قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والستون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والستون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والستون

بُهتت، وذُهلت، وحل برأسها كل الارتعاب، شعرت بعد تصميمه غير القابل للعودة بانقباضة قاسية تعصف بثنايا قلبها، بل كاد من إثر صدمتها المخيفة ينسحق، ينمحق، ويتمزق إلى أشلاء. هبت فيروزة مذعورة واضعة كلتا راحتيها على كفيه المحتضنين لوجهه تتوسله بعينين تستدعيان أنهر الدموع من شدة خوفها عليه:
-لأ يا تميم، أوعى تعمل كده.

برفقٍ لا يخلو من قليلٍ من القوة استل تميم كفيه من أسفل يديها، وهتف في إصرارٍ ضاعف من مخاوفها أضعافًا مُضاعفة:
-معدتش ينفع.
نهض من جوارها متغاضيًا عن نظراتها المرتاعة، فقامت بدورها من موضع رقدتها بعد أن أزاحت الغطاء عن جسدها، هرولت خلفه مقاومة الدوار الخفيف الذي أصابها جراء حركتها المفاجئة، وصرخت به باستجداءٍ باكٍ:
-استنى يا تميم، بالله عليك تسمعني.

توقف عن السير ليستدير ناحيتها، لحقت به، وتابعت في رجاءٍ أكبر:
-هو ده اللي عاوزه منك، يقضي عليك وعليا، يفرق ما بينا، يضيعنا.
بدت ملامحه أكثر صلابة، تصميمًا، وعزمًا على المضى قدمًا حتى النهاية في انتقامه الحتمي، أخبرها بغير استرخاءٍ:
-اللي يمسك بسوء مالوش الحق إنه يعيش.

جال بخاطرها تصورًا خياليًا لنهاية الوضع بشكلٍ شنيع ومأساوي، فقط إن لم تبذل كل ما في وسعها لإيقافه، لذا وضعت فيروزة يديها المرتجفتين على ذراعيه ترجوه بقلبٍ مذعور، وتعابيرٍ لا تنم سوى عن الهلع:
-عشان خاطري اهدى، أنا خايفة عليك، مقدرش أعيش من غيرك.
تلك الكلمات المؤثرة، النابعة من القلب، والتي نفذت إلى ما بين ضلوعه، صدَّ بإرادة من حديد تأثيرها، وخاطبها بصوتٍ جافٍ، أجش، كأنما لم يعرف الرفق أبدًا:.

-حقك هاجيبه، ولو فيها موتي.
انخلع فؤادها أكثر، وظنت أنه سيقتلع من شدة ارتياعها، بكت بحرقةٍ، واستعطفته، وهي بالكاد تجثو على ركبتيها، علَّه يستجيب لتوسلاتها:
-يا تميم!
أمسك بها من كتفيها يجبرها على النهوض وهو يأمرها:
-اقفي على رجلك، مش اللي زي ده يخليكي تركعي.
من بين دموعها الغزيرة اعترفت له بصدقٍ، بما نفذ إلى الوجدان كالسهم المارق:
-عشانك أعمل كل حاجة، بس ماتضعش من إيدي.

جذبها إلى أحضانه، مشددًا من ضمته الأخيرة لها مؤكدًا لها:
-خليكي فاكرة إن محبتش إلا إنتي.
لم تستطع ردعه، ولا حتى إيقافه، انسل من حضنها، مودعًا إياها، ومنطلقًا خارج المنزل، وصوت صراخها يناديه باحتراقٍ يشع في كامل روحها:
- تميم!

في مكانٍ شبه مقفر، يحاوطه الخراب والركام من كل جانب، ناهيك عن أكوام القمامة ذات الرائحة العفنة، أوقف ناجي سيارته، عند ما تُعد مجازًا بوابة للمرور إلى الداخل، من الصعب تخيل كيف تكون الحياة في منطقة منفرة كتلك، وللدهشة هناك مئات الأشخاص من كل الأعمار يعجون بها. بنظراتٍ شمولية حذرة مسح محيطه بناظريه، وتقدم للأمام مُلقيًا التحية بثباتٍ:
-سلام عليكم.

رمقه أحد الرجال من ذوي الوجوه الإجرامية بنظرة احتقارية، قبل أن يرد مقتضبًا، كما لو كان يترفع عن الحديث معه:
-وعليكم...
في حين سأله آخر مستفهمًا بنبرة غليظةٍ، وقد أبرز سلاحًا آليًا كان ملتصقًا بجانبه:
-إنت مين؟ وعاوز مين في حتتنا.
ابتلع ناجي ريقه، ووزع نظراته بينهما، قبل أن يجيب:
-كبير الهجامة.
ضحك المتواجدون في سخرية هازئة منه، ليعلق الرجل الأول بتهكمٍ شبه مهين:
-ليه هو كوبارتنا فاضي يقابل اللي زيك؟

استجمع جأشه أمام تلك الوجوه الشيطانية، ورد في هدوءٍ:
-قوله من طرف المعلم تميم سلطان، وهو هيقابلني.
أمسك الرجل الثاني بياقة ناجي، وعبث بها بسخطٍ، فأبعد الأول يده عنه، وحدجه بنظرة قاسية، فلوى الرجل ثغره في ازدراءٍ، ثم استطرد:
-شكلك واثق أوي من نفسك.
رد عليه بجديةٍ رسمها على كل ملامحه:
-عرفه إني موجود، وبلاش تضيع وقتي ووقتك.

رغم لمحة التهديد المستترة في صوته، إلا أن ذلك الرجل تغاضى عنها مؤقتًا ريثما يتأكد من صدق أقواله، وإلا لصب عليه غضبه. بإشارة صارمة من عينيه صاح في أحد الواقفين يأمرهم:
-بلغ العصفورة.
رد عليه آخر مُظهرًا طاعته له:
-وجب يا زميل.

انتظر ناجي بتوترٍ جاهد لإخفائه على مقربة من البوابة، غيرُ قادرٍ حتى على تغطية أنفه، لمنع تلك الرائحة المنفرة من النفاذ إلى أنفه، وإلا لما سَلِم من تعليقاتهم السخيفة الهازئة به. تنبه لصوت أحدهم يسأله في نبرة تهكمية:
-والحلو من نواحينا، ولا من فين؟
ترفع وهو يجاوبه بسخافةٍ:
-من بعيد.
قبل أن يبادر بالرد عليه ظهر من يدعى ب العصفورة هاتفًا بلهاثٍ:
-خليه يخش، الكوبارة مستنيه.

تنحوا الرجال للجانب، وأزاحوا العوارض الخشبية، ليتمكن من الدخول تاركًا سيارته بالخارج، اصطحبه العصفورة في عربة التوكتوك عبر ممرات ضيقة، وأزقة أكثر ضيقًا بين بيوتٍ مبنية من الصفيح والطين اللبن إلى فضاءٍ فسيح، بعيدًا عن الرائحة القابضة، ليستنشق بعض الهواء النظيف، كان وسط كل هذا الخراب والبؤس يقبع بيتًا ضخمًا، وفخيمًا في هيئته، على النقيض كليًا مع مظاهر الفقر المدقع بالخارج، حينئذ أدرك أنه مجرد تغطية محكمة لتخبئة ما يحدث بالداخل.

ترجل ناجي من العربة، ليقابل فئة أخرى من الرجال الأشداء، العتاة، شديدي الإجرام، كل منهم يحمل في يده سلاحًا حديث الطراز، ألقى عليهم التحية، وسمحوا له بالمرور إلى باحة البيت، هناك أبصر حديقة غناء مورقة، ونافورة تنتفض بالمياه في الوسط، وعلى يساره وضعت بعض الأرائك المخصصة للحدائق. تباطأت خطواته بالتدريج حين رأى من يُلقب بكبير الهجامة جالسًا على الأريكة المريحة، وفي يده مبسم النارجيلة، أخفض رأسه قليلاً احترامًا له وهو يستطرد قائلاً:.

-سلام عليكم.
لفظ الهجام سحابة كثيفة من الدخان من رئتيه، وابتسم مرحبًا به بحفاوة استغربها:
-أهلاً بطرف الحبايب، أنا مصدقتش لما جالتي المكالمة.

تشجع ناجي ليرفع أنظاره إليه، فرأى شابًا حسن المظهر، ضخم البنيان، على ما يبدو يتمرن يوميًا بانتظامٍ، ليبدو مفتول العضلات، غير الصورة المتوقعة في ذهنه من مقابلة رجلٍ ممتلئ بالشحم واللحم، مترهل الجسد، كبير في السن، وربما في وجهه توجد علامات الإجرام. ما كان ينقصه ليبدو كحارسٍ شخصي لواحدٍ من الشخصيات الهامة هو ارتدائه لبدلة رسمية، ورابطة عنق أنيقة. تنحنح ناجي معلقًا في لباقةٍ:
-احنا نتشرف بيك يا كبير.

ترك الهجام المبسم من يده، واستقام في جلسته المسترخية، مُسلطًا كافة أنظاره عليه وهو يسأله في اقتضابٍ متحفز:
-خير؟
ازدرد ريقه الجاف في حلقه، وأخبره في هدوءٍ:
-الريس تميم عاوز يقابلك، ضروري.
شدد على كلمته الأخيرة ليؤكد على أهمية الأمر، فما كان من الهجام إلا أن قابل ذلك بترحيبٍ واضح وهو يبتسم في غرورٍ:
-وأنا جاهز، واعتبر اللي عاوزه حصل من قبل ما أعرف إيه هو.

أخرج ناجي مظروفًا أبيض اللون من جيب بنطاله، وضعه قبالته على الطاولة البلاستيكية القصيرة، وأردف موضحًا:
-وده عربون المحبة.
امتدت يد الهجام لتلتقط المظروف، فضَّهُ من الجانب ليرى الأوراق النقدية الضخمة، ابتسم في حبورٍ، وعلق:
-دايمًا عامر..
ثم صاح موجهًا أمره لواحدٍ من الرجال المتواجدين خلفه:
-قوم بالواجب مع ضيفنا.
أطاعه الرجل في انصياعٍ تام وهو يومئ برأسه:
-حاضر يا كوبارتنا.

إن تراخت، واستكانت، ورضخت للأمر الواقع، فهذا يعني حتمًا خسارته للأبد، وهذا ما لن تتحمله مُطلقًا بعد أن ذاقت فاكهة الجنة معه، وتنعمت بفردوسها على الأرض في أحضانه. ضمت فيروزة طرفي حجابها المحلول معًا، عقدته دون أن تعبأ بشكل هيئته، وهرولت متابعة ركضها الهابط على الدرج لتلحق بزوجها وهي تناديه بصوتٍ بح من كثرة الصراخ:
-مش هاسيبك تضيع وتضيَّع نفسك يا تميم.

التفت آمرًا إياها بشيءٍ من الغلظة عند مدخل البناية دون أن يتوقف عن السير:
-اطلعي فوق.

التفت ساقها بالأخرى، وكادت تنكفئ على وجهها لولا أن أمسكت بالدرابزين، فمنعت نفسها من الوقوع، متوقعة أن يأتي لمساعدتها، وعلى غير المعتاد منه، لم ينظر خلفه، وواصل مشيه السريع نحو الخارج، عادت إلى اتزانها، وأكملت ركضها خلفه إلى أن وصلت سيارته، اعترضت فتحه للباب، ودفعته بكامل انفعالها لتغلقه، ثم استدارت ملتصقة بالباب، لتمنعه من فتحه، وسألته بصوتٍ لاهث يحمل اللوم:
-هتخليني أجري وراك في الشارع كمان؟

بوجهٍ غائم، وتعابير غير مبشرة أخبرها دون أن ترتفع نبرته:
-اسمعي الكلام، واطلعي.
ردت بعنادٍ، دون أن يرف لها جفن:
-لو مشيت فأنا رجلي على رجلك.
وقبل أن يفكر في الاحتجاج على تهورها المضاهي له، تحركت من مكانها، ودارت حول السيارة لتفتح الباب الأمامي، واستقرت في مكانها قائلة بتصميم:
-مش هسيبك لوحدك.

نفخ في صبرٍ نافذ، مدركًا أن التخلص منها بات عسيرًا، أرشده تفكيره إلى اصطحابها إلى بيت عائلته، فهناك لن تستطيع المناص، ووقتها سيكمل ما بدأه، للنهاية!

خلف البيت المتسع، في مكانٍ يبدو كغرفة احتجازٍ، جدرانها رمادية داكنة، خالية من النوافذ، إلا من واحدة علوية، يحاوطها الزجاج، وقضبان من الحديد، بها كراكيب وبقايا أثاث متناثرة بشكلٍ عشوائي عند الأركان، احتشد بعض الرجال حول واحد مقيد من يديه خلف ظهره، يجثو على ركبتيه في وضع ذليل، مهين، منكس الرأس، ويصرخ من أثر العدوان الوحشي عليه. طقطق الهجام أصابع يديه معًا، قبل أن يبسطهما هاتفًا في صوتٍ أرعب أشد الرجال شجاعة:.

-الرحمة دي مش عندي، دور عليها عند غيري.
هتف الرجل يتوسله في ذعرٍ مسيطرٍ عليه:
-يا ريس غلطة ومش هتتكرر.
لم يرأف به، ولم يمنحه نظرة غفران، بل بدا أكثر إصرارًا على تعذيبه حتى النهاية، أقبل عليه وقد تناول سلاحًا ناريًا من أحد أتباعه:
-الغلطة عندي بفورة، ورصيدك في السماح خلص.
ارتاع الرجل في فزعٍ أكبر حين رأى ما بيده، وهدر يستعطفه ببكاءٍ وهو يرتجف كليًا من شدة ارتياعه:.

-ده أنا راجلك، دراعك اليمين، طول عمري تحت طوعك.
سحب الهجام زر الأمان عن سلاحه المعبأ بالذخيرة الحية، وأخبره في هدوءٍ قاتل، وهذا البريق الوحشي يظهر في عينيه:
-دراعي لما يأذيني أقطعه، وإنت خونت العهد.
باتت المسافة الفاصلة بينهما خطوتين، والسلاح الناري مصوب نحو رأسه، مُدركًا الحقيقة المؤلمة، أن عمره أوشك على الانقضاء، استخدم آخر وسائله في استجداء شفقته:
-يا كبير، طب ورحمة الهجام الكبير ما...

لم يتم جملته للنهاية، فقد ضغط الهجام على الزناد لتتحرر طلقة غادرة استقرت في رأسه، وفجرتها، لتودي بحياته وتنهيها في التو، انتشرت بركة من الدماء حول الجثة المنكبة على وجهها، بصق عليه الهجام، وخاطبه كتحذيرٍ مستتر لمن يقف من الرجال:
-غلطت لما حلفت بيه، راس أبويا محدش يحلف بيها وهو خاين.

من بين المتابعين وقف ناجي يشاهد المشهد الدموي بصدرٍ منقبض، فبالرغم من ارتكابه لبعض الأمور المتجاوزة، إلا أنه لم يصل لهذا القدر من الإجرام والوحشية. ارتد للخلف في تلقائية بعد سماع الطلقة رغم توقعها، ردد مع نفسه في شيءٍ من التوجس، ناظرًا إلى قسوته مع الخائنين:
-يا ساتر، ربنا ما يوقعني معاه.
تنبه إلى صوته وجفل عندما سمعه يأمر رجاله:
-شفوه، وادفنوه.
علق واحد منهم مُطيعًا أمره نافذ الوجوب:
-عُلم.

رجفة غادرة تسللت إلى بدن ناجي وقد رأه مقبلاً عليه، خاصة أن وجهه لم يظهر عليه دليلاً لندمه على قتله، استدعى شجاعته الهاربة، وتكلم في عفويةٍ:
-أجيلك وقت تاني يا كبير لو مشغول.
قال الهجام في هدوءٍ بارد، كأنما لم يزهق روح أحدهم قبل لحظات معدودات:
-لأ، أنا فاضي، دي شوية تسالي كده.

بدأ بالسير معه نحو الخارج، ومغادرة حجرة التعذيب تلك؛ لكن اعترض طريقهما أحد الأشخاص، حيث صاح بصوتٍ شبه مندفع، كأنما على عجلةٍ من أمره:
-يا كبير، في حد من طرف حبايبنا من عزبة العِترة عاوزك في مصلحة.
نظر إليه بتعالٍ، ثم خاطبه في كلامٍ مبطن:
-الأهم يقدرني، ساعتها هيلاقيني أنا والرجالة.
ابتسم الرجل معقبًا:
-اعتبره حاصل يا كوبارة، هافهم منه إيه الحوار وأرسيك عليه.
لوح له بذراعه مرددًا:
-ماشي الكلام.

حمحم ناجي معقبًا ببسمة مهزوزة:
-صيتك مسمع يا ريس.
لم يخفَ على الهجام رهبته منه، وقال منتصبًا بكتفيه في عنجهيةٍ:
-أهم حاجة في شغلانتنا الخِطرة دي هي السمعة، لو راحت، يبقى عليه العوض في الهيبة!
لم يستطع سوى مجاراته في رأيه، وإن كان على غير وفاقٍ معه، فتحدث بعد إيماءة خفيفة من رأسه:
-كلام موزون.

بدت المصائر محتومة، والأقدار مكتوبة، فقط تبقى للزمن تحديد ميقاتها! تطلعت فيروزة بعينين متوجستين إلى زوجها تارة، وإلى الطريق تارة أخرى، لم يتخد مسارًا مغايرًا للمألوف، كان يقود السيارة في اتجاه بعينه، مما دفعها لسؤاله في فضولٍ متحفز:
-إنت رايح فين؟
أجابها في جمودٍ، وكامل نظراته القاسية على الطريق:
-هوديكي عند أهلي.
أدارت رأسها في اتجاهه، وتكلمت إليه في جديةٍ:.

-ده بني آدم قذر، كل غرضه يخرب ما بينا، ما تخليهوش ينجح في ده.
نظرة خاطفة منحها لها، كانت مليئة بالعزم والتصميم، أتبعها قوله الواضح:
-إنتي مش محتاجة تبرري، هو نهايته وجبت.
مرة ثانية ارتجف قلبها وارتعش من الخوف، صرخت في صوتٍ مشروخ تستجديه:
-برضوه يا تميم؟ ليه مش عاوز تسمعني؟ مش إنت مصدقني، ومتأكد من براءتي؟
أكد لها عدم نيته على التراجع:
-مش هسمحله يفلت باللي عمله.

مدت يدها، ووضعتها على جانب ذراعه، ضغطت عليه قليلاً، واستمرت في توسلها المليء بعواطفها الجياشة:
-يا تميم أنا عاوزاك جمبي، ليه هتحرمني منك؟ وتخلي حبنا يروح.
سكت ولم ينطق بشيء، فأضافت على نفس الوتيرة المتخمة بالمشاعر:
- تميم إنت صبرت كتير واستحملت واستنيت عشان نكون في الآخر سوا، دلوقتي هتضيع حياتنا عشان كلب زي ده؟

بقي على صمته المؤلم لها، وكادت تستخدم نفس الوسيلة الضاغطة عليه؛ لكنه أوقف السيارة عند مدخل بيته، وترجل منها هاتفًا بصيغة آمرة:
-تعالي.
سألته في لوعةٍ:
-وإنت هتروح فين؟
حاوطها من كتفيها بذراعه ليستحثها على التحرك معه، سارت إلى جواره متسائلة مرة أخرى:
-إنت طالع معايا صح؟

ربما لم تسمع رده بشكلٍ منطوق؛ لكنه اصطحبها للأعلى، فأبقت نظراتها المرتاعة عليه تراقبه عن هذا القرب، توسلته وهو يدس المفتاح في قفل باب بيت عائلته ليفتحه:
-لو أنا غالية عندك ماتسبنيش.
كأنما وخزته بكلمتها الأخيرة، قاوم لحظة من الضعف أمام نظراتها الخائفة ليقول في هدوءٍ مريب:
-طول عمرك غالية.
دفع الباب بيده الأخرى، ثم ولج إلى الداخل، ساحبًا إياها برفقٍ، فتعلقت بذراعه مجددًا، وصرخت فيه بصوتٍ شبه باكٍ:.

-حرام عليك، عاوز تضيع نفسك؟ إن مكانش عشاني، فعشان خاطر أهلك.
على إثر صياحها المفزع، الهادر في أرجاء الصالة، خرجت ونيسة من الداخل وهي تجرجر ساقيها، أمعنت النظر وقد ضاق ما بين حاجبيها، لتجد ابنها وزوجته ينظران إلى بعضهما البعض بشكلٍ يدعو للريبة وإثارة الشكوك، وما زاد من الهواجس بداخلها بكاء فيروزة الغريب، وعباراتها الباعثة على الشك، دنت منهما متسائلة في توجسٍ:
-في إيه يا ولاد؟ إيه اللي حصل؟

استدارت فيروزة ناظرة إليها لتجاوبها بما ضاعف من مخاوفها:
-إلحقي يا طنط، حشوه، هيودي نفسه في داهية عشان واحد مايستهلش.
امتدت يد تميم لتمسح على وجنة زوجته المبتلة بحنوٍ، فعادت لتنظر إليه برجاءٍ يقطع نياط القلوب، تنهد لافظًا الهواء من صدره، ثم خاطبها بهدوءٍ عجيب، كأنما يودعها بشكلٍ غامض:
-إنتي هتفضلي عندي أغلى حاجة، وعمري ما أسمح لشعراية بإنها تأذيكي.
تقدمت ونيسة نحو ابنها لتسأله بصدرٍ منقبض:.

-رد عليا يا تميم، في إيه اللي حصل؟
خرج من الداخل الجد سلطان، فاعتقدت فيروزة أن في وجوده السبيل لردع حفيده، ومنعه من الإقدام على مثل تلك الأفعال الخطيرة، هرولت ناحيته، وتعلقت بذراعه هاتفة فيه بصوتها المنتحب:
-يا جدي امنعه، هيضيع بسبب كلب مايسواش.

رفع الجد أنظاره نحوها أولاً، فأبصرها تكاد تنفطر خوفًا، قبل أن يحول ناظريه، ويتطلع إلى حفيده بتفرسٍ، منحه نظرة متسائلة دون أن يكون بحاجة لسؤاله، فما كان من تميم إلا أن جاوب في عزمٍ غير قابل للتفاوض:
-غصب عني يا جدي، المرادي غير، وإنت عارفني.
ضم سلطان شفتيه معًا لهنيهة، رمقه بهذه النظرة المتفاهمة، النافذة لدواخله، حرك ثغره بعدئذ قائلاً بما بدا أشبه بالنصيحة:
-صدق قلبك يا ابني، وماتعملش إلا الصح...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة