قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والعشرون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والعشرون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والعشرون

أفادها وجود بعض قمصانها القطنية القديمة في دولابها، لتبدل فيها بأريحيةٍ، فلا تتقيد بنفس الثياب طوال اليوم. خرجت همسة من غرفة نومها السابقة تتجه إلى البهو وهي تعقد شعرها كعكة، بصرت والدتها وهي تجلس وفي يدها هاتفها المحمول، جلست بحذرٍ على الأريكة المقابلة لها، وتفرست في وجهها متسائلة في حيرةٍ:
-إنتي بتعملي إيه يا ماما؟
أشارت لها بيدها لتصمت، فألحت عليها بفضولٍ:
-هتكلمي مين؟

وضعت آمنة الهاتف على أذنها، وأجابت:
-عمك إسماعيل.
برزت عيناها في صدمةٍ مستنكرة، ورددت بفمٍ مفتوح:
-نعم!
بتعابيرٍ مالت للجدية بررت لها اتصالها:
-أيوه، لازم يعرف، مايصحش يبقى زيه زي الغريب، ويكون آخر واحد عنده خبر بخطوبة أختك.
حذرتها همسة في توجسٍ ظهرت آثاره على تقاسيم وجهها:
-بلاش يا ماما، فيروزة هتزعل.
بسماجةٍ غير مستلذة تساءلت:
-ودي فيها إيه يزعل بس؟

اشتعلت نظراتها، وهتفت في استهجانٍ شديد، وقد تقلصت عضلات وجهها:
-مش معقول نسيتي كل اللي عمله ابنه كده بالساهل؟!
علقت عليها بتجهمٍ:
-أنا ماليش دعوة بابنه، أنا ليا لي الحاج إسماعيل، وده واجب عليا.
همَّت بالاعتراض عليها؛ لكنها أسكتتها بإشارة صارمة من عينيها:
-بس بقى عشان التليفون بيرن.

لم تكن همسة راضية عن تصرف والدتها، ولم تستطع للأسف منعها من إجراء تلك المكالمة. ارتسمت ابتسامة زائفة على وجه آمنة حين استهلت قائلة:
-ألو، سلام عليكم، حاج إسماعيل.
أتاها صوتًا أنثويًا قائلاً في رسمية:
-لأ، أنا سعاد يا آمنة.
ردت عليه بحاجبين معقودين في استغرابٍ:
-الله! أومال فين الحاج إسماعيل؟
جاوبتها ببرودٍ محسوس في نبرتها:
-نسى تليفونه في البيت، وبعدين مافيش إزيك ولا حتى سلامات؟

انقلبت ملامح وجه آمنة إلى حدٍ ما، و سعاد ما تزال توبخها بحدةٍ:
-خلاص اتنست كل حاجة؟ طب نراعي إن كان بينا عيش وملح!
ردت قائلة في حرجٍ:
-لا ماتقوليش كده، أنا بس اتوغوشت لما ملاقتوش رد.

تعجبت همسة من موقف والدتها غير الحازم في تعاملها مع من تسببوا في إلحاق الأذى الجسيم بابنتها، اشتاطت غضبًا، وامتلأت عيناها بالحنق، حاولت الإشارة لوالدتها وإبلاغها بإنهاء المكالمة؛ لكنها تجاهلتها، وأصغت إلى سعاد وهي تسألها بجفاءٍ:
-هو إنتي كنتي عايزاه في حاجة مهمة؟
تنهدت سريعًا قبل أن تخبرها على مهلٍ:
-أنا كنت بس هاعرفه إن فيروزة بنتي هتتخطب.
تفاجأت بها تصرخ فيها:.

-فرطتي في لحمك يا آمنة، وطلعتيه للغريب؟!
اختلج وجهها بقليلٍ من الضيق وهي ترد متسائلة:
-ليه بتقولي كده؟
أخبرتها بنفس الصوت الهادر المليء بالغضب:
-مش ابني كان أولى بيها؟ على الأقل كان هيراعي ربنا فيها، ويلم عرضها.
استمرت على موقفها المتراخي وهي تنطق بشفاه ممتعضة:
-كل شيء نصيب.
صوت سعاد كان مسموعًا عبر الهاتف وهي تواصل صياحها اللائم بغير حقٍ:
-إنتي لو كنتي عاملة حساب للعِشرة مكونتيش إديتها للغريب.

أخيرًا لجأت آمنة للحدة معها بعد أن يئست ابنتها منها، فخاطبتها بحمئة:
-يا سعاد ده إنتي ابنك مخلف وفي رقبته أورطة عيال، وهي مابقتش تنفعه.
راحت تعلق بوقاحةٍ:
-وده يمنع يعني؟ طالما قادر يفتح بدل البيت اتنين وتلاتة وأربعة، وكله بشرع ربنا، كان هيعملها الحلو كله.
هتفت محتجة في تبرمٍ:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، بس ده ما يرضيش ربنا..
وقبل أن تبادر بالهجوم عليها، لانت نبرتها وهي تكمل سريعًا جملتها:.

-عمومًا مالوش لازمة العتاب، ربنا يبختله مع حد أحسن.
هدرت بها بسخطٍ:
-إزاي يا حسرة؟ ما كفاية اللي اتعمل فيه من القريب قبل الغريب.
على الفور اندفعت آمنة تقول:
-ما ابنك غلط في حق بنتي، وقال كلام عنها مايصحش، ده غير البهدلة وآ...
قاطعتها مبررة سوء أخلاقه بوقاحةٍ:
-وَزة شيطان، إيه نعلقله المشنقة؟ إيه مافيش شوية رحمة في قلوبكم؟ ده ربنا غفور رجيم.

أدركت آمنة أن جدالها العقيم معها لن يصل بها إلى شيء سوى إحراق دمها، واستثارة أعصابها، أطلقت زفرة سريعة، وقالت في تعجلٍ:
-ربنا يهديه، وأنا عرفتكم باللي ناويين عليه.
دمدمت سعاد معقبة بنبرتها العالية:
-هبقى أبلغ الحاج لما يرجع من برا.
ردت عليها على مهلٍ، وقد شعرت أنها خرجت من معركة مرهقة للأعصاب:
-إن شاء الله، وآ...

لم تكمل جملتها للنهاية، فقد انقطع الاتصال فجأة، أبعدت آمنة الهاتف عن أذنها لتنظر إليه مصدومة، قبل أن تنطق في ذهولٍ بائن على وجهها:
-دي قفلت السكة في وشي.
هبت همسة واقفة رغم شعورها بالألم من الحركة المباغتة، وعاتبت والدتها بغيظٍ:
-إنتي غلطانة والله يا ماما إنك بتكلميهم، صدقيني فيروزة لو عرفت هتضايق جدًا.
رغم الكدر الظاهر في عيني آمنة إلا أنها ردت بسقمٍ:
-خلاص ماتقوليلهاش.

ما لم تضعه الاثنان في الحسبان، هو عودة فيروزة إلى المنزل وفي يدها علبة الحلوى، وزعت نظراتها بينهما متسائلة في فضولٍ:
-هو إيه ده اللي هتضايق منه؟
حملقت همسة بعينين متسعتين مليئتين بالتوجس والقلق في وجه توأمتها وهي تحرك شفتيها لتنطق:
- فيروزة!
سألتها آمنة بدهشة لا تقل عن ابنتها:
-إنتي رجعتي ليه؟

بدا من السخافة أن تخبرهما بالموقف المحرج الذي تعرضت له قبل قليلٍ على الدرج، لهذا حاولت اختلاق عذرًا مقنعًا لا يثير الاسترابة في نفسيهما، تنحنحت قائلة وهي تضع العلبة على الطاولة المستديرة:
-ده آ، أنا لما كنت تحت، لاقيت العريس باعت العلبة دي لينا، فأنا خدتها، وطلعتها.

رجت في نفسها ألا يحاولا الاستعلام منها عن المزيد من التفاصيل، وشعرت بالارتياح يتسلل إليها حين أقبلت والدتها على العلبة لتنظر إلى ما بداخلها وهي تقول:
-ناس ولاد أصول.
فضت الشرائط عنها لتفتحها، فتطلع ثلاثتهن إلى قالب الحلوى الأبيض المليء بكافة أنواع الفواكه الغارقة في شراب العسل، سال لعاب همسة، وهتفت قائلة في انبهارٍ، وهي تمد إصبعها لتتذوق طرفها المغري:
-ماشاءالله، ده من أفخم المحلات اللي هنا وأغلاها.

ضربت آمنة على يد ابنتها قبل أن تصل إليها، وصاحت في حزمٍ:
-أنا هحطها في التلاجة، بدل ما تتبهدل برا.
ردت همسة في تذمرٍ:
-طب أنا عاوزة أدوق.
رمقتها بتلك النظرة الصارمة وهي تقول:
-بعدين، مش دلوقتي.
ثم انحنت لتحملها في حرصٍ واضح، بينما تحركت فيروزة للجانب وهي تتساءل في فضولٍ:
-مردتوش عليا، إيه اللي هيضايقني؟
حاولت توأمتها المناص من إجابتها بالادعاء وهي تبتسم في سخافة:
-ماتحطيش في بالك يا فيرو.

شعرت أنه وراء تلك الابتسامة الغريبة ما تخفيه عنه، أمعنت النظر في وجهها متسائلة بجديةٍ:
-ناويين على إيه؟ قولوا!
تهربت منها قائلة بتلعثمٍ:
-أنا هشوف كوكي فين.
ساورتها الشكوك بصدق حدسها، فدنت من والدتها تسألها بإصرارٍ:
-في إيه يا ماما؟
لم تكلف آمنة نفسها عناء مراعاة شعورها، وقالت بغير احترازٍ:
-أصل آ، أنا كلمت مرات عمك أعرفها بخطوبتك.

وكأنها ببساطة ضغطت عن عمدٍ، على زر التفجير المتصل بإحدى القنابل الموقوتة، فصاحت فيها فيروزة بغضبٍ تصاعد إلى رأسها مندفعًا بقوة:
-تاني يا ماما؟ للدرجادي هونت عليكي؟ كل اللي عمله فيا اتمسح بأستيكة؟
عللت لها بما ضاعف من حنقها:
-أنا عملت الأصول.
ردت عليها بصراخٍ:
-الأصول؟ هي دي الحجة المرادي؟
نظرت آمنة إلى ابنتها قائلة بما بدا وكأنه استفزاز لها:
-محصلش حاجة لكل ده، هما كلمتين، وانتهى الموضوع!

هدرت بانفعالٍ لم ولن يخبت:
-يا سلام، بالبساطة كده!
عادت همسة إلى الخارج ترجو شقيقتها:
-بالراحة يا فيرو، هي ماما متقصدش.

تطلعت فيروزة إلى والدتها بنظراتٍ حانقة مليئة بالكمد والغضب، أبت الكلمات أن تخرج من بين شفتيها لتلومها، فالأخيرة لن تشعر بتأنيب الضمير وإن رأتها تحترق حية قبالتها، لم تستطع البقاء وملازمة مكانها ساكنة دون أن تتهور، لهذا كان الأسلم لها الابتعاد مؤقتًا قبل أن تُطيح بالجميع في لحظة غضبها الأعمى، اندفعت ركضًا نحو الباب لتخرج من المنزل، و همسة من ورائها تحاول اللحاق بها وهي تناديها:
- فيروزة، استني هنا!

لم تصغِ لها، وصفقت الباب خلفها بعنفٍ، لتظل همسة عالقة في مكانها وهي تشعر بالأسى على حال توأمتها، استدارت ناظرة إلى أمها لتعاتبها في غيظٍ:
-مش قولتلك هتزعل يا ماما لو عرفت، يا ريتك ما قولتيلها.
هزت آمنة مرددة في برودٍ قبل أن تتجه للمطبخ:
-هعمل إيه يعني، كنت مغسلة وضامنة الجنة؟!

ساعدها على تجاوز هذا الإحساس الخانق تجولها غير المشروط على كورنيش البحر لمدة لا بأس بها، سبقه مكالمة موجزة مع طبيبتها التي أرشدتها لطريقة آمنة للتنفيس عن الحنق المكبوت بداخلها، لئلا تغرق في دوامة الغضب الأهوج، وتفعل ما لا يُحمد عقباه، كذلك حثتها على تذكر الأشياء الجيدة والإيجابية لتعزز من الذكريات السارة في مخيلتها، ولحظها كان هو بطل اليوم بلا منازع.

وجدت فيروزة نفسها تبتسم من استحضارها لمشهد إحراجها على السلم، وكيف تجرأ وأرسل لها قبلة في الهواء، كالصبية المراهقين حين يتغزلون بالفتيات. تألمت قدماها من كثرة المشي، فتلفتت حولها لتحدد أين أصبحت، لحسن حظها، كانت قريبة من الطريق المؤدي إلى دكانها، لهذا عبرت الشارع الرئيسي، وانتقلت منه إلى آخر فرعي، لتعرج عبر بضعة أزقة حتى وصلت إلى وجهتها، قصدت تجنب السير في الطريق المشترك بين دكانها، ودكان عائلة سلطان، فلم تكن قادرة على مواجهة تميم بعد موقفه الأخير معها.

وحين وصلت للزقاق الموجود عند ناصيته دكانها، رأت بضعة عمالٍ يقومون بحفره طوليًا بآلة مزعجة، من أجل تبديل مواسير الصرف الصحي، حذرها أحدهم مشددًا:
-خدي بالك يا أستاذة، الشارع ده، واللي بعده هيتقفلوا عشان الحفر.
وضعت يدها على أذنها لتخفف من حدة الإزعاج الشديد، وقالت وهي تومئ برأسها:
-حاضر.

بالكاد نجحت في الوصول قبل أن تعلق فيه، ولجت إلى داخل دكانها، ألقت التحية على مساعدتيها، ثم جلست خلف مكتبها تنتظر الزبائن بذهنٍ صافن، ما زالت بقايا مكالمة والدتها تؤثر عليها، وجاهدت لتتجاوز الشعور المؤلم، لتنظر إلى ميدالية الطاووس الموضوعة على سطح مكتبها، تلمستها بطرفي إصبعيها، وكررت نفس الجملة السابقة بابتسامة هازئة:
-مين يعني تميم سلطان!
خفق قلبها في رهبةٍ حين سمعت أحدهم يسألها بغتةً:.

-إنتي بتكلمي نفسك؟
وضعت يدها على قلبها تتحسسه، ونظرت بعينين جاحظتين إلى علا التي جاءت لزيارتها. تنفست الصعداء لأنه لم يكن هو، حقًا لن تكون مسرورة إن أحرجها مجددًا، وفي العلن. لفظت دفعة من الهواء عن رئتيها تثبط به النهجان المفاجئ الذي أصابها قبل أن تردد:
-يا شيخة خضتيني!
ردت عليها وهي تجلس على المقعد المواجه لها:
-ما إنتي سرحانة من الصبح!
تنهدت فيروزة بعمقٍ، وسألتها في روتينية:
-إيه أخبارك يا علا؟

أجابتها بتذمرٍ بعد أن أراحت ظهرها للخلف:
-ده أختك طلع معاها حق فعلاً!
نظرت إليها في عدم فهمٍ قبل أن تنتفض مصدومة على نهوض رفيقتها المفاجئ لتصيح بها بصوتٍ مرتفع:
-إنتي سايبة الدنيا تضرب تقلب وقاعدة هنا؟
أشارت لها بالجلوس وهي تخبرها:
-عادي يا علا، اقعدي بس، في إيه؟
دارت حول المكتب لتجذبها من ذراعها، وهي ترد في إصرارٍ:
-قومي يا بنتي، بطلي بواخة، ده إنتي عروسة.

حاولت المناص منها، وتحرير ذراعها قائلة بتعابيرٍ شبه مكفهرة:
-بالله عليكي سبيني.
ردت في عنادٍ:
-لأ مش هاسيبك.
نجحت فيروزة في استعادة ذراعها، وقالت بعبوسٍ ملحوظ وهي تنهض بدورها من مكانها:
-بالله عليكي سبيني، أنا مش ناقصة.
شعرت بوجود خطب ما بها، فسألتها في نبرة مهتمة:
-حصل إيه؟ الخطوبة اتفركشت، إنتي قادرة وتعمليها.
ابتسمت لاستظرافها الزائد، وقالت في وجومٍ:
-لأ لسه.
هزت رأسها تسألها بنفس الفضول المهتم:.

-أومال في إيه؟
أجابت بعد زفيرٍ طويل:
-ماما كلمت عمي بعد كل اللي اتعمل فيا من ابنه.
وضعت علا يدها على فمها مستنكرة ما سمعته، لتبعد كفها متسائلة:
-طب وبعدين؟ عملتي إيه؟
قاومت الذكرى المزعجة، وجاوبتها بنفس الملامح التعسة:
-خرجت من البيت بدل ما أعملها خناقة.
ضحكت علا ساخرة من الموقف برمته:
-أد إيه إنتي عروسة فقرية، مامتك عارفة إزاي تنكد عليكي.
زجرتها في تبرمٍ:
-إنتي بتتريقي؟
قالت في مرحٍ:.

-أه طبعًا لازم أتريق، يا بنتي ارمي ورا ضهرك، بدل ما تفكري في اللي بيزعلك، ركزي هتخطفي عين عريسك إزاي.
لاحت ابتسامة خفيفة على محياها، وصورة تميم تقتحم مخيلتها، لم تخبت بسمتها الرقيقة عندما ردت:
-إنتي هتعملي زيهم ولا إيه؟
أومأت برأسها مؤكدة:
-أه طبعًا، ده الطبيعي على فكرة.
عاودت الجلوس في مقعدها قائلة بفتورٍ يشوبه الانزعاج:
-يا علا دي قعدة اتفاق، مافيش حاجة لسه رسمي، ليه مكبرين الحكاية؟

جذبتها مرة أخرى لتجبرها النهوض وهي تُصر عليها:
-طب قومي يالا، خلي البنات يروحوا بدري، وتعالي نشوف اللي ورانا.
تثاقلت في التجاوب معها، وهتفت بعد زفيرٍ سريع:
-ورانا إيه؟ ما الفستان موجود، والطرحة كمان.
عضت علا على شفتيها قبل أن تخبرها بغموض:
-هو أنا مقولتلكيش!
تخشبت في مكانها متسائلة بملامح اكتسبت جدية غريبة:
-في إيه؟ عملتي إيه إنتي كمان؟
ردت مطمئنة إياها:
-مش حاجة خطيرة يعني.

رمقتها فيروزة بتلك النظرة الحادة وهي تخاطبها بصيغة آمرة:
-قولي عملتي إيه!
حمحمت مرددة بابتسامة منمقة:
-بصراحة كده ليا واحدة صاحبتي Fashion Designer، وفاتحة بوتيك جديد، فادتني كام فستان ألبسهم كدعاية ليها، وأنا جبتلك أحلى واحد فيهم عشان النهاردة.
اعترضت عليها بشدة:
-وأنا مش هاقبل بكده.
حاولت أن تبدو هادئة خلال سعيها لإقناعها بالقبول به:
-هو أنا بقولك خديه، أنا بس عايزاكي تبقي شيك، وأحلى واحدة النهاردة.

تمسكت برأيها في عنادٍ غير مُجدي:
-ما الفستان موجود.
أومأت برأسها معللة بأكثر وسائلها إقناعًا:
-ماشي، بس ده هايبقى ألطف، وبعدين ده لونه ال Baby blue اللي بتحبيه، هتقولي برضوه لأ؟
رفعت فيروزة حاجبها متسائلة في استهزاءٍ:
-كده بتقنعيني؟
تعلقت بذراعها، وردت مبتسمة ابتسامة متسعة:
-أه، ويالا بقى ماتنشفيش دماغك، مجاتش على الكام ساعة اللي هتلبسيه فيهم.
نجحت علا في جذبها بعيدًا عن مكتبها وهي ما تزال تُصر عليها:.

-ويالا بقى، مش عايزين نتأخر.
تذمرت في امتعاضٍ:
-يا علا..
قاطعتها بنوعٍ من التهديد المازح:
-والله أشتكيكي ل ماهر.
رمقتها فيروزة بنظرة متحدية؛ لكنها لم تبالِ وفرضت عليها رأيها وهي تدفعها دفعًا نحو الخارج:
-ما تبقيش غلسة.
استسلمت أمام إلحاحها قائلة بتنهيدة:
-طيب.
هللت في فرحةٍ، بينما ألقت فيروزة أوامرها على الفتاتين:
-إنتو أجازة يا بنات النهاردة، امشوا وأنا هقفل.

سَعِدت الاثنتان بخبر العطلة المفاجأة، وأخذتا تلملمان أشيائهما في عجلٍ، لتقوم بعدها فيروزة بغلق الدكان، والذهاب بصحبة رفيقتها إلى المنزل.

اضطرت مرغمة للالتفاف حول دكانها، والذهاب من الطريق المعاكس، حيث يتواجد دكان عائلة سلطان. اختطفت فيروزة نظرات سريعة منذ أن أبصرته على مرمى نظرها، لتتأكد من عدم وجود تميم به، لحظها لم يكن ظاهرًا! وهذا أشعرها بالارتياح نوعًا ما، خاصة حين أصبحت وشيكة من محيطه؛ لكن لمحها بدير من مكانها، فلوح لها بيده مناديًا إياها، دنت منه مرحبة به:
-سلام عليكم، إزي حضرتك.

نهض من على كرسيه الخشبي يدعوها بترحابٍ أكبر هي ومن معها:
-تعالي يا بنتي، اتفضلوا.
ردت علا معتذرة في تهذيبٍ:
-شكرًا يا عمو، احنا مستعجلين شوية.
أصر عليهما بنظرة معاتبة
-وده ينفع كده، تعالوا حبة.
لم تجد فيروزة بدًا من البقاء قليلاً، والتفتت ناظرة إلى رفيقتها تطلب منها الموافقة؛ لكنها مالت عليها تهمس لها في أذنها:
-بصي خليكي إنتي، وأنا هسبقك، وحصليني لما تخلصي.
كزت على أسنانها متمتمة في خفوتٍ:.

-ما تفضلي معايا.
رفضت في لباقة:
-لأ مش هينفع، أنا هسبقك.
لم تضغط عليها وأومأت برأسها في تفهم، لتنطق بعدها علا برقةٍ:
-معلش يا عمو ورايا كام حاجة، فهمشي، وفرصة سعيدة.
كان بدير غير ممانع في ذهابها، وودعها بابتسامةٍ وقورة:
-شرفتي يا بنتي، مكانك في أي وقت.
غادرت علا المكان، وبقيت فيروزة واقفة إلى أن أحضر لها أحد العمال مقعدًا لتجلس عليه، فجدد بدير ترحابه بها:
-منورانا يا عروسة.
ابتسمت قائلة في لطفٍ:.

-شكرًا لحضرتك.

على الجانب الآخر، اخترقت نبرتها المميزة أذنيه وهو يقف في الخلفية يملي أوامره على عماله بإفراغ شحنة البضائع الجديدة، وتخزينها بالثلاجة، تجمد في مكانه شاعرًا بنبض قلبه يتصاعد في فرحةٍ عارمة، دار برأسه محاولاً رؤيتها؛ لكنها لم تكن في مرماه، تحرك بخطواتٍ متمهلة، حتى بات واقفًا خلف مقدمة إحدى الشاحنات التي تحجب الرؤية عن مكانه، التوى ثغره بابتسامة رائعة وهو يراها تتطلع أمامها؛ كأنما تفتش عنه، حدث نفسه في نشوة مستمتعة:.

-ده احنا لسه بنقول يا هادي.
تأكد تميم من البقاء بعيدًا عن عينيها حتى تزيد الحيرة فيها، أراد أن تكون منجذبة إليه بقلبها قبل عقلها، أن يغمر كيانها الشوق لا المنطق. توارى عن أنظارها، وأرهف السمع لوالده الذي كركر ضاحكًا، ليمازحها بعد ذلك
-شوفي يا بنتي، إنتي تخليكي كده قاعدة معايا لحد ما يجي وقت الزيارة، نتحرك ساعتها سوا، ولا تسألي في حد.
شاركته الضحك قبل أن تخبره:
-ده كانت ماما قلبت الدنيا.
رد مجاملاً:.

-ربنا يباركلك فيها.
قالت مبتسمة برقةٍ:
-تسلم يا رب.
تلقائيًا أخذت عينا فيروزة تبحثان عنه بالداخل لأكثر من مرة، حتى لم تعد منتبهة لكلام مُحدثها. توقعت أن يظهر في أي لحظةٍ، ويحرجها بنظراته؛ لكن هذا لم يحدث، مما أصابها بقليلٍ من الإحباط، لن تنكر أن التشويق الذي ساد في حياتها مؤخرًا بسببه أضفى عليها الإثارة والحماس، وجعلها تتطلع إلى المستقبل الواعد، عن البقاء في قاع الماضي المؤلم.

أطالت فيروزة النظر إلى داخل الدكان، ولم تلحظ عيني بدير المرتكزة عليها في تفرسٍ، سألها الأخير مهتمًا:
-مالك؟ شكلك مضايقك؟
تحرجت من ملاحظته لها، وتحججت بحجة رجت أن تكون مقنعة له، وألا يظن بها شيئًا آخرًا:
-لأ، مافيش، ده أنا بس ملبوخة عشان بجهز اللبس بتاعي.
أخبرها عن مدحٍ واضح وهو يشير لها بيده:
-طالما القالب حلو، يبقى ولا يهمك.
ابتسمت في حياءٍ، فتابع في تسليةٍ:
-الواد ابني لو سمعني هيفتكرني بعاكسك.

قالت بوجهٍ تورد أكثر:
-حضرتك الخير والبركة.
سألها بدير وقد جاء إليه أحد العمال:
-تشربي إيه؟
اعترضت في تهذيبٍ:
-مالوش لزوم، ده أنا يدوم ألحق أقوم، وأرجع البيت.
استمر في إصراره عليها:
-كده على الواقف، ماينفعش.
حافظت على إشراقة ابتسامتها وهي ترد:
-ما حضرتك عارف الظروف، والمرات جاية كتير
قبل أن ينطق الأخير استطرد العامل مناديًا:
-يا حاج بدير!
أدار رأسه ناحيته يسأله بجديةٍ:
-في إيه يا واد؟

أجابه وهو يشير بيده للخلف:
-الحاج عوف طالبك على الخط الأرضي.
هز رأسه معقبًا:
-طيب، أنا جايله.
قامت فيروزة واقفة وهي تستأذن بالذهاب:
-ماشي يا عمي، أنا هسيبك لشغلك، ونتقابل بالليل بقى.
نهض بدوره، وقال:
-إن شاءالله يا بنتي، استني أبعت معاكي حد يوصلك.
رفضت بأدبٍ:
-لأ والله، ما يحصل! ده البيت قريب.
بدأت في السير، فسمعته يدعو لها:
-في حفظ الله.

لأن الاتجاه المجاور لها كان يعج بالعمال المنشغلين في نقل الأقفاص من هذه الشاحنة الضخمة، انحرفت فيروزة عن مسارها، وعرجت نحو الاتجاه الآخر، حلت بها الصدمة حين رأت تميم يقف في الخلف، مرتكنًا على مقدمة سيارته، ويخفض رأسه للأسفل وهو يغمغم بصوتٍ خفيض لم تتبين ماهية ما يقوله. عندئذ أمسك التردد بخطواتها، وتجمدت لحظيًا في مكانها متحيرة بين التقدم للأمام، أو التراجع والذهاب من طريقٍ آخر. استجمعت جأشها، وقررت المضي قدمًا؛ وكأن شيئًا لم يحدث في وقتٍ باكر، رفعت رأسها للأعلى، وخطت بتمهلٍ آملة ألا تلتف ساقها بالأخرى وتتعثر من الارتباك الذي يستبد بها الآن، خاصة مع استحضار ذهنها لذكرى القبلة وبقوة.

نفضت الذكرى عن رأسها عنوة، وحبست أنفاسها متابعة تقدمها نحوه بكتفين منتصبين، لمحته من طرف عينها ممسكًا بثمرة تفاحٍ، يُقطع أجزائها بمديته، ويضع القطع الصغيرة واحدة تلو الأخرى ليلوكها على مهلٍ، كانت خطواتها تتباطئ وهي تسرق النظرات إليه، إلى أن شتت نظراتها عنه، وأكملت مشيها بقليلٍ من السرعة حتى تتجاوزه.

ظنت فيروزة أنه سيلقي التحية بها أو يرحب بها عندما يراها؛ لكنه لم يفعل، كانت كالسراب وهي تمر من جواره، ومع هذا سمعته يدندن بكلمات أغنية شعبية شهيرة، التقطت منها جملاً مقتضبة:
-بنت الجيران شغلالي أنا عينيا، وأنا في المكان والخلق حواليا.

خطت مبتعدة عنه والحرج يعتريها، فبديهيًا كانت المقصودة بهذه الكلمات، أوشكت على الابتعاد عنه؛ لكنها توقفت في المنتصف عن السير والتردد مازال ممسكًا بها، ضربت براحة يدها على جانبها بضعة مرات في توترٍ، ثم التفتت ناظرة إليه، لم تستطع تجاوزه في صمتٍ غير مستحبٍ هكذا!

أمعنت النظر فيه، ما زال على وضعيته المتجاهلة لها، أدركت حينها أنه من المحتمل أن يكون ما يزال غاضبًا منها، لأنها كانت فظة بعض الشيء في لقائها اليوم معه، شعرت بالندم، وتأنيب الضمير، أرادت الاعتذار منه لئلا يحمل في قلبه ضغينة ناحيتها، راحت تقنع نفسها بضرورة فعل ذلك، لذا عاودت أدراجها، ووقفت قبالته متوقعة أن يلقي عليها التحية؛ لكنها تفاجأت به يدندن:
-وتجيني تلاقيني لسه بخيري.

انزعجت مما اعتبرته وقاحة في استقبالها، وكتفت ساعديها أمام صدرها تسأله في غيظٍ طفيف:
-أفندم؟
كان تميم متكلفًا في النظر إليها، وعلق بجفاء:
-في حاجة؟
أجلت أحبال صوتها، وأخبرته وهي تنظر إلى أي شيء سواه:
-أنا جاية أقولك (سوري) على اللي حصل الصبح، أنا كنت سخيفة حبتين معاك، بس والله أنا مقصدش المعنى بتاع إنها زي أي جوازة!
هز كتفيه معلقًا بغير اهتمام:
-عادي.

استفزها بروده رغم محاولتها الاعتذار، فأرخت ساعديها، وواصلت تبرير تصرفها بانفعالٍ قليل، ومستخدمة يدها في التلويح والإشارة:
-وبعدين أنا مضغوطة بقالي كام يوم، وإنت موترني على فكرة، كل شوية تظهر قصادي فجأة، يا ريت تبطل كده!
بدا وكأنه يمنع عليها بالنظر، فرد ذراعيه في الهواء، وصحح لها بإشارة من حاجبه:
-على فكرة أنا واقف في دكاني، ماتنقلتش من مكاني.

أصابها الحرج الشديد، وردت في تعجلٍ محاولة عدم إشعاره بما يعتريها الآن من ربكةٍ غريبة:
-وإن يكن، برضوه تاخد بالك.
مط فمه للحظةٍ قبل أن يتكلم في النهاية:
-حاضر.
توقعت أن يتجاذب أطراف الحديث معها؛ لكن خابت ظنونها، وظل على وضعية التعجرف في تعامله عندما سألها:
-في حاجة تاني؟
قالت نافية في عصبية عبرت عن اغتياظها:
-لأ.
ضجرت من تعاليه الواضح، ورفعت سبابتها أمام وجهه تهدده بتهورٍ:.

-إنت لو فضلت على الأسلوب ده أنا ممكن أقول لأ، وافض الحكاية.
مرة أخرى ظنت أنه سيثور عليها، وتظهر بوادر انفعاله؛ لكنه كان هادئًا حد البرود عندما علق:
-براحتك، محدش هيجبرك على حاجة...
فغرت شفتيها مصدومة من ردوده، بينما واصل تميم الكلام؛ كأنما يسألها وهو يضع يده الممسكة بالمدية على صدره بعد أن طواها، وعيناها تتطلعان لها بنظرةٍ دافئة:
-بس يرضيكي تكسري بقلبي، وبخاطر جدي، وتزعلي كل اللي بيحبوكي؟

تلبكت أمام كلماته الناعمة التي تسللت أسفل جلدها، وبدأ تأثيرها ينعكس عليها، ما بال الحمرة معها؟ دومًا تنشط في بشرتها عند وجودها معه. استمر تميم في مخاطبتها بأسلوبه المراوغ، وهو يرفع يديه للأعلى:
-وأنا ساعتها مش هاعمل حاجة غير إني أدعي في كل صلاة، وأقول يا رب، إنت شايف أهوو يا رب اللي بتعمله فيا.
شهقت متسائلة في ذهولٍ، وقد ارتفع حاجباها للأعلى:
-إنت هتدعي عليا؟

ابتسم في عبثيةٍ، وهو يجيبها بغمزة من طرف عينه:
-لأ، هدعي ربنا يهديكي ونتجوز.
تصنعت العبوس، وهتفت قائلة:
-أنا ماشية.
أشار لها بالذهاب؛ لكنها تجمدت في مكانها لتخبره بتجهمٍ، وهذه النظرة الساخرة في عينيها:
-أه، ومكانش ليه لازمة تجيب تورتة، احنا أكيد يعني عاملين حسابنا.
ظل يبتسم لها وهو يرد:
-دي ل رقية مش ليكي.
أحرجها بتعليقه، فحفظًا لما وجهها عقبت بغيظٍ:
-أحسن برضوه، أصلاً مابحبش الكريمة.

لم تخبت ابتسامته وهو يقول في برودٍ:
-يا ريت أبقى أفتكر لو فكرت أجيبلك مرة تانية.
نجح في استفزازها، فهتفت في غيظٍ:
-أنا ماشية.
لوح بيده مودعًا إياها:
-اتفضلي.
مشيت في خطواتٍ سريعة غاضبة؛ لكنه استوقفها مناديًا:
-يا أبلة!
توقفت عن السير، والتفت تنظر إليه متسائلة بملامح رسمية:
-أفندم؟
اتسعت ابتسامته وهو يخبرها:
-أنا رأيي تلبسي أبيض حلو عليكي.
رمقته بنظرة مشتاطة قبل أن يأتيه ردها المعارض:
-هلبس أسود.

رفع إبهامه كتعبيرٍ عن إعجابه قبل أن يخبرها في تسليةٍ:
-وماله، هايبقى أحلى وأحلى.
عجزت عن مجاراتها ومناطحتها الرأس بالرأس، فتابعت سيرها وهي تغمغم بكلماتٍ متبرمة، سمعته يهتف من خلفها بنبرة عالية وذات مغزى، تأكدت أنه يقصدها به، فابتسمت في رضا:
-خد يا ابني بالك من التفاح وإنت بتنقله، ده فرز أول، متنقي بالواحدة، ومدفوع فيه الغالي كله...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة