قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والعشرون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والعشرون

ومضــات خاطفة غزت لحظتها الشاردة، حين توقفت لبرهة على قارعة الطريق، منتظرة هدوء حركة السيارات، لتعبر للجهة الأخرى، استعادت لقطات من حديثها المحتدم مع والدتها، موجة الغضب الحارقة التي اجتاحتها منذ تلك اللحظة المشؤومة لا يمكن أن تُمحى آثارها القاسية بسهولة..،

هي فقط حاولت الخروج من ذاك المكان الملعون بأقل الخسائر الممكنة، خاصة مع لقائها المنفر بابن عمها، فلا يعرقل ذهابها بتسلطه المقيت، وما إن عادت إلى منزلها –القابع بنفس البلدة- بصحبة والدتها فقط حتى ثارت ثائرتها، وتقاذفت حمم غضبها في كل مكان، التفتت ناظرة إلى أمها تلومها:
-إنتي اللي عملتي فيا كده مش أنا!

ردت "آمنة" متسائلة بوجهها العابس:
-أنا يا "فيروزة"؟
أكدت عليها ابنتها، بكل ما يعتريها من حنق:
-أيوه، لو كنتي خدتي موقف من الكلام اللي اتقال في حقي، مكانش حد اتجرأ ولمسني..
جاهدت لتخنق تلك الغصة التي احتل نبرتها، وقالت بمرارةٍ، وانكسار تكاد تراه في عينيها:
-عارفة يعني إيه يكشفوا سترك؟ يجردوكي من كل حاجة عشان بس نفوسهم المريضة صدقت كدبة مالهاش أساس..

أطرقت والدتها رأسها، ولم تعقب، فأكملت "فيروزة" حوارها أحادي الجانب، مفرغة تلك الشحنة الجاثمة على أنفاسها فيها:
-جايز معملتيش حاجة معاهم، بس سكوتك واستسلامك خلاني في نظرهم كده، مذنبة من غير دليل، خاطية وأنا معملتش حاجة خالص.
انتحبت والدتها وهي تعقب عليها:
-خلاص بقى ذنبي دلوقتي؟

نظرت ابنتها في عيني والدتها بنظراتها الجريحة، ثم تابعت بألمٍ شديد:
-أنا اتكسرت من جوايا يا ماما، مع إني مظلومة، في حاجة اتهزت فيا، مابقتش زي الأول، حتى لو اللي اتعمل ده فيا إنتو شايفينه عادي!
ربتت "آمنة" على كتفها بحنوٍ، وهونت عليها عذابها قائلة لها:
-متقوليش كده، اللي حصلك مش سهل عليا برضوه.

رغم بكائها الصادق، إلا أنها لم تشعر بتعاطفها الحقيقي معها، أفسدت سلبيتها المميتة رباط الثقة بينهما. بلعت "فيروزة" ذاك العلقم المرير في حلقها، وتنهدت متابعة بأنفاسها المنفعلة:
-شوفتي نظرات "حمدية" ليا، مع إنها عارفاني كويس، بس كانت أول واحدة لفت حبل المشنقة حوالين رقبتي.
علقت عليها بنواحٍ:
-والله أنا حاولت أتكلم مع عمك، جايز مايسمحش ده يحصلك وآ...
قاطعتها "فيروزة" بحزنٍ جلي، وحسرة مقروءة في نظراتها:
-عمي.. يا خسارة عليه!
زاد اختناق صوتها مع قولها:
-النهاردة اتأكدت إن السند راح من زمان!

حاولت أن تكبح عبراتها لتبدو متماسكة، لكنها فشلت، فالأمر يفوق قدرة أي إنسان طبيعي على الاحتمال، كفكفت دموعها الحارقة، واستأنفت معبرة عن قسوة أقاربها:
-وعمي وقت الجد خد صف ابنه، ونسى إني متربية تربية أصيلة، ما عملش العيبة ولا فيها موتي!
احتضنتها والدتها، ومسحت على ظهرها معتذرة منها:
-حقك عليا يا بنتي.

انسلت من أحضانها متسائلة في قهرٍ:
-هترجع الكلمة دي إيه ولا إيه؟!
تنفست "فيروزة" بعمقٍ لبضعة مرات حتى تقتل ضعفها الذي طغى على السطح، وقالت بحزم، وبقساوة كست نظراتها:
-بالنسبالي كل حاجة ربطتني في يوم بالبلد دي انتهت!
تساءلت أمها في حيرة:
-يعني إيه؟

قالت حاسمة أمرها نهائيًا، كمن يقرر، لا من يُخير:
-أنا مش هارجع هنا تاني يا ماما .. حتى لو مت!
عند تلك الكلمات الختامية استفاقت "فيروزة" من سرحانها المفطر للقلوب على صوت البوق المزعج لإحدى السيارات، انطلقت عابرة للجهة الأخرى، مانعة نفسها من ذرف أي عبرات، كانت كراهيتها لما مرت به خلال الفترة الأخيرة قد وصلت لمنتهاها، ليبقى ضعفها مخبئًا بداخلها، غير مسموح لأحدٍ، برؤية الهزيمة التي نالت من روحها وسحقتها.

كان لسيرها المرهق الأثر المحمود في تخفيف وطــأة معاناتها، دارت لوقت طويل في الشوارع، آملة أن تفرغ شحنتها المكبوتة في صدرها، تمكن التعب من قدميها، فاتجهت أخيرًا إلى محل رفيقتها؛ وكانت آخر من تحبذ اللقاء بها في تلك الظروف، استقبلتها "علا" بتلهفٍ متحمس، ما إن رأتها حتى قفزت عن مكتبها، واتجهت إليها لتحتضنها مستهلة حديثها المرح معها بتهنئة حــارة:
-نقول مبروك بقى؟!

ضاقت نظراتها الملتهبتين نحوها باستهجانٍ بائن، وسألتها بما يشبه الاتهام:
-يعني كنتي عارفة؟
بتلقائيةٍ أجابتها رفيقتها:
-أكيد.. "آسر" ليه مكانة مميزة عندي وآ...
قاطعتها "فيروزة" متسائلة بنوعٍ من الهجوم:
-ومحذرتنيش؟ أو حتى عرفتيني باللي ناوي يعمله؟

تطلعت إليها في استغرابٍ، لم تبدُ سعيدة بتاتًا، مظاهر الفرحة الطبيعة كانت معدومة من على ملامحها الواجمة، لم تبعد عينيها المتفرستان في وجهها، وقالت مبررة تصرفها، بدهشةٍ غلفت نبرتها:
-هو معملش حاجة غريبة، طلبك للجواز من أهلك، كأي حد عايز يرتبط ببنت بشكل رسمي.
احتقنت عينا صديقتها، وبدت وكأنها تقاتل شيء ما بداخلها، بينما أكملت "علا" ببساطة شديدة؛ وكأنها لم تفعل ذلك حقًا:
-ولو إنتي مش راضية أرفضيه عادي.

هنا صرخت بها "فيروزة" بصوتٍ متهدج:
-"علا" بسببه أنا اتأذيت!
وضعت رفيقتها يدها على فمها، كبتت شهقة تنازع للخروج من بين شفتيها، وقد كانت في حالة صدمة، أخفضت يدها لتسألها في قلقٍ:
-إزاي؟ هو عملك حاجة؟
ندمت الأخيرة لاندفاع لسانها الأخرق، في البوح بما لا يفترض قوله، فصححت بحزنٍ ملموس بقوة في تعبيراتها الذابلة:
-لأ مش هو.
ألحت عليها متسائلة في فضولٍ شديد:
-أومال؟

تجنبت منحها الإجابة الحقيقية بنوعٍ من المراوغة:
-حاجة مش مهمة، بس كان لازم على الأقل تعرفيني يا "علا"، إنتي صاحبتي.
شعرت رفيقتها بغرابة تصرفاتها، بوجود ما تخفيه عنها، وردت في توجسٍ:
-"فيروزة" أنا متوقعتش إنك تزعلي كده خالص، افتكرت هتفرحي بجو الخطوبة والحب والرومانسية، الحاجات اللي أي بنت بتحلم بيها.

نظرت لها بعينين فارغتين، خالية من المشاعر تقريبًا، يغطيهما الحزن والهم، حاولت "علا" الابتسام، وأضافت بنعومةٍ، عل رفيقتها ترى الجانب الدافئ في شخصيته، مثلما تراه هي:
-وعلى فكرة "آسر" بيحبك أوي، تقريبًا مش شايف غيرك، عايزة إيه تاني غير كده؟
اعترفت دون ندمٍ:
-وأنا مش بأحبه!

ورغم كون ردها الصريح قد أراح "علا"، إلا أنها احتفظت بسعادتها في الخفاء، استمعت إلى رفيقتها وهي تواصل قولها:
-ومش عايزة جواز صالونات، ولا حد يجبرني على حاجة مش عايزاها.
تصنعت البراءة، وسألتها لتتأكد من فتور مشاعرها نحو "آسر":
-أنا بجد مش فهماكي، حد يجيله عريس لُقطة زي ده، ويرفضه.
أجابت بلا شكٍ:
-لُقطة بالنسبة لغيري؛ لكن مش أنا.
انفلتت تنهيدة حالمة من بين شفتي "علا"، تبعها نظرات ساهمة، وهي تردد في جنبات نفسها برجاءٍ عظيم:
-يا ريتني كنت مكانك!

امتزجت حرارة الجو، مع الرطوبة العالية، والتي غطت معظم رصيف الميناء، بشكلٍ غريب، لتمنح المتواجدين إحساسًا كبيرًا بارتفاع درجات الحرارة عن المعتاد، أصبح الطقس خانقًا بشكل غير اعتيادي، خاصة والمكان يعج بزحامٍ شديد، بسبب تكثيف الإجراءات الأمنية لتفتيش كافة البضائع الواردة والصادرة. أظهر "تميم" تصريحه المروري ليلج للداخل بسيارته، بينما تساءل "ناجي" في تذمرٍ:
-مش شغل الميناء والفواتير بتاع "هيثم"؟ مالنا احنا ومال القرف ده كله؟

قال ببسمة باهتة مرتكزة على زاوية فمه:
-عريس يا سيدي.. والفواتير دي لازم ناخدها قبل ما نسلم التوريد الجديد.
علق ساخرًا من مكوثه الطويل بالمنزل:
-هو هياخد الشهر كله وإلا إيه؟ ده كل الرجالة بتطفش من تاني يوم!
رد عليه "تميم" ممازحًا:
-سيبه كام يوم، بكرة النكد يلبس فيه.
تجرأ صديقه ليسأله بوقاحة طفيفة، وذلك الفضول يبرز في نظراته نحوه:
-صحيح الناس بتقول إن الجماعة بتوعك أعدين معاك في بيت العيلة، هو إنتو رجعتوا لبعض ولا إيه؟

انعطف "تميم" بسيارته نحو الموقف المخصص لركن السيارات بداخل الميناء، رمقه بنظرة محذرة قبل أن يوبخه بخشونةٍ:
-ومن امتى أنا بأتكلم يا "ناجي" في حاجات تخص أهل بيتي مع حد؟
برر له على الفور:
-أنا يا سيدي عاوز أباركلك لو رجعتوا لبعض، وبعدين ده الناس اللي بتقول، إكمن شايفين الجماعة عندكم ليل نهار.
زجره بحدةٍ، وتلك الشراسة المقلقة تغزو حدقتاه:
-خلينا في شغلنا اللي جايين عشانه أحسن.
لعق شفتيه، ورد دون تفكير:
-اللي يريحك.

في تلك الأثناء، وعلى مسافة غير بعيدة منهما، كان "محرز" يجري مكالمة هاتفية مع أحدهم، لإطلاعه بآخر مستجدات إنهاء إجراءات تخليص الحاوية التي تحوي ثمار التفاح المستوردة، أنهاها واستدار ببطءٍ ليتفاجأ بتواجد الاثنين في الميناء؛ وكأن مسألة حضوره إلى هنا مستبعدة عن ذهنه، بهتت ملامحه، وأصابته لوسة موترة، كان كمن تعرض للصعق كهربيًا، فهتف بصوتٍ خفيض:
-يادي المصيبة، إيه اللي جابه هنا؟!

بحث سريعًا بعينيه عن حاجز ما ليتوارى خلفه، قبل أن يلمحه شقيق زوجته، مرددًا لنفسه:
-ده كده الحكاية كلها تتكشف لو عرف إني هنا!
وجد ضالته المنشودة، سيارة نقل كبيرة، اختبئ عند مقدمتها، مانحًا عينيه زاوية رؤية جيدة، وضع الهاتف على أذنه ليهاتف نفس الشخص الذي حادثه قبل قليل، وردد بصوتٍ مضطرب:
-بأقولك إيه يا أستاذنا، أخو مراتي هنا، كده مش هاعرف أتحرك براحتي..

جاء صوت "آسر" من الطرف الآخر ناطقًا بذهول:
-"تميم"؟ وده إيه اللي جابه؟ إنت مش قايلي إنه مالوش في شغل المينا؟
رد في حيرةٍ:
-معرفش، أنا زيي زيك اتفاجئت بيه هنا.. ها أأجل الحكاية ولا أعمل إيه؟
أجابه معترضًا:
-لأ استنى
هتف متسائلاً:
-لحد امتى؟
جاوبه بهدوءٍ عاد ليسيطر على نبرته:
-شوية، جايز يكون جاي في حاجة في السريع وماشي.

على مضض عقب عليه:
-طيب.
سأله "آسر" في اهتمامٍ:
-والأمانة فين؟
بابتسامة واثقة، لا تنم عن كونها المرة الأولى أبدًا، أجاب:
-في الحفظ والصون، مستني راجلي يعدي عليا ياخدها.
حذره بلهجةٍ شديدة:
-حاول ماتظهرش قصاد "تميم"، مش عايزين حد يشك فيك..

خطر لـ "محرز" خاطر سريع، ذكره بليلة عرس "هيثم"، حين تفاجأ برؤية "آسر" في حفل الزفــاف، كان أمرًا صادمًا تواجده في المكان، ومع هذا عمد إلى التعامل معه كشخص غريب، لم يسبق له رؤيته أبدًا، والأخير تصرف بنفس الأسلوب؛ وكأن تعاملاتهما لا تمتد لسنواتٍ سابقة.. نفض ما يشوش صفاء تفكيره حاليًا، ليرد بزفيرٍ ممتعض:
-حاضر يا سي الأستاذ.

لم يمضِ الكثير من الوقت على تواجده بالميناء، فمجرد حصول "تميم" على الأوراق المطلوبة انصرف من هناك، ليستعيد "محرز" ضبط نفسه، ويخرج للعلن بعد أن كان يختبئ كالجرذان .. اتجه نحو المخرج، حيث ينتظره أحد أتباعه المخلصين، ممن يقومون بالتهريب مقابل ربح مادي سريع، لوح له الأخير بيده مرحبًا بهتافٍ مادح:
-عمي وعم الناس كلها..

لوى "محرز" ثغره مرددًا بسخطٍ طفيف:
-فين أراضيك يا "حاتم"؟ أنا افتكرتك بطلت الشغالة، ومابقتش محتاج!
هتف نافيًا:
-حد يرفس النعمة بردك يا ريسنا؟ بس كان عندي شوية مشاكل كده ولبخ
سأله بنظرات قاسية:
-حاجة ليها علاقة بشغلنا؟
نفى "حاتم" على الفور:
-لأ خالص، احنا في السليم.
تأبط "محرز" ذراعه، وجذبه بعيدًا نحو زاوية خالية من البشر، ثم أخفض صوته ليقول له:
-طيب عاوزك في تهريبة خفيفة، بس يا تطلعك لفوق، يا تجيبك أرض.

ابتسم وهو يقول دون تفكيرٍ:
-معاك يا ريس.
شدد عليه بلهجةٍ لا تمزح:
-خد بالك، دي حاجة مهمة أوي، ولو نفع تجيب المدام معاك يبقى زي الفل، منها تزغلل عين بتوع الجمارك، ومنها لو اتقفشت ماتروحش في تُوكر، إنت بتاعنا وراجلنا.
صمت للحظة في ترددٍ، قبل أن يستجمع جأشه ليعترف له:
-مش هاينفع أجيب الجماعة معايا!

ضغطت أصابع "محرز" على ذراعه، وقست نظراته متسائلاً
-ليه؟ هي كانت أول مرة؟ ده إنت في جيتها بدل الطاق طاقين، يعني مافيش حاجة بتروح عليك
قال موضحًا بنزقٍ:
-أنا طلقت "نيرمين" من فترة، وبصراحة كده كانت وش بومة، جايبة لأمي الفقر!
بدت علامات الحيرة والانزعاج ظاهرة على وجه "محرز"، والذي أردف قائلاً في استنكارٍ:
-يا شيخ، دي كانت نفعانا في حاجات كتير.
لم يكن مكترثًا بضيقه، وأضاف مقتضبًا:
-اللي حصل بقى.

فرك "محرز" طرف ذقنه، وقد بدا كمن يفكر في عمقٍ:
-الليلة دي محتاجة حريم عشان نعرف نعديها.
رد عليه مقترحًا:
-أنا هاتصرف، هأجر واحدة من غير ما نديها تفاصيل.
سأله بنبرة مهتمة:
-عندك اللي يعمل كده؟
أجاب مؤكدًا:
-أيوه، الواد "ناصر" صاحبي عارف نسوان بعدد شعر راسه.

شدد "محرز" من قبضته عليه، ليحذره مجددًا، من مغبة التصرف برعونة، في هذا الوضع الحرج:
-احنا مش هنوسع الدايرة يا "حاتم"، الحكاية مش ناقصة شوشرة، ده احنا عمالين نقول يا حيطة دارينا، كده هتفتح العين علينا، وباليزيد.
أوضح له معللاً:
-أنا مش هاقوله حاجة، هافهمه إنها عملية تهريب هدوم عادية، زي ما بيحصل كل مرة، ويشوف واحدة كده من إياهم تساعدني، إكمن الشغل كتير، هلاوعه!

استغرق "محرز" لدقيقة في تفكيره، يدير الأمر في رأسه، قبل أن يمنحه رده النهائي:
-استنى ماتعملش حاجة غير لما أشور على كبيرنا
تساءل "حاتم" بقلقٍ، وقد بدا في حاجة ماسة للمال:
-هو ممكن يعترض؟
رد عليه بوجه يكسوه الجدية:
-أه طبعًا، ده كل خطوة بنعملها في شغلتنا دي محسوبة بالورقة والقلم.

دقــات ثابتة على باب المنزل، حثت الصغيرة –ذات الجديلتين، والأعوام الخمسة- على التحرك نحوه لفتحه، ارتسم على شفتيها ابتسامة طفولية فرحة لرؤية والدها الغائب، فردت ذراعيها تدعوه للإقبال عليها واحتضانها. ترك "خليل" ما في يده من أكياس ممتلئة بالطعام والفواكه على الأرضية، لينحني حاملاً إياها، بعد غلقه للباب، ضمها إليها هاتفًا بحنوٍ، رغم اللهاث المصاحب لصوته:
-حبيبة بابا.

سألته الصغيرة بعتابٍ:
-اتأخرت ليه؟
أجاب "خليل" مبتسمًا:
-كان عندي شغل أد كده.
عبست الطفلة، وقالت ببراءتها غير الملوثة:
-أنا بأزعل لما بتسافر.
رد عليها بحنوٍ كبير، وهو يمسح على صدغها بكفه:
-معلش يا حبيبتي، ده عشان أجيبلك لعب حلوة.

ظهر أمامه امرأة عشرينية، حسنة الوجه، قمحية البشرة، تلتصق ثيابها المنزلية ببدنها بشكلٍ مغر، انفرجت شفتا "خليل" عن رغبة جائعة، خاصة مع دلالها الأنثوي وهي ترحب به:
-حمدلله على السلامة يا "خليل".
تقدم نحوها، والتف ذراعه الآخر حول كتفيها ليضمها إليه، وليشعر بمنحنياتها الجذابة على جسده، تنهد قائلاً لها بلوعة الاشتياق:
-وحشتيني يا "سماح".

لكزت كتفه برفقٍ، وتغنجت بجسدها معاتبة إياه في عبوسٍ رقيق:
-كده بردك ماتتصلش بينا الفترة اللي فاتت يا سي "خليل"؟
رد معللاً سبب غيابه:
-ما إنتي عارفة "حمدية"، كانت فوق دماغي.. مش مخلياني أشم نفسي حتى.
تأففت كمن تذوق شيئًا لاذع المذاق، لتقول بعدها بنفورٍ، وهي تضع يدها على صدرها:
-أعوذو بالله منها، لما تيجي سيرتها قلبي بيتقبض.

قال مؤيدًا بسخطٍ كبير:
-بومة طول عمرها، ربنا ياخدها ويريحني، وبعدين أنا جاي أقعد معاكي إنتي كام يوم.
تمايلت "سماح" بجسدها بدلالٍ أكبر، وهي تحمل الطفلة عنه، لتسأله بعدها:
-صحيح، إنت سيبتها في البلد لوحدها؟
أجاب نافيًا بصوتٍ مرهق:
-لأ، مع العيال، وبعدين هيجرالها إيه يعني؟

ردت بتوجسٍ:
-لأحسن تشك فيك، سفرك بقى كتير وكده.
انتزع ساعة يده، وأزاح سترته المتعرقة عنه، ليرد بغير مبالاة، وهو يلقي بثقل جسده على الأريكة العريضة:
-أنا قولتلها مأمورية طارئة، زي كل مرة.. تصدق ما تصدقش تتفلق، أنا هربان من مشاكل الدنيا كلها عشان أجيلك يومين أروق دماغي.
هتفت بتدللٍ:
-أحلى دلع هتشوفه معايا، ده أنا مراتك حبيبتك..

ثم تحولت نبرتها لقليلٍ من الجدية، حين سألته:
-إنت كنت قايلي قبل ما تسافر إن في خطوبة بنت أختك، عملتوا الخطوبة؟
أخبرها بعد زفيرٍ بطيء، صرف معه إنهاكه:
-لأ .. لسه.
جلست الطفلة في حجره، وأحاطت بجسد والدها، بينما تساءلت "سماح" بفضولٍ:
-ليه؟

راوغها "خليل" في الرد، وقال:
-بعدين بقى، أنا دماغي أد كده من الطريق.
اعتذرت منه بابتسامةٍ، كانت لعوب إلى حد ما:
-دلوقتي أنسيك التعب وهدة الحيل.
اتسعت ابتسامته العابثة، وقال لها مستخدمًا يده في الإشارة:
-هتلاقي في الشنط اللي هناك دي كباب وكفتة، أنا جايبهم عشان ناكل ونروق على نفسنا.

سال لعابها مع إحضاره لذاك الطعام الشهي، وارتفع زئير بطنها الجائع، لتصيح في حبورٍ:
-الله .. وأنا هاجهز السفرة على طول.
أمرها بما يشبه الرجاء:
-أوام يا "مووحة"، لأحسن أنا واقع من الجوع.
ردت عليه بلؤم ممتزج بالخجل:
-ما أنا زيك، محطتش الزاد في بؤي من ساعة ما اتصلت عليا وقولتلي أنا جاي، هو أنا يجيلي نفسك أكل ولا أشرب من غيرك؟

هتف في انتشاءٍ:
-أصيلة يا ست البنات.
أحنت "سماح" جسدها للأمام لتجمع الأكياس التي أحضرها، بطريقة شبه مغرية، متعمدة أن تبدو مقوماتها في مرمى بصره، ليظهر تأثيرها عليه، وسألته، دون أن تعتدل في وقفتها:
-صحيح عملت إيه في تأشيرة أخويا؟
أجابها على الفور، ونظراته لم تفارق منحنيات جسدها:
-كلمت الراجل معرفتي وهيخلصهالي قريب، متقلقيش.

اعتدلت ببطءٍ في وقفتها، وردت تشكره في امتنانٍ
-ماتحرمش منك يا غالي.. مسافة ما تغسل إيدك هتلاقي الأكل محطوط على التربيذة.
هز رأسه مرددًا بابتسامة متحمسة، ويداه تلاطفان طفلته الصغيرة الجالسة في أحضانه:
-ماشي يا عسل.

صعدت إلى سطح المنزل، في ذلك الوقت المتأخر من الليل، وقفت عند حافته، عاقدة لساعديها معًا أمام صدرها، تتأمل بعينين متعبتين الأمواج المتلاطمة وهي تتكسر على الشاطئ، كانت روحها مثلها، تتكسر مع القساوة التي تختبرها من آن لآخر، وكلما حاولت لملمة شتاتها المبعثر، يظهر ما يحطمها من جديد، لم تختر أن تكون الضلع المنوط بتحمل عبء المسئولية كاملة؛ لكن فرض عليها رعاية أسرتها، في ظل طبيعة شخصية والدتها المسالمة، ومع رهافة مشاعر توأمتها، ووجود خالها الطامع وزوجته الحقود، وعائلة تسكن بعيدًا عنها، لا تلتقي بهم إلا في المناسبات السارة.

أطالت "فيروزة" النظر في السواد الحالك على مرمى البصر، وهي تسمح لحزنها بالطفو بعيدًا عن الشامتين، بكت في صمت، نحيبها الخافت اختلطت مع أصوات المياه العالية، لم ترغب في مشاركة أحدهم ضعفها، لم تفعل ذلك من قبل، ولن تفعله الآن. انتفضت بقوةٍ مع رنين هاتفها الموضوع في قبضة يدها، لم تعتد على اهتزازه في مثل تلك الساعة، حدقت في الشاشة بالرقم الغريب الذي احتلها، تجاهلت الرد عليه؛ لكنه أصر على المواصلة، فاض بها الكيل، وأجابت بحدةٍ:
-ألو.. أيوه..

صوتًا رجوليًا عميقًا رحب بها بلطفٍ:
-مساء الورد يا "فيروزة".
تحفزت في وقفتها، وتقلصت تعبيراتها متسائلة:
-إنت مين؟ وعرفت اسمي إزاي؟
في خضم ما عايشته قبل لحظات لم تتبين من الوهلة الأولى صوته الناعم المألوف؛ ولكنه أجاب بهدوء، حتى لا يُطيل حيرتها:
-أنا "آسر".

ذكر اسمه كان كفيلاً باتقاد النيران فيها، لم تبادله الترحيب أبدًا، بل تسابق في عقلها الذكريات المؤلمة التي ارتبطت به، وهتفت تهاجمه بضراوة، دون أن تعطيه الفرصة لقول نصف كلمة على الأقل:
-إنت جبت رقمي منين؟ ومين سمحلك تكلمني أصلاً؟ أنا مافيش بيني وبينك حاجة، ومش موافقة أتجوزك، يا ريت تكون فهمت.
لحظة من الصمت حلت عليه، حاول أن يستوعب فيه ما اعترفت به توًا، قبل أن يرجوها:
-طب ممكن تسمعيني؟

صاحت بعصبية لافظة أي محاولة للتودد لها بمعسول الكلام:
-ده اللي عندي، ويا ريت ماتتصلش تاني، لأني هاعمل بلوك لرقمك، ولأي رقم تفكر تتطلبني منه.
ثم قطعت الاتصــال فجــأة، وصدرها ينهج بقوة، كافة الانفعالات الثائرة التي لطالما قاومتها، اندفعت ككتلة حارقة في تلك اللحظة تحديدًا، لم تهدأ ثروتها إلا بطرده من حياتها، وإن لم يرتكب شيئًا سيئًا في حقها؛ لكن وجوده اقترن بشرور لم تتعافَ منها بعد.

بضعة أيامٍ أخرى انقضت عليها، في منزل خالتها، وهي تعافر آلام رحمها الصارخة، بدأت علامات الإجهاض تظهر عليها، من تقلصات موجعة تضرب أسفل بطنها؛ وكأنه يلفظ بشراسةٍ ما احتواه في الأسابيع الماضية، مع نزيف متزايد جراء اتساع عنق الرحم، ورغم هذا رفضت تصديق حدوثه، وأنكرت ما أخبرها به الطبيب عن تدهور حملها، واحتمالية خسارتها لجنينها، قاومت التقلصات الموجعة، واستعانت بالدواء المسكن لتكتم أنين جسدها المستنجد، تشبثت بقوةٍ، بالأمل الأخير الباقي لها، لاستعادة طليقها.

اتجهت "خلود" للشرفة لتستنشق الهواء، أو الأحرى أن يُقال أنها تحاول عدم لفت الأنظار إليها، فقد ظهر عليها الإعياء، مع التعرق الغزير، وارتفاع درجة حرارة جسدها، استندت براحتيها على حافة الشرفة، لم تركز في أوجه المارة، كانت تعتصر عقلها محاولة البحث عن حل بديل لمأساتها، الأكيد ستدعمها والدتها وخالتها، موقف شقيقها على الحياد؛ لكن ماذا عن الجد وابنه؟ كلاهما عقبتان بارزتان في طريق إكمال سعيها، زفرت في سأم، وقالت لنفسها:
-لازم يبقى ليها حل.

تجمدت عيناها على وجه لم تحبه يومًا، حيث رأت "فيروزة" تسير متأبطة ذراع والدتها عند ناصية الشارع، تجمعت كراهية العالم بأسره في مقلتيها، نعتتها بصوتٍ خفيض بكلمات نابية عدائية:
-بنت الـ (...) !

تتبعت سيرها بغيظٍ طفح على ملامحها، توحشت عيناها، ولم تطرف بجفنيها، ومضة خاطفة شيطانية دارت في رأسها، عندما وجدت كلتيهما تتجهان نحو المدخل، حتمًا ستزوران "همسة"، فالأخيرة تسكن بالطابق العلوي، تحفزت أكثر وقد برزت معالم خطتها الجهنمية، لما لا تستغل مأزقها، وتورط تلك البائسة بشكلٍ أو بآخر معها، وتجبرها على الاشتباك البدني، لتكون السبب الرئيسي في إلحاق الأذى بالجنين، فتثأر لنفسها، وتنتقم منها.

لم تتردد للحظة، أو تفكر مرتين، استدارت خارجة من الشرفة، لتقول بصوتٍ عالٍ بالكذب:
-أنا هاطلع الزبالة يا خالتي، بدل ما تعمل ريحة في المطبخ
أتاها صوت "ونيسة" معترضًا:
-ماتتعبيش نفسك، "تميم" هيجي كمان شوية، يبقى ياخدهم مرة واحدة يرميهم في المقلب.
أصرت على طلبها، وإلا لفسدت خطتها:
-ولا تعب ولا حاجة، دي شنطة صغيرة.

التقطت الكيس –شبه الفارغ- من الصندوق الملاصق لحوض المطبخ، واتجهت بخطواتٍ متعجلة نحو باب المنزل، تركت الكيس في مكانه بالخارج، وتلكأت وهي تدنو من الدرابزين لتتلصص على الأصوات الأنثوية الأتية من الأسفل، سمعت "آمنة" وهي تقول:
-احنا مش هنطول عند "همسة"، هنطمن عليها، ونمشي.
ردت "فيروزة" باقتضابٍ:
-طيب.

تراجعت "خلود" للخلف قبل أن تلمحها إحداهما، وهي تتجسس عليهما، استعدت لمواجهتهما، تفاجأت "آمنة" بوقوفها على حافة الدرج، ونظرت لها بغرابةٍ مرددة عليها التحية:
-سلامو عليكم.. إزيك يا بنتي؟
ردت عليها "خلود" بوقاحة:
-أنا مش بنتك.

حمرة حرجة تشعبت بها بشرة الأخيرة، بينما تقاذف الغضب في حدقتي "فيروزة"، وبادلتها نظرة قاسية محذرة، ومع هذا تعمدت "خلود" إحراج الضيفتين، واستفزازهما لأقصى الحدود، ليتم تنفيذ خطتها الوضيعة بحذافيرها، فأردفت بوقاحة:
-طالعة أرمي الزبالة، لاقيتها في وشي، صحيح العمارة لازم تنضف كل شوية.
أمسكت "آمنة" بذراع ابنتها التي بدأت في التشنج، وضغطت عليه تستحثها على التحرك، هامسة لها:
-سيبك منها يا "فيروزة"، وخلينا نطلع.

تابعت "خلود" قائلة بسخرية، وهي تضع يدها على أنفها:
-ريحة زفارة وحشة، يا ساتر يا رب، هاجيب اللي في بطني.
لم تصمت "فيروزة" عن إهانتها، وردت بقوةٍ، وبنظراتٍ احتقارية:
-ماتبقيش تقفي جمب الزبالة كتير.. لأحسن ريحتها لازقت فيكي.
التقطت الشرارة من هنا، ورفعت نبرة صوتها لتصرخ بها، وهي تلوح بذراعها في الهواء:
-زبالة مين يا (...)، تعالوا وشوفوا مين بتكلم.

حالت "آمنة" بينها وبين ابنتها، فقد عمدت الأخيرة للتطاول اليدوي لاستفزاز "فيروزة" بصورة فجة، وقالت برجاءٍ:
-خلاص يا بنتي، عيب كده!
استدارت "خلود" بجسدها، وتحركت بخطوات محسوبة لتغدو بالقرب من حافة الدرج، لتصبح مسألة انزلاق قدميها أكيدة، وتابعت صياحها المهلل بصوتٍ أعلى، وهي تصفق بيديها:
-عيب؟ هو إنتو لسه شوفتوا العيب؟ ده أنا هاخلي اللي ما يشتري يتفرج عليكم!

ردت عليها "فيروزة" وهي تمنع يدها من الإمساك بها، أو جذب ثيابها:
-إنتي قليلة الأدب، ومش محترمة، وفعلاً تستاهلي الواحد يقل أدبه عليكي.
ارتمت "خلود" بجسدها على "آمنة" قاصدة الاعتداء على "فيروزة" موجهة لها وابلاً من السباب الحقير، مستغيثة بخالتها:
-تعالي يا خالتي شوفي اللي بيحصل برا.

وفي لحظة معينة، عند لمحها لخالتها "ونيسة"، دفعت نفسها بارتدادٍ عنيف للخلف، سامحة لقدمها، بالتخلي عن قمة الدرج الواقفة عليه، لتبدو وكأنها مدفوعة عن عمدٍ، من قبل "فيروزة"، وصوت صراخها المفزع يزلزل جدران البناية:
-الحقووووني...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة