قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والستون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والستون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والستون

حين يُقبل عليهما الصباح، كان يشعر بها تنسل من جواره، وهي حريصة كل الحرص على عدم إصدار أي صوتٍ، كأنما لا ترغب في إيقاظه، أو علمه بالأمر، للغرابة ظل مدعيًا استغراقه في النوم، ومع هذا بقي مندهشًا –وحائرًا في نفس الآن- من تصرفها المريب، فقد كانت تغيب لما يقرب من الربع ساعة بداخل الحمام، ثم تعاود الاستلقاء إلى جواره على السرير؛ وكأن شيئًا لم يكن.

في هذا الصباح تحديدًا، قرر عدم تمرير الأمر دون اكتشاف السر الكائن وراء نهوضها المبكر، فحين همَّت بالتحرك، اشتدت قبضته المحاوطة لخصرها، ومنعها من التحرك، فأحس بتصلبها، كأنما فزعت لاستيقاظه، سألها بصوتٍ شبه ناعس:
-رايحة فين وسيباني؟
حاولت تداركت نفسها، وقال بصوتٍ متوترٍ شبه متلعثم:
-مافيش.
علق عليها بتشككٍ:
-بس إنتي كل يوم على كده.
اعتدل في رقدته، ونظر إليها متفرسًا قبل أن يتساءل في تصميم:.

-في حاجة مضايقاكي؟
حاولت فيروزة تسوية خصلات شعرها النافرة، وفركت عينيها سريعًا لتزيح آثار النعاس عنها، قبل أن ترد نافية بنفس الطريقة المتعثرة في الكلام:
-لأ، ده، أنا بس آ..
لاحظ لجلجتها المتزايدة، فتساءل متوجسًا:
-إيه؟ اتكلمي، في حاجة حصلت؟
بلعت ريقها، وأخبرتها وقد خفضت من رأسها:
-مش حابة إنك تشوفني منكوشة ولا معمصة وأنا لسه قايمة من النوم.

ابتسم قليلاً في دهشة، ثم وضع يده أسفل ذقنها ليرفع وجهها إليه، وتساءل:
-ليه يعني؟
مطت شفتيها مبررة في حرجٍ:
-المفروض تلاقيني على طول حلوة وآ...
قاطعها قبل أن تكمل حديثها متسائلاً:
-ومين قالك كده؟
جاءه ردها بسيطًا ومباشرًا:
-بدل ما تتضايق من شكلي!
استغرب تفكيرها، وسكت لهنيهة قبل أن يُكلمها باسمًا، وفي نبرته دفقة من الحنان:.

-طبيعي في أوقات هشوفك تعبانة، وأوقات تانية حلوة، وأوقات غيرها مهدود حيلك، زي ما إنتي هتشوفيني على كل الحالات.
وجدت نفسها تبتسم تلقائيًا، فتابع بمحبةٍ صافية، ونظراته المفتونة مرتكزة عليها:
-المهم في الآخر إنك معايا في كل الأوقات.
إشراقة وجهها تضاعفت مع اعترافه الأخير، وهو يثبت لها يومًا بعد يوم أن عوضها كان أجمل معه. ابتسمت وهي تطلب منه بتهذيبٍ:
-طيب ممكن أروح أغسل وشي.
غمز لها قائلاً بلؤمٍ:.

-وأنا جاي معاكي.
أدركت أن وراء ذلك الحماس نوبة متجددة منعشة للقلب من خزان مشاعره الفياضة، تلك التي لا تنضب مهما اغترفت منها.

اشتم رائحة جلبابه العطن، فنزعه عنه باشمئزازٍ معكوسٍ على محياه، وألقاه فوق كومة متراكمة بجوار فراشه، ليفتش في ضلفة دولابه عن بديلٍ آخرٍ يصلح للارتداء، وجد قطعة مهملة في الزاوية؛ لكنها قديمة، اضطر على مضضٍ وضعها على جسده، ثم مشط شعره المهوش، وشد أكمام جلبابه، ليخرج بعد ذلك من حجرته غير المرتبة متجهًا نحو المطبخ. لحظه التعس لم يجد ما يصلح للأكل في الثلاجة، وكانت بطنه تزأر من الجوع، نفخ فضل في سأمٍ وراح يردد في تبرمٍ:.

-طب إيه العمل؟ أني الحال ده ماينفعش معايا.
غضبها منه كان لا يزال في أوجه، لم تهدأ ثورتها منه، ولم تصفح إلى الآن عنه، كان مرغمًا على الذهاب إليها، وطلب العفو، وإن اضطر على الكذب وادعاء الندم لتُسير له أموره العالقة. دق على باب غرفتها المغلق، وفتحه دون سماع إذنها بالدخول، ليقف عند عتبته مرددًا بعتابٍ لزج:
-جرى إيه يامه؟

تفاجأت سعاد من اقتحامه لخلوتها، ونظرت له بغيظٍ مبكوت، لم تبدُ ملامحها رائقة ناحيته. انقلبت تعبيراتها أكثر وهو مستمر في مخاطبتها:
-هتفضلي أعدة جوا أوضتك كده وحابسة نفسك؟
كتفت ساعديها أمام صدرها، ونظرت له شزرًا قبل أن تجاوبه في سخطٍ:
-أه يا فضل، أنا مبسوطة كده...
ما لبث أن صارت نبرتها أكثر حنقًا وهي تسأله في ازدراءٍ:
-ولا ناوي تطردني من فرشتي كمان؟
ضحك ساخرًا في سخافة؛ كأنما يهزأ من جديتها، ليرد بعدها:.

-مش للدرجادي يامه.
علقت عليه بسِحنةٍ منقلبة:
-ما هو ده اللي كان ناقص.
سار ناحية طرف فراشها، وجلس عليه محاولاً المسح على ذراع والدته، فنفضت يده عنه، كأنما لدغها عقربٌ، تغاضى عن تصرفها، وقال بنفس السماجة المستفزة:
-مكانوش حتتين دهب خدته في وقت زنقة، بكرة أجيبلك غيرهم.
رمقته بنظرة احتقارية، قبل أن تشيح بوجهها بعيدًا عنه، وهي تبرطم:
-كان القرد نفع نفسه.
صدمه تعليقها، فتساءل بعينين تعكسان كدره:.

-بتقولي إيه يامه؟
أطلقت زفرة مزعوجة، وسألته بعبوسٍ شديد:
-إنت عاوز إيه مني دلوقتي؟
تصنع الابتسام وهو يجاوبها:
-بطمن عليكي.
كانت على يقين كامل أنه يُحادثها كذبًا، فأمثاله لا يعبأون سوى بأنفسهم فقط، لهذا ردت قائلة بنقمٍ:
-وأديك اطمنت، سيبني في حالي بقى.
حك طرف ذقنه مرددًا في جديةٍ:
-يامه أعدتك دي جابتك ورا، وخلت صحتك في النازل.
نظرت له من طرف عينها، قبل أن تشيح بوجهها عنه وهي تغمغم:
-من عمايلك السودة.

لم يكترث بضيقها الشديد منه، وابتسم ابتسامة زائفة مستطردًا:
-بقولك إيه..
ظلت توليه وجهها، رافضة النظر إليه، وهو ما زال يقول:
-ما تقومي كده يامه تعمليلي أكلة حلوة من إيديكي، ألا بطني تعبت من النواشف، والرمرمة.
عاودت التحديق في وجهه؛ ولكن بنظرات تشع غيظًا وغلاً، وأصبحت أكثر تجهمًا عندما أكمل ببرودٍ:
-وبالمرة تشوفي هدومي المتكومة دي، لأحسن عفنت وعاوزة تتغسل، بدل ما أنا مش لاقي هِدمة نضيفة ألبسها.

لم تعد تحتمل سماع سخافاته المؤذية لها، بل إنها لم تطق وجوده بقربها، فاض الكيل، وامتلأ الصدر غضبًا، لذا انفجرت صارخة في وجهه:
-بقى جايلي عشان كده؟ قوم من هنا.
نهض واقفًا على مضضٍ، وأخبرها مستخدمًا يده في الإشارة:
-ما هو البيت حاله يضرب يقلب وآ...
قاطعته بصياحٍ بدا أقرب للصراخ وهي تضرب بكفيها معًا في يأسٍ متحسر:
-واد يا فضل سيبني في حالي، إياكش ربنا ياخدني وأرتاح!
تراجع مرتدًا للخلف وهو يهسهس في وجومٍ:.

-يا ساتر، في إيه يامه بس؟
واصلت الصراخ الهادر في وجهه:
-غور من وشي، أنا مش نقصاك!
رمقها بنظرة مغلولة قبل أن يندفع خارجًا من الغرفة، صافقًا الباب بعصبية خلفه وهو يردد بغيظٍ مستاء:
-معدتش في راحة في البيت ده!

في غمرة اندفاعه ركل الطبلية الصغيرة الموضوعة على حافتها بقدمه، فطرحت أرضًا، لم يهتم بإعادة وضعها، تركها على حالتها تلك، ليتابع مشيه بخطواتٍ مالت نحو التمهل، وقد شرد لحظيًا في خياله الواهي، متوقعًا أن تسير كامل خططه على ما يرام، مسح براحة كفه على صدره موهمًا نفسه:
-معلش، مسيرها تروق وتحلى.

منذ أن وصلت إلى هنا، ورغم جمال المناظر الطبيعية بالمكان، وكثرة الخضرة بها، إلا أن قلبها شعر بالانقباض، فيظل الحبس حبسًا وإن كان في قفصٍ مصنوعٍ من ذهب! التفتت ونيسة ناظرة إلى زوجها بترددٍ، كان الأخير قد أتى معها للمشفى النفسي، للقيام بزيارة شقيقتها، بعد أن سمح الأطباء المعالجون لحالتها النفسية بهذا الأمر. أرادت أن تستمد منه القوة والثبات، فقلبها ما زال يؤلمها على ما أصاب بثينة بالرغم من كل شيء. رأى بدير الحيرة جلية على وجه زوجته، فتساءل بجديةٍ:.

-متأكدة يا ونيسة إنك عاوزة تفضلي لوحدك معاها؟!
استقرت جالسة على الأريكة المربعة بالحديقة المورقة الخاصة بأهل المرضى، وخاطبته برنةِ ألمٍ محسوسة في صوتها:
-دي أختي، هتعملي إيه بس؟ ربنا يُلطف بيها، ويهون عليها اللي هي فيه.
حذرها مجددًا بلهجةٍ غير متساهلة وهو يشير بسبابته:
-بس خدي بالك من كلام الدكتور، هي مش مضمونة، ومعدتش مسئولة عن تصرفاتها.
هزت رأسها في أسفٍ، ثم قالت بحزنٍ:.

-يا حبة عيني، ربنا معاها، ويزيح عنها.
صمت مُكرهًا، لا يريد الكلام فيزعجها بواقعية حديثه المؤلم عن تبدل شخصها، فليست من ستقبل على زيارتها تحمل نفس سمات الود والألفة، الحال تغير معها كثيرًا. أكملت ونيسة بعد أن مصمصت شفتيها:
-ده أنا مصدقت إنهم سمحوا بزيارتها.
ردد في هدوءٍ أخفى ورائه قلقه:
-ربنا يعدي الزيارة دي على خير.

انتظر كلاهما لبعض الوقت، إلى أن لمح بدير إحدى الممرضات وهي تقترب منهما، وكلتا قبضتيها تحاوطان كتفي بثينة ؛ كأنما تستحثها على الحركة نحوهما، قام واقفًا وشملها بنظرة مدققة قبل أن يستأذن بالذهاب:
-طيب أنا هاروح أشوف إن كان ناقص حاجة كده ولا كده، وبالمرة أدفع شهرية قعادها
سألته ونيسة في اهتمامٍ:
-هو هيثم بعت معاك الفلوس يا حاج؟
أومأ برأسه مجيبًا إياها بعد زفيرٍ سريع:
-أيوه، زي تملي، ما هو قطع رجله من هنا.

طلبته منه بما يشبه الرجاء، وتلك النظرة الحزينة تُطل من عينيها:
-ما تكلمه كده بينك وبينه خلي قلبه يحن عليها، دي مهما كان أمه.
حرك رأسه بهزة خفيفة، وعلق وهو يهمُّ بالتحرك:
-حاضر، ربنا يهديه لحاله.
ابتسمت قليلاً حين عقبت:
-يا رب، ويرزقك الخير كله يا حاج.
ودعته بنظراتٍ ممتنة، سرعان ما تحولت للهفة عندما رأت شقيقتها تدنو منها، نهضت لتأخذها في أحضانها وهي تهلل في شوقٍ كبير:
- بثينة، وحشاني ياختي.

منعتها الممرضة من الاقتراب منها بتحذيرٍ صارم وواضح:
-من فضلك يا حاجة، خليكي في مكانك، ده أسلم ليكي.
تدلى فكها السفلي في صدمة مندهشةٍ، وقالت محتجة بتذمرٍ:
-عايزاني ماخدش أختي في حضني، ولا حتى أقعد جمبها؟ ده أنا عاوزة أملي عيني منها.
استمرت الممرضة على أسلوبه الرسمي في التعامل معها، وقالت:
-معلش، ده لمصلحتك ولمصلحتها.

رضخت مضطرة لتعليماتها الواضحة، وجلست صاغرة على الأريكة المواجهة لتلك التي تستقر عليها شقيقتها، اقتربت منها بجذعها، وسألتها في صوتٍ حنون تملأوه اللهفة:
-عاملة إيه يا حبيبتي؟ إن شاءالله تكون صحتك بقت أحسن.
بالطبع لم تكن لتُجيبها بثينة، بل بقيت على حالة الجمود المريبة تلك؛ لكن نظراتها الغامضة أوحت بشيءٍ غير مريح، ومع ذلك تغاضت ونيسة عما شعرت به، وانتابها لحظيًا من هواجس، لتقول معتذرة بمحبةٍ ودودة:.

-حقك عليا، أنا مقصرة معاكي أوي، بس يعلم ربنا، أول ما الدكاترة بلغونا إن الزيارة بقت مسموحة ماستنتش، وجيتلك على طول.

توقعت أن ترى أدنى ردة فعلٍ منها؛ لكنها ظلت كالأصنام، لا حياة، ولا حراك، فقط صدرها يتحرك علوًا وهبوطًا، ليدل على انتظام أنفاسها، أما نظراتها الجامدة المركزة عليها كانت تخفي فيها شيئًا شريرًا. لعقت ونيسة شفتيها، وامتدت يدها لتمسك بالكيس البلاستيكي المسنود وراء ظهرها، أظهرته لها قائلة باهتمامٍ وابتسام:
-جبتلك كام عباية جديدة تغيري فيهم، ولسه هاشوف ناقصك إيه وأجيبهولك معايا المرة الجاية.

نظرة خاطفة سددتها ونيسة نحو الممرضة التي التهت بالحديث مع زميلة لها، كما أن هدوء شقيقتها شجعها على الانتقال من موضع جلوسها لتدنو منها، جلست على الأريكة المجاورة لها، وبدت أكثر قربًا منها، متجاهلة عن عمدٍ تحذير الممرضة، وأردفت تخاطبها في حماسٍ:
-كمان عاوزة أطمنك على هيثم، الحمدلله ربنا صلح حاله، ورزقه بعيل حتة سُكرة، سموه خالد، أهوو يبقى قريب من اسم المرحومة.

بالطبع لم تكن لتجرؤ على إطلاعها بمسألة زيجة ابنها، نظرًا لحساسية الوضع، فاكتفت بما أخبرتها به من أنباءٍ سارة لا ضرر فيها عليها، حافظت على صفاء بسمتها وهي تكمل:
-والحق يتقال مراته شايلاه على كفوف الراحة، إن شاءالله يبقى يجيبهم ويجولك.

ما لم تعلمه ونيسة أن الغليل الحاقد قد تصاعد في صدر شقيقتها، وراح مفعوله المؤذي يسري في عروقها، كأنما يغذي نفسها العليلة بالمزيد من الكراهية والحنق، بلغ غضبها أقصاه في لحظاتٍ، وأوشكت على الخروج عن طور جمودها الزائف، تيبست عضلاتها، وتشنجت أطرافها، وعيناها لا تزال مُسلطة على شقيقتها، إلى أن سألتها الأخيرة بعفويةٍ:
-إنتي معايا ياختي؟

عندئذ خرج الوحش الكاسر من مكمنه، واندفعت بثينة بكل ما بها من بُغض مشحون، وعداء مقصود نحو شقيقتها تريد الفتك بها، انقضت عليها، وأطبقت على عنقها، تحاول بيديها خنقها في قوةٍ مهولة لا تعرف من أين استجمعتها. كادت ونيسة تلفظ أنفاسها الأخيرة مع انقطاع الهواء عنها، لولا أن نجدتها الممرضة في اللحظة الأخيرة. أبعدتها بصعوبةٍ عنها، وحررتها من براثنها بمساعدة ممرضات أخريات، لتسعل بعدها سعالاً حرجًا وآثار الألم لا تزال عالقة بحلقها، تم إقصاء بثينة وإبعادها عن محيط شقيقتها، لتعاود الممرضة تعنيفها:.

-مش أنا حذرتك متقربيش منها!
سعلت ونيسة مرة ثانية، وقالت في صدمةٍ متحسرة:
-أنا متخيلتش إنها كده.
ردت عليها الممرضة بغلظةٍ طفيفة:
-اللي قصادك دي بقت واحدة تانية، وماظنش إن الدكتور بعد ما يعرف باللي حصل هيسمح بالزيارة من تاني.
لم تستطع منع عبراتها من الذرف حزنًا عليها، انصرفت الممرضة بتعجلٍ لتلحق بزميلاتها، بينما بكت ونيسة في قهرٍ عاجز، لتردد بعدها بصوتٍ خافت يعبر عن ألمها:.

-قلبي واجعني عليكي ياختي، لُطفك يا رب!

مثل تلك الجولات الليلية، على الشاطئ الخالي من البشر، كانت وسيلته للتقرب الودي الممزوج بقليلٍ من الحميمية منها، والإحساس بها محاصرة بين أحضانه، تذوب فيها، وتمنحه استسلامها، عندئذ يمنحها كل الدفء، ويغرقها بمشاعرٍ كانت لا تظن أنها موجودة. ارتفعت ذراع تميم لتضمها من كتفيها، ألصقها بكتفه، وسار معها حافيًا على امتداد الرمال –قبيل غروب الشمس- ودون أن تمس قدماها بقايا تكسر الأمواج الدافئة على الشاطئ. حاول جذبها برفقٍ لتتمشى معه بداخل المياه؛ لكنها كانت تقاومه وتسحبه معها نحو الخارج، استحثه فضوله على سؤالها:.

-ما تبلي رجلك في المياه، ماشية بعيد عن البحر ليه؟
شعر بها مستنفرة إلى حدٍ ما وهي تعترف له بعزوفها عن التمتع بمزاياه:
-لأ مش حابة، أنا أخري أبص عليه من بعيد، لكن مانزلوش، ولا حتى أبل رجلي، استحالة!
تطلع إلى لؤلؤتيها البراقتين بانعكاس آخر ضوءٍ للنهار فيهما، وتساءل مندهشًا:
-معقولة؟
قتلت فيروزة غصة مؤلمة ضربت بحلقها، وأخبرته مقاومة الذكريات الحزينة المتدفقة على عقلها:.

-البحر غدار، خد مني بابا زمان، ومن وقتها علاقتي بيه من بعيد لبعيد.
ندم -بداخله- لأنه أفسد ما بينهما من ملاطفاتٍ دون قصدٍ منه، وردد مواسيًا:
-الله يرحمه.
ساد الحزن على محياها وهي تتابع استرسالها بإحساسٍ مؤلم لا مفر منه:
-حقيقي الواحد من غير أب، يتيم، وحيد، مالوش ضهر ولا سند.

كانت تحملق في الأفق الممتد أمامها، وسحابة من الدموع تزحف نحو عينيها، تنفست بعمقٍ لتمنع نفسها من البكاء تأثرًا لفراق الأحبة؛ لكن صوت زفيرها خرج كشهقة متكومة حين شعرت بضمة قوية تحتويها مجددًا، أطبقت على جفنيها في تعاسة راحت تسيطر عليها، دبت فيها رعشة خفيفة وصلت كذلك إلى قلبها، وصوته الخافت يتسلل إلى أذنها ليهمس لها مؤكدًا:
-أنا ضهرك وسندك.
خرج صوتها ناعمًا، منتحبًا، وخفيضًا وهي ما تزال مغمضة لعينيها:.

-أكيد.
استرخى ذراعيه عنها دون أن يحررها، أدارها ناحيته برفقٍ، وابتسم قائلاً بقليلٍ من المرح وهو يدور بناظريه على وجهها العابس:
-تعرفي إن بيقولوا النداهة بتطلع للناس في الوقت ده.
استرعى الأمر انتباهها، فرددت بملامح اتخذت طابعًا جديًا:
-نداهة؟!
أومأ برأسه موضحًا في صوتٍ هادئ وجاد، ويداه تتجولان صعودًا وهبوطًا على جانبي ذراعها:.

-أيوه، ده بنت حلوة كده جميلة زيك، بتظهر وسط البحر، بتسحر الشباب، فمش بيشوفوا إلا هي وبس.
استخفت بكلامه، وتحدثت من زاوية فمها متسائلة:
-ده بجد؟
هز رأسه مؤكدًا بثقة، وبنفس النبرة الجادة:
-أيوه، معروفة للكل.
استنكرت حكايته، وقالت بحاجبين معقودين:
-والناس بتصدق فيها؟ لأ مش معقول، أكيد تخاريف!
رد مُزيدًا في الإيضاح المقنع:.

-ده في حكايات وأساطير عنها، المهم لما الشباب دول يبصولها، بيتعلقوا بيها، وتخليهم ينزلوا البحر وهما مش دريانين، على أساس يعني يوصلولها.
سألته في اهتمامٍ، وكل أنظارها على ملامح وجهه الجادة:
-وبعدين؟
هز كتفيه قائلاً ببساطةٍ شديدة، وقد أبعد يديه عن ذراعيها ليدسهما في جيبي سرواله القصير:
-مافيش، بيغرقوا!
انفرجت شفتاها عن صدمة لحظية، قبل أن تهتف في غيظٍ:
-لا والله؟!

استمر تميم على نهجه المازح قائلاً ببسمة صغيرة:
-هما قالولنا كده.
ساورتها الشكوك لهنيهة أنه يستخف بعقلها، فسألته بنظرة ذكية تشك في أمره:
-مين دول اللي قالولك؟
صمت للحظاتٍ، وعيناه قد حادتا عنها لتتطلع إلى أمواج البحر، قبل أن يجاوبها بشيءٍ من الجدية:
-مش عارف، بس الناس بتوع زمان بيحكوا فيها، وعشان كده تلاقي البحر فاضي وقت المغربية، وقبل الفجر.

لن تنكر أنها شعرت بقشعريرة باردة تنتشر في أوصالها، لم تستطع مقاومتها، وظهرت آثارها سريعًا على بدنها، تطلعت للأمام مثله، وتساءلت في صوتٍ شبه متوتر:
-إنت كده بتطمني ولا بتخوفني؟
التفت ناظرًا إليها وهو يقول بصدقٍ:
-تخافي إزاي وأنا جمبك يا حبيبتي؟
حملقت هي الأخرى في وجهه، فتابع بنفس التسلية المرحة:
-وبعدين النداهة بتطلع للشباب اللي زيي.

اغتاظت من لمسة الغرور التي استشعرتها في صوته، فكورت قبضتها، ولكزته بخشونة في كتفه وهي تسأله بنبرةٍ متحفزة:
-أه قولتلي بقى، بتطلعلك النداهة يا معلم؟!
لم يمنع نفسه من الضحك على ردة فعلها، انفلتت من بين شفتيه المبتسمتين ضحكات قصيرة نابعة من القلب، قبل أن يتوقف وتمتد قبضتاه لتمسك بها من معصميها، أسبل عينيه نحوها هامسًا:
-وهعمل بيها وأنا معايا القمر كله؟!

ما عادت تستطيع مقاومة تأثيره الطاغي عليها، في جَده وهزله، له أسلوبه الخاص في جعلها طوع بنانه، في استثارة التوق والرغبة بها، أشاحت بوجهها بعيدًا عنه، وقالت بتبرمٍ زائف:
-ثبتني!
جذبها إليه ليقول بنبرة عابثة، وهذه النظرة الماجنة تنطلق من عينيه:
-التثبيت ده ليه مكانه، مش هنا.

استجمعت جأشها لتتملص منه، فاستعادت يديها، وتراجعت خطوتين قبل أن تسقط في هوة الحب التي يسحبها إليه بتعويذته العجيبة، اقترب تميم منها خطوة، وخاطبها مبتسمًا:
-شوفي يا أبلة، مافيش أحلى من نزول البحر في عز الضهر، والشمس فوق دماغك تئورك.
نظرت إليه في ذهولٍ لا يخلو من التعجب، تضاعف أكثر وهو يضيف:
-ساعتها بس بتبقى جاتلك ضربة شمس، واتحرقت، وخدت لون محترم، ويا حظك الحلو بقى لو في قناديل، هتتهرى قرص وتسلخات.

لوت ثغرها هاتفة في استنكارٍ:
-كده إنت بتشجعني على نزول البحر؟
تصنع الجدية عندما جاوبها:
-لأ، أنا بس عاوز أشوفك بتضحكي...
ومضت عيناها بوهج الحب كتأثيرٍ لعذب عبارته، وزادت لمعانًا حين أضاف بتنهيدة لامست فيها حرارة أشواقه:
-وده حصل.
عقبت عليه مبتسمة في نعومةٍ:
-طب ما تقول نكتة أسهل من جو الرعب ده.
رد في هدوءٍ يشوبه المرح:
-معرفش، ماليش في التنكيت.

عاود التطلع إلى عمق عينيها بنظرة بها دلالات الإغواء المُحكم، شعرت بيده تتخلل أناملها، وتجذبها نحو سلطانه المهلك وهو يخبرها مبتسمًا في مكرٍ عابث:
-وإن كان على نزول البحر، فأنا أشيلك وننزله سوا.
أجفلت شاهقة على اقتراحه؛ وإن كان بغرض التسلية، وراحت تحذره بتعابيرٍ انقلبت للقلق:
-لأ، إياك!
ثم جاهدت لانتشال يدها من كفه، رفض تركها، وقال بإصرارٍ:
-بس اسمعيني وجربي.

انتابتها حالة من الخوف الكبير، وهتفت فيه بتوسلٍ ظاهر في نبرتها، وفزعٍ معكوس في نظراتها إليه:
- تميم، لو سمحت، أنا مش عاوزة.
قرأ علامات الرهبة جلية على ملامحها، فلم يستمر في مزاحه، وحرر يدها قائلاً في صوتٍ أجش:
-حاضر، اللي إنتي عاوزاه.
هدأت نسبيًا، وتنفست الصعداء؛ لكن سرعان ما انتفض جسدها برجفة لذيذة وهو يخبرها بنبرة عازمة:
-بس مسيري هعملها في يوم، إن شاءالله أشيلك على كتفي، بس هننزله سوا.

رمقته بنظرة حادة، وهي تتراجع بضعة خطوات مبتعدة عنه، كأنما تخشى تنفيذه للأمر، حافظ على صفاء ابتسامته وهو يدير رأسه ليحدق في الشط الممتد على مرمى بصره، هبت نسمات من الهواء المنعش على كليهما، جعلت الأجواء تميل نحو البرودة قليلاً، لفت أنظاره أحد الشباب وهو يركض على الشاطئ مقتربًا منهما، كان من الممكن أن يتجاهله، لولا أن لاحظ حركة عينيه وهما ترتكزان بدقةٍ وجرأة على شيءٍ بعينه، ربما غفل تميم عن التنبه له، وجَّه ناظريه إلى حيث يُمعن النظر، فاِربدت قسماته بالضيق الشديد، وأخذ الغضب يتصاعد في صدره، منذرًا بمشاجرة وشيكة، بالكاد ضبط أعصابه، ودنا من زوجته الشاردة في تأمل البحر، ليسحبها من معصمها بخشونةٍ طفيفة خلف ظهره، وهتف متوعدًا بشراسة استغربت منها:.

-شكل اليوم مش فايت النهاردة، هخزأ عين ال (، )!
ذُهلت لتفوهه بلفظة نابية، وردت في استنكارٍ:
-إيه الكلام ده؟
أجاب في غلظةٍ:
-ده أنا لسه مقولتش حاجة!
كان على وشك توبيخه؛ لكنها انتبهت للشاب الذي فر راكضًا بسرعة غريبة حين مر من جوارهما، كأنما ينجو ببدنه قبل أن يتم البطش به لاكتشاف اختلاسه النظرات الوقحة نحوها. سألته مجددًا في انزعاجٍ مستاء وقد استلت يدها من قبضته:
-إيه الأسلوب ده؟ إنت بتقول شكل للبيع؟

لم تلن ملامحه القاسية، وخاطبها في عصبيةٍ:
-بقولك إيه، حاولي تاخدي بالك من لبسك.
زوت ما بين حاجبيها مرددة في دهشةٍ:
-لبسي؟!
لفظ كتلة من الهواء الحارق عن صدره، يثبط بها الغليل المستعر فيه لعدم تلقينه ذلك القمئ الدرس الذي يستحقه، لم تعرف فيروزة ما الذي يدور في رأسه من أفكارٍ عدوانية، واغتاظت من صمته المريب، متوقعة أنها المقصودة بغضبه غير المفهوم، لهذا اشتدت قسماتها، وعاتبته في لومٍ:.

-وده يخليك تتكلم معايا بالأسلوب ده؟
صحح لها في نبرةٍ شبه ثقيلة:
-أنا مقصدكيش إنتي، بس كويس إنها جت على أد الزعيق، بدل ما ارتكب جناية.
سألته في حمئة وهي تلوح بذراعها:
-على إيه كل ده؟
خاطبها بلهجةٍ مالت نحو التشنج:
-ما أنا ماستحملتش ال (، ) يبص عليكي بقلة أدب.
فشلت في تحجيم زلات لسانه، وهدرت صائحة فيه بوجهٍ اختلجته حمرة منفعلة:
-أنا لبسي محترم يا تميم!
سلط نظره على صدرها، وأشار بعينيه إليه وهو يخبرها:.

-عارف، بس محتاجة تلبسي من تحته حاجات تانية كده، بدل ما كل المسائل ظاهرة.

برقت عيناها واتسعتا على الأخير في ذهولٍ تام أولاً، قبل أن تتحول تعابيرها للحرج الشديد، بعد أن أدركت أنه يتحدث عن مفاتنها البارزة من أسفل القماش الملتصق بها بسبب الرياح. من فورها لفت ذراعيها حول نفسها؛ كأنما تحجب تفاصيلها المغوية عن عينيه الحانقتين، قبل أعين الناس المستبيحة لما ليس لها، لتستدير بعدها مهرولة بخطواتٍ مسرعة هاربة منه، لتعاود أدراجها في اتجاه الشاليه.

كم ودَّت لو كان المفتاح بحوزتها، لما اضطرت أن تنتظره بالخارج وهي في أوج حرجها وغضبها معًا، حرجها لكونه لفت النظر إلى قممها المشدودة بطريقةٍ جعلتها تستنكر غفلتها عن ارتداء حمالة صدر غير قطنية خلال تجولها معه، وغضبها لهياجه الانفعالي الذي كاد يتطور للأسوأ في لحظةٍ غابرة. وقفت في مكانها تهز ساقها في عصبية، وذراعاها ما زالا ملفوفان حولها، بمجرد أن رأته فيروزة مقبلاً عليها، أدارت وجهها للناحية الأخرى، وأولته ظهرها، متعمدة تجاهله. ما إن سمعت الباب يُفتح حتى تقدمته، وولجت للداخل قاصدة غرفة النوم، في حين تلكأ تميم في خطواته تاركًا تبعات الغضب تتلاشى بالتدريج.

اتجه نحو الشرفة ليشعل إحدى سجائره، وبقي لبرهةٍ في مكانه لا يُحرك ساكنًا، ضجر من الانتظار غير المجدي بعد أن توقع انضمامها إليه في أي لحظةٍ ليتعاتبا ويتصالحا، أطفأ سيجارته الثالثة قبل أن تنتهي، واستدار عائدًا إلى غرفة النوم، كان الباب مواربًا، والغرفة شبه غارقة في الظلام، دفع الباب برفقٍ مناديًا في صوتٍ حذر:
- فيروزة، إنتي نمتي؟
لم تجبه، فتابع الكلام وهو ينير الإضاءة:
-ده أنا قاعد مستنيكي برا.

سلط نظره على الفراش، فوجده خاليًا، جزع قلبه، وتحولت أنظاره نحو الشرفة، فوجد فيروزة واقفة أمامها، بعد أن بدلت ثيابها بمنامةٍ فضفاضة، طويلة الأكمام، لا تتناسب مع الأجواء الرومانسية لعروسين في أول أيامهما معًا، خمن أنها قد أتت بها في حال نبذ القُرب منها بسبب ندوبها، هذه الندوب التي لو تعلم أنها صارت معشوقته لشعرت بالفخر الشديد لامتلاكها إياها، ناهيك عن كونها برهانًا ملموسًا على تضحيتها العظيمة من أجله.

تقدم ناحيتها بتؤدةٍ وهو يحك مؤخرة عنقه بيده، وقف خلفها، وناداها بصوتٍ شبه خافت:
- فيروزة! الوقت لسه بدري، تعالي نقعد سوا.
لم ترد عليه، ففطن لكونها ما تزال على ضيقها، اعتذر منها في هدوءٍ:
-حقك عليا.
أتبع ذلك محاولة جادة لإحاطتها من الخلف وضمها؛ لكنها انتفضت نائية عنه في تباعدٍ غريب اندهش منه، وحز أيضًا بقوةٍ في قلبه. راقبها بنظراته وهي تتجه إلى دولاب الثياب، فتبعها قائلاً:
-مكانتش حكاية يا فيروزة!

كأنما كانت تنتظر منه تطرقه للأمر، لتعنفه بصوتٍ جاهدت ألا يبدو مرتفعًا أو حادًا:
-حتى لو في حاجة غلط فيا، عرفني بهدوء، إيه الصعب في كده؟
أطرق رأسه مُكررًا أسفه بصوتٍ هادئ:
-خلاص بقى، حقك عليا.
فتحت ضلفة الدولاب، وأخرجت منها سترة اعتادت ارتدائها عندما تخرج، ألقتها على ذراعها، واستدارت لتواجهه هاتفة بانزعاجٍ:
-إنت زعلت مني لما أحرجتك بأسلوبي، وكنت هتنهي جوازنا قبل ما يكمل.

تلبدت ملامحه في غير ارتياحٍ، بينما استمرت فيروزة في عتابها له:
-ليه مش عاوزني أضايق لما ألاقيك بتعمل كده معايا؟!
قال بزفيرٍ سريع:
-غصب عني، كانت لحظة وعدت، ماتقلبيهاش نكد.
استثار أعصابها بكلماته الأخيرة، فرغمًا عنها احتدت نبرتها وهي تكرر على مسامعه:
-نكد؟ هو إنت لسه شوفت حاجة من النكد اللي بجد.
اندفعت بغضبها المكبوت نحو باب الغرفة، دُهش تميم لتصرفها، وسألها وهو يتحرك من خلفها:
-رايحة فين؟

توقفت عن السير، واستدارت لتنظر إليه بتحذيرٍ واضح، قبل أن ترفع يدها أمام وجهه لتشير له بالتوقف، ثم أخبرته في غير مزاحٍ:
-نام لوحدك بقى.
رمش بعينيه غير مصدقٍ ما تفعله؛ لكنها تركته لدهشته، وبادرت بالسير مبتعدة عن محيطه، حلَّ الضيق على قسماته، وهتف بها -من ورائها- بصيغة آمرة:
-استني هنا.
اعترضت بتصميمٍ معاندٍ له:
-لأ، اشبع بالأوضة، وبالسرير، أنا هنام برا.
رقق من نبرته وهو يناديها:
-يا فيروزة!

توقفت أمام الأريكة التي تتوسط الصالة الفسيحة، نظرت إليه في غيظٍ، قبل أن تمسك بالسترة وترتديها بعصبيةٍ، لتخبره بعدها وهي تكز على أسنانها:
-وهنام بالجاكيت كمان، عشان محدش يبص عليا يا سيد المعلمين.

ما زال تميم على حالته المدهوشة، والمصدومة من تصرفها الذي بدا –من وجهة نظره- طفوليًا إلى حد كبير، تجاهلت فيروزة نظراته الغريبة نحوها، وألقت بثقل جسدها على الأريكة، ثم تصنعت الابتسام، ووضعت ساقها فوق الأخرى استعدادًا للنوم، لم تختفِ ابتسامتها السخيفة عن محياها وهي تخبره:
-ومن غير زعيق ولا خناق أهوو، نام وقت ما تحب يا معلم، ولو عايز تنزل فبراحتك، إنجوي بالبحر.

قبل أن تُشبك كفيها معًا، مدت يدها لتغلق مصباح الأباجورة الملاصقة للأريكة، ثم اختتمت كلامها معه:
-تصبح على خير.
غرقت الصالة في الظلام في لمح البصر، و تميم ما زال واقفًا في مكانه يُطالعها بنظراته المتعجبة، توقعت فيروزة أن يقوم بردة فعلٍ غير راضية؛ لكنه انصرف مبتعدًا عنها، لتنفخ في تبرمٍ مزعوج، فتقلبت نائمة على جانبها وهي تحدث نفسها:
-بدأنا النكد بدري بدري!

حاولت الاستعداد لإغفاءة يشوبها كل الاستياء، بعد أن ظهرت أول علامات الجفاء بينهما، مسحت فيروزة دمعة نافرة من طرفها لا تعرف إن كانت حزنًا على تصرفه، أم ضيقًا من هجرها المتعمد له، تصلب جسدها على الأريكة، واستنفر في تحفزٍ غريب، شبه خائن، تواق لمثل تلك اللمسات الخبيرة، عندما شعرت بيده الحنون تمسح على كتفها، لتسرح بعد هذا نحو ظهرها مما جعله يتقوس قليلاً، كتمت صوت أنفاسها، وادعت استغراقها في النوم؛ لكن على ما يبدو فشلت فشلاً ذريعًا في إقناعه، حيث مال على أذنها يهمس لها بعذوبةٍ:.

-حتى لو زعلانين من بعض، ماتسبيش السرير وتنامي لوحدك.
لفحت أنفاسه الحارة بشرتها، وأسكرت نبرته الساحرة عقلها، كشفت عن ضعفها أمام قوة تأثيره عليها، قاومته بيأسٍ متوقعة استسلامها سريعًا:
-ابعد عني.
شعرت بذراعه تمر عليها لتحاوطها، وهو ما زال يهمس بصوته الآسر:
-مقدرش.

إنه ذلك الدفء المغري الذي يسحبك طواعية نحو موجات من المشاعر والأحاسيس العميقة، أوشكت على التخلي عن غضبها، لكن عقلها قاوم إغرائه، فاعتدلت في رقدتها مهددة بالذهاب:
-خلاص هاقوم من هنا وآ...
بترت جملتها في منتصفها، لتتحول لشهقةٍ خافتة، عندما مرر ذراعه الآخر أسفل ركبتيها ليحملها عنوةً، اعتدل واقفًا بها، غير مصدقة أنها بين ذراعيه، وعيناه تطالعها بشغفٍ لذيذ، استعادت قدرًا من صمودها المتلجلج، وقالت بتذمرٍ:.

-إنت بتعمل إيه، نزلني.
مال برأسه نحو جبينها، وطبع عليه قبلة صغيرة معتذرة، قبل أن يحدق فيها قائلاً ببسمة منمقة:
-ماينفعش أسيبك زعلانة.

كادت ترد عليه؛ لكنه أسكتها بقبلة حسية فتنتها على الفور، بعد أن بث فيها ما هو قادر على إحيائه في وجدانها، لم تقاومه، لم تصده، ولم تمتنع عن مبادلته واحدة مثلها، بل يمكن الجزم بإنه ذوى مع عمقها كل الخصام، وذاب مع تأثيرها كل البعاد، تراجع برأسه عنها لتلتقط أنفاسها، فهمست بلهاثٍ خفيف:
-خلاص حصل خير.

جال بعينيه المتفرستين على صفحة وجهها البهي، فكانت تتحاشى النظر إليه؛ كأنما تخشى اكتشاف اتقاد مشاعر الحب في بدنها، ظن أنها ما زالت تحمل في قلبها القليل من العتاب، فراح يقول في مرحٍ شبه جاد:
-طب إن شاءالله يا رب يجرالي حاجة لو ماسمحتنيش
انقبض قلبها من عبارته، وتعلقت بعنقه قائلة في خوفٍ حقيقي:
-بعد الشر عنك.

أنزلها على قدميها فجأة، وادعى كذبًا الشعور بالألم، واضعًا يده على صدره، وقد انحنى للأمام بشكلٍ يدعو للاسترابة:
-آه..
شحب وجهها قلقًا عليه، وسألته في تلهفٍ:
-مالك؟ إنت كويس؟
ضغط على شفتيه قائلاً بوجهٍ متقلص العضلات:
-باين عليكي ماصفتيش من ناحيتي، والدعوة استجابت.
ردت نافية في التو:
-لأ، خلاص سامحتك والله.
عندئذ استقام واقفًا، وأشرقت تعابيره بابتسامة عريضة وهو يقول:
-حبيبتي.

اغتاظت من تلاعبه بأعصابها، ومن سذاجتها لتصديق مثل تلك الخدعة الحمقاء. اكتسبت تعابيرها قدرًا من الكدر وهي توبخه:
-إنت بتهزر بقى، طب حاسب.
حاولت المرور من جواره؛ لكنه استوقفها بالإمساك بها من رسغها، جذبها إليه في قوةٍ طفيفة لترتطم بصدره، وصوته يرن بتسلطٍ متحكم:
-أحاسب مين، ده حتى الصلح خير.

قبل أن تفكر في مقاومته، كان تميم قد انحنى ليحملها في سرعةٍ لم تستوعبها لحظتها، ألقاها على كتفه، فتدلى جسدها خلفه وسط شهقاتها المصدومة، أحكم تقييد ساقيها بذارعه القوي، لئلا تفكر في ركله، ضربت بيديها على ظهره صائحة فيه في استنكارٍ جلي:
- تميم، نزلني، كده مايصحش!

انفلت من بين شفتيها شهقة كانت أقرب لصرخةٍ صغيرة، وقد شعرت بوخزات مفاجئة من الألم تنتشر على كل عجزيتها بغتةً، جراء تلك الصفعة التقريعية المعاقبة لها، شهقة أخرى لحقت بالأخرى وهو يكرر نفس الفعلة الحازمة على مؤخرتها مع أمره الصارم:
-يالا يا أبلة على سريرك.
تلونت كامل بشرتها بحمرة عظيمة، وصاحت في استهجانٍ حرجٍ للغاية:
-إنت بتعمل إيه؟

بدت تقاسيم وجهه جادة وهو يخبرها محذرًا، رغم الوميض العابث المتراقص في حدقتيه:
-ده تحذير يفكرك بإن مهما حصل بينا، تفضلي في أوضتك، وماتسيبهاش!
أدركت حسيًا، وجسديًا، وعقليًا جدية تحذيره، فقالت بطاعة واضحة:
-خلاص ماشي...
رجته بدلالٍ مهتز وهي تحاول رفع رأسها المتدلية:
-ممكن تنزلني بقى؟

انعكس على وجهه شبح ابتسامة أكثر عبثية عما مضى، وقال في نبرة موحية، أشعلت نيران الحب في جسدها، ويده تستعد لجولة أخرى من الصفعات اللذيذة التأديبية:
-ماشي كده على الناشف، ده أنا لازمًا، وحتمًا، ولابد أفكرك بطريقتي...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة