قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل السبعون والأخير

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل السبعون والأخير

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل السبعون والأخير

خشي من احتمالية تأخره عليه، وتعرضه للتوبيخ اللاذع منه، خاصة أن المكان في هذا الوقت كان مزدحمًا بشكلٍ لا يُطاق، ولسان فضل لا يتوقف عن السب واللعن تحت أي ظرف، أخرج رفيقه هاتفه المحمول من جيبه لينظر إلى التوقيت فيه، أطلق زفرة مزعوجة، وقد تأففت ملامحه، اشرأب بعنقه مجددًا لينظر إلى العاملين المنهمكين في إعداد طلبات الطعام، وضع يده على بطنه يتحسسها، يكاد يسمع صوت قرقرة معدته من الرائحة الشهية المغرية، قاوم جوعه قدر استطاعته، سئم من الانتظار، وضاق صبرًا، لهذا صاح عاليًا من موضعه ليدفعهم للتعجل في تسليمه ما يخصه:.

-الله يكرمك خلصني أوام، أنا مستعجل.
احتج عليه أحد الواقفين على مقربة منه في تهكمٍ:
-يعني لسه جاي وعاوز تمشي؟ ده الناس هنا بقالها فوق الساعة.
نظر إليه قائلاً بتعابيرٍ منقلبة:
-معلش، أنا على سفر.
رد عليه الرجل بشيءٍ من التهكم:
-الله يسهلك.

نفخ رفيق فضل مرة ثانية، وراح يُعاود النظر في شاشة هاتفه، قبل أن يعيده إلى جيبه، عندئذ تحسس المدية التي تم نزعها سابقًا من كتف فضل بعد ادعاء تعرضه للإصابة عن طريق الخطأ، وتضميد جراحه مؤقتًا في إحدى العيادات الخاصة بأحد أطباء الجراحة، لم يرغب في التخلص منها، واحتفظ بها لنفسه بعد أن قام بتنظيفها بمطهرٍ، كنوع من الذكرى، أخفى ابتسامة منتشية وهو يتلمسها بأصابعه المدسوسة في جيبه:.

-ده أنا نسيت إنها معايا، وربنا خسارتها تترمى، دي من النوع الغالي...
سرعان ما تجهمت تعابيره نسبيًا وهو يكمل حديث نفسه:
-بس فضل هيسبغلي في الراحة والجاية لو شافها معايا.
برقت عيناه بوميضٍ مستمتع حين طرأ بباله فكرة مستهلكة؛ لكنها كانت مرضية لها، فأخذ يخبر نفسه:
-هبقى أداريها فترة لحد ما ينسى، وبعد كده أخدها اتنمظر بيها قصاد المقاطيع أصحابي.
انتشله من شروده الحالم صياح أحدهم بلهاثٍ منفعل:.

-يا جدعان، إنتو أعدين هنا ومش شايفين الكارثة اللي برا.
انتبه الجميع لحديثه الهام، وبادر أحد الأشخاص بسؤاله في فضولٍ متزايد:
-يا ساتر، حصل إيه؟
أشار الرجل بيده نحو الخارج موضحًا في نفس الصوت المنفعل:
-على أول الشارع في بلكونة وقعت من عمارة الاتحاد.
سأله آخر في قلقٍ:
-وحد جراله حاجة؟
هز كتفيه في تحيرٍ، وأجاب:
-مش عارف لسه، بس الناس هناك أمم.
لكز أحد الأشخاص كتف آخر قريبًا منه يستحثه على التحرك وهو يقول:.

-بينا نشوف لحد ما يخلصوا الأوردرات.
بدأ بعض المتواجدين بداخل المطعم بمغادرته لرؤية الحادث، في حين بقي رفيق فضل قابعًا في مكانه، تقدم في الصف، وهتف مجددًا بصوته المرتفع:
-يا عم خلصني وهات الكباب خليني أشوف مصالحي.
رد عليه العامل من خلف الحاجز الزجاجي:
-طيب، اصبر، ولا روح معاهم اتفرج لحد ما نجهزلك طلبك.
اعترض عليه في عنادٍ:
-لأ مش ماشي قبل ما أخد الكباب.
خاطبه العامل في سماجةٍ:
-يبقى استنى دورك وإنت ساكت.

قوست الأخير فمه في نفورٍ، وغمغم مع نفسه بسخطٍ وهو يشيح بوجهه:
-معاملة زفت، ماتتخيرش عن فضل!

العودة بلا تحقيق أدنى درجات الانتقام اعتبره أمرًا مخزيًا، لم يجرؤ تميم على الذهاب إلى المنزل، واتجه إلى الدكان ليمكث به منفردًا بحاله المضطرب، تجنب جميع العمال الاقتراب منه، خاصة بعد تحذيره الصارم بعدم إزعاجه، تركوه في عزلته بالداخل، وواصلوا عملهم بهمةٍ دون التفكير في اللجوء إليه إن استدعى الأمر لهذا. فقط واحدٌ من العمال تشجع ليهاتف الحاج بدير ليطلعه على حالته، فأخبره الأخير بالانصياع لأوامر ابنه، وانتظار مجيئه للتصرف والتعامل معه.

خلال تطوافه الطويل في تفكيره العميق والمتصارع ما بين فعل الصواب، وارتكاب الخطأ، أحس تميم بالتخبط، والتحرُّق، فالقلب رغب منه التروي، والعقل أصر على الثأر وقطع الأعناق. لم تنقشع غيمات غضبه المستعرة بعد، بل كانت تتراكم، وتزداد قتامة كلما استحضر ذهنه كلمات فضل السقيمة، إن لم يكن واثقًا في براءة زوجته، لانساق بلا تعقلٍ وراء أكاذيبه، وفعل الأسوأ، ما لا يأتي على عقل بشؤ؛ لكن ثقته بها غير محدودة، غير قابلة للتشكيك.

استند بجبينه على قبضتيه المضمومتين، وراح يتنفس بثقلٍ، كأنما ينفث حممًا من اللهيب من صدره، ارتفع رأسه المنكس عندما سمع صوت والده يناديه في حنوٍ:
- تميم.
عيناه الغائمتان كانتا كفيلتان للإشارة إلى مدى ما يكبته من ثورة عارمة، ضم شفتيه بقوةٍ، وتحفز في جلسته بشكلٍ لافت لتشنجه، دنا منه بدير قائلاً بأسلوبه الهادئ السلس:
-كويس إنك جيت على هنا.

جلس على المقعد المواجه لمكتبه، وسأله في اهتمامٍ، ونظراته مسلطة عليه:
-عامل إيه دلوقتي؟
لم يستطع تميم تخبئة انفعاله المشحون، تحرر قدرًا منه وهو يجاوبه في حدةٍ، انعكست في نبرته قبل ملامحه:
-هاقولك إيه يابا؟ إني مش قادر أوري وشي لمراتي، ولا حتى هابقى عارف أرفع عيني في عينها وأنا مجبتلهاش حقها لسه؟
صمت بدير للحظةٍ قبل أن يسأله بتريثٍ:
-هتجيب حقها وتودي نفسك في داهية؟

هتف في نبرة متحفزة على الأخير، وقد اِربد وجهه بالمزيد من أمارات الحنق:
-الشرف مافيش فيه كلام يابا.
بسط بدير كفه على سطح المكتب، وأخبره بتعابيرٍ هادئة مستكينة:
-اصبر، واحتسب، وافتكر كلام ربنا لما بيقول وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ..
كان كمن أصيب بخرسٍ مؤقت، ألجم لسانه، وأصغى إليه وهو يتم جملته:
-يعني حكم ربنا نافذ رغم إرادة البشر، مشيئته هتحصل شئنا أم أبينا.
رغم هياجه ردد تميم من بين أسنانه:.

-ونعم بالله..
واصل والده الكلام معه لإقناعه بالتريث، مستخدمًا أسلوبه السهل اللين:
-إنت ربنا عوضك ورزقك بنعم كتير، والحاقد اللي زي البغل ده عاوز يعميك عن خير ربنا، وياخدك لطريق مالوش نهاية، إنت في امتحان دلوقتي ربنا حطك فيه، وعاوز يشوفك هتعمل إيه، ففوض أمرك ليه، وانتظر النتيجة، وزي ما هو سبحانه بيكون غفور رحيم مع عباده، بيكون برضوه المنتقم الجبار وشديد العقاب مع الظالمين.

أخفض رأسه مطبقًا على جفنيه، كأنما يحاول تحجيم ما يتقد بداخله من مشاعر هائجة، تسعى لكل ما هو مُخرب، امتدت يد والده لتمسح على كفه في مودةٍ، وأضاف:
-والظالم مهما اشتد ظلمه نهايته أقرب مما يتخيل.
اختنق صوت تميم لشعوره بالتقصير، وظهر واضحًا عندما عقب في ألمٍ:
-صعبان عليا حالي يابا، لما مراتي تستنجد بيا، وأبقى مش قادر آ...
قاطعه مبتسمًا في تأكيد:.

-مراتك بتحبك، وعايشة تحت ضلك، هتحرمها من قربك بإنك تعمل الذنب وتبرر؟
لم يستطع مغالبة غضبه المتصاعد، فغطت آثاره على كامل وجهه حين علق منفعلاً:
-يعني أسيبه كده يعمل ما بداله؟ يطعن في شرف مراتي وأنا واقف أتفرج؟
تكلم معه بدير بهدوءٍ:
-ومين قالك إنه هيتساب كده؟ ربك قادر على فعل كل شيء، وخصوصًا لما البشر يعجز عن التصرف.
طرد تميم الهواء في زفيرٍ طويل محمل بالاستياء، استمر والده في التحدث إليه بطيب الكلام:.

-استهدى بالله، وأرمي همومك عليه...
ثم نهض واقفًا وهو يطلب منه:
-قوم معايا نروح البيت، مراتك مستنياك هناك.
كان يطلب منه ما لا يملكه حاليًا، فمواجهة نظراتها المليئة بهذا الشعور المقهور لم يكن مستعدًا له، اعتذر منه مبررًا في ضيقٍ ما زال محتلاً كيانه:
-شوية بس يابا، مش عارف أقابلها وأنا كده.
تفهم عزوفه، وقال ناصحًا إياه:.

-طيب، بس خليك فاكر إنها مفطورة من العياط عشانك، فماتسبهاش لوحدها، كسرة القلب وحشة، وهي عشمانة فيك أوي.
هز رأسه في طاعةٍ قبل أن يرد بصوتٍ انخفض بشكلٍ تدريجي، كأن الإعياء تمكن منه:
-حاضر يابا.
ابتسم بدير في حبورٍ، ودعا له عن طيب خاطرٍ:
-ربنا يكرمك ويراضيك.

تركه بمفرده، وغادر في هدوء، ليظل تميم حبيس همومه الثقيلة، رغمًا عنه نفرت دمعة عاجزة من طرفه، أزاحها قبل أن يراها أحدهم، ليردد بعد ذلك بين نفسه في تحيرٍ موجع:
-أخد حقها منك إزاي وأنا متكتف كده؟!

كاد يغرق في همومه الثقيلة مرة ثانية لولا رنين هاتفه، نظر إلى الاسم الصادح على شاشته، فوجده لشقيقته، كانت من عادتها ألا تتصل إلا لو كان الأمر هامًا، تجاهل اتصالها متوقعًا أنها تلعب دور الوسيط في تهدئته، فربما اشتكت إليها والدته، وطلبت منها التدخل لإيقافه عن تهوره. لم يرغب في مصارحة أحدهم عما يجوس في نفسه، أطرق للحظاتٍ، ولم يكترث لمكالمتها؛ لكن تكرر اتصالها، وبدا مُلحًا بشكلٍ مزعج، كان على وشك التغافل عن إجابتها لولا أن قرأ رسالة نصية منها وصلت إليه، رددها بغير صوتٍ:.

-الحقني يا تميم، ابني في المستشفى، وأنا لوحدي.
عندئذ انتفض من مقعده، ويده تعبث بأزرار الهاتف ليتصل بها، بمجرد أن أجابت عليه، سمع نهنهات بكائها، سألها في جزعٍ:
-إنتي فين بالظبط؟ أنا جايلك على طول.
بدا وكأن في همها النجاة مؤقتًا من بوتقة أحزانه، لينشغل كليًا بأمرها ويلتهي عقله عن التفكير فيما يحرق أعصابه ويتلف البقايا الصامدة فيه.

ظل ملازمًا لها طوال فترة بقائها بالمشفى لتقطيب جرح صغيرها الذي تعرض لحادث منزلي أدى لجرح راحة يده، أثناء لهوه بواحدٍ من الصحون الفخارية حين غفلت عنه للحظاتٍ، فسقط من يده، وتكسر، مما جعل جلده الناعم يُجرح من الأجزاء الحادة، وينزف بغزارة. تنفست هاجر الصعداء عندما تأكدت من زوال الخطر، وعادت به إلى منزلها بصحبة شقيقها، وضعته بالفراش، وخرجت إليه قائلة بزفيرٍ متعب:
-الحمدلله نام، عدت على خير.

تطلعت إليه بامتنانٍ وهو جالس على مائدة الطعام، ثم تابعت بعد تنهيدة سريعة:
-مش عارفة كنت هاتصرف إزاي لو مكونتش معايا.
قال بنفس التعابير الواجمة:
-أنا سندك يا هاجر، وقت ما تعوزيني كلميني.
تحرجت نسبيًا وهي تخبره:
-فكرتك مشغول، وخصوصًا لما مردتش عليا على طول، ده غير إن سراج مسافر في شغل، كنت هابقى في حيص بيص، لا هاعرف أروح ولا أجي لوحدي.
فشل في الابتسام وهو يحاول طمأنتها:.

-أنا معاكي في أي وقت، وكويس إنك بعتي رسالة.
عقبت عليه في عفويةٍ:
-ده اللي جه في بالي ساعتها.
أومأ برأسه بخفةٍ، وقال:
-ربنا يحفظهلك ابنك، ويباركلك فيه.
اتسعت بسمتها وهي تكلمه:
-يا رب، وعقبال ما تفرح بعوضك يا تميم.
سحبت المقعد لتجلس في مواجهته، تفرست في ملامحه التعسة بفضولٍ شبه متحير، ثم سألته بنظراتٍ ضيقة:
-مالك شايل الهم ليه؟
أراح ظهره للخلف، وراوغها موجزًا في الرد:
-مافيش.

انتفضت بغتةً كأنما تذكرت شيئًا، تراجعت خطوة للخلف، وراحت تقول في عتابٍ:
-الكلام خدني ومجبتلكش حاجة تشربها.
اعترض على ذهابها قائلاً:
-مالوش لزوم.
هتفت في تصميمٍ وهي تسرع الخطى:
-والله ما يحصل.
توقفت عند أعتاب مطبخها مقترحة في حماسٍ:
-هاجيبلك عصير فريش يرد الدموية في وشك.

لم يعارضها، والتزم الصمت مرة ثانية؛ لكن بقيت أفكاره الصاخبة تهتاج في رأسه، ما زال وجه هذا القمئ وهو يدلو بدلوه الكاذب عليه حاضرًا بقوة في مخيلته، انقبضت أصابعه وتكورت في شكل قبضة متشنجة، ضرب بها على سطح المائدة في حنقٍ وهو يغمغم لاعنًا إياه بهسهسة خافتة:
-كلب نجس، (، )!

تذكر أنه لا يزال محتفظًا بقطعة الثياب التحتية في جيبه، أخرجها منه لينظر إليها عن كثب، وألسنة اللهب تتقاذف في حدقتيه، كيف لوغدٍ مثله أن يحصل على مثل تلك الأشياء النسائية الخاصة؟ على الأغلب سرقها خلسة في غفلة من الجميع، وفي وقتٍ كان متواجدًا به بمنزل العائلة، دون أن ينتبه له أحدهم، وما أكثر زياراته السمجة! التفت فجأة نحو شقيقته التي راحت تمازحه في دهشةٍ:.

-إيش إيش، إنت جايب الحاجات الحلوة دي لمراتك ولا إيه؟
طوى القطعة بتعجلٍ، فخاطبته ضاحكة:
-وماله، دلعها واتمتع معاها.
كان على وشك إعادتها إلى جيبه، لولا أن شددت عليه، بشيءٍ أكد كذب افتراء هذا الحقير:
-بس شيل تيكت السعر من عليه، لأحسن تبقى عيبة أوي في حقك.

أمعن النظر في ورقة السعر الملتصقة على الجانب، والتي غفل فضل عن نزعها، تفحص القطعة بتدقيقٍ، فوجد المزيد من الملصقات الخاصة بالمقاس، والموديل، استرعى الأمر انتباهه بشدة، فإن كانت زوجته تخونه حقًا، وهذا ما لم يصدقه من الأساس، فكيف إذًا ارتدت هذه الثياب وأهلكتها وهي ما تزال بحالتها الجديدة؟!

الكاذب الفاسق أراد فقط زرع الفِتنة بينهما، وإفساد زيجتهما بأحقر الوسائل الممكنة، دون أن يكترث لنتائج فعلته المشينة! ما ضاعف من شعور تميم بالاحتراق، هو تركه له هكذا دون تأديبه بما يستحق، فإن رحمه اليوم، وعفا عنه، فلن يمضي الغد دون أن يزيد من خسته، لذا بدا من الأفضل من وجهة نظره معاقبته على كل جرائره شر عقاب. مرة ثانية تنبه لشقيقته وهي تسأله في دهشةٍ:
-مالك يا خويا؟ سرحت في إيه؟
نفى بتصنعٍ:.

-ولا حاجة يا هاجر.
لم تكن مقتنعة برده، وسألته وهي تحاول سبر أغواره:
-الموضوع شكله كبير، ده أنا بكلمك وإنت في عالم تاني.
تحجج بحجةٍ واهية قبل أن يقرب كوب المشروب من فمه ليرتشف منه القليل:
-معلش، تلاقيني بس تعبان.
أخبرته على الفور في جديةٍ:
-طب قوم روح لمراتك، زمانها مستنياك.
من أجل خاطر زوجته قرر إرجاء تفكيره الانتقامي مؤقتًا، نهض من مقعده، وقال:
-معاكي حق، هي محتاجاني دلوقتي.
ابتسمت وهي تدعو له:.

-ربنا يخليكم لبعض، ويخليك لينا.
بادلها ابتسامة صغيرة تبددت سريعًا حين أولاها ظهره، لينصرف بعدها وهو يسعى للسيطرة على غضبه الآخذ في التصاعد.

أشفق على حال حفيده، وانزوى بغرفته يقرأ القرآن راجيًا المولى عزوجل أن يرده إلى صوابه، وألا يخسره في لحظة طيش هوجاء، فقد كان له بعد ابنه السند والسلوى. لم يعلم إن كان ما مر به لاحقًا هو حلمٌ عابر، أم رؤية مليئة بالبشرى، حيث أحس الجد سلطان أنه لم يعد بمفرده في غرفته، جاءت إليه من بين ضبابٍ غريب من افتقدها، أتت باسمة مثلما اعتاد أن يراها في كل وقت، وإن ثقلت الهموم على كتفيه، ثمة هالة آخاذة بها دفعته للهتاف باسمها في شوقٍ شديد:.

- فُتنة!
أضافت رؤياها شعورًا متلهفًا على قلبه الملتاع، فراح يسألها في عتاب محب:
-فينك من زمان؟ كل ده غايبة عندي؟
أدمعت عيناه تأثرًا وهو يكمل:
-نفسي أجيلك أوي، بس اللي حايشني عنك الواد تميم، خايف أسيبه لوحده يضيع نفسه.
أمعن النظر في يدها، كانت تحمل لفافة بيضاء بها، قربتها من بصره، فحاول تبين ما بها؛ لكن نظره لم يسعفه، لهذا تساءل متعجبًا:
-إنت جايبة إيه معاكي؟
لم تجبه، فتابع أسئلته المتحيرة لها:
-دي ليا؟

هزت رأسها بالنفي، فانتقل لسؤاله التالي:
-أومال لمين؟
أشارت بعينيها إلى الصورة الموضوعة على الكومود المجاور لسريره، التفت ناظرًا إلى حيث تشير؛ كان الإطار الخشبي يضم صورة فوتغرافية له مع حفيده الغالي، فسألها مندهشًا:
- تميم؟
أومأت إيجابًا، ويدها ما تزال ممدودة باللفافة، حاول أخذها منها متسائلاً:
-فيها إيه؟

ضحكت تلك الضحكة المسرورة التي تدخل على قلبه الرضا، فابتسم باكيًا، كم اشتاق لسماع صوتها، للبقاء بقربها، للشعور بها! وكأنه لم يعد هناك ما يُقال بينهما، فبدأ طيفها في التلاشي، فزع قلبه، وهتف في حزنٍ ممتزج بكل اللهفة:
- فُتنة؟ رايحة فين وسيباني؟
اغرورقت حدقتاه بالدموع وهو يعاتبها لرحيلها الخاطف:
-أنا ملحقتش أشبع منك.

أفاق من غفلته الغريبة، والدموع ما تزال تبلل صدغيه، مسحها بظهر كفه مرددًا في غرابةٍ شديدة:
-لطفك يا رب.
عاود القراءة في مصحفه الشريف، فوقعت عيناه على الآية الكريمة: وَٱمْرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَٰهَا بِإِسْحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَٰقَ يَعْقُوبَ
وكأنه فهم الرسالة الخفية من وراء هذه الرؤية السارة، لذا حلت البسمة على وجهه المرهق، وقال في سرورٍ انتشر في نفسه:.

-البشارة جاية قريب، إنت الكريم يا رب!

مثل تلك الأخبار المفجعة لا تأخذ وقتًا طويلاً في المعرفة والانتشار، حيث وصل النبأ إلى آمنة عن طريق إحدى معارفها بالبلدة، دون أن تلم بتفاصيل الوفاة أو كيفية حدوثها، اتصلت الأخيرة بها لتُعلمها لتجيء في التو، وتكون في مقدمة الحاضرين، وتقدم كامل الدعم ل سعاد في مصابها الأليم، نظرًا لصلة القرابة بينهما، لم تحاول آمنة الاسترسال في الحديث معها، واقتضبت في ردودها المصدومة إلى أن أنهت المكالمة، عندئذ أطلعت ابنتها همسة –والتي كانت متواجدة معها في نفس الآن بالبيت- على الخبر الصادم، فتفاجأت بما حدث، وهتفت متسائلة في ذهولٍ تام:.

-معقولة الكلام ده؟ طب حصل إزاي وإمتى؟
أجابتها بنبرة حيرى:
-محدش عارف يا بنتي، بس هانقول إيه غير ربنا خلص منه.
علقت عليها في غير أسفٍ:
-هو خد جزاته، ده بذنب فيروزة واللي عمله فيها.
غامت تعابير أمها، ورددت:
-أه والله، ربك مُطلع وشايف.
تساءل همسة في قدرٍ من الحيرة:
-طب تفتكري فيروزة عندها خبر يا ماما؟
حكت آمنة جبينها بإصبعها، وقالت نافية:
-ماظنش، ده أنا مش عارفة أوصلها...

ثم أشارت بيدها نحو هاتفها المحمول المسنود على الطاولة لتتابع مفسرة:
-هي نسيت موبايلها هنا.
سألها همسة مرة أخرى وهي تميل على الأريكة الغافل عليها رضيعها لتتفقده:
-ومتعرفيش هي فين؟
جاوبتها في تعجلٍ:
-ما هي نزلت ورا جوزها من بعد اللي حصل.
سكتت ابنتها قليلاً كأنما قد استغرقت في أفكارها، لتقول لاحقًا في نوعٍ من التخمين:
-جايز يكونوا عند حماتها، مالهومش مكان تاني يروحوه.
اقترحت عليها آمنة في غير تفكيرٍ:.

-تعالي نشوفها هناك، وبالمرة نعرفهم باللي حصل.
هزت رأسها موافقة، وأضافت:
-ماشي، أنا هلبس رقية تكوني إنتي جهزتي.
تحركت والدتها متجهة نحو غرفتها في عجالة، ولسانها يردد بنبرة عازمة:
-على طول أهوو.

تهدل جلده، وتكرمش تحت عينيه بشكلٍ مخيف، عندما سمع الأنباء غير السارة من مهندسه الزراعي بشأن تعرض كامل محصوله للإصابة بآفة خطيرة أفسدت نتاج أرضه، وهو لا يزال موجودًا على عروشه. هبَّ فتحي واقفًا، ثم قال وهو لا يزال غارقًا في صدمته:
-معناته إيه الكلام ده؟
أخبره المهندس في نبرة آسفة:
-يعوض عليك ربنا يا حاج.
هلل مذهولاً بعد أن جحظت عيناه:
-يعوض عليا ربنا؟!

علق عليه المهندس في هدوءٍ محاولاً توضيح تبعات سوء اختياره:
-أنا نصحتك من الأول، وقولتك مافيش داعي نجرب حاجة مش مضمونة، النوع اللي استخدمته غير معروف، مالوش مصدر ولا أساس، وإنت أصريت على رأيك، فطبيعي تكون دي النتيجة.

تنشطت ذاكرة فتحي بلقاءٍ سابق جمعه ب فضل وأحد مندوبي واحدة من المؤسسات الزراعية المتخصصة في إنتاج المبيدات المستجدة، كان اتفاقهم بشأن شراء ما ينقصهم بسعرٍ زهيد، من أجل خفض قيمة التكاليف، وجمع المزيد من الربح في نهاية الموسم الزراعي، فجاءت النتيجة عكس كل التوقعات، مخيبة للآمال، ومصيبة بالإفلاس.
كان وجه فتحي يلمع كأنه يفح النار وهو يصيح بنبرة أشبه بالزئير:.

-الله ينتقم منه، هو اللي شار عليا الشورة الهباب دي، وأديني خسرت الجلد والسقط.
اندفع كالمجنون مواصلاً صراخه فيمن حوله بمضيفة منزله:
-شوفولي الزفت فضل ده فين!
جاءه الرد من أحدهم وهو مطرق الرأس:
-في أخبار مش ولابد يا حاج فتحي.
هتف في حرقةٍ، والحنق يتقاذف من عينيه:
-تاني؟ هو في مصايب أكتر من كده؟
تردد الرجل في إخباره؛ لكنه نطق في نهاية المطاف بنوعٍ من الأسى:
- فضل تعيش إنت.

هتف مذهولاً، وهو يحاول الحفاظ على توازنه:
-مات؟
أكد عليه الرجل بأسفٍ:
-أيوه، لسه الخبر واصلنا من واد كان معاه في مشوار، وموته كانت صعب شويتين.
بحث فتحي عن أقرب مقعدٍ ليجلس عليه قبل أن يفقد توازنه من كم الصدمات، حل الهم بأنواعه على تقاسيمه وهو ما زال يدمدم في حرقةٍ:
-يعني هو مات وأنا اتخرب بيتي.
ظهر الغليل في صوته وهو يصيح داعيًا عليه، وضاربًا بكفيه على فخذيه:.

-روح الله يجحمك مطرح ما روحت يا فضل يا ابن سعاد!

كل اقتراحٍ فكر فيه تضمن مخاطرة غير محمودة العواقب؛ لكن لا مناص من درأ الأذى بشيءٍ رادع، أبطأ تميم من سرعة سيارته حين ظهرت بنايته على مرمى بصره، شمل المكان بنظراتٍ خاطفة ليبحث عن بقعة خالية يركن فيها. لحظه وجد منطقة مناسبة مواجهة للمدخل، فانتقل إليها على الفور، وأطفأ المحرك. ظل باقيًا لبرهة في مكانه، محاولاً تفريغ عقله من كم الأفكار المتزاحمة فيه، قطع رنين هاتفه المحمول الصمت المشحون المستغرق فيه، التقطه بيده من على التابلوه، وتحدث إلى المتصل بفتورٍ:.

-أيوه يا هيثم.
هتف الأخير في صوتٍ شبه لاهث؛ كأنما يمهد لشيء خفي:
-إنت فين يا تميم؟
تساءل في اقتضابٍ:
-خير؟
أجابه متسائلاً في غموضٍ:
-عرفت باللي حصل للبغل فضل؟
الإتيان على سيرته في هذا الوقت تحديدًا يعني استثارة أعصابه، وهذا ما لم يطقه تميم، انفجر صارخًا في ابن خالته بحقدٍ:
-ماله ال (، ) ده؟ عمل إيه تاني؟
ردد هيثم مندهشًا:
-تاني؟ هو كان في أولاني؟
صاح به تميم في صبرٍ نافذ للغاية:
-لخص في الكلام يا هيثم.

تنحنح ابن خالته قبل أن يخبره بلمحةٍ من التشفي:
-بص هو لا هيلحق يعمل تاني ولا تالت، ربنا خده وريحنا من قرفه.
هبطت الخبر على رأسه كالصاعقة، فبرقت نظراته، وهتف مصدومًا:
-إيه!
أكد عليه فيما بدا أشبه بالشماتة:
-أه والله، أنا زيك مصدقتش لما مراتي قالتلي، بيقولك مات في حادثة بشعة، بس لسه معندناش التفاصيل.
من بين شفتيه ردد تميم في صدمة ما زالت لها تأثيرها عليه:
-يا سبحان الله!
علق هيثم قائلاً:
-أهوو ريح واستريح.

وكأنه يُحادث الفراغ، لم يكترث تميم لما يقوله، بل أخذ يكرر في صوتٍ خافت، يكاد يكون مسموعًا للطرف الآخر:
-صدقت يا أبويا لما قولت وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ..

لم تتوقف عن البكاء مُطلقًا بالرغم من تأكيدات ونيسة المتواصلة بأن زوجها بات في مأمن من الخطر، لم تقتنع فيروزة، ولم تصدق ذلك، ظنت أنها تحاول تهدئتها بهذا الكلام لتكف عن النحيب. بقيت في وضعية استنكارٍ رافضة الإصغاء إليها، حتى انعكس التأثير السلبي على بدنها، فبدت أكثر إعياءً، وذبولاً. حذرتها حماتها مجددًا بلومٍ رغم حنو نبرتها:
-يا بنتي ماينفعش اللي إنتي عملاه في نفسك ده!

كانت تبكي بصوتٍ متقطع، تهز رأسها برفضٍ صريح، فاستأنفت الأولى كلامها إليها، لعلها تتخلى عن عنادها، وتهدأ:
-ما أنا قولتلك عمك الحاج بدير راحله الدكان، وهو بخير.
ردت ببكاءٍ:
-لأ، مش هطمن إلا لما أشوفه قصادي.
وضعت ونيسة يدها على ذراعها، ضغطت عليها برفقٍ، وأكدت عليها في يقينٍ واضح:
-بصي طالما أبوه كلمه، اعرفي إنه مش هيخرج عن طوعه، وهيسمع الكلام.

نظرت إليها كأنما تفتش بين عينيها عن صدق عباراتها، فأضافت ونيسة في لطفٍ:
-وبعدين كنتي هتلاقيني أعدة كده قصادك لو هو فيه حاجة؟! أنا برضوه أمه، وبخاف على ولادي من الهوا الطاير.
على ما يبدو اقتنعت فيروزة قليلاً بحجتها المنطقية، فبدأت تسحب أنفاسًا عميقة تثبط بها نوبة بكائها، في حين قربت ونيسة صحن الفاكهة الذي أتت به لها منها قائلة بلهجةٍ شبه آمرة:
-كلي بس حاجة إنت وشك لونه مخطوف.

رفضت بشكلٍ قاطع تناول ما يسد جوعها:
-مش عاوزة.
ضربت ونيسة كفها بالآخر، وأخذت تهتف في تذمرٍ:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، وذنب الأكل إيه تغضبي عليه؟
تمسكت برأسها قائلة في عندٍ طفولي:
-ماليش نفس، أنا عاوزة تميم، كلميه يا طنط.
أخبرتها في قلة حيلة:
-يا بنتي ما أنا طلبته قدامك كذا مرة ومردتش عليا، وأبوه دلوقتي هيجي ويجيبه معاه.
هتفت في لوعةٍ:
-يا ريت.

تنهدت ونيسة مضيفة في توجسٍ استبد بها، حاولت قدر المستطاع إخفائه:
-ربنا يسترها علينا وما يشمتش فينا عدو.
موجة من الدوار العنيف كادت تطيح برأسها، بالكاد تماسكت لئلا يظهر ضعفها، حاولت الظهور بمظهر الثبات وهي تستطرد في رجفةٍ طفيفة:
-طنط أنا هاقوم أستنى تميم جوا في أوضته.
ربتت ونيسة على كتفها مرددة:
-ده بيتك يا بنتي، ارتاحي مطرح ما تحبي.

من بين الحزن المرسوم على صفحة وجهها، ظهرت بسمة باهتة ممتنة على شفتي فيروزة، قبل أن تعود وتسحبها لتبدو عابسة من جديد. نهضت من مجلسها مغادرة الصالة، سارت في تؤدةٍ، وبغير اتزانٍ، نحو غرفته، استندت بكفها على طول الحائط الممتد في الرواق، إلى أن وصلت إلى الباب، دفعته بوهنٍ، ووطأت للداخل وهي بالكاد كانت على وشك فقدان وعيها، أغلقته من ورائها، ثم تقدمت نحو الفراش ملقية نظرة تعيسة عليها، بكت مرة ثانية، قبل أن تستلقي بجسدها عليه، تاركة لهذا الشعور العجيب بالإغفاء يغمرها، كأنما كانت تنشده لتريح عقلها المستنزف، وتستريح من أوجاعها اللا متناهية...!

ملحوظة: هناك خاتمة بعد غد إن شاء الله.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة