قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل العاشر

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل العاشر

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل العاشر

الزواج، التطرق إلى هذا الأمر بدا كالقشة التي قسمت ظهر البعير، جلبت لها تلك الكلمة العفوية أسوأ الذكريات على الإطلاق، فاستحضرت بقوة عجزت عن مقاومتها لمحات مؤلمة لما خاضته، ما بذلت أقصى طاقاتها، وسعت إلى تجنبه، ونكرانه للأبد كأنه لم يكن أصبح واقعًا محسوسًا تعايشه الآن، حيث طغت أبشع ذكرى على عقلها، وغطت بكفاءة على كل ما عانته سابقًا.

تجسدت صورة الكائن المشوه المدعو آسر نصب عينيها، بوجهه المستفز، وتعابيره الكارهة، رأته حيا في كامل الوقاحة، والدناءة، والخسة وهو يملي عليها مساوئها كأنثى لا تصلح لإغراء أي رجل بسبب بشاعتها، المسخ الموجودة عليه في جسد منفر يدعو المتطلع إليه للتقزز والاشمئزاز، تألمت للذكرى، وعجزت عن نفضها من مخيلتها، اقتحمت واحدة أخرى أشد وطأة عقلها، بما اكتشفته لاحقًا من مساوئ وضيعة بعد أن أزيح الستار، وظهرت حقيقته لها.

أنين مكتوم بدأ يخرج من بين شفتيها على صوت نحيبٍ خافت، وعيناها تبكيان بغزارة، لمسة لم تكن مستعدة لها شعرت بها على كتفها، فانتفضت رغم القيد الوهمي الذي تشعر به يكبل كل جسدها، فيجعلها غير قادرة على الحركة، ارتفعت نهنهات بكائها، والصوت الرقيق الخافت يناديها:
- فيروزة.

سيطر عليها هذيانها، وتداخل الصوت مع أصواتٍ وهمية حاضرة في ذهنها المشوش، لتبدو وكأنها تخوص صراعًا قاسيًا بمفردها. هزة أخرى على كتفها وهذا الصوت يكرر:
- فيروزة، فيروزة!
تشنجت مع اللمسة، وكانت أكثر نفورًا لأي تقارب جسدي، لأي لمسة بريئة على أطرافها، كزت على أسنانها، وأصدرت أنينًا مختنقًا مما جعل اليد تبتعد عنها؛ لكن الذكرى لم ترحل، ازدادت قساوة، إطباقًا على صدرها، إيلامًا لقلبها.

في خضم جدالهم الطويل، فشلت الصغيرة رقية في النوم، كانت رهبة ما رأته اليوم ما يزال مسيطرًا عليها، تقلبت على الفراش بجوار أبيها، وضمت دميتها إليها، استحثها فضولها على النهوض والاطمئنان على ابنة عمتها، فقامت بحذرٍ لتتطلع إلى أبيها، كان غارقًا في النوم العميق، فهبطت عن الفراش، وتسللت خارجة من الغرفة لتتجه إلى فيروزة. أرادت رؤيتها دون أن يمنعها أحد، وساعدها تواجد عمتها والبقية بالخارج، ركضت بخفة نحو غرفتها، وقفت عند الباب تستند على إطاره، وتسترق النظرات للغرفة المظلمة، حين سمعت أنينها تشجعت للذهاب إليها. صعدت على الفراش ووضعت يدها على كتفها تناديها:.

- فيروزة.
ارتجفت مع الرعشة التي شعرت بها منها، سمعتها تئن بما يشبه النحيب، فزاد خوفها، وضعت يدها تهزها ونادتها مجددًا
- فيروزة، فيروزة!
لكن الصوت المختنق لم يتوقف، فزادت رعبها، وابتعدت عنها لتطلب المساعدة من البالغين القادرين على فهم ما بها.

قدمت لها مشروبًا باردًا لترتشفه بعد انتهائها من مهمتها العاجلة، حاولت آمنة أن تقوم بواجب الضيافة كما اعتدت رغم المحنة التي تمر بها أسرتها، اعتذرت من ريم للمرة الرابعة في نفس الثلاث دقائق التي وقفت تتحدث فيها إليها، وقالت:
-عطلناكي يا دكتورة، ونزلناكي من بيتك في الوقت ده.
أخبرتها بهدوءٍ وهي تحاول الابتسام بلطف:
-ده واجبي، بس يا ريت من الصبح بدري تجيبوها على المستشفى...

مدت يدها داخل حقيبتها لتخرج منها بطاقة ورقية صغيرة، وتابعت وهي تمررها إليها:
-عنوانها في ضهر الكارت ده.
أخذتها منها آمنة، وهزت رأسها في امتنانٍ. استدارت كافة الرؤوس فجأة نحو زاوية بعينها، عندما سمعوا النداء المرتعش:
-عمتو..
تحركت آمنة نحو الصغيرة تعاتبها بوجهٍ شبه حانق:
-إنتي لسه صاحية يا كوكي؟
تمسكت بدميتها، وضمتها بذراعها إلى صدرها؛ كأنما تحتمي بها، قبل أن تقول بشفاه مقلوبة:
- فيروزة بتعيط جامد جوا.

صاحت عمتها بتعابيرٍ مدهوشة:
-إيه؟
بينما رددت ريم في صدمة متعجبة:
-إزاي؟
تساءل تميم على الفور في وجه صعدت فيه تعابير الخوف المختلطة بالغضب:
-إنتي يا دكتورة مش مدياها مهدئات؟
أجابته في حيرةٍ قلقة:
-أيوه، بس جرعة بسيطة، لأني معرفش خدت أد إيه في المستشفى.
دون إضاعة للوقت في البحث عن تفسير يوضح سبب إفاقتها، اندفع ثلاثتهم للداخل، تاركين الصغيرة خلفهم؛ لكن تميم عاود أدراجه، وطلب منها في صوتٍ جاهد ليبدو هادئًا:.

-هي هتبقى بخير، متخافيش.
لا يعلم إن كان يطمئنها بتلك الكلمات أم يطمئن نفسه؛ لكنه رغب حقًا في إخراجها من دوامة المآسي التي تقضي على روحها وتمزقها بالبطيء. أمسك التردد بخطواته وهو يتحرك في الردهة عاجزًا ما بين التدخل ومساعدتها، وبين التراجع والانتظار في مكانه احترامًا لخصوصيتها؛ لكن أي خصوصية منشودة لمريضٍ على شفا خطوة من الموت؟!

بمجرد أن ولجت إلى غرفتها، دارت ريم حول فراشها لتكون في مواجهة وجهها، نظرت إلى عينيها الزائغتين، وألقت نظرة شاملة على حالتها تقيم بها وضعها ظاهريًا، أدركت أنها في حالة غير جيدة، تحتاج للتعامل الفوري معها، وإلا لساءت كثيرًا. مدت يدها لتمسح على وجنتها برفقٍ وهي تناديها:
- فيروزة، سمعاني.
كأنما تُحادث الفراغ، لا استجابة منها، تنظر إلى ما لا تراه إلا في ذهنها، كررت ندائها، وهي تخفض يدها نحو كتفها:.

- فيروزة، ردي عليا، إنتي عارفة أنا مين؟
مع لمستها العادية لها تشنجت بالكامل، وتخشبت بشكلٍ يدعو للخوف، كما زاد الأنين المنتحب ليصبح صرخة متحشرجة، اعتدلت ريم في وقفتها وهتفت في جدية شديدة:
-لازم تتنقل فورًا المستشفى عندي، ماينفعش يتسكت أبدًا عن الحالة دي.

اضطر أن يتجاوز عن التقاليد الملزمة ليقف عند أعتاب غرفتها ينظر إليها في خوفٍ يفوق جميع المتواجدين حولها، كان جسد فيروزة ما يزال يهتز بعصبيةٍ، شعرها محلول، ومهوش، ومطروح على الوسادة. لم يكن في استطاعته الوقوف مكتوف الأيدي ينتظر هلاكها، صاح آمرًا والدتها:
-يالا يا حاجة، أنا خدها في عربيتي، حطي عليكي أي عباية بسرعة.
نظرت إليه آمنة بنظراتٍ تائهة وهي تسألها:.

-طب و كوكي، هاعمل فيها إيه؟ مش معقول أسيبها لوحدها وآ...
قاطعها قائلاً بحسمٍ:
-هاتيها معانا بهدومها كده.
هزت رأسها في انصياعٍ:
-طيب، على طول.
ثم أسرعت باحثة عما ترتديه على ثيابها المنزلية، نظرة شمولية فاحصة ألقاها تميم على غرفتها باحثًا عن وشاح رأسها، وجده ملقى على الأرض بجوار الدولاب، اتجه ناحيته، وانحنى ليلتقطه، ثم أعطاه ل ريم قائلاً بنفس اللهجة الآمرة:
-غطي دماغها بيه.

رمقته الأخيرة بنظرة غامضة؛ كأنما تحاول النفاذ إلى عقله، وشكوكها حوله تزداد لحظة بعد أخرى. فور أن عادت آمنة إلى الغرفة، تحرك تميم صوب الفراش، مرر ذراعيه أسفل جسد فيروزة، وحملها وهي ما زالت تنتفض في ألمٍ جعل ما بين ضلوعه ينقبض بقسوة، التصقت رأسها بصدره، وشعر بكل الرجفات تضربه؛ كما لو كانت تبث له معاناتها، ارتفع الغليل بداخله، واستعر الغضب في جوارحه لاعنًا اللحظة التي لم يتخذ فيها موقفًا صارمًا تجاه شبيه الرجال هذا حين اكتشف ماهيته الخسيسة! سار بها بخطواتٍ شبه سريعة إلى الخارج، تتبعه ريم، ومن ورائها هرولت آمنة والصغيرة رقية بعد أن أغلقت الباب، من موقعها ألقت نظرة حرجة على تميم وابنتها التي يحملها، لتدمدم مع نفسها بهسيسٍ مزعوج:.

-الناس هتقول إيه علينا لو شافونا كده!

استقر الجميع في سيارته فيما عدا ريم، بالمقعد الخلفي تمددت فيروزة، ووالدتها إلى جوارها تحتويها في أحضانها، وفي الأمام جلست رقية بدميتها، انتظر لهنيهةٍ ريثما تتحرك الطبيبة بسيارتها ليتبعها، بقيت نظراته تتوزع ما بين الطريق تارة، وبين الوجه الأشبه بالموتى الماكث بالخلف، اشتدت أصابعه على المقود، وبدت ملامحه أقرب لحجرٍ متصلب من القساوة التي ملأته. إحساسه بالذنب يتضاعف مع كل لحظة يراها تتألم فيها، صمته عن حقيقته جعله بشكلٍ غير مباشر متورطًا في إيذاء أكثر من أحب وعشق.

حاول التركيز في القيادة، وإرجاء مشاعر الغضب واللوم إلى أن يطمئن عليها، بضعة دقائق وكان يعبر بسيارته حديقة متسعة، في نهايتها ظهر ثلاثة من المباني. عند البقعة المخصصة للركن، أوقف سيارته، ثم ترجل من مكانه، والتفت فاتحًا الباب المجاور ل فيروزة، انحنى من جديد يمرر ذراعيه خلف ظهرها، وأسفل ركبتيها ليحملها، وصوت الطبيبة يوجهه:
-تعالى من هنا يا أستاذ.

ألقى نظرة خاطفة نحو المبني المتجه إليه، كانت واجهته زجاجية، على ميمنته يوجد مبنى آخر يماثله في الحجم والشكل؛ لكنه أكثر ارتفاعًا، لم يهتم بدراسة محيطه الآن، واتجه إلى البوابة الخاصة بهذا المبنى، انحرف منها نحو ردهة متوسطة المسافة، في نهايتها رأى سلمًا طويلاً، التفتت ريم لتخبره بملامح شبه حرجة:
-معلش مافيش أسانسير في الناحية دي.
وكأنه اشتكى لها وزن ما يحمله، لم يكترث للأمر وهتف في وجوم:.

-قوليلي بس هنوديها فين.
أشارت بيدها للأعلى وهي تتكلم:
-الدور التاني.
غمغم من بين أسنانه بنفس التعابير المتجهمة:
-إن شاء الله العاشر، المهم نلحقها.

لجأ إلى الصبر كوسيلته المتوفرة حاليًا للتماسك وسط ما يمر به معها من أحداث غير مبشرة، شعر بأن سكينًا يشق قلبه وهو يحاول فقط تخيل ما جابهته بمفردها وهو يستعيد ذكرى اعترافاتها النزقة في عقله، كان كمن حُبست الدماء في عروقه فأصبح شبه عاجز عن الحركة، يجلس متقوقعًا في مكانه، وعيناه تتحركان في توترٍ، لم يتبقَ أمامه سوى الدعاء سرًا بقلبٍ يتمزق ويحترق من الألم:
-نجيها يا رب.

أحبها بالقدر الذي جعله غير قادر على تخيل الحياة بدون وجودها شريكة إلى جواره، تشاطره كل لحظة فيها صغيرة كانت أم كبيرة، رغمًا عنه زحفت دموعه الخائنة إلى حدقتيه، تنفس بعمقٍ ليقضي عليهم؛ لكنها أبت إلا النزول في صمت، مسحهم قبل أن يلحظه المتواجدون من حوله، وحول أنظاره نحو الصغيرة رقية، تلك التي افترشت الأريكة الجلدية بجسدها الضئيل ومنامتها الوردية الظريفة لتنام عليها، أشفق على حالها، وأدار رأسه في اتجاه آمنة التي أغلقت مصحفها الصغير لتمسك به وهو ينظر إليها، حمحم قائلاً في صوتٍ شبه متحشرج:.

-إن شاء الله نطمن عليها.
رأى التردد على قسمات وجهها، وأيضًا في نظراتها الحذرة نحوه، وهي تخبره متلعثمة في صيغة كانت تساؤلية:
-معلم تميم ، إنت جاد في اللي قولته...؟!

تنويه: فصل قصير لكن بكرة إن شاء الله في واحد أطول.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة