحو باب غرفته الموصود، قبل أن يتجرأ على إخراج قطعة الثياب التحتية المحتفظ بها أسفل إحدى الوسادتين للنظر إليها عن كثب. رفعها فضل إلى مستوى نظره وهو يتحسس ملمس قماشها الدانتيل، مستحضرًا في ذهنه لحظة عودته إلى المشعوذ -مدعي المعرفة والعلم- ليأخذها منه عنوة، بعد أن انتهى لقائه به بدقائق وهو يقول بتهكمٍ مستفز:.

-ماظنش إنها هتفيدك في حاجة.
ضاقت عينا الرجل في استنكارٍ، وهتف يوبخه:
-يا ساتر عليك.
دسها في جيب بنطاله، وأشار بإصبعه مشددًا:
-ماتنساش اتوصى بالعمل.
بوجهٍ منقلب أخبره وهو يضع حفنة من البخور على مبخرته:
-قولتلك لما هخلصه هعرفك.
علق عليه في سخرية مليئة بالصلف:
-ماشي يا، بركة.
أفاق من شروده السريع وهو يفرك بإبهامه الملمس القماشي، ثم قال بابتسامة بغيضة:
-هاتروحي مني فين يا بنت عمي؟

اسودت نظراته، وعكست شرًا دفينًا وهو يتابع وعيده:
-ده أنا هاطلع كل البلى الأزرق على جتتك.
-يا فضل!
نداء والدته القادم من الخارج أجبره على إخفاض ذراعه، وإخفاء قطعة الثياب أسفل وسادته ليصيح بعدها بصوتٍ خشن:
-أيوه يامه.
أخبرته بصوتها المرتفع:
-تعالى شيل صينية الأكل عشان تتعشى.
وسد ذراعه خلف رأسه، وادعى بالكذب:
-هاتيهالي يامه، مش قادر أقوم من مكاني.

لحظات وأتت إليه حاملة صينية الطعام، بدت غير قادرة على الوقوف باستقامة، ولم يكلف نفسه عناء النهوض لتناولها عنها، انتظر حتى وضعتها على طرف الفراش، تأمل ما حضرته له، وقال بتعابيرٍ غير مبتسمة:
-إنتي محطتيش البيض المقلي على الفول؟
نظرت له قائلة بحاجبين معقودين:
-الزبدة خلصت، بكرة الصبح أبقى أشتري.
اعتدل في رقدته، وقال وهو يقطع رغيف الخبز إلى أجزاءٍ صغيرة:
-طب اعمليلي شاي في الخمسينة يظبط دماغي قبل ما أنام.

قالت وهي تزفر في ضيق:
-حاضر يا فضل، إياكش تبطل طلبات وتريحني.
ملأ فمه بالطعام، يبلعه دون مضغه جيدًا، كان يأكل بنهمٍ شديد، وكأن رغبته في الانتقام قد أصابته بجوعٍ غريب.

التدخين، عادة سيئة كان بحاجة للإقلاع عنها كليًا، وها هو يجتهد في مسعاه لأن يدخن أقل من المعتاد بكثير، حتى يتوقف عن فعل ذلك تمامًا، ومع هذا كانت في بعض الأحيان وسيلته المتاحة لطرد الشحنة المشتعلة بداخله، فإن بقت كما هي لربما جعلته يتصرف بغير حكمة؛ لكن في كل الأحوال البقاء على تلك العادة ليس بالمحمود على المدى الطويل. انتظر تميم مرتكنًا على جانب السيارة يهز ساقه في عصبية، ومكتفًا لساعديه أمام صدره، وعيناه تتطلعان إلى الأعلى، دعته الحاجة للإمساك بشيءٍ ما يفركه ليخفف من التوتر، ففضل البحث عن ولاعته، لم تكن بجيبي بنطاله، فانحنى يفتش عنها من النافذة؛ لكنه رأى كيس الدواء الذي ابتاعه موضوعًا كما هو على الكرسي الخلفي، غمغم يؤنب نفسه في انزعاجٍ:.

-إزاي نسيته!

التقطه بيده، وأوصد سيارته عاقدًا العزم على توصيله لها، لكونه يعلم مدى حاجتها لتناول أدويتها في هذا الظرف المرضي الحرج. سحب شهيقًا عميقًا، وأسرع في خطاه متجهًا للداخل. بدأ في الصعود بخطواتٍ سريعة على السلم، فاسترعى انتباهه الصراخ القادم من عند طابقها، تهادى في سيره، وأرهف السمع لما قيل بوضوحٍ، حلت الصدمة على رأسه فأصيب بوخزات قابضة في صدره، جعلت أصابعه تشتد على حافة الدرابزين، بدا وكأنه سيسقط من هول ما سمعه مصادفة، بل وجسد عقله تلقائيًا مشاهدًا تخيلية لما يمكن أن تكون ذاقته من ويلاتٍ قاسية بمفردها دون دعمٍ أو مساعدة، أو حتى قدرة على إيقاف بطش ذلك الوغد الحقير. استشاطت نظراته، واصطبغت بشرته بحمرة حانقة صعدت إلى وجهه، مشاعره المدافعة عنها جعلته في تلك اللحظة راغبًا في الثأر لها، في تمني عودة الزمن إلى الوراء من أجل قتل هذا القميء قبل أن تمسها يداه بسوءٍ. ثقلت أنفاسه، وظهر بوضوح محاولته المضنية لتحجيم ما يستعر بداخله حاليًا. انتفض مع صراخ آمنة المستغيث:.

-الحقوني يا ناس!
تحرك سريعًا نحو باب المنزل يقرع جرسه، ويدق على بابه في عصبية امتزجت بالخوف، كاد يجن وهو واقف بالخارج عاجز عن اقتحام المنزل، أوشك أن يحطم الباب لولا أن فتحت الصغيرة رقية له لتخبره وهي ترتعش:
-الحقنا يا عمو.
ظهرت علامات الرعب على كل تفصيلة من وجهها، سألها تميم في جزعٍ:
-فين عمتك والأبلة؟
أجابت ببكاءٍ وهي تشير بيدها:
-جوا.

كان يعرف الطريق جيدًا إلى غرفتها، لم ينتظر الإذن للسماح له بالدخول، اقتحم البيت قاصدًا نجدتها من أي ضرر قررت إقحام نفسها فيه، بسبب إتلاف أعصابها وإيصالها لحافة الانهيار.
جحظت عيناه فزعًا وقد رأى يدها القابضة على قطعة من الزجاج مخضبة بالدماء الغزيرة، ووالدتها جاثية قبالتها تتوسلها في حرقة:
- فيروزة، حرام عليكي يا بنتي.
نفضت ذراعها الممدودة إليها بقسوةٍ، وهدرت في غير وعي:.

-سيبوني بقى، خلوني أموت وأرتاح.
لم يقف متجمدًا كالمشاهد كثيرًا، بل اندفع ناحيتها جاثيًا على ركبته، بعد أن ألقى بكيس الدواء جانبًا، ثم قبض على معصمها، ونظر إليها راجيًا:
-عشان خاطري أنا سبيه.
تطلعت إليه بعينين غائرتين، بها نظرات خاوية، ليست كتلك النظرات المعتاد عليها منها، وإن كانت في كثير من الأحيان فاترة. صرخت به فيروزة في شراسةٍ وقد اشتدت قبضتها على القطعة الزجاجية:.

-ابعدوا عني، أنا تعبت من كل حاجة، كفاية بقى، عايزين إيه مني؟!
نظرت آمنة في عجزٍ أولاً إلى تميم تستجدي به، قبل أن تحملق في ابنتها تستعطفها ببكاءٍ:
-حقك عليا يا بنتي.

أشار تميم بعينين صارمتين لأمها لتفسح له المجال ليتمكن من التعامل معها بروية، فتراجعت زاحفة للخلف وكامل نظراتها على وجه ابنتها، وضعت يديها على فمها تكتم شهقاتها المذعورة، في حين استطاع تميم الانتقال من موضعه ليغدو في مواجهة طاووسه الجريح، حاول تخلل أناملها المحكمة بشدة على قطعة الزجاج بيده الطليقة وهو يطلب منها بصوتٍ خفيض لكنه آمر:
-سبيه.

وكأنها تخاطب طيفًا وهميًا لا وجود له، واصلت فيروزة الصراخ باهتياجٍ:
-كفاية بقى تعذيب فيا.
حافظ على ثبات نبرته رغم الألم الذي يجتاحه عندما قال:
-محدش هيجي جمبك.

جُرحت أصابعه وهو يمررها في فراغٍ حاول إيجاده بين أناملها والنصل الحاد، بقوةٍ ذكورية كانت مضاهية لها في قوتها الناجمة عن انفعالها العصبي، لم يأبه للجروح التي نالت منه، ولم يكترث لو تقطع جلده واهترئ، يكفيه ألا تصاب بالأذى، بقيت عيناه عليها، لا يرى سواها، بالرغم من كونه متيقنًا أنها لا تراه فعليًا، غضبها المتفجر حجب عنها الصواب، رمقها بنظرة دافئة بث فيها كل ما اعتمر كيانه منذ لحظة إدراكه لحبه لها، أرادها وسط غياهب الظلام المستبد بها حاليًا أن تبصر نقاء مشاعره، وقد كان له ما رجا، النظرات المشتاطة بدأت تسترخي، تتطلع إليه في حدةٍ أقل عما مضى، شاركها الألم ظاهريًا وباطنيًا، حاول احتواء غضبها الأعمى بصبره الحليم، وبعد مثابرة حذرة كانت قبضته تحمي كل يدها الجريحة من النصل، انتزعها منها وهو يبادلها نفس النظرات الحانية. في تلك اللحظة تحديدًا كانت آمنة ممتنة لوجده، شاكرة لحضوره معها، وإلا لكانت خسرتها للأبد. هتفت من ورائه قائلة بنهنهاتٍ باكية:.

-أنا هاطلب الدكتورة بتاعتها تلحقها.
صوتها أجج من جديد الغضب في ابنتها، فصرخت عاليًا:
-كفاية.
وقبل أن تفكر في التقاط أي قطع زجاجية أخرى، قبض تميم على معصميها بكفيه مثبتًا إياها في مكانها، ليمنعها من تكرار المحاولة أو الإقدام على شيء أكثر تهورًا. قاومت فيروزة تحجيمه لقواها الغاضبة، وواصلت الصراخ الهيستري، فما كان منه إلا هتف:
-بسرعة يا حاجة الله يكرمك.

دنت رقية منهما، وتساءلت في ارتعاشٍ لا يزال مسيطرًا عليها:
-هي مالها؟
سلط تميم أنظاره عليها، وأمرها بحزمٍ:
-خليكي واقفة بعيد...
هزت رأسها في طاعة، وتراجعت إلى البقعة التي كانت تختبئ بها، حاول كذلك طمأنتها، فتصنع الابتسام وقال:
-متقلقيش عليها هاتبقى كويسة.
عادت عيناه تتأمل وجه فيروزة الغاضب، هزها في رفقٍ لتستجيب لكلامه وهو يخاطبها:
-إنتي أقوى حد عرفته، ماتستسلميش!

ضاقت عيناها في شراسةٍ تخللها القليل من الدهشة، وكأنها تبحث وسط ما تجابهه عن منفذ للخروج؛ لكن انفعالاتها الثائرة أبت أن تتركها بعد أن تفجرت بداخلها، هاجت وماجت وصرخت بألمٍ حتى خارت قواها، وسكنت في جمود مريب. تضاعف خوف تميم عليها، وصاح في حنقٍ وهو يدير رأسه نحو الباب:
-الدكتورة ردت ولا لأ؟!

حينما عاود التحديق ناحيتها كان منكسة لرأسها، شعر بارتخاء تشنج معصميها أسفل قبضتيه، رأى كتفيها وهما يتهدلان، وأنفاسها المنفعلة تخبت، فاستطرد يخبرها بصوتٍ مال للخفوت؛ لكنه كان صادقًا للغاية:
-أنا جمبك، على طول.

انتهى الطبيب الذي استدعاه من تضميد جروح يدها قبل أن يعالج جروحه هو الآخر، بالطبع أعطاه نصائح إرشادية بضرورة عرض المريضة على طبيب نفسي، فتقبل نصائحه بصمتٍ، وأوصله إلى الخارج مع نفحة مالية سخية. استدار ناظرًا إلى الصغيرة رقية، كانت جالسة على الأريكة منكمشة على نفسها، تضم ركبتيها إلى صدرها، تحرك ناحيتها، وجلس إلى جوارها يسألها بإرهاقٍ:
-إنتي عاملة إيه؟
بعينين حمراوين من البكاء سألته في براءة:.

-هي، فيروزة هتموت؟
انقبض قلبه من مجرد الفكرة، ازدرد ريقه، ثم لف يده حول كتفيها نافيًا بوجهٍ متقلص العضلات:
-لأ بعد الشر عليها، هي بس كانت مضايقة شوية...
تصنع الابتسام وهو يكمل:
-ودلوقتي هتبقى كويسة.
بدت غير مقتنعة بكلامه، ولم يكن في حالة مزاجية رائقة تجعله قادرًا على اختلاق الحجج لها لتبديد مخاوفها، مسد تميم بيده على شعرها كأنه يمشطه، وسألها في لطفٍ:
-إنتي كده مش اتأخرتي على ميعاد نومك؟ بابا هيزعل منك.

اعترفت له بنفس البراءة وهي تنظر إليه:
-أنا خايفة.
ربت على كتفها في تعاطفٍ متفهم، ثم أخبرها ببسمة صغيرة تشكلت على زاوية فمه:
-حد يخاف والمعلم تميم معاه؟
ما كان من الصغيرة إلا أن حلت ساعديها، وارتمت في أحضانه قائلة بعفوية الأطفال:
-أنا بحبك.
مسح على ظهرها في رفقٍ، وهو يتطلع إليها مليًا، قبل أن ينطق:
-إنتي كل الناس بتحبك.

نهضت من جواره مبتسمة، لتختفي بالداخل، وعيناه تتبعاها، تنهيدة بطيئة خرجت من بين شفتيه يلاحقها اعترافه الهامس:
-أنا بقى بحب بنت خالك، أوي.
قرع الجرس فقام تميم متجهًا إلى الباب ليفتحه متوقعًا الزائر المتأخر؛ كانت الطبيبة ريم، نظرت إليه بتفحصٍ وهي تتساءل:
-ده بيت فيروزة أبو المكارم؟
بادلها السؤال بآخر وهو ينظر إليها نظرة شمولية متشككة:
-حضرتك الدكتورة بتاعتها؟
أجابت في هدوءٍ:
-أيوه.

تنحى للجانب وتابع فيما يشبه الرجاء وهو يشير بيده:
-اتفضلي حضرتك، احنا مستنينك من بدري.
هزت رأسها في تفهمٍ، واتجهت إلى حيث أرشدها لتقوم بمهمتها وهي تعلم تمام العلم أن ما ينتظرها بالداخل ليس بالجيد.

جلوسه بالخارج أصبح غير ضروري، لا معنى له، وربما غير مقبولٍ؛ لكنه كان مستعدًا لتحمل كل اللوم والتوبيخ في سبيل سماع ما يسره من أخبار. جاءت آمنة بوجهها الباكي إليه، حيث يجلس بمفرده بالبهو، وبالقرب من باب المنزل، أعدت له فنجان قهوة، واعتذرت منه وهي تنظر إلى يده الملتفة بالشاش الأبيض:
-أسفة يا معلم على اللي حصلك.
أخذه منها بيده الأخرى غير المصابة، وقال في هدوءٍ:
-المهم نطمن على الأبلة.

وكأنه ضغط على زر البكاء لديها، فراحت تنوح له شاكية في حسرةٍ:
-أنا معرفش إيه جرالها، احنا يدوب كنا بنتكلم..
نظرت إليه من طرف عينها، وهي تتابع بحذرٍ:
-ومتأخذنيش يعني أنا بوعيها للصح.
فهم أنه المقصود من تلميحها المبطن، وحمحم قائلاً:
-أكيد، حقك طبعًا يا حاجة، محدش يزعل من كده...
ثم عَمِد إلى تبرير موقفه موضحًا:
-بس بنتك كانت في المستشفى.

لطمت على صدرها بتعابير وجهٍ ذاهلة جعلتها تتوقف لحظيًا عن البكاء والنواح، فرغت فمها للحظة لتلعق شفتيها بعدها وتسأله في جزعٍ:
-حصلها إيه؟
لم يمنحها الجواب بسبب رؤيته للطبيبة وهي تعود إليهما، تعلقت أنظاره القلقة بها، وبادر بسؤالها:
-ها يا دكتورة؟ بقيت عاملة إيه دلوقتي؟
وزعت نظراتها المستهجنة بين الاثنين، وخاطبتهما بما يشبه التأنيب:.

-حضراتكم ببساطة كده هديتوا كل اللي تعبنا فيه الفترة اللي فاتت، ووصلتوها للانهيار.
دافعت آمنة عن نفسها قائلة:
-أنا ملحقتش أقولها حاجة.
ركزت ريم نظرها عليها، ونطقت بتعابيرٍ مستاءة:
-مش لازم تكون من النهاردة بس، دي تراكمات على فترات طويلة.
استطرد تميم يخبرها هو الآخر:
-أنا كنت جايبها لسه من المستشفى، وكانت حالتها آ...
قاطعته قائلة بلهجة غلفتها الرسمية:.

-ما أنا شوفت الدواء الموجود جوا، وده أكدلي إنها مكانتش في حالة طبيعية.
عادت آمنة للعويل مجددًا، فقالت:
-وأنا كنت أعرف منين إنها تعبانة؟
انخرطت في بكاءٍ سهل استدعائه وهي تكمل:
-والله كل الحكاية إني خايفة عليها وعلى سمعتها، كنت بفضفض معاها وآ...
لم تستسغ ريم ما تحاول تبريره من أعذارٍ ألحقت الأذى الجسيم بمريضتها المكافحة، فقاطعتها بلومٍ واضح:.

-يا مدام بنتك مثال للأخلاق والأدب، إزاي تظني فيها حاجة وحشة لمجرد إنها بتعافر عشان تقف من تاني على رجليها؟!
سألتها آمنة وهي تبكي في حزنٍ:
-يعني أنا السبب؟
تنفست بعمقٍ، ثم ردت كنوعٍ من التوجيه الناصح:
-مافيش داعي نرمي اللوم على بعض، المهم كلنا نتوحد في سبيل إنها تكمل علاجها وتتخطى المرحلة دي.
من تلقاء نفسه هتف تميم مؤيدًا إياها:
-كل اللي هاتقوليه هيتنفذ بالحرف يا دكتورة.

بنفس الطريقة المليئة بالغباء أردفت آمنة قائلة؛ كأنما تتجنب الهجوم والاتهام على شيءٍ لم يحدث من الأساس:
-والله كلامي كان نابع من خوفي على سمعتها، الناس مابترحمش حد، وخصوصًا لو واحدة كانت متجوزة ولا أرملة.
اشتاط تميم غضبًا من كلامها، والتفت يحدجها بنظرة قاسية قبل أن ينطق مهددًا:
-قطع لسانهم، وأنا كفيل أخرسهم كلهم، وإنتي عرفاني.
رمشت بعينيها رهبة منه، ثم ردت عليه في توترٍ:.

-يا معلم إنت راجل، مافيش لوم عليك.
نفس أسلوب الإدانة المبتذل لشخص حبيبته، وهذا ما لم يقبل به أبدًا، ثارت ثائرته، وهتف بصوتٍ متشنج رغم عدم ارتفاعه:
-يا حاجة لولا إن الظرف غير مناسب كنت جبت أهلي واتقدمت لخطوبة بنتك.
اتسعت عينيها مذهولة من عرضه غير المتوقع، بينما عنفته ريم في إنكارٍ واضح على ملامحها قبل نبرتها:
-إيه الكلام ده؟
هسهست آمنة مكررة في عدم تصديق، كأنما لم تستوعب حقًا ما صرح به:
-ت، تخطبها؟

كان على وشك الرد عليها؛ لكن قاطعتهما ريم بعصبيةٍ طفيفة:
-كلمني من فضلك، جواز إيه اللي بتتكلم عنه دلوقتي؟
نظر إليها بتحفزٍ شبه غاضب، فأكملت مبررة اعتراضها:
-دي إنسانة محطمة من جواها، عايزها تخوض تجربة جديدة مانعرفش أثارها هاتكون عاملة إزاي عليها؟!
أصغى للمنطق العلمي البارز في كلامها، ولم يعقب، فاستمرت تشرح له:
-المفروض الأول نعالج اللي فات قبل ما نزود همومها بحاجة هي مش مستعدية ليها.

أطلق تميم زفرة ثقيلة من صدره، وقال بنظراتٍ ثابتة:
-وأنا عايز اللي فيه مصلحتها.
تنفست الصعداء لعقلانيته، وردت عليه بتمهلٍ:
-يبقى الأفضل نتجنب الكلام عن المواضيع دي دلوقتي، ولو بشكل مؤقت.
هز رأسه مرددًا في تفهم:
-ماشي.
استدارت ريم لتنظر إلى آمنة قبل أن تقترح بحذر:
-كمان أنا أفضل الفترة الجاية تكمل العلاج تحت ملاحظتي.
سألها تميم في لهفةٍ يشوبها كل الخوف:
-يعني إيه؟
حولت أنظارها نحوه، وأجابته:.

-أنا عايزة أنقلها لمكان مناسب تستجم فيه بعيد عن أي توتر.
صاحت آمنة متسائلة في حسرةٍ وهي تضرب على صدرها:
-هو بنتي ضاعت خلاص؟
ضجر تميم من تشاؤمها المستثير للأعصاب، ونهرها بخشونةٍ:
-يا حاجة بالله عليكي تهدي وتخلينا نفهم.
هزت رأسها في طاعةٍ، فعاود النظر إلى ريم التي أخبرته بتريثٍ:.

-أنا بأروح زيارات يومية لدار مسنين مستواها معقول، فيها قسم للحالات النفسية، فاقترح إن فيروزة تتواجد هناك لكام يوم تحت متابعتي المباشرة.
رحب تميم بالفكرة، وقال دون ترددٍ:
-اعملي الصح يا دكتورة، واحنا موافقين.
همت آمنة كعادتها بالاحتجاج على طلبها:
-بس كده الناس هتفتكر إنها الشر برا وبعيد بقت آ...
أخرسها تميم بنظرة قاسية محذرة:
-محدش ليه دخل، الناس هتنفعنا بإيه؟ مصلحة الأبلة فوق أي اعتبار.

خشيت من جموح غضبه نحوها إن استمرت في الجدال معه، فلاذت بالصمت مهابةً منه، بينما استمر في قوله:
-الدكتورة تعرف أكتر مننا يا حاجة.
دمدمت في خنوعٍ:
-أكيد...
ثم وجهت كلامها إلى ريم قائلة:
-لا مؤاخذة الكلام خدني وماجبتلكيش حاجة تشربيها.
ردت الأخيرة في تهذيبٍ:
-مافيش داعي.
أصرت عليها بصوتٍ ما زال مختنقًا:
-لأ ما يصحش.

غادرت وهي تكفكف العبرات المنسابة من عينيها، في حين حملقت ريم بفضول لهذا الشخص الماثل أمامها تسأله دون حرجٍ:
-أنا أسفة في السؤال، بس ممكن أعرف إنت مين؟ يعني صلة القرابة إيه مع العيلة؟
سهل لها إجابته قائلاً:
-ابن خالتي متجوز أختها..
رمقته بنظرة حائرة قبل أن تتساءل مرة أخرى:
-هو إنت على طول متواجد في محيط الأسرة؟
نظر لها في استغراب وهو يقول:
-مش فاهمك.
رتبت أفكارها في رأسها سريعًا لتنطق بعدها بوضوحٍ:.

-أقصد هل ليك تعامل مباشر مع فيروزة؟
تردد بشكلٍ شبه ملحوظ وهو يخبرها:
-آ، يعني.
هزت رأسها دون أن تعقب مما دفعه لسؤالها بفضولٍ:
-بتسألي ليه يا دكتورة؟
تطلعت إليه مليًا، وأصابه ذلك بالضيق، لهذا تكلم بقنوطٍ:
-مش معنى إني مش من العيلة إني ماخدش موقف يخدم الأبلة، لأ أنا بفهم كويس وآ..
قاطعته برفع يدها أمام وجهه:
-لأ عادي، أنا بس بتأكد كده من حاجة.
زاد الفضول الحائر بداخله، وسألها في صبرٍ شبه نافذ:
-حاجة إيه؟

حاولت تبرير موقفها بشكلٍ عملي لا يفشي أسرار مريضتها:
-يمكن ماتفهمنيش، بس ده أسلوب بتبعه مع فيروزة كمريضة إننا نتكلم عن الأشخاص اللي ليهم دور إيجابي في حياتها، وجايز تكون واحد منهم.
سألها مباشرة، ونظراته ضاقت بشكٍ مستريب:
-هي قالت عني حاجة مخصوص؟
بملامح غير مقروءة أجابته برد دبلوماسي:
-دي مجرد تخمينات عادية، ماتشغلش بالك.

بدا غير مقتنعٍ بردها العائم، ومع هذا لم يناقشها كثيرًا، فأنهى الكلام معها بانسحابه:
-ماشي يا دكتورة.

ربما كانت عالقة في هذيانها المضلل، لا تعي غالبية ما يحدث معها؛ لكن فور أن سرى مفعول المهدئات في شرايينها، بدأت في الاسترخاء مستسلمة للاستكانة الإجبارية المقدمة لها، ومع هذا بدا عقلها شبه متيقظ لما يدور بالخارج، فالتقطت أذناها كلماته المدافعة باستماتةٍ عنها، شعرت بالأمان يتخللها، بسكينة غريبة تنتشر في أوصالها، إلى أن نطق بعرضه المفاجئ، ففتحت عينيها مصدومة...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة