قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل العشرون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل العشرون

وخزات مؤلمة انطلقت ضاربة أنحاء متفرقة من جسده تشعره بومضة من شيء لطالما افتقده، في البداية ظن أنها بضعة أوهام عابرة، لكن تلك الرغبة المتأججة جعلته يئن نوعًا لإشباع ما يتقد بجسده، ترك "آسر" حاسوبه المحمول على مكتبه، وانتفض متجهًا إلى الحمام، غاب بالداخل لدقيقة أو أكثر، ثم عــاد ورأسه محني في خزيٍ، وضيق، لاح الأمل وتبدد سريعًا، هذا ما ردده في عقله! سحب مقعده للخلف، وجلس عليه بإحباطٍ نطقت به ملامحه قبل أن يعبر عنه لسانه:
-حاجة تقرف!

تطلع بنظرات غاضبةٍ، إلى شريط الدواء، الموضوع في درج مكتبه المفتوح جزئيًا، دفعه في عصبيةٍ ليغلقه متابعًا حديثه اليائس:
-برضوه مافيش فايدة، ده إنت أحسن نوع جبته عشان أجربه، وخدت منك حبيتن، وزي ما أنا كده!

رفع بصره للشاشة الحاسوب المضيئة بصورة لوجه "فيروزة"، تلك التي حصل عليها بمراوغة بسيطة مع "علا"، وضعها على أحد برامج تعديل الصور الاحترافية، وواصل العبث بها، ليتم إضافتها على الصور غير الأخلاقية التي يستخدمها للترويج والدعاية لموقعه الإباحي، والذي يدر عليه ربحًا طائلاً لا حصر له، بسبب المتلهفين لتلك النوعية من المواقع المتجاوزة. ابتسم لنفسه في سخرية، وهو يعيد تشغيل ذاك الفيديو البدائي الذي أعده؛ حيث قام بتركيب صورة وجهها على إحدى الفتيات المنحرفات، لتبدو كما لو كانت تمارس الرذيلة مع أحدهم، باستمتاعٍ شديد، غمغم في تنهيدة بائسة بطيئة:
-شكلي هاقضيها فُرجة بس!

وليبدو أيضًا كمن يشاركها المتعة الحسية، أضاف صورته على الرجل الظاهر في الفيديو، ليدعي أنه هو، وبدا متأثرًا لوهلة مما يحفز خلايا عقله، وظن مع التركيبة الدوائية الجديدة، أنه سيحصل على النتيجة المرجوة؛ حينما تنبت الإثارة من منابعها، ولكن قبل أن يمضي قدمًا في عبثه الماجن، سكن ما ظن أنه قادرًا على العطاء. لعن بغيظٍ، وأغلق الفيديو، ليقوم بنقله من موقعه الحالي، وحفظه في ملفٍ منفصل، وبدأ في تحميل مقاطع أخرى جديدة، وصلت إليه للتو. قطع انهماكه رنين الهاتف المسنود على سطح المكتب، نظرة خاطفة ألقاها على شاشته، دون أن يلمسه، انتظر بضعة ثوانٍ ليضغط بعدها على زر الإيجاب، وقال بجدية بحتة:
-أيوه يا سيدي، إيه جديدك؟

صمت لبرهة مصغيًا للطرف الآخر الذي قال بتوترٍ:
-الحاوية دخلت المينا، وخدت دور في التفتيش، أنا قلقان، وإنت مقولتليش حاطط الأمانة فين.
رد عليه بثقةٍ مريبة:
-اطمن أنا عامل حسابي كويس.
سأله المتصل بنبرته الحائرة:
-يعني كان لازم نستورد تفاح؟ ما كنا جبنا شحنة هدوم ولا حاجة تانية، كانت هتصعب الدنيا عليهم شوية.
قال في استرخاءٍ:
-ده عز الطلب.

بدت جملته غامضة، فسأله مستفهمًا:
-إزاي يعني؟
أجاب ببساطة شديدة:
-ريحة التفاح هتضلل الكلاب، وده يخدمنا.
ردد برجاءٍ:
-يا رب تفلح.
أكد عليه دون تشكيك:
-لأ دي طريقة متجربة.
أضاف المتصل على عجالةٍ:
-ماشي، وأنا هاكلمك لما نطلع من الجمرك، عشان ننسق مع رجالتنا يعدولنا الحاجة.
رد عليه منهيًا المكالمة:
-حلو أوي، مستنيك.
ثم حملق في شاشة حاسوبه متابعًا تدفق الأرقام المتزايدة لرؤية الفيديو الجديد في انتشاء، لف ذراعيه خلف رأسه، وتوسد بها عليهما قائلاً بوهج خبيث تراقص في عينيه:
-وأنا أشوف شغلي هنا كمان.

عملٌ متواصلٌ بلا توقفٍ لجني أكبر قدر من المال في وقت قصير، جعله يشعر كأنه آلة غير بشرية، تدور دون كللٍ أو ملل، لإشباع تلك الرغبة الطامعة، فلم يهتم سوى بهذا، إلى أن نضبت طاقاته المحفزة، وزاد الحنين للعودة للوطن، أعد العدة وارتحل عائدًا إلى بلدته، ساحبًا خلفه زوجة مطيعة، غير قادرة على عصيانه، وأطفالاً صغارًا بطونهم الجائعة تحتاج للملء.

مجيئه غير المتوقع تحول من فرحة وسرور، لكارثة وشرور، خاصة مع تعاظم الغضب، وحجب العقل عن التفكير بروية وبمنطقية، تصاعدت الشكوك، وأوغرت الصدور؛ لكن في الأخير وقع المراد، واُخترقت الأسرار. لم يحمل "فضل" نفسه اللوم، وبدا متفاخرًا بما أقدم عليه مع ابنة عمه، كان يحظو بمكانته المقدسة على رأس عائلته؛ وكأنه حاكم فريد من نوعه؛ هكذا يُعامل أغلب ذكور عائلات تلك البلدة، يمنحوا كافة السلطات، والحريات، ويُعتد بقوةٍ برأيهم؛ وإن كان على غير علم.

رفع رأسه للأعلى في إباءٍ، بدت تعابيره مسترخية، لا يشوبها ذرة ندمٍ واحدة، حتى على ظلمه غير المنصف لها، ارتشف ما تبقى في فنجانِ قهوته، ثم سحب نفسًا طويلاً من سيجارته، ليلفظ الهواء عاليًا، قبل أن يتجشأ بعدها بصوتٍ مكتوم، أسند فنجانه على حافة أريكته الخشبية، والتفت نحو أبيه، ليقول له ببرودٍ متناهٍ، وهو يستند بمرفقه على ساقه المرفوعة للأعلى:
-أنا عملت الصح يا حاج، واطمنت على شرفنا.

علق عليه "اسماعيل" بوجهه العابس:
-"فيروزة" مش زي أي حد يا ابني، دي أمانة أبوها عندي.
أخفض ساقه في عصبية، وتوحشت نظراته نحوه، معترضًا على ما اعتبره لين قلبه:

-وعمي –الله يرحمه- لو كان عايش، كان بنفسه صمم يتأكد من شرف بنته، بلاش قلبك الطيب ده يابا مع الحريم، هيركبونا.
نظر له والده في أسفٍ، لكن "فضل" واصل القول بقساوة يتفاخر بها:
-اكسر للبت ضلع يطلعلها أربعة وعشرين، ولو خايف على زعلها يابا، هما يومين وهتنسى، وكأن مافيش حاجة حصلت، دي حاجة زي شكة الدبوس.
بامتعاضٍ منزعج ردد "خليل" عاليًا:
-ما كفاية كلام في السيرة دي، خلونا نشوف هنعمل إيه في التقاوي اللي الأرض عايزاها.

استدار نحوه "فضل" ليرد:
-أنا عندي واحد هيجيبلنا اللي عايزينه بسعر معقول.
رد "خليل" في استحسانٍ:
-كويس أوي.
أضاف عليه "اسماعيل" مشددًا:
-اعمل حساب عمك "فتحي" معانا، هو موصيني يا "فضل".
هز رأسه معقبًا:
-اللي إنت عاوزه يابا
تساءل "خليل" في فضولٍ:
-وإنت مش مسافر تاني؟

أجابه نافيًا:
-لأ يا عم "خليل"، أنا نزلت نهائي، ومش راجع تاني.
نظر له باستغرابٍ وهو يسأله:
-ليه بس؟ ده بيقولوا قرش برا حلو!
زفر مليًا ليرد بعدها:
-بس الغربة بتاخد من الواحد، وأنا عايز أفضل جمب أهلي، وخصوصًا بعد ما عملت قرشين حلو.
تشكلت بسمة طامعة على محياه، وهو يبدي رضائه:
-هو ده الكلام الموزون، ولو عوزت أي حاجة أنا موجود
هز رأسه بإيماءة ممتنة، قبل أن يشكره:
-تسلم يا عم "خليل".

فرغت الغرفة إلا من والدتها الباكية، حاولت تهوين الأمر على ابنتها، مواساتها إن صح التعبير، لكن ظلت الأخيرة صامتة، مفصولة عمن حولها، تخوض حربًا خفية بينها وبين نفسها، لا تدري كم انقضى عليها من الوقت، وهي في تلك الحالة الساكنة! تضم ركبتيها إلى صدرها، تتكور على نفسها؛ وكأنها تبحث عن حماية مفقودة، لن تحصل عليها أبدًا، شردت من جديد تعايش ما مرت به، حيث أرادوا كسر كبريائها، إحناء هامتها، اغتيال روحها المتمردة، وتدمير نفسيتها، بتطفلهم غير الجائز على مواطن أنوثتها، للتأكد من شائعات مغرضة نشروها، ادعوا فيها أنها فتاة لعوب؛ فرطت في شرفها، وهي أبعد ما يكون عن هذا الاتهام الباطل. دمعة أخرى انضمت لشقيقاتها في صمتٍ، لتنساب على وجنتها، مسحت بظهر كفها مظاهر ضعفها البائنة على وجهها الحزين..،

أرادت فقط أن تجد من يصدقها بلا دليل، يمنحها ثقته غير المرهونة بشروط؛ ولكن ما رغبت فيه كان بالعسير عليهم. توقفت عن نحيبها الساكت ململمة شتات نفسها، لم تكن لتسمح لزوجة خالها الشامتة الحاقدة بإظهار انتصارها عليها، تذكرت بقوة تلك النظرات المغلولة، المليئة بشرور النفس، وهي تبرز من عينيها؛ وكأنها تتشفى بها، لو كانت النظرات تقتل حقًا لقتلها!
اهتز جسدها بقوةٍ، حين لامستها والدتها تسألها بخذلانٍ لازم شخصها الضعيف:
-إنتي كويسة يا بنتي؟

تطلعت لها بنظرات فارغة؛ وكأن وهج الحياة قد انطفأ بها، حتى أمها لم تكن لتسمح لها برؤيتها ذليلة، قست عينا "فيروزة" نحوها، وردت متسائلة:
-تفتكري إيه؟
نكست رأسها في أسفٍ وهي تعتذر منها:
-حقك عليا، أنا قلبي بيتقطع عشانك، بس غصب عني، مكونتش هاقدر أقف قصاد جبروتهم، وخصوصًا في الحكاية دي.
وضعت "فيروزة" يدها على ذقن والدتها، رفعتها برفقٍ إليها، وحدقت في عينيها الكسيرتين بقوة غريبة، لا تعرف من أين استدعتها، أو استجمعتها، ثم قالت بصوتٍ خبت منه لمحة الوهن:
-ارفعي راسك لفوق يا ماما، بنتك شريفة، وطاهرة، ليه زعلانة؟

هتفت بقلبٍ متألم، وعينان تبكيان:
-أنا زعلانة عليكي، من كسرة نفسك قصادهم، من آ...
انخفضت يدها عن لمس ذقنها، وقاطعتها بصرامةٍ، وقد احتدت نظراتها:
-لا عاش ولا كان اللي يكسرني أو يذلني...
ثم ابتعدت عنها، ودفعت جسدها لتهبط عن الفراش، لتتابع بصيغة آمرة:
-يالا بينا..

قتلت "فيروزة" اختناقة موجعة، حاولت الظهور في صوتها، حين أكملت:
-مافيش حاجة يتبكى عليها هنا.
لم تفكر "آمنة" حتى في مجادلتها، وردت في خنوعٍ:
-حاضر يا بنتي.

قطع محدودة من الثياب قامت بجمعهم في وقت ضئيل، بعد إعادة ترتيب الغرفة، لتبدو نظيفة، منسقة؛ وكأن أحدًا لم يطأها من قبل، تقدمت "آمنة" نحو الخارج أولاً، تاركة ابنتها خلفها، لتستعد نفسيًا للمغادرة، متوقعة إحساسها بالخجل، وربما الانكسار، مثلما تشعر هي؛ لكنها فاجأتها "فيروزة" حين تبعتها رافعة أنفها للأعلى، في شموخ عجيب؛ كمن لم يتعرض للإساءة أبدًا، مع فارق عظيم؛ نظراتها تبدلت من المحبة والدفء، للقسوة والعدائية، والسبب كان معلومًا. تفاجأت "سعاد" باتجاه الاثنتين نحو باب المنزل، فقطعت عليهما الطريق بجسدها، وتساءلت في جزعٍ:
-على فين العزم؟

بادرت "آمنة" مُجيبة نيابة عن ابنتها:
-مالناش قعاد هنا.
تعلقت بذراعها ترجوها:
-استني يا "آمنة"..
نظرت لها الأخيرة بعتابٍ، قبل أن ينطق لسانها:
-كتر خيركم على اللي عملتوه.
ردت "سعاد" مدافعة عن نفسها بحزنٍ يعتصر قلبها:
-أنا ماليش ذنب يا "آمنة"...

ثم اتجهت أنظارها نحو تلك المسكينة، ذات الملامح الواجمة، نظرت لها بإشفاقٍ، وهتفت ترجوها بصوتٍ غلفه العطف، وهي تمد يدها لتلمس كتفها:
-"فيروزة" يا بنتي!
انتفضت الأخيرة من لمستها، وتراجعت قبل أن تكرر ذلك، كارهة بشدة، وبسخطٍ متعاظم للغاية، أن يضع أحدهم يدها على جسدها، أو أن يدنو منها، أيًا كانت معزته عندها. اعتذرت منها زوجة عمها بقهرٍ واضح عليها، وقد بدت الأكثر تأثرًا بما حدث:
-حقك عليا يا بنتي، أنا عمري ما هسامح "فضل" على اللي عمله فيكي.

سدت "فيروزة" أذنيها بيديها، حتى لا تسمع ما يذكرها بما خاضته من تجربة مهينة لذاتها، واستدارت تقول لوالدتها بصوتٍ متشنج:
-يالا من هنا.
هناك شرخ جسيم -غير مرئي- نال من كل ما ظنت أنه ثابت لديها، ومن تلقاء نفسها تساءلت "سعاد" ببديهية:
-مش هتستنوا "خليل"؟
ردت "آمنة" بوجه عابس؛ كمن لا تدين لها بشرحٍ:
-هو حر مع مراته، يرجع وقت ما يحب.

لم تكلف "فيروزة" نفسها عناء الرد عليها، حتى محبتها الصافية لم تشفع لها عندها، وضعت حاجزًا وهميًا بين كل من تورط في أذيتها، بينما ألقت عليها "سعاد" نظرة أخيرة مطولة؛ وكأنها تودعها للأبد، وقلبها يبكي حزنًا على رحيلها المفروغ منه.

رؤيتها بثوبها الفضفاض، بعد كل سنواته العُجاف، أوقظ به تلك المشاعر الحسية المنسية مع كد الحياة الذي لا ينتهي، جعل رغباته المفترسة تثور وتزأر بقوة، تدعوه للتمتع بما حباه المولى من مواهب ذكورية مفرطة، طالما أنها تحدث في نطاقها الشرعي؛ خاصة أنه يعشق ترويض أمثالها، وامرأته لم تمنحه ذلك الشعور بالسطوة المطلقة؛ لكن هناك ما اعتبره عقبة شائكة، تمنعه حاليًا من إتمام ذلك..،

لا يوجد ما يُعيب زوجته مطلقًا، فهي تحمل السمات المثالية للزوجة المنشودة؛ الوفاء، الطاعة العمياء، لا تعانده، تكفي يومها بالقليل، ولا تطمع أبدًا فيما لا يرضيه، يُقال عنها باختصارٍ بأنها طوع بنانه؛ لذا إن تهور وباح برغبته بالزواج مجددًا، حتمًا سيلومه الجميع على هذا. إذًا ليتريث لبعض الوقت، على أمل أن تصر تلك العنيدة على رفضها، ويستغل ذلك لصالحه.

لمح "فضل" طريدته المثيرة وهي تندفع خارجة من المنزل، فتلفت حوله بنظرات خاطفة سريعة، ليتأكد من عدم رؤية أحدهم لهما معًا، وبلمح البصر، تقدم نحوها معترضًا طريقها، ألقى عليها نظرة بطيئة جالت على تفاصيلها، ليستهل حديثه بخشونة نفرت منها:
-ماشية كده وواخدة في وشك؟ مش معبرة حد فينا ليه يعني؟

رمقته "فيروزة" بنظرة نارية مغلولة، وأشاحت بوجهها بعيدًا عنه، استوقفها بشدها من ذراعها صائحًا بها بغلظةٍ:
-مش بأكلمك تردي عليا؟
انتزعت ذراعها من قبضته القوية، وحدجته بنفس النظرات الكارهة قبل أن تصرخ به، رغم جرح أحبالها الصوتية، رافعة سبابتها أمام وجهه:
-إنت آخر حد تفكر تكلم معايا بعد اللي عملته!

لم ينكر أنها لفتت أنظاره بعد تلك الفترة الطويلة من الغربة، حيث أنهكته دوامة الحياة، والسعي وراء جني المال في أقل وقت ممكن، لم يكترث لتواجد زوجته معه ودعمه في تلك المشقة. دقق "فضل" النظر في تفاصيلها الأنثوية، وتخيلها بدون ما يحجب الرؤية عنه، تغيرت كثيرًا عن آخر مرة رأها فيها، وكان ذلك قبل بضعة سنوات، بدت مختلفة في الوقت الحالي، برزت معالمها وتكورت، كانت مفعمة بالنشاط، والقوة، على عكس شريكته التي أهملت في نفسها، وكرست حياتها لخدمته ورعاية الصغار، فتناست أنوثتها، وباتت روتينًا مزعجًا خلال متابعته لسير حياته الرتيبة، عاد من شروده السريع ليبرر تصرفه البغيض قائلاً ببرود استفزها:
-وأنا عملت إيه، ده أنا كنت بأطمن على شرفي.

صرخت توبخه بقوةٍ، غير عابئة باحتمالية تكرار بطشه الأهوج عليها:
-أنا شريفة غصب عن عين أي حد!
التوت شفتاه ببسمة خبيثة، عابثة، وأضاف بغمزة من طرف عينه:
-ما احنا اتأكدنا يا بنت عمي.. زي الفل!
رمقته بنظرة استحقارٍ نافرة، وهي تهمهم بخفوتٍ، مولية إياه ظهرها لتشرع بعدها في السير:
-قذر.

لم يستمع بوضوح لما نعتته به، ولم يهتم، سار إلى جوارها بخطواتٍ متسعة ليلحق بها، هاتفًا من خلفها:
-إيه مش هتقعدي معانا؟ وترحبي بابنك عمك؟ ده أنا غايب بقالي زمن.
توقفت عن الحركة، واستدارت نحوه تحدجه بمزيد من النظرات الحانقة، خاصة تلك النظرة الاحتقارية التي اشتملته من رأسه لأخمص قدميه، قبل أن تهزأ منه:
-ابن عمي؟! ده بجد؟ ولا نكتة بايخة..

قست نظراته من ازدرائها الواضح، بينما تابعت "فيروزة" بنفس القوة؛ وكأن أياديهم لم تمسسها بسوء:
-عارف إنت كنت زمان حاجة كبيرة أوي في نظري.. دلوقتي بقيت ولا حاجة.
إهانتها المتطاولة أغضبته، فأشار لها بسبابته يحذرها:
-احفظي أدبك معايا.

وكأنه لم ينطق بشيء ذو قيمة، فأضافت بنفس الثبات والقوة:
-أنا مغلطتش فيك، بس دي الحقيقة.. وأوعى تفكر إن اللي حصل معايا ده هيكسرني، بالعكس، ده عرفني نوعية الناس اللي من دمي، وحقيقتهم.
رد بشدةٍ، وبوجه مُربد بحنقه الغاضب:
-أنا مافيش حرمة تعصى عليا، عندك "سها" مراتي لو بس فكرت تعارضني مش هتلاقي غير حزامي.
نظرة أخرى نارية نالها منها قبل أن تهتف منهية الحديث معه:
-ربنا يرحمها ويرحمنا... من اللي زيك.

توقف في مكانه ولم يتبعها، وقد أبصر زوجته تطل برأسها من النافذة، أراد إخفاء تأثره الواضح بها، فاستقام في وقفته، ونفخ صدره بالهواء، ليصيح بعدها بسخافةٍ:
-على مهلك وإنتي ماشية يا بنت عمي.. لأحسن الطريق وحش على اللي زيك.
ثم وضع يده على بطنه الجائع، ومسح عليه بحركة دائرية متكررة، لتنخفض بعدها نبرته هاتفًا لنفسه، بما يشبه الوعد، وتلك النظرة المفترسة تحتل حدقتاه:
-ما احنا مسيرنا هنتقابل ..

بتعسفٍ وقسوة رفضت السماح لها بالتواجد معها طوال فترة إعدادها للطعام؛ وكأنها تعلن لها بشكلٍ ملتوٍ أنها لا تجيد الطهي من الأساس، رغم براعتها في تجهيز المأكولات، والتي يشهد الجميع عليها بذلك. ظلت "همسة" باقية في الخارج على مسافة معقولة، تمكنها من رؤية حماتها، وهي تعبث بأدوات الطهي، مخرجة كافة ما رتبته في الأدراج، لتزيد من الفوضى الحادثة به، كتمت ضيقها مرغمة، حتى لا تمنحها الفرصة لإفســاد ما بينها وبين زوجها، فالأخير قد حذرها من لجوء والدته لتلك الأساليب المستفزة لينشب الشجار بينهما. لمسة حنون منه على جانب ذراعها أجبرتها على إبعاد نظراتها المزعوجة عنها، التفتت ناحية "هيثم" الذي سألها:
-هي لسه مخلصتش؟

نفخت وهي تجيبه بضيقٍ:
-معرفش، بس قالبة المطبخ كله، ومافيش حاجة مطلعتهاش، كأنها قاصدة ده.
غمغم بتبرمٍ، وهو يفرك مؤخرة عنقه:
-أنا عارف أمي، هتنكد علينا النهاردة.
التفتت في اتجاهه تشير له بسبابته منذرة إياه:
-يكون في معلومك أنا مش هانضف ده كله لوحدي، بجد حرام أوي، دي ما سبتس حاجة مطلعتهاش من دواليب المطبخ.
أمسك بيدها ليخفضها، وقال مبتسمًا:
-هابقى أغسل الأطباق والحلل معاكي، مرضية؟
أومأت برأسها في استحسانٍ قبل أن ترد باقتضابٍ:
-ماشي.

سألها "هيثم" مغيرًا حوارهما:
-أمك رجعت من البلد ولا لسه؟
أجابت عليه بعد تنهيدة شبه مهمومة:
-أيوه .. كلمتها قالتلي هي في البيت، بس صوتها مش عاجبني، شكل في حاجة كده حصلت.
علق عليها بنبرة عادية:
-تلاقيها تعبانة من مشوار السفر
هزت كتفيها قائلة:
-جايز.

سألها في فضولٍ:
-وأختك اتقرت فاتحتها؟
أجابته بقليلٍ من التردد:
-باين كده.. الصراحة معنديش تفاصيل.
رد غير مبالٍ بمعرفة الأمر:
-متستعجليش، هنعرف كل حاجة، يا خبر بفلوس..
ابتسمت وهي تتم القول الشعبي الدارج:
-بكرة يبقى ببلاش.
وضع يده على ظهرها ليدفعها برفقٍ للأمام، وهو يتابع:
-تعالي أما نشوف أمي بتعمل إيه جوا.
سارت معه متمتمة:
-أوكي.

ولج كلاهما لداخل المطبخ، حيث أحدثت "بثينة" فوضى عارمة، عن قصد، وسوء نية، انعكست علامات النفور والضيق على ملامح وجه "همسة"، ولم يستطع "هيثم" التعليق، فالمكان ينطق عن نفسه، تقدم نحو والدته الواقفة أمام الموقد، سألها في اهتمامٍ:
-إيه يامه؟
استدارت نحوه مرحبة به:
-تعالى يا حبيبي، أنا خلاص هحمر البط، وأقفل الفرن على صينية البطاطس، زمان وشها اتحمر..
مط فمه في إعجابٍ قبل أن يقول:
-بط مرة واحدة..

وكزته برفقٍ في جانب ذراعه، وهي تستكمل موضحة ما أعدته:
-لأ وحشيتهولك مَرتة من اللي بتحبها.
استنشق "هيثم" بعمقٍ رائحة الطعام الشهية التي عبقت المكان، وهز رأسه معقبًا عليها:
-ما هو باين من الريحة.
تساءلت "همسة" من خلفها، وهي تكبح غيظها المتنامي بداخلها:
-مش عايزة مساعدة يا طنط؟ أنا شاطرة في الطبيخ.
نظرت لها شزرًا، ثم أبعدت عينيها عنها، لترد بتهكمٍ:
-بأمارة إيه يا ادلعدي؟

أجابت عليها "همسة" بثقة، مستعيدة في مخيلتها العبارات المشيدة ببراعتها خلال فترة عملها بعربة الطعام:
-الناس كلها عارفة ده، وتقدري تسألي ماما.
علقت بنقمٍ سافر:
-من يشهد للعروسة غير أمها.
ورغم نبرة السخرية المحسوسة في صوتها، إلا أنها ردت بجأشٍ تُحسد عليه:
-تقدري تدوقي أكلي بنفسك وتحكمي.
على الفور احتجت باشمئزاز:
-لأ مش عايزة، وبصراحة كده أنا مضمنش تحطي لابني حاجة في الأكل.
بدت جملتها مليئة بالاتهامات الغامضة، ضاقت نظرات "همسة" نحوها، وسألتها بقلبٍ ينبض في توتر:
-حاجة؟

حيلة ماكرة رغبت في نشرها بين الزوجين للتفريق بينهما، لهذا ادعت عليها "بثينة" بأكاذيبٍ ملفقة، وهي تضع قناع البراءة على ملامحها:
-بص يا "هيثم"، أنا مردتش أقولك يا حبيبي، وأنا بأدور على التوابل، لاقيت علبة البرشام دي مستخبية وراهم..
ثم أظهرت من جيب صدرها علبة دوائية غريبة الشكل، دقق "هيثم" النظر فيها هاتفًا بدهشةٍ:
-برشام؟!

تابعت كذبها المرتب قائلة:
-أيوه، شكله مريحنيش، وصفته للصيدلي اللي بأتعامل معاه في التليفون، وقولتله على اسمه، فقالي إنه منشطات من إياها.
شهقت فاضحة خرجت من جوف "همسة" على كذبها البيَّن، بينما ردد "هيثم" مصدومًا:
-نعم منشطات؟!
حدجت "بثينة" زوجته بنظرات مقيتة، وأضافت بأسلوبها الحاقد:
-شوفت مراتك بتعمل إيه من وراك؟

نفت "همسة" كامل اتهاماتها بصوتٍ بدا مختنقًا بوضوح:
-والله ما حصل، دي أول مرة أشوف العلبة اللي في إيدك.
على الفور استغلت والدته كلماتها الأخيرة، وأعادت صياغتها بشكلٍ ملاوع لتتهمها من جديد:
-يعني أنا كدابة؟ بقى دي أخرتها، سامع مراتك بتشتمني إزاي؟
انفجرت "همسة" باكية من الظلم المجحف الواقع عليها، بينما استنكر زوجها ما تحاول والدته فعله قائلاً بتجهمٍ شديد:
-هي نطقت أصلاً؟

من بين بكائها الحارق، هتفت "همسة" بصوتها المتقطع:
-أنا عمري ما أعمل كده، صدقني يا "هيثم".
لم يكذبها للحظة، ودلل على ذلك بدعمها الصريح:
-مصدقك.
ثم استدار نحو والدته، ليختطف من يدها الدواء، وهو يقول بحدةٍ:
-هاتي العلبة دي يامه.

لم تتحمل "همسة" المزيد، وانصرفت راكضة من المطبخ لتنزوي بغرفة الأطفال مواصلة بكائها المرير، بينما صوت "بثينة" يرن في جنبات المكان عاليًا:
-بنات آخر زمن، والله أعلم بتهبب إيه تاني من ورانا.
تركزت أنظارها بعد ذلك على ابنها الذي انتزع قرصًا من شريط الدواء، ابتلعه بقليلٍ من الماء، وسط دهشة عارمة من والدته، برزت عيناها في صدمةٍ، وسألته:
-إنت بتعمل إيه يا واد؟

ابتسم بعبثية ليستفزها حين جاوبها:
-هاخد قرص أجرب مفعوله مع مراتي حبيبتي.
تبدلت تعابير الانتصار لغيظٍ كبير، وصرخت فيه وهو يبتعد:
-يا واد خد هنا، ماتبقاش دلدول!
تجاهل ألاعيبها المكشوفة لإفساد استقراره الأسري مع حبيبته، واتجه إلى زوجته الباكية، جلس إلى جوارها على طرف الفراش الصغير نسبيًا –بالمقارنة مع فراشهما المزدوج بالغرفة الأخرى- يربت على ظهرها، ويمسح عليه بنعومة، هون عليها حزنها قائلاً بلطفٍ:
-متزعليش نفسك يا "هموسة".

ردت عليه بنحيبٍ، وهي تنظر نحوه:
-مامتك بتفتري جامد أوي عليا، وأنا مقدرش أستحمل الظلم ده.
أحنى رأسه على جبينها ليقبله، ثم قال معتذرًا:
-حقك عليا، مسيرها تمشي، هي مش هتفضل هنا على طول.. وأنا هتكلم معاها عشان ترجع بيتها.
غمغمت دون تفكير:
-يا ريت.

شعر "هيثم" بتدفق الحرارة إلى جسده، مع تقاربهما الجسدي المشوق، فتنحنح متسائلاً بتسلية:
-هو الجو ماله بقى حر كده ليه؟
كفكفت زوجته عبراتها متسائلة في استغرابٍ طفيف:
-حر؟
أوضح لها بنزقٍ:
-مش معقول البرشام اشتغل بالسرعة دي! أنا مش "طرزان"!
تدلى فكها السفلي للحظة في صدمة استوعبتها بعد لحظاتٍ، برقت عيناها وهي تسأله بوجهٍ تخضب بمزيد من الحمرة الدافئة:
-إنت عملت إيه؟

مرر ذراعه حول خصرها ليحاوطها، وضغط بأصابعه على منحنياتها المثيرة، ثم غمز لها قائلاً بنبرة لعوب:
-شوفي إحنا نخلي أمي ملبوخة في البط، وخليني أنا هنا في العسل.

أهملت في متابعة تلك الفترة الأولية في حملها، وعرضت نفسها للكثير من المخاطر، والمجهودات البدنية والعصبية غير المحمودة، وكأنها لا تهتم، إلى أن قررت الذهاب لطبيبها، بمفردها، تاركة والدتها تمكث عند شقيقها، لتفسد هنائه، ومتوقعة أن يكون جنينها على ما يرام، خاصة في عدم وجود عوارض مقلقة؛ ولكن جاءت المفاجأة كالصاعقة المميتة، حين تفقدها الطبيب، وفحصها بدقة...،

أضاءت شاشة أجهزته الحديثة بمعطيات غير طيبة، مع انخفاضٍ كبير لمعدل نبض الجنين، والذي يناقض ما يفترض أن يكون عليه في تلك الفترة الزمنية. لم يعرف كيف يستهل حديثه معها، ومع هذا عليه أن يكون أمينًا مع مرضـاه، طلب من الممرضة مساعدتها على النهوض وارتداء ثيابها، انتظرها خلف مكتبه، مدونًا بعض الأشياء في ملفها، وتطلع إلى نتائج التحاليل المخيبة للآمال أيضًا، والتي تؤكد على صعوبة حالتها. جلست "خلود" قبالته، واضعة حقيبة يدها على حجرها، وسألته:
-معناه إيه إن نبض الجنين ضعيف؟ ده وحش يعني؟

رفع عينيه نحوها، وأجاب بهدوءٍ تام:
-للأسف أه.. واحتمال كبير الحمل ينزل.
انفرجت شفتاها عن صدمة مرعبة، أحست بتلك الخفقة القابضة تعتصر قلبها مع صراحته المطلقة، رفض عقلها التصديق، وهتفت مستنكرة:
-إنت بتقول إيه؟ فال الله ولا فالك يا شيخ .. أنا ابني زي الفل، قول كلام غير ده!
تفهم طبيعتها الغاضبة، وحافظ على ثبات نبرته الرزينة متابعًا توضيحه:
-يا مدام المشيمة عندك فيها مشاكل، أشعة الـ (4D) مبينة ده قصادي.. استحالة يكمل.
صرخت به بعدائية، ووجهها التهب على الأخير:
-الله أكبر عليك، إنت هتحسدني؟

ضاقت عيناه في اندهاشٍ، وردد مذهولاً:
-أحسدك؟
-أيوه، ابني مافيش فيه حاجة.
رفضت بشكل قطعي تصديق ما قاله، بل تعذر عليها تفسير مصطلحاته الطبية التي حاول بها توضيح طبيعة حالتها المرضية المهددة بإجهاضٍ وشيك. منحته تلك النظرة النارية، فأضاف على مهلٍ، متجاوزًا عن عصبيتها:
-الجنين عشان يتكون بيتغذى من الحبل السري، وبيكون ده متصل بالمشيمة، اللي بتمده بالدم، وبكل العناصر اللي محتاجها والأكسجين، و...
قاطعته بلوعةٍ:
-طيب شوف لي دوا أخده، وتتصلح البتاعة دي.

عقد حاجباه مكررًا في استغرابٍ:
-تتصلح!
قالت ببساطة شديدة:
-أيوه .. زي أي حاجة، مش إنت دكتور، ولا دي شهادة مضروبة؟
للمرة الثانية تهينه بشكلٍ فج، وحاول قدر المستطاع ألا تنفلت أعصابه، لذا تنفس ببطءٍ، وقال لها:
-حضرتك برضوه مش فهماني يا مدام، معدل نبض الجنين في الفترة دي أقل بكتير جدًا من اللي المفروض يكون عليه
سألته ببلاهة:
-يعني أخد إيه ويزوده؟

أدرك أنها حالة ميؤوس منها لتستوعب حقيقة إجهاضها، فلجأ لطريقة أخرى لإقناعها، واستطرد قائلاً:
-طب أنا هسألك شوية أسئلة، ممكن؟
تقوست شفتا "خلود" عن امتعاضٍ واضح، وردت على مضضٍ:
-اتفضل.
أخفض نظراته ليسجل إجاباتها دون تأخير، وهو يسألها:
-حضرتك وزوجك أقارب؟
أجاب دون تفكيرٍ مطول:
-أيوه ولاد خالة، من دم بعض.
زم شفتيه قليلاً، ثم تسأل بحذرٍ:
-تمام.. طيب في الفترة الأخيرة حصل بينكم تواصل جسدي، علاقة يعني؟ غير المرة اللي جيتلي فيها وعندك نزيف!
قطبت جبينها نافية:
-لأ.

تابع تساؤلاته المحققة في حالتها:
-لما الممرضة قاست ضغطك، القراءة كانت عالية في الجهاز، زي كل مرة، حضرتك بتعاني من الضغط؟
هتفت باستنكارٍ:
-هو إنت عاوز ضغطي مايعلاش من الهم والقرف اللي بأسمعه
-حصلك نزيف تاني؟ بقع دم؟
شردت للحظة متذكرة تلك القطرات التي لطخت ثيابها الداخلية، وتكررت بشكلٍ دوري على مدار الأيام الماضية، تجاهلتها معتقدة أنه شيء طبيعي، أن يلفظ جسدها بقعًا من الدم الداكن. استراب الطبيب من صمتها الطويل، وأعاد سؤالها:
-يا مدام حصلك نزيف تاني؟

ادعت كذبًا لتضلله:
-هو مش نزيف أوي، دي كانت مرة ولا اتنين، كنت مجهدة وكده.
بات كذبها مفضوحًا، مع محاصرتها بالمزيد من الأسئلة الطبية الدقيقة التي تكشف عن عوارض الإجهاض، وما إن فرغ من أسئلته المستفيضة معها حتى قال بصراحةٍ، وبناءً على الاستنتاجات المؤكدة التي جمعها عن حالتها:
-طيب يا مدام، حضرتك لازم تكوني مستعدة لأي طارئ الأيام الجاية، لأن في احتمالية كبيرة إن الجنين يموت في بطنك.
صرخت بوجهه وهي تضرب بيدها على سطح مكتبه:
-إنت الظاهر عليك ما بتفهمش، عايز تموت ابني، وهو لسه عايش.

ابتلع إهانتها بأعصابٍ مشدودة، ثم تنفس ببطءٍ، ليتابع بعدها:
-حضرتك تقدري تروحي لأي دكتور تاني أحسن مني، وأنا متأكد إنه هايقولك نفس الكلام.
هبت واقفة ترمقه بتلك النظرة الناقمة، ثم دفعت بيدها محتويات سطح مكتبه في عصبيةٍ، لتتناثر على الأرضية، وتسبب الفوضى، صرخت داعيه عليه بسخطٍ كبير:
-منكم لله يا ظلمة، ربنا يهدكم.. إنت ولا تفهم حاجة في الطب.
تدخلت الممرضة لتساعد في إبعادها عن مكتبه، نجحت في إخراجها منه، ولم تتوقف "خلود" عن نعته بألفاظٍ شبه نابية تعبر عن سخطٍ عظيم وسط ذهول الجالسين بالخارج.

لم يجد مكانًا يصلح لركن سيارته، سوى تلك البقعة القريبة من إشارة المرور، والمحاذية في نفس التوقيت للشارع المؤدي لطريق الكورنيش. أوقفها "تميم" تاركًا إشارة الانتظار مضيئة، وألقى نظرة عابرة على السائرون من حوله قبل أن يلتقط هاتفه المحمول، وضعه على أذنه، بعد عبثه برقم أحدهم، مترقبًا رده، وما إن سمع صوته حتى بادر بسؤاله:
-إنت فين يا عم "ناجي"؟
جاءت نبرته لاهثة وهو يرد:
-دقيقة وهاكون عندك، إنت فين بالظبط
جاوبه بزفيرٍ متعب:
-قبل الإشارة بشوية..
عقب بلهاثٍ:
-تمام، أنا جايلك.

غــاص "تميم" في مقعد سيارته، وأراح رأسه للخلف، مغمضًا عينيه للحظاتٍ، لم ينكر أن التهائه المتعمد بالعمل الزائد لم يفلح في إيقاف عقله عن التفكير فيها، ما زالت تستحوذ حتى على أصغر فراغات عقله، وتجبره بشتى الطرق على الاستغراق في التفكير مجددًا فيها، ورغمًا عنه –بعد كلام خالها الأخير معه- تخيلها ترتدي خاتم الخطبة، وابتسامة ساحرة سعيدة تظهر على شفتيها، أحس بكآبة تثقل صدره..،

فنفض المشهد الوهمي عن مخيلته، لكن ما لبث أن لاح على زاوية فمه ما يشبه البسمة الساخرة، كانت "فيروزة" نادرًا ما تبتسم له، معه دومًا متجهمة، عاقدة لحاجبيها، مقتضبة الجبين، ومع هذا كان تأثيرها جليًا عليه! بيأس انتزع نفسه من شروده الحزين، لا جدوى من التفكير فيها الآن، أصبحت رسميًا لغيره، ولمن لا يستحقها أبدًا، وهذا ما وخز قلبه بشدة، من ينالها عليه أن يكون الأفضل في كافة النواحي، يميل للكمــال.

فتح "تميم" عينيه ليتفاجأ بطيفها متجسدًا عبر زجاج سيارته الأمامي، للحظة توهم أن ذلك من وحي عقله المرهق؛ لكنها كانت بشحمها ولحمها، تقف تقريبًا على بضعة خطواتٍ من سيارته، تركز كامل انتباهها على الطريق لتعبره، انقطعت أنفاسه؛ وكأنها سرقتها منه. قفزات متحمسة أصابت قلبه، فأحس به ينتفض بقوةٍ بين ضلوعه، تصلب في جلسته، وحملق فيها بفمٍ مفتوح، لم يدرك أنه يبتسم لمجرد رؤيتها..،

تأملها محاولاً التطلع لتفاصيل وجهها من زاويته، تعذر عليه هذا، المثير في الأمر أن حواسه تحفزت بشكلٍ رائع، قضى على ما يشعر به من إحباطٍ ويأس، ومع هذا تبددت سعادته المؤقتة مع استعدادها للانتقال للجانب الآخر معتقدًا أنها ستلتقي بزوج المستقبل. حل الوجوم التعيس على خلجاته، وتهدل كتفاه باستياءٍ ناقم، قضى على رجفة مزعجة تسربت إليه حين اقتحم "ناجي" سيارته ليسأله:
-اتأخرت عليك يا ريس؟

أجاب بتعابير مكفهرة للغاية:
-لأ.
نظر إليه في استغرابٍ، وسأله:
-مالك يا "تميم"؟ في حاجة حصلت؟
سحب الأخير نفسًا عميق يخمد به ما انتفض في صدره من طقطقات الغيرة ليرد:
-مافيش
أشــار له بيده لينطلق:
-هنطلع على الوكالة ولا رايحين فين؟

تعلقت نظرات غير طائعة، من عينيه القاتمتين، نحو بقايا أثرها المتسرب في زحام الطريق، قبل أن يدير المقود، ويندفع مبتعدًا عما يؤلم قلبه، ليقضي ببطءٍ، وبلا رحمة، على مشاعره النابضة لأجلها...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة