قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والخمسون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والخمسون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الرابع للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والخمسون

بمسحةٍ سريعة من طرف لسانه اللزج، على تلك الورقة، تمكن من لصق طرفيها معًا، ليحصل على سيجارة يدوية الصنع؛ لكنها محشوة بمخدر الحشيش. حشر ذلك الرجل الغريب سيجارته بين شفتيه، وراح يشعل طرفها بتأنٍ، ليسحب بعدها نفسًا عميقًا يؤجج به صدره المشتعل بالمزيد من الأنفاس المُذهبة للعقل، أطلق سحبًا من الدخان في الهواء الطلق، ثم تبادل مع رفيقه السيجارة، وسأله في صوتٍ خفيض مهتم:
-جرب كده وقولي.

تناولها من الآخر، وبدأ في استنشاق دخانها باستمتاعٍ واضح، ليعقب بعدها بأنفاسٍ معبقة بالتبغ غير البريء:
-الصنف عالي المرادي.
هز الأول رأسه في استحسان، وقال بغمزة من عينه الملتهبة من أثر ما يتجرعه من مواد مخدرة:
-مش قولتلك، حتة معتبرة.
وافقه الرأي، وعلق في تلذذٍ:
-أصلي يا واد عمي.

سار كلاهما على الطريق الزراعي شبه المعتم -والممتد على مدى البصر وسط الحقول- في تكاسلٍ وثقل؛ لكن صدحت أصوات ضحكاتهما المصحوبة ببضعة تعليقاتٍ خليعة، لتبدد السكون السائد إلا من أصوات نعيق الضفادع، وصرير الجنادب. تساءل الثاني وهو شبه مترنح في خطواته:
-مش معاك حتة زيها؟
أجابه وهو يشير إلى جيب قميصه:
-معايا، بس دي شايلها لما نوصل مطرحنا.
ألح عليه بلسانه الثقيل:
-هاتها، ده لسه الطريق طويل.

تساءل الأول في نبرة هازئة:
-إنت خستعت ولا إيه؟
نفى ادعائه مبررًا:
-لا يا عم، ده بس عشان نتنشط كده ونفوق، دي الليلة شكلها فل.

لم يبدُ ممانعًا لاستخدام القطعة الأخيرة، فوقف الاثنان عند بقعة شبه مضيئة، وقام الأول بإعداد سيجارة أخرى، بنفس القدر من الاهتمام والرعاية. أشعل طرفها، وتذوق طعمها بانتشاء كبير، ليعطيها لرفيقه فيجربها هو الآخر؛ لكنه تغاضى عن إطفاء عود الثقاب الذي استخدمه، وألقاه بإهمالٍ على كومة من المزروعات الجافة الموضوعة عند أول الحقل للتخلص منها باكر. بعد بضعة أنفاسٍ مصحوبة بلحظاتٍ من العبثية والمجون، انتبها إلى سحابة الدخان التي حاوطتهما، التفتا خلفهما، ليجدا ألسنة اللهب قد بدأت ترتفع للأعلى، وبخ الثاني زميله في عتابٍ شبه مهينٍ:.

-يا دغوف مش تاخد بالك، كده هتقيد النار في الزرعة كلها!
رد بغير مبالاة:
-هي تخصنا أصلاً.
حذره في شيءٍ من الجدية:
-بس جايز حد يوعلنا.
قال بضحكاتٍ قصيرة متقطعة:
-ولا حد هيبقى دريان بينا...
على ما يبدو بلغت عدم مبالاته أقصاها، فأخرج من جيبه زجاجة صغيرة، تحوي على مشروب مُسَّكِر، وقام بسكبه كاملاً على كومة الزرع، لتتوهج ألسنة اللهب، وتزداد حدة، ضحك مجددًا بصوتٍ غريب، ثم هتف في استمتاعٍ مريض:.

-وأهوو خليها تصهرج وتصهلل.
شاركه زميله الضحك الماجن، وعقب وهو بالكاد يحاول تمالك نفسه وسط نوبة الضحك الهيسترية:
-أما إنت عليك حركات.
راح الرجل يدندن في صوتٍ مرتفع ومزعج وهو يرقص حول النيران الحمئة:
-نار، نار، نار، وأنا قلبي قايد نار.

تمايل زميله بجسده معه، وطاف حوله في خلاعةٍ إلى أن انتشرت النيران في معظم الحقل، توقفا عن اللهو، وتعلقا في ذراع أحدهما الآخر للحفاظ على توازنهما، سارا مرة ثانية في ترنحٍ، والأول يتكلم في لسانٍ ثقيل:
-طب بينا بقى بدل ما النفسين يطيروا.
غادر الحقل، وألسنة اللهب تتصاعد للأعلى في نشاطٍ وقوة، كأنها كانت تتحين الفرصة للتوهج والانتشار، وها قد واتتها الفرصة لتأتي على الأخضر واليابس بلا هوادة أو رحمة!

أصبح الهواء فيما حول المقهى الشعبي المتواجد على أطراف البلدة معبقًا بأدخنة النارجيلة المنتشرة بداخله وخارجه، واختلطت مع الدخان المنبعث من حجر المعسل، غطت الرائحة القوية للمدخنين على رائحة شوي اللحم، وأصبح مذاق ما يتناوله رواد المكان من أطعمة مصبوغًا بالتبغ والدخان. أشار فضل لعامل المقهى بيده ليبدل له حجر الفحم بعد أن انطفأت جذوته، واستدار ناظرًا إلى رفيقه حين كلمه في لهجةٍ شبه جادة:.

-ما تشيلها من دماغك.
التهب نظراته، وصارت أكثر شرًا وهو يعقب عليه في إنكارٍ ساخط:
-أشيلها؟ ده أنا مافيش حُرمة استعصت عليا زيها...
استكمل باقي جملته بين جنبات نفسه متذكرًا ما تعرض له من إذلال جسيم طال رمز فحولته:
-غير ما النكبة اللي بقيت فيها بسببها.
تنبه من جديد لرفيقه وهو يسدي له النصيحة:
-يا عم شاور على أي واحدة تكون طوعك، وتحت رجلك.
قال بغليلٍ مرتفع في صدره، وبعينين تطقان بالشرر:.

-مافيش إلا هي، هاخدها وأكسر رقبتها.
حك رفيقه جانب رأسه بالمبسم، قبل أن يدسه بين شفتيه وهو يضيف في مكرٍ:
-صحيح، عرفت إن أم عيالك بطنها شالت تاني؟!
زاد الكدر في عينيه وهو يعقب بقنوطٍ شديد:
-وش البومة، أل يعني المشرحة ناقصة قتلى!
تابع في خبثٍ، كأنما يقصد استفزازه:
-ده بيقولك رشيد عامل عمايله، ومروق على أهل بلده بسبب حبلها ده.
بدا غير مبالٍ بأمرها، ونطق هازئًا:
-يعني جاب الديب من ديله!

امتدت يده لتمسك بالكوب الزجاجي، وتجرع آخر رشفة في شايه قبل أن يغمغم قائلاً:
-الناس بتحكي وبتتحاكى، هو أنا اللي بأقول.
لوى ثغره مدمدمًا في حنقٍ محسوس في نبرته:
-تلاقيها نمرة عاملها عشان يقول بيها إنه راجل وبيعرف آ...
ثم ضحك ضحكة سخيفة مصطنعة كأنما يقصد بذلك منع نفسه من قول تلميحٍ خليع، وعاد ليتابع كلامه باستهزاءٍ:
-فاهمني، وهو خروف لا بيهش ولا بينش.
رفع رفيقه حاجبه متسائلاً في دهشةٍ مفتعلة:.

-معقولة؟ قول كلام غير ده.
أكد عليه بثقةٍ عجيبة:
-أه يابا، هي كانت أول ولية تجيب عيل؟ ما أنا جايب منها كوم، وبعدين ما أنا رميتها لغيري، فَضلة، ماتسواش!
حقده المرير تجاه سها، جعله يلفق الأكاذيب، ليظهرها بمظهر السوء، وإن لم يكترث لعواقب زلات لسانه. قطع لغوهما الفارغ نداء أحدهم المفزوع وهو يركض من مسافة بعيدة، تنبه جميع من في المقهى إليه، وعلى وجه الخصوص فضل، خاصة عندما خاطبه هذا الرجل بأنفاسه اللاهثة:.

-إلحق يا سي فضل.
نظر إليه شزرًا قبل أن يسأله بتأففٍ، وهو يحرر دفعة من دخان النارجيلة:
-في إيه يا غراب البين؟
أشار له نحو الفراغ وهو يجيبه في جزعٍ:
-النار قايدة في الأرض بتاعتكم، جابت عاليها واطيها.
انتفض واقفًا بعد سماعه لتلك الجملة الصادمة، ودفع بقدمه النارجيلة لتتبعثر محتوياتها على الكليم، وصوت صراخه المرتاع يصيح عاليًا:
-بتقول إيه يا وش الفقر؟!
أكد عليه من جديد وهو يحاول التقاط أنفاسه:.

-النار ماسبتش شبر إلا وطالته.
لطم بيديه على صدغيه هاتفًا في تحسرٍ شديد قبل أن يهرول كالمجذوب نحو أرضه المشتعلة:
-يادي الخراب المستعجل اللي حط على دماغ الواحد.

مر عليه وقت لا يعلمه سوى المولى عزوجل، وهو يترقب انتهاء فقرات حفل الزفاف التي ظن أنها لن تنتهي أبدًا، وصل المطاف إلى فقرة تناول قالب الحلوى، تأهبت فيروزة في جلستها على الكوشة، وظهر التوتر على محياها، حاولت التماسك، ومقاومة الخيالات التي راودتها بشأن ما يحدث من تجاوزات ومداعبات بين الأزواج في تلك اللحظة المرحة، أدارت رأسها في اتجاه تميم، واشترطت عليه بجديةٍ:
-يا ريت اللي بنشوفه وبيحصل في آ...

وصل إليه تلميحها المتواري دون الحاجة للمزيد من الإيضاح، فقاطعها مؤكدًا عدم ارتكابه لأي تصرفٍ قد يخجلها:
-اطمني، كل اللي عاوزاه هيحصل.
أحست بالارتياح لتفهمه العقلاني، خاصة أن بعض الأزواج لا يخجلون من وضع زوجاتهم محط الأنظار باختطاف قبلة جريئة على مرمى ومسمع من الحاضرين. تركت باقة الورد موضعها، ونهضت في تهملٍ لتشاركه ذكرى أخرى جديدة، ستضاف حتمًا إلى قائمة ذكرياتهما معًا.

توقف الاثنان في منتصف القاعة تقريبًا؛ حيث تم وضع القالب الطويل، ناول أحد مشرفين التنظيم السكين للعروس، لتمسك به أولاً، قبل أن يضع تميم قبضته على يدها، شعرت بقوة أصابعه وهي تضم كفها، كأنما تحتويه في سطوة غير مشكوك فيها، نظرت إليه ملء عينيها بنعومة يشوبها التوتر، فرأته يمنحها كل ما تحتاج للشعور به وهي إلى جواره من أحاسيس صادقة، عاشقة، تفيض بالحب والحنان. تساءل مبتسمًا، وعيناه لا تبرحان صفحة وجهها النضرة:.

-جاهزة؟
هزت رأسها مرددة ببسمة رقيقة:
-أيوه.
ارتفعت يداهما معًا للأعلى، ليبدأ تقطيع القالب، وهبطتا بالتدريج في تناغم لطيف وهادئ، دون أن تحيد النظرات الساهمة عن بعضها البعض؛ وكأنها كانت فرصتهما المتاحة لعيش لحظة حالمة وهما عند هذا القرب. تدارك تميم استطالته في النظر إلى عروسه الجميل عندما خاطبه المشرف:
-اتفضل يا فندم.

حول عينيه ناحيته ليجده يمد يده بشوكة موضوع بها قطعة من الحلوى، أخذها منه، وقدمها للعروس وهو يبتسم لها، أمسكت بها بيدها وتناولت ما بها، فلم يعترض على تصرفها، وفعلت المثل معه، لتنتهي الفقرة بتصفيق المدعوين، وعودتهما إلى الكوشة مصحوبين بالزغاريد وموسيقى الأفراح.

من تلك البقعة النائية عن الزحام، أخذ يراقب شاشة العرض بتعابيرٍ شبه عابسة، يتطلع إلى ما تبصره عيناه من محبة غير قابلة للإنكار بضيقٍ، ورغم محاولاته المضنية لتقبل الأمر، إلا أن هناك غصة كانت عالقة بحلقه، استدار هيثم مبتعدًا عما يشاهده، وتحرك برضيعه جيئة وذهابًا في نفس المكان يهدهده في رفقٍ، إلى أن أقبلت عليه زوجته، توقف عن السير، ونظر إليها وهي تخاطبه:
-عنك يا هيثم، تلاقي خالد تعبك.

قال بتجهمٍ ما زال معكوسًا على ملامحه:
-لأ، معظم الوقت نايم.
ابتسمت وهي تأخذه في أحضانها:
-كويس.
أشاح هيثم بوجهه بعيدًا عنها، ليخفي ضيقه البائن عليه، وتعلل بحجةٍ واهية:
-أنا همر على الترابيذات، هاشوف إن كان حد ناقصه حاجة كده ولا كده.
هزت رأسها مرددة من خلفه:
-طيب، وأنا هاروح عند فيروزة.

من الجيد أنها لم تكن ناظرة إليه، وإلا لرأت ضيقه المتزايد في مقلتيه، ففطنت إلى انزعاجه من حفل الزفاف المبهرج، ابتعد عنها قبل كشف أمره، وواصل السير حتى اعترض طريقه بدير، فاستوقفه الأخير، وأجال ناظريه عليه، استطاع بخبرته أن يلاحظ تبدل قسماته، حافظ على جمود تعابيره، وسأله في اهتمامٍ:
-عامل إيه يا ابني؟
بوجهٍ يعكس امتعاضه أجاب:
-الحمدلله يا جوز خالتي.
استحثه بدير على التحرك معه قائلاً:.

-تعالى اقعد مع جدك شوية، بيسأل عليك من بدري.
لم يجد بدًا من الفكاك منه، وقال مستسلمًا:
-حاضر.
سار معه إلى الطاولة الجالس عليها الجد سلطان ؛ حيث القليل من الهدوء، بعيدًا عن صخب الموسيقى المزعج، سحب هيثم المقعد، وجلس إلى جواره متسائلاً في جدية:
-خير يا جدي؟
لم يمهد سلطان في حديثه إليه، وسأله مباشرة دون مراوغة، وهو ينظر في عمق عينه التعسة:
-مبسوط؟
جاوبه بملامح مكفهرة:
-مش عارف.

صمت الجد، ولم يعقب متوقعًا أن يبوح بمكنونات صدره، وقد كان؛ حيث استطرد مستفيضًا بألمٍ محسوس في نبرته:
-بس اللي ماتت دي كانت قبل ما تكون مراته أختي، وحازز في نفسي أشوف الحلو كله بيتعمل لغيرها.
علق عليه سلطان بهدوءٍ:
-محدش بياخد أكتر من نصيبه، وأختك ربنا كرمها وقتها، واتراضت، بس نصيبها انتهى معاه لحد كده، وراحت عند اللي أحسن مني ومنك، هتعترض على مشيئة ربنا؟

استبد به ضيقه، وطفا على السطح، خاصة وهو يحتج عليه:
-لأ، بس هي ملحقتش تفرح زي أي واحدة، اتاخدت غدر.
تنفس الجد بعمقٍ، وخاطبه بلين الكلام، علَّه يقتنع:.

-ربنا ليه حكمة في قضائه، افتكر قوله تعالى وهو بيقول في كتابه الكريم (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ) شوف دلوقتي كلنا بندعي لأختك بالرحمة، والجنة، تخيل لو كانت فضلت على حالها، وظُلمها للغير، كانت هتلاقي اللي يدعيلها؟

أطرق رأسه كأنما يفكر في حديثه، فتابع الجد على نفس الوتيرة الهادئة:
-في يا ابني ميت بيتقال عنه ده ارتاح، وميت تاني بيتقال ده مُستراحٌ منه، يعني هتلاقي الناس فرحنا إنه مات، وتقولك كويس إن ربنا ريحنا منه.
ضغط على شفتيه لهنيهةٍ، ثم زفر قائلاً:
-معاك حق.
شدد عليه الجد مجددًا بنبرة جمعت بين اللين والحزم:.

-حط ده في راسك عشان ترتاح، إنت ربنا كرمك، وعوضك بزوجة طيبة، بتحبك، وعارفة إزاي تصونك في غيابك، ومش بس كده رزقك كمان بابن صغير من صلبك، هيكبر ويشيل اسمك، اجتهد إنك تزرع جواه الخير، عشان وقت العجز تحصد خيره.
حرك رأسه بإيماءة صغيرة وهو يخبره:
-حاضر يا جدي.
مد سلطان يده ليربت على كتفه هاتفًا بودٍ:
-ربنا يرزقك الرضا، ويصلح حالك.
نهض هيثم من مكانه وهو يرد:
-يا رب...
ثم تلفت حوله متسائلاً:
-أجيبلك حاجة يا جدي؟

أجابه مبتسمًا في حبورٍ:
-لأ، الحمدلله، أنا مرضي على الآخر.
أحنى هيثم رأسه على جبينه يقبله في تقدير، وقال ممتنًا:
-ربنا يخليك لينا يا جدي، ودايمًا تكون لينا العون والسند.
حافظ سلطان على نقاء بسمته وهو يدعو له عن طيب خاطرٍ:
-ربنا يهديك ويراضيك.

بالكاد تمسك بآخر ذرات صبره الذي طال، واستطال، وأوشك على الانقضاء من كثرة الترقب والانتظار، مع انتهاء مراسم حفل الزفاف على خير، أما آن له بعد أن يظفر بكُلها؟ انتظر تميم بجوار باب سيارة رفيقه منذر الذي أصر على قيادة سيارة الزفاف لإيصاله إلى منزله، على أن يتبعه شقيقه، وباقي المشاركين فيما يعرف ب (زفة السيارات).

اختلس النظرات نحو طاووسه المتباهي، كانت كالملكة المتوجة، تحاوطها ذوات الحسن؛ لكنها أكثرهن بهاءً وتأثيرًا، ويا ليت الأعين تشبع من النظرات! فما عاد يعلم حاليًا سوى أن دمائه المتدفقة في عروقه أدمنت عشقها، وباتت تحترق شوقًا على جمرات العشق لنيل ودَّها، فأنى له الإتيان بالصبر وهو أسير تعويذة جمالها؟ حاد مرغمًا ببصره عنها ليتطلع إلى منذر وهو يخاطبه بمزاحٍ:
-عاوزينك ترفع راسنا يا عريس.

ابتسم في ثقةٍ قبل أن يرد:
-من الناحية دي اطمن.
تدخل دياب في الحوار هاتفًا بعبثية:
-طبعًا، الخبرة كلها معانا.
سكت واكتفى بالابتسام، فأضاف بنفس الطريقة المازحة:
-كله بالحنية بيفك.
علق عليه منذر ساخرًا، وضحكة تبعت كلامه:
-ده بأمارة ما مراتك معلمة عليك.
تنحنح قائلاً في حرجٍ طفيف وهو يدعك مؤخرة عنقه:
-مش أوي، ربنا يجعل سيرتها خفيفة علينا، ده أنا هاخد تكديرة محترمة إكمن مخدتهاش معايا.
رد عليه تميم بلطفٍ:.

-تتعوض في مناسبات تانية.
هز رأسه مغمغمًا:
-إن شاءالله.

في تلك الأثناء، ساعدت كلاً من هاجر و همسة العروس على الاستقرار في المقعد الخلفي، وقمن معًا بضم أطراف الثواب وجمعه، لئلا يعلق بالباب حين يتم غلقه. لوحت فيروزة بعد ذلك لوالدتها التي كانت مشغولة بحمل الرضيع خالد، ثم بحثت بعينين تواقتين عن زوجها، رأته عند المقدمة يضحك وسط رفيقيه، فابتسمت لضحكاته العذبة، مستشعرة تلك الأحاسيس الشائكة اللذيذة التي لازمتها مؤخرًا، حين تكون قربه، فماذا إن انفرد بها؟ بالطبع لن يدخر وسعه في التعبير عمليًا وحسيًا عن مشاعره لها، توقفت عن الاستغراق في ضجيج أفكارها شبه الجامحة، وادعت التهائها بمتابعة ما تردده همسة من نصائح مرحة، لإضفاء جو من الرومانسية على العروسين، فما زادها هذا إلا ارتباكًا وتوترًا.

تجمدت حدقتاها عليه وهو يستدير عائدًا للسيارة، ليستقر إلى جوارها، شعرت بتلاحق خفقات قلبها، باندفاعه العاصف بين ضلوعها؛ كأنما يريد التحرر والذوبان بين يديه. توالت الارتجافات الخفيفة على بدنها بشكلٍ لا يوصف، عندما وجدته يلتصق بها، شعرت بأن دروعها المنيعة، على وشك الانهيار، مع لطف عباراته الرنانة، حين يتغزل بها بالبسيط من الكلمات، لم تسكن مشاعرها المضطربة إلا حينما تخللت أصابعه كف يدها، نظرت أولاً إلى يديهما المشبكة معًا قبل أن ترفع حدقتيها إليه، لتجده يطالعها بما نفذ إلى جوهر الفؤاد توًا من فرط عذوبته. تقوست شفتا تميم عن بسمة صافية وهو يهمس لها:.

-مبروك يا أحلى طاووس!
زوت فيروزة ما بين حاجبيها في دهشة خفيفة، قبل أن تردد:
-طاووس؟!
مال نحو أذنها ليكرر مؤكدًا عليها، في نبرة متملكة، داعبت مشاعرها الأنثوية:
-أيوه، طاووسي الأبيض!

خفقة تبعتها أخرى أشد وطأة على قلبها، مصحوبة بتماوجات من المشاعر المرهفة، سيطرت على كامل بدنها، وبدأت في تأجيج جذوات الحب بحصونها، حاولت استعادة يدها من بين أصابعه؛ لكنه رفض، وأصر على الإمساك بها بهذا القيد شبه المحكم، ثم أخبرها بصوته الخفيض، وعيناه تنظران إليها بتصميمٍ:
-مابقاش في بُعاد تاني.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة