قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والستون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والستون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والستون

في مكانٍ مُقفر، وسط تلك الصحراء القاحلة، حيث الفراغ الممتد من مساحات شاسعة، أبطأت سيارتا دفع رباعي من سرعتهما، لتقفا على مقربة من تلك السيارة، ترجل من السيارتين عدد لا بأس به من الرجال المدججين بالسلاح، يتقدمهم الهجام بخطاه الواثقة، وعلى وجهه ابتسامة مسرورة، هلل كاسرًا السكوت السائد في هذا المجهول:
-والله زمان، أنا مش مصدق عيني.
أتاه صوته على نفس القدر من العلو والتحية:
-مرحب بالناس المهمة.

امتدت يده لمصافحة تميم، واستطرد قائلاً بزهوٍ:
-معلم تميم، عاش من شافك يا سيد الرجالة.
بادله الأخير المصافحة أن تحرك ناحيته لإلقاء التحية عليه مرددًا:
-ريس كرم.
قهقه ضاحكًا في دهشة مستمتعة قبل أن يعقب وهو يحثه على السير بعيدًا عن الرجال المحاوطين بهما:
-ياه، بقالي زمن ماسمعتش الاسم ده...
استغرب تميم من عبارته، بينما واصل الهجام التوضيح:.

-من أيام أبويا الله يرحمه، لدرجة إني نسيته، ده إنت رجعتني لسنين ورا بالاسم ده.
علق تميم في هدوءٍ حذر، رغم علامات الضيق الظاهرة على محياه:
-الله يرحمه.
استمر الهجام في الشرح مبتسمًا بانتشاءٍ؛ وكأن ما يرتكبه من جرائم دموية وسيلته المتاحة للتسلية:
-كل الرجالة بتناديني الهجام، أو كوبارتنا، وأنا بكرمهم، على طريقتي.

آثر تميم الصمت، ولفظ دفعة من الهواء المشحون بغضبه من صدره، فتساءل الهجام مستفهمًا بتعابير اكتسب طابعًا جديًا مغايرًا لما كان عليه قبل ثوانٍ:
-خير؟ وردني إنك عاوزني في مصلحة.
بنفس الضيق البادي عليه أخبره تميم بما يشبه الاعتذار:
-معلش هتقل عليك.
عاتبه في وجومٍ:
-والله أزعل منك لما تقول كده، إنت عارفني، اللي يفديني بروحه، أشيلهاله لآخر العمر.

جال بذاكرته لمحة خاطفة من فترة احتجازه بالسجن، حيث تدخل مصادفة في إحدى المرات التي نشب فيها شجارًا عنيفًا بين النزلاء، للزود عن الهجام، دون أن يكون على صلة وثيقة به، وقتئذ تمكن من منع أحدهم من وخزه غدرًا بسلاحٍ أبيض، وقام بكسر ذراعه، ليعتبر الأخير ما فعله بمثابة توثيق لرابطة أخوية من نوعٍ مختلف، إن احتاجه يومًا وجده إلى جواره. نفض الذكرى عن عقله مؤقتًا، وهتف في غير ابتسامٍ:
-تسلم، ده العشم برضوه.

أخرج الهجام المظروف الأبيض من جيب بنطاله، وأعاده إليه قائلاً:
-اتفضل..
تناوله تميم الطرف المألوف منه، ونظر إليه متسائلاً في تعجب:
-إيه ده؟
أجابه مقتضبًا وهو يومئ له بعينه:
-عربونك
تساءل مرة أخرى في استغرابٍ أكبر:
-بترجعه ليه؟
أخبره باسمًا:
-يا سيدي اعتبر المصلحة اللي عاوزها تحية مني ليك، ده كفاية إني شوفتك.
رفض مُبديًا تصميمه:
-لأ معلش، الاتفاق اتفاق.
عارضه في صوتٍ هادئ، ينم عن محبة وأخوية قوية:.

-معاك إنت، تؤمر تُطاع.
أصر عليه في جديةٍ شديدة:
-ده شغل، ومايزعلش حد.
هتف الهجام معترضًا بعنادٍ:
-لأ يزعلني أنا، ده أنا مرضتش أكسف الراجل بتاعك، وقولت دي فرصة حلوة أشوفك فيها...
ثم وضع يده على كف تميم ليجبره على إخفاضها قائلاً:
-عين فلوسك في جيبك.
رفع ذراعه للأعلى متجاوزًا يده، وقال رافضًا:
-لأ، لو مخدتهومش هاعتبر المصلحة ملغية.
بدا التردد ظاهرًا على وجه الهجام، فتابع تميم بنفس النبرة المُصرة:.

-اعتبره عرق الرجالة، ده حقهم.
صمت لحظيًا، كأنما يفكر في الأمر، واضعًا يده على طرف ذقنه يفركها قليلاً، قبل أن ينطق في نهاية الأمر، وبابتسامة تعلن قبوله لعرضه:
-مش هردك.
أعاد الظرف إلى جيبه، ثم تساءل في نبرة مهتمة:
-ها، مين اللي عليه العين، وخلاك تقابلني؟
غامت عينا تميم بشكلٍ مخيف، وأخبره بعد زفيرٍ سريع، بجزءٍ لا يضاهي أبدًا ما يكبته في صدره من غليلٍ حارق:
-واحد عاوزك تجيبه عندك، يتمنى الموت ومايطلوش.

هز رأسه معلقًا في ترحيبٍ؛ كأن المسألة لا تعني شيئًا له:
-بسيطة، لو عاوزني أشفِّيه كمان ده موجود.
كان يعلم أن المقصود من تلك العبارة، هو إجراء عملية استئصالٍ لأعضائه الحيوية من أجل بيعها في السوق السوداء لفئة المتاجرة بالأعضاء البشرية، توحشت نظرات تميم، وصارت أكثر إظلامًا، عندما خاطبه بحنقٍ متصاعد:
-الموت راحة ليه، وأنا مش عاوزه يرتاح.

شبك الهجام أصابع كفيه معًا، فرقعهم دفعة واحدة، وتكلم في ثقةٍ عارمة:
-اديني اسمه، وعنوانه، وهتلاقيه مشحون في ظرف كام ساعة عندي.
نظر إليه تميم بغموضٍ، فأكد الهجام بنفس النبرة الواثقة:
-وشغل نضيف، من غير شوشرة، ولا سين وجيم.
استحسن الأمر، فقال موجزًا:
-حلو الكلام.
انتصب الهجام بهامته، والتفت ناظرًا إلى رجاله المجتمعين على مسافة بضعة أمتار، ليضيف في غرورٍ:
-إنت عارف شغلي، يحير المتحير، ومش أنا اللي هاقولك.

حاول الابتسام مجاملاً، فبدت بسمته متكلفة إلى حدٍ كبير، وهو يعلق:
-طبعًا، مش كبير الهجامة!

كانت أقرب للانهيار الكامل، في حالة من اللا وعي والصراخ، تبكي بهيسترية، وجنون، حتى احمر كامل وجهها من كثرة بكائها المذعور، ففي خضم لهفتها للحاق بزوجها نست فيروزة هاتفها المحمول، وبالتالي تعذر عليها كليًا التواصل بأي شكلٍ مع زوجها، لإقناعها بالعدول عن قراره المرعب، مما زاد من مخاوفها، وضاعف من ذعرها عليه. لم يختلف حال ونيسة عنها؛ لكنها بدت أكثر تماسكًا بالمقارنة بها، خاصة أنها كانت معتادة على مثل تلك الأزمات المتعصبة، بالرغم من عدم إلمامها –حاليًا- بتفاصيل الموضوع الشائك الذي قد يدفع ابنها للتصرف برعونة، تطلعت الأخيرة إلى فيروزة بعد أن أعدت لها مشروبًا باردًا لتتناوله، خاصة مع الإعياء الظاهر عليها، أصرت عليها لتأخذه، وقالت في إلحاحٍ وهي تجلس بجوارها على الأريكة:.

-اشربي اللمون ده، واهدي، وإن شاءالله عمك بدير جاي وهيتصرف، دي مش أول مرة تميم يفكر فيها بالشكل ده.
في قرارة نفسها أرادت فيروزة تصديق ما تقوله، أنها غضبة مؤقتة ستنتهي بزوال العارض المؤثر، وتعود الأمور إلى مجرياتها الطبيعية؛ لكنها تعلم تمام العلم أن الحقيقة مغايرة كليًا لما ترجوه، أبعدت يدها الممدودة إليها، ساكبة قدرًا من المشروب على ثيابها، وهتفت بصوتها المنتحب:.

-مش عاوزة أشرب حاجة، أنا عاوزة جوزي يرجع.
جاءها صوت الجد هادئًا ومطمئنًا:
-هيرجع يا بنتي، اطمني.
استدارت ناظرة إليه بعينيها المنتفختين، وعاتبته:
-إزاي تسيبه يا جدي؟ ده هيضيع نفسه.
نظر إليها بغموضٍ، وهو يلف رأس عكازه بين راحته، فتابعت في صوتٍ ينم عن هلعها:
-المرادي غير، هيقتله!
قالت كلمتها الأخيرة في صوتٍ عاد للبكاء العاجز مجددًا، ففزعت ونيسة، وسألتها بقلبٍ مرتجف:
-مين هيقتل مين؟

أدارت رأسها في اتجاهها، وأجابتها بشيءٍ من الخزي:
- فضل ابن عمي.
هنا صاحت ونيسة في حدةٍ:
-هو ما بيتهدش البني آدم ده، عاوز إيه منكم؟
دفنت فيروزة يديها بين كفيها، وراحت تصرخ في هياجٍ منفعل:
-أنا السبب، لو مكونتش وافقت أتجوز تميم مكانش ده حصل.
رد عليها سلطان بصوتٍ حازم لا غاضب:
-ماتحمليش نفسك ذنبك مالكيش فيه، كل واحد بيشيل شيلته...
بدت نبرته أكبر للهدوء وهو يتابع:.

-وأنا عارف حفيدي، طالما حد غلط، هيربيه بالأصول اللي عارفها كويس.
خفضت يديها لتنظر ناحيته، ثم صاحت في بكاءٍ حارق:
-يا جدي بقولك هيقتله.
اختنق صوتها، وتقطع وهي تكمل بصعوبةٍ:
-وساعتها تميم هيروح خالص.
لطمت ونيسة على صدرها، ورددت في نبرة بدت متوسلة، مليئة بالاستجداء:
-ابني يا حاج.
نهض سلطان واقفًا من موضعه، انتصبت هامته، ورفع رأسه للأعلى قائلاً في صوتٍ صارمٍ:.

-مش عاوز كلام، أنا عارف حفيدي كويس، ومتأكد إنه هيتصرف صح.
غادر المكان، دون أن ينبس بالمزيد، فعادت فيروزة لتدفن رأسها بين كفيها متابعة بكائها المرير، ومن بين نهنهاتها راحت تدعو في رجاوات شديدة:
-يا رب اهديه ورجعه ليا، يا رب ماتخسرني فيه.

أثناء قيادته على الطريق، نظر إلى هاتفه الذي لم ينقطع عن الرنين بتحفزٍ، لم يجب عن أي اتصالٍ ورده مؤخرًا، فقط بدا مترقبًا لمكالمة بعينها، تلك التي ستأتي بما اعتبرها مجازًا البشارة، حينئذ سيقتص من ذلك الوغد الدنيء، وبوحشية تامة، تجعله متوسلاً الموت؛ لكنه لن يأتيه! مع تكرار الصوت المزعج، تطلع تميم إلى شاشة هاتفه بعبوسٍ، اضطر أن يجيب على هذا الاتصال، فأصغى إلى صوت والده المتسائل في هدوءٍ رغم رنة الغضب المحسوسة فيه:.

-مكونتش ناوي ترد على أبوك؟
على مضضٍ جاوبه:
-إنت فوق راسي يا حاج.
سكت بدير للحظاتٍ، بدا فيها صوت أنفاسه مسموعًا، إلى أن تكلم أخيرًا بحنوٍ أبوي:
-إرجع يا تميم.
رغم بساطة الجملة، إلا أن تأثيرها عليه كان عظيمًا، مؤلمًا بدرجة جعلت قلبه ينقبض، ونظراته تشتعل، قتل تميم غصة عالقة في حلقه، وقال في حرقةٍ، وقد اشتدت قبضته على المقود:
-حق مراتي يابا.
أخبره في تعقلٍ:
-هنجيبه، بس مش بالطريق اللي إنت ناوي تمشي فيه.

رغمًا عنه ارتفع هدير صوته وهو يُحادثه:
-معدتش ينفع أي مهاودة معاه، هو عدى كل الخطوط الحمرا.
ما زال بدير محافظًا على ثبات صوته الهادئ عندما عقب:
-يبقى نأدبه بالأصول، ولا إنت عاوز تحسرنا عليك لما نلاقيك متعلق على حبل المشنقة؟!
لم يخبت غضب تميم شيئًا، بل إنه تضاعف وصار أكثر حدةً وهو يستحضر في ذهنه ما فعلته بكل دناءةٍ وخسة، احتدت نبرته قائلاً باحتجاجٍ، رافضًا أي شكلٍ من أشكال التهدئة وضبط النفس:.

-ده معدتش ينفع معاه أصول، ويابا لو مفكر إن حتة وصل هيخليه يبطل فمش هيحصل.
رد عليه بدير بصوتٍ مال للحزمٍ:
-مش هتجادل معاك كتير، عاوزك في البيت قدامي.
وقبل أن يفكر في الرفض، أكمل والده جملته:
-ده لو إنت مقدر أبوك فعلاً، وعامل لكلمته احترام.

بجملته الصريحة وضعه ما بين مطرقة الثأر، وسندان طاعة الوالدين، لم ينتظر بدير تعقيبه، أنهى المكالمة، وتركه يكتوي بنيرانه غضبه المستعرة كلما استحضر الذكرى، وينسحق كالطحين بين الرحى بوأد رغبته في الانتقام امتثالاً لأمره. لكز تميم المقود في عصبية، مختنقًا بما يهيج من مشاعر ثائرة بداخله، وصوت لعناته الهادرة ينفذ من نوافذه المغلقة للسيارات المتحركة بجوار خاصته.

كلصٍ يختال بنجاح عملية سرقته، جلس فضل منتشيًا في المقعد الأمامي للسيارة التي استأجرها، للمرة الأولى يشعر أنه انتصر انتصارًا عظيمًا، في معركة دومًا كان فيها الخاسر على مدار جولاتها الممتدة، وإن كان انتصاره الزائف بالافتراء والكذب، مد يده برزمة من النقود إلى زميله مشددًا عليه:
-راضي الرجالة كويس، وقولهم مش هاتكون أول مرة.
هز رأسه صاغرًا وهو يكلمه من النافذة:
-ماشي يا ريس فضل.

استقام واقفًا ليشرع في التحرك مبتعدًا عنه، حتى ينفذ أوامره، بقيت عينا فضل مرتكزتان عليه؛ لكنه لم يكن منتبهًا له بشكلٍ كامل، فقد شرد في خيالاته الحالمة، متوهمًا قيام تميم بتعنيف زوجته بشكلٍ قاسٍ، قد يؤدي في النهاية إلى قتلها، انتفخت أوداجه، وامتلأ صدره بالهواء في تفاخر وهو يتحدث بين جنبات نفسه:
-زمانه دبحك يا بنت ال (، ).
أراح مرفقه على إطار النافذة متابعًا حديث نفسه:.

-ولو معملش كده، دماغه هتفضل تودي وتجيب، ومش هيرتاح أبدًا.

عبث شيطانه الماجن برأسه، ووسوس له مرة ثانية بفكرة أخرى جهنمية لاقت قبولاً كبيرًا لديه، لما لا يستغل هذه المسألة، ويلفق المزيد من الأكاذيب عن ابنة عمه، وينشرها في بلدته؟ فالناس لن تقاوم فضولها في الخوض في شرفها، وتصديق ما قد يُقال عنها رغم يقينه من براءتها؛ لكنها ربما تكون وسيلته في التغطية على فضائحه المشينة. تلون ثغره ببسمة خبيثة، والتمعت عيناه بهذا الوميض اللئيم وهو يؤكد لنفسه في صوتٍ خافت:.

-هيجرى إيه؟ ده جايز بالحكاية دي الناس تنسى اللي حصلي، ويفكروا إنها عملت كده عشان تداري على عمايلها السودة.
فرك كفيه معًا في نشوة متزايدة، وراح يستمتع بهذيانه، تنبه لصوت مرافقه عندما خاطبه:
-خلاص يا ريس فضل، الكل اتراضى.
أشار له بيده ليركب السيارة وهو يعقب عليه:
-زي الفل..
استقر الرجل في مقعد القائد، فأكمل فضل أمره لها وهو يمسح على بطنه براحته:.

-اطلع بينا على الحاتي اللي في النواحي دي، هاتلنا منه كباب وكفتة.
اندهش الرجل لعرضه السخي، كأنه لم يتوقع ذلك منه، خاصة و فضل يردد في سرورٍ غريب:
-خلينا ننبسط.
هز رأسه هاتفًا بابتسامة سعيدة:
-عينيا.

انحرف بالسيارة عبر الشوارع الجانبية إلى أن وصل إلى واحدٍ من أشهر المطاعم المتخصصة في تقديم اللحوم المشوية، بدا من غير اليسير إيجاد مكانٍ مناسب لصف المركبة، نظرًا لضيق الطرقات، اشرأب فضل بعنقه من النافذة المجاورة له، ولمح بقعة شبه خالية على مرمى بصره، أشار إليها بيده أمرًا من معه:
-اركن هناك، في حتة فاضية.
سأله متحققًا:
-فين يا ريس فضل؟
أجابه مشيرًا نحو إحدى السيارات حديثات الطراز:.

-عند السكودا السودة دي.
أومأ برأسه متسائلاً:
-طيب، عاوز أجيب أد إيه يا ريس؟
لوى ثغره مرددًا في امتعاضٍ، وقد تجهمت تعابيره قليلاً:
-كفاية كيلو، يدوب أنا وإنت، بلاش طمع.
نظر له الرجل من طرف عينه معقبًا بغير صوتٍ في تبرمٍ:
-يعني هاكل الكيلو لوحدي، ما إنت هتلهف بقليله تلاتربعه.
تنحنح مدعيًا امتثاله لطلبه قائلاً:
-ماشي.
رفع فضل سبابته قائلاً في لهجةٍ متشددة، وبها نوعٍ من التحذير:.

-متتأخرش، وقوله يحط طحينة وعيش سخن، بلاش يستعبطك.
ترجل من السيارة بعد أن ركنها في هذا المكان الخالي هاتفًا:
-عينيا.
شيعه فضل بعينين نهمتين وهو يختفي عن أنظاره، ليعاود الاستمتاع بنصره الحقير، مرددًا في صوتٍ خفيض:
-يا سلام، الواحد ماتبسطش في حياته أد النهاردة.

أفسد عليه ما اعتبرها لحظاته المميزة هذا الرنين المزعج، نظر إلى شاشة الهاتف متعجبًا من ذلك الرقم الغريب الذي يلح على الاتصال به، أجاب في تحيرٍ، سرعان ما تلاشى عندما سمع صوت والدته المألوف، انقلبت تعابيره، وغامت بتأففٍ وهو يسأله في نفاذ صبرٍ:
-عاوزة إيه يامه؟
ردت عليه في عصبيةٍ:
-خربتها وارتحت يا فضل؟
تجاهل سؤالها، وصاح في استنكارٍ حاد:.

-إنتي جبتي تليفون جديد من ورايا يامه؟ أكيد واحدة من المزاغيد إخواتي، مش كده؟ ما هما عاملين رباطية عليا!
صرخت به في حمئةٍ:
-ده اللي همك؟ هتروح من ربنا فين؟
أبعد الهاتف عن أذنه ليغمغم بسبةٍ خافتة، ثم قال في تكبرٍ:
-محدش ليه دعوة باللي بأعمله.
هتفت به في يأسٍ يشوبه كل اللوم:
-راعي عضم التربة، دي بنت عمك، واللي يمسها يمسك.
في جحودٍ لا يحتمل قال:
-أنا مابراعيش حد، وده اللي عندي.

استمرت سعاد في تقريعه قائلة بحنقٍ:
-يعني موت أبوك بقهرته، وماسبتش الغلبانة في حالها، وآ...
لم يرغب فضل في سماع هذا التوبيخ المستفز والمفسد لنشوته، فقاطعها في قساوةٍ:
-ياباي، مابتزهقيش يامه من الحوارات دي، أه ارتحت، ولسه مبسوط.
علقت عليه في قهرٍ:
-منك لله يا فضل، ربنا عمره ما هيسيبك.
صاح بها بنفس المشاعر المتحجرة:
-اقفلي يامه، وولولي براحتك، أنا مش ناقص غم.
ضغط على زر إنهاء الاتصال قائلاً في نفورٍ:.

-هو أنا ناقص وجع دماغ.
أعاد فضل رأسه للخلف، وأراحها على مقعد السيارة ناظرًا للأعلى بابتهاجٍ مريض؛ لكن ما لبث أن خبا ذلك السرور حين قرأ اللافتة العريضة التي لم يكن قد انتبه لها منذ البداية، ردد حروفها بصوتٍ لم يتجاوز ما بين شفتيه:
-البناية مهددة بالسقوط، رجاءً عدم ركن السيارة بالأسفل.

لا يعرف ما الذي جعله في تلك اللحظة يتحول من الانبساط للانقباض، اكفهرت كل تعابيره، تلبد فضل في جلسته، وانكمش بشكلٍ غريب، أحس بشيءٍ غير مريحٍ، باعث على الخوف، والإظلام التام، لم يكن قد أتم جملته للنهاية إلا وقد هوت كتلة خرسانية -ضخمة الحجم وثقيلة الوزن- من الأعلى، لها نتوءات حديدية مدبدبة استقرت فوق سطح سيارته، عند جانبه تحديدًا، كأنها تقصده، جعلت رأسه يتهشم، عظامه تتفتت، أطرافه تتمزق، وجسده ينسحق في لمح البصر، لتتحول السيارة إلى قطعة من الصفيح الغارق في الدماء.

على إثر الصوت المفزع، وكتل الغبار المتناثرة في الأرجاء، انتفض جميع من في الشارع يصرخون في هلعٍ. عمَّت الفوضى في لحظاتٍ معدودات، واحتشد الأهالي في غمضة عين حول مكان الانهيار، لتحل عليهم الصدمة المخيفة. هلل أحدهم مشيرًا بيده للأعلى؛ كأنما يخمن ما حدث:
-ده في بلكونة وقعت.
أضاف آخر وهو يشير نحو إحدى السيارات:
-الظاهر جت على العربية اللي هناك دي.

للعجب! لم تتعرض أي سيارة أخرى للدمار مثلما حدث مع سيارته على وجه الخصوص، بل لم تمس أقل واحدة من مجموع العربات المصفوفة بسوءٍ سواها. الأشلاء الممزقة التي برزت في محيط السيارة جعلت المشهد أكثر تقززًا ورعبًا، صرخت النساء من هول المنظر، وامتنع الرجال عن تقديم المساعدة، فقد استمرت البناية في التساقط، كتلة وراء الأخرى؛ ولكن على نفس الموضع من السيارة، لتغرق تحت أطنانٍ من الركام وتُباد كليًا عن بكرة أبيها...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة