قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والثلاثون

القلب، ليس فقط موطنًا لشخص عزيز، وإنما منبعًا لكل ما هو نفيس، من مشاعر وأحاسيس، يحيا بهم الكيان، ولأنها تدخر تلك المكنونات الغالية لشخص بعينه، يستحق ما احتفظ به القلب طوال تلك السنوات، توهمت أنها ستمنح كنز مشاعرها المرهف لمن أصبح زوجها، رغم ما يعتريها من قلق وخوف. وحيدةٌ في مقعد ثلاثي، استقرت عليه "فيروزة" بجوار النافذة، صامتة، يشوب ملامحها الشرود، فبعد أن أنهت الإجراءات الخاصة بسفرها، صعدت على متن الطائرة، وشعورها بالريبة يتضاعف بداخلها.

قاومت طوال الأيام الماضية التفكير فيما أعلنت عنه "خلود" خلال نوبة غضبها، عن حبٍ بدأ وانقضى بعيدًا عنها، تحولت السحب من حولها لما يشبه شاشة العرض السينمائية، تعرض لقطاتٍ قصيرة، تُذكرها بمشاهدٍ جمعتها مع آخر من ظنت أن قلبه دق لأجلها؛ اتهامات متبادلة بسبب عملها الذي لا شـأن له به، صفعة قاسية منها أمام دكانه، وعيدٌ برد الاعتبار، واستعادة الكرامة المنتهكة..،

حفل خطبة لتوأمتها وجدال عند عتبة مطبخها، مناوشات كلامية دارت بينهما في المطعم، مصادفة عابرة في الطريق ليلة الاحتفال بميلاد رفيقتها، لقاءاتٌ غير مرتبة في محل بيع الهدايا، دفاعه عن شقيقتها في المشفى، وتهذيبه لزوجته للسانها السليط، إصراره على التواجد في محيطها كلما سنحت له الفرصة بذلك، دعمه غير المشروط لها في مأزقها الأخير، حين كاد يزج بها في السجن، بتهمة لا تمت لها بصلة، وقبل كل هذا ذكرى حادث الطفولى المأساوي.

كان رغم الكراهية المبررة منها نحوه شهمًا معها، محافظًا على حدود علاقته به، لم يمسها بسوء، دومًا متواجدًا عندما تحتاج إليه، والآن اكتملت قطعة اللغز الناقصة، كان ولا يزال يفعل ما يفعله .. لأنه فقط أحبها، في غفلة منها، وبدون علمها .. لم يكذب ذاك الصوت الصارخ بداخلها، عندما أشعرها أن اهتمامه بها لا يرجع لرجولة متأصلة به، وإنما لمشاعر غالية يكنها القلب لها.

بات عسيرًا عليها الآن الاستمرار في التفكير في أمره، وعيناها تقاتلان للاحتفاظ بدموعها في محجريهما، لم تعرف "فيروزة" لماذا تبكي! كان عليها أن تشعر بالفخر لكونها –كأنثى- باتت محط أنظار الجنس الآخر، حازت على اهتمام أحدهم؛ لكنها بدت أكثر تعاسة عن ذي قبل، وجاهدت لتبتعد كليًا عما يمكن أن يعرضها لمواجهة معه، لترحل كما خططت؛ وإن ملأ الأسى قلبها، عقدت العزم على أن تصنع سعادتها بنفسها، وأوهمت عقلها أنها قادرة على ذلك، اختفت شجاعتها اللحظية، وتبددت دفعة واحدة، كما اجتاحتها رعشة باردة تغلغل بقوة في أطرافها، عندما سمعت صوت المذياع الداخلي ينطق:
-برجاء الجلوس في أماكنكم، وربط الأحزمة، استعدادًا للإقلاع، الكابتن وجميع أفراد طاقم الطائرة يتمنون لكم رحلة جوية سعيدة وآمنة.

زاد إحساسها بالرهبة، وكان هذا أكثر ما يُربكها، ألا تعلم ما تخبئه الحياة لها، لاكت في جوفها علكةً لتخفف به وطأة تغيير الضغط عليها، ودعت الله في نفسها:
-استرها يا رب معايا في اللي جاي..
خبا صوتها الداخلي وهي تنهي حديث نفسها الصامت:
-مش هاقدر استحمل أذية تانية.

بحرفية قائدٍ خبير، انحرف بشاحنته الكبيرة عند ناصية الشارع غير المعبد، فحجمها الضخم لا يسمح بمرورها بين المباني القديمة المتجاورة، ليقترب من الدكان، فأبطأ من سرعتها بالقرب من تلك المساحة الخالية المسموح له فيها بالاصطفاف، دون أن يعيق حركة المارة، ليصدح صوت زئير المكابح المزعج عاليًا، ويرن صداه في الأجواء الهادئة. أوقف "سراج" تشغيل المحرك، والتفت إلى الحاج "عوف" الجالس في مقعد الراكب بجواره، واستطرد يقول له، بوجهه المتجهمٍ، وعلامات العناد تنعكس في نظراته كذلك:
-لا مؤاخذة يا عم الحاج، أنا مش جاي معاك المشوار ده.

استدار الأخير نحوه، ورجاه بصوته الهادئ:
-يا ابني متعقدش الأمور، مش النفوس خلاص هديت؟
رد عليه بامتعاضةٍ ظاهرة على محياه:
-الكلام ده صوري يا حاج "عوف"، فض مجالس يعني، وإنت وأنا عارفين ده كويس، مافيش حد بيتصافي!!
سأله مستفهمًا، وقد أدرك أنه ما زال على موقفه العدائي نحوه:
-هو "تميم" ضرك في حاجة من وقت ما اتصالحتوا؟

أجابه بصدقٍ، رغم رنة الانزعاج المحسوسة في صوته:
-الشهادة لله لأ، ملتزم باتفاقه، وحق البضاعة بالكامل بيوصل قبل ما يستلمها حتى.
ابتسم الحاج "عوف" وهو يُصر عليه، عله يتخلى عن عناده، ويقنعه:
-طيب، فيها إيه لما تيجي معايا، ونظهر حسن النوايا؟
أبقى على رفضه معتذرًا منه:
-إنت عارف يا حاج إني مابحبش أكسرلك كلمة، بس اعفيني أنا..

نظر له "عوف" بأسفٍ، فأكمل "سراج" بنوعٍ من العتاب اللطيف:
-وبعدين لو كنت قولتلي من الأول إنك جاي عنده، مكونتش جيت معاك منطقته، ووفرت على نفسنا الإحراج ده.
سحب الأول عصاه التي يتكئ عليها، واستعد للترجل من الشاحنة مغمغمًا بيأسٍ:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا يهدي النفوس.
استقام واقفًا بعد هبوطه منها، وأغلق الباب خلفه، ثم رفع أنظاره إليه ليردف بعدها:
-عمومًا أنا مش هتأخر عليك، هسلمه فلوس التوريد، وراجعلك، عشان نلحق نطلع مشوارنا.
هز رأسه في تفهمٍ، وهو يريح ذراعه على المقود، ليقول بوجه جامد:
-ماشي يا حاج.

سار بخطواتٍ متمهلة، في الزقاق المختصر، والمؤدي إلى دكان عائلة "سلطان"، متوقعًا تواجد "تميم" بالخارج، في انتظاره، كما اتفق معه في مكالمة هاتفية قبل ساعةٍ تقريبًا، تسمر "عوف" في مكانه مصدومًا، وقد رأى اثنين من الغرباء يحومان حول المكان بشكل يبعث على الاسترابة، بسبب الأوشحة التي تخفي معالم وجهيهما، ضاقت عيناه بشكٍ كبير، حينما وجد أحدهما يسكب سائلاً غريبًا على واجهات الدكان، فهدر بصوتٍ أجش:
-إنت بتعمل إيه؟

التفت الملثم نحوه بشكلٍ مفاجئ، وحالة من الارتباك المختلط بالفزع تسيطر عليه، وكأنه يخشى التعرف عليه، بسبب تواجده غير الموضوع في الحسبان، هرع الوضيع يركض فرارًا منه؛ لكنه ألقى بقداحته على السائل المسكوب، لتنتفض ألسنة النيران كالحمم، بعد ملامسة شرارتها له، صــاح "عوف" لاعنًا إياه بغضبٍ شديد:
-يا ابن الـ ......! الله يخرب بيوتكم!

هرول في اتجاه باب الدكان الذي تحول لكتلة من اللهب المستعر، وصراخه المذعور يهدر في أركان المنطقة الشعبية:
-حريقة يا نـــــــاس! دكـــان الحاج "سلطان" بيولع!
لم تسعفه سنوات عمره المتقدمة، في التصرف كالشباب في خفتهم وسرعتهم، لذا كانت وسيلته المتاحة الصيـــاح الهادر، جلبة سريعة انتشرت بأرجاء المنطقة، مصحوبة بأصوات صراخ فزع للنســاء، حاول "عوف" اختراق ألسنة النيران الحارقة، والمرور للداخل، حين رأى جسد "تميم" مسجي على الأرضية، وربما فاقد لوعيه؛ لكنه عجز عن تنفيذ هذا، فواصل صياحه المستغيث:
-الحقوا المعلم "تميم"، ده محبوس جوا دكانه! انجــــدوه يا رجالة!

وفي غمضة عينٍ ازدحم المكان بعشرات المواطنين ممن هبوا لإطفاء الحريق، باستخدام الدِلاء، أو الرمل، أي شيء يمكن أن يخمد النيران الجائعة .. أكثر ما كان يخشاه "عوف" وسط تلك الفوضى المخيفة! هو احتمالية خسارة "تميم" لحياته، جراء فعلة خبيثة لأحد شياطين الإنس، وقبل أن تسود النهايات السيئة في رأسه، لمح "ســراج" وهو يضع تلك البطانية -والتي أغرقها بدلوٍ مملوء بالمياه- فوق كامل جسده، لتغطيه، وتحجب عنه الألسنة الحارقة والتواقة لإشباعها، اندفع دون ترددٍ وسط النيران، ملقيًا بنفسه داخل الدكان، رغم امتلاء جسده وضخامته، لم يظهر عليه الخوف، وأبدى استعداده التام لإنقاذه رغم الصراعات الدموية بينهما، في حين شرع من بالخارج في إخماد النيران التي تقاتل لتبلغ عنان السماء.

جثا على ركبته أمامه، وسعل باختناقٍ، وحشرجة مؤلمة، وهو يكمم أنفه، ليمنع رئتيه من استنشاق المزيد من الدخان الخانق، طقطقات الخشب المحترق أنذرته بانهيارٍ وشيك، لهذا وجب التصرف على قدرٍ من السرعة والحذر، أحنى "سراج" جزعه على جسد "تميم"، رأى علامات الضرب الموحشة تاركة آثارها عليه، أدرك أنها لم تكن مشاجرة متوازنة القوى تلك التي خاضها حتمًا بمفرده، اقترب برأسه من وجهه ليهتف به وهو يهزه:
-"تمــيم"! سامعني؟!

حاول استراق السمع لصوتٍ ربما شق طريقه إليه؛ لكن لا استجابة حيوية منه، تدل على بقائه على قيد الحياة من عدمه، ومع هذا حسم أمره بإخراجه من هنا مهما تكلف الأمر، رفع ثقل جسده بذراعيه، ثم استدار ليمدده على ظهره، ومرر ذراعيه المرتخيتان من حول عنقه، ليتمكن من رفعه للأعلى، ثم ألقى بالبطانية فوقهما، كوسيلة حماية ضرورية أثناء تحركهما للخــارج، استقــام "سراج" واقفًا، ونظر في اتجاه باب الدكان، صوتًا ضعيفًا نما إلى مسامعه هامسًا:
-"فـ...فيروزة"!

تجمد مشدوهًا للحظةٍ في مكانه، وتساءل:
-"تميم"! إنت فايق؟
لم يجبه، فظن أنها ربما تكون هلوسة ما جراء ما تعرض له، واصل سيره الحذر تجاه الباب، متحاشيًا الكتل الخشبية التي تتساقط بغتةً فوق الرؤوس، توقف "سراج" مرة أخرى، وقد سمعه ينطق بصوتٍ بدا واضحًا له:
-"مــ..".. "محرز"!
هتف متسائلاً في استغرابٍ:
-"محرز"؟ ماله؟ موجود جوا ولا إيه؟
كرر عليه اسمه بصعوبةٍ وضعف:
-"مـ..حرز"!

تغاضى "سراج" مؤقتًا عن الإنصات إليه، وركز حواسه مع الصراخ الآتي من الخارج، حيث بات مدخل الدكان –إلى حد ما- مهيئًا لخروجهما بعد مساعدة أهل المنطقة، وما إن اقتربا منه، حتى تشجع اثنان آخران لمعاونتهما .. بعد لحظاتٍ كان الجميع خارج الدكان المحترق، تمدد "تميم" على الأرضية المغبرة، وانحنى عليه "عوف" ليتفقد أنفاسه، وقلبه يدق في خوفٍ وارتعاب، ما إن شعر بحركة ضئيلة لصدره، مع هواء ضعيف يخرج من جوفه حتى هلل مكبرًا:
-الله أكبر، لسه فيه النفس.

وبصوتٍ لاهث هتف "سراج" مشيرًا نحو الدكان:
-كان بينادي على "محرز"، مش عارف إن كان جوا ولا لأ.
صاح "عوف" عاليًا ليحث أهل المنطقة على تفقد المكان مجددًا، للتأكد من خلوه من أي شخص:
-شوفوا في لسه حد جوا الدكان ولا لأ، الظاهر "محرز" كان مع "تميم" فيه.
هبطت ألسنة النيران وانحصرت عند الباب الجانبي، فحث ذلك أحد الرجال على اقتحام الدكان، وإلقاء نظرة متفقدة على ما به،

-لازمًا نوديه المستشفى حالاً يا حاج، إنت مش شايف عامل إزاي
رد بإذعانٍ تام:
-أيوه مظبوط.
رفض "سراج" تركه في حالته الحرجة، دون أن يتخذ موقفًا رجوليًا معه، مُنحيًا الخلافات السابقة جانبًا، وأصــر على التواجد بصحبته أثناء نقله للمشفى، بادر أحد سكان المنطقة بإحضار سيارته لإيصاله في التو والحال، وتشارك عدة رجــال في حمله بحرصٍ، والاتجاه به نحوها، ليتم إسناد جسده المتأذي بالمقعد الخلفي، وأصوات فرقعات الزجاج المتهشم، من الحرارة العالية، بداخل الدكان، تسود في الخلفية.

نفسًا عميقًا سحبته لتملأ به صدرها، بعد أن وطأت ساحة الوصول بالمطار، استعانت "فيروزة" بالعلامات الإرشادية الموضوعة في كل مكان لتصل إلى الخارج، بعد إتمام تسجيل دخولها للبلاد، توقفت عند المكان المخصص لاستقبال المسافرين من ذويهم، وبحثت بعينيها عن زوجها، اشرأبت بعنقها للأعلى تفتش عنه، عله يقف في زاوية غير واضحة الرؤية لها..،

لن تنكر أنها شعرت بالخوف يتفشى في أوصالها، عندما لم تجده في انتظارها، زاد إحساسها بالضياع؛ لكنه تناقص تدريجيًا مع رؤيتها له بطلته المهندمة، وهو يتقدم نحوها، حاملاً باقة من الزهور الحمراء في ذراعه، ابتسامة عريضة ظهرت على شفتيه، قبل أن يلاطفها بكلماته الرومانسية:
-حبيبتي، وعمري كله، حمدلله على السلامة.

بادلته ابتسامة ارتياحٍ، وإيماءة خفيفة من رأسها، تصلبت بالمعنى الحرفي، واتسعت حدقتاها مصدومة، حين خطا في اتجاهها، ولف ذراعه حول جسدها ليضمها إلى صدره، ويحتضنها، لم تستطع فعل المثل معه، ربما لخجلها، أو عدم اعتيادها على تصرفاته الجريئة معها، تراجع عنها، وذراعه لا يزال مستقرًا على خصرها، نظر لها ملء عينيه، ليضيف متسائلاً:
-الرحلة كانت كويسة؟

أجابت باقتضابٍ بعد ابتلاع ريقها:
-أيوه.
أعطاها الباقة قائلاً:
-ده عشانك
تناولتها منه، واحتفظت بابتسامتها وهي ترد:
-شكرًا
مــد "آسر" يده، وسحب حقيبة سفرها بذراعه الآخر، ثم أكمل بعذوبة، وغمزة سريعة من عينه تلازم كلامه:
-إن شاءالله نقضي أحلى شهر عسل هنا.

ضغطت على شفتيها في ارتباكٍ، وقالت بجدية، لتغطي على هذا:
-أنا عايزة أكلم ماما أطمنها عليا.
بوجهٍ غير مقروء، أخبرها:
-هيحصل، بس لما نوصل البيت.
خبت بسمتها المتكلفة، وتطلعت أمامها، وهو يقودها للتحرك في اتجاه المخرج، حيث يصف سيارته بالموقف المخصص لهذا، حاولت أن تسترخي في حضوره، لكن جسدها ما زال محتفظًا بتصلبه، مع لمساته غير المستحبة عليه.

بدون دعوةٍ، اقتحمها شعورًا جديدًا بالاغتراب، غالبته بمجهودٍ لتدعي ابتهاجها بالنقلة الكبيرة في حياتها، راقبت الطرقات النظيفة، والشوارع المنظمة بعينين نهمتين للتطلع إلى ما لا تألفه، وتساءلت في جملٍ مقتضبة عن أسماء بعض الأماكن الجاذبة للأعين، ومنحها زوجها الرد عن كل استفســار بإسهابٍ زائد، فبدا ذلك جيدًا –من وجهة نظره- لإذابة الجليد، وكذلك للتقارب بينهما. عند ضاحية راقية، تضم مبانٍ مصممة على طراز عالمي، وفريد من نوعه، تأملت "فيروزة" الإبداع الفني الذي خطف أنظارها، وأيضًا أنفاسها، فتساءلت عفويًا:
-هو إنت ساكن هنا؟

أجابها "آسر" بابتسامة لبقة:
-لأ، بس احنا قريبين من هنا.
انتقل عبره إلى ضاحية أخرى، كانت جيدة؛ لكنها ليست بمستوى الرقي المبهر الذي رأته، ومع هذا بدت معجبة بما تراه من علامات التحضر الواضحة، وعند مدخل أحد الأحياء، عرج "آسر" بسيارته، نحو موقف خاص، يتسع لعشرات السيارات، ليصفها بينهم، ثم أشــار بعينيه نحو إحدى البنايات المصممة على الطراز الفرنسي، وقال:
-احنا ساكنين هنا.

ثبتت أنظارها على المبنى وهي تسأله:
-دي شقتك؟
رد نافيًا:
-لأ يا "فيروزة"، دي شقق سكنية للإيجار، زي عندنا كده.
اعترى ملامحها تعبيرًا غامضًا، ولمس "آسر" الشك في عينيها، تنحنح، ثم أخبرها بلهجة جمعت بين الجدل والهزل:
-عشان أقدر أشتري حاجة فخمة هنا، محتاج يكون عندي ثورة بالملايين، وده طبعًا صعب عليا، أنا مش أمير عربي...

ثم مد يده ليمسك بكفها، خلل أصابعه في أناملها، وأسبل عينيه نحوها مضيفًا بغموضٍ، جعلها تتوتر:
-بس معاكي مش هايكون مستحيل.
رفع "آسر" كفها الذي يحتضنه إلى فمه، قبله ببطءٍ، وعيناه تتطلعان إليها بنظرات حالمة، تعبر عن تلهف كبير إليها، اعتقدت أنه سيكون تصرفًا فظًا منها إن سحبت يدها منه، وهو له كامل الحق في التمتع بها، فاكتفت بالابتسام الزائف له.

على عكس ما رسم لها من وصفٍ مبالغ فيه لمنزله الفخيم، في أحد أهم أحياء المدينة، بدا الأثاث عاديًا، مقارنًا بما تخيلته، نعم يتسم بالحداثة، والتصميم المختلف؛ لكنه ليس باهظًا كما أوهمها، شعرت "فيروزة" أن غالبية ما يتعلق بزوجها يتخلله الغموض، ابتلعت أسئلتها الفضولية مؤقتًا، لتتجه إلى الحمام، القابع في نهاية رواق متوسط الطول، بعد أن دلها عليه، كانت بحاجة للاغتســال من آثار مجهود السفر العالقة بجسدها، فلا يصح أن تكون ليلتها الأولى مع زوجها يشوبها شائبة، التفتت برأسها نحو "آسر" عندما خاطبها:
-هابعت أجيب عشاء، حاجة على ذوقي، هتعجبك أوي.
قوست شفتيها لتبتسم، وهي تعلق عليه:
-تمام.

ولجت إلى الحمام، وأغلقت الباب خلفها، استدارت لتتأمله، وكانت صدمتها الثانية، ليس حديثًا على الإطلاق، المغطس مغطى بستارة زرقاء، تبدو مستهلكة، فمعظم الحلقات المعلقة بالحامل المعدني مفقودة، كما ظهر الإصفرار على الفواصل الأسمنتية الممسكة بالبلاط الأزرق كمرأى الشمس في كبد السماء، تحولت أنظارها نحو المرحاض، وكان يتشارك مع باقي محتويات الحمام في قدمه، اقتضبت عضلات وجهها، وحلّ التجهم عليها، من المستحيل أن يكون ذلك مطابقًا للوصف الذي صدع به رأسها كثيرًا، تغاضت عن شعورها بالنفور والضيق، لتستحم وتبدل ثيابها، وحدسًا قويًا بداخلها، يخبرها بأن هناك المزيد من المفاجآت -غير السارة- تنتظرها.

جالت عيناه بخوفٍ كبير، على الأوجه التي ترمقه بنظرات ما بين جادةٍ ورسمية، لا أحد يبدو مازحًا على الإطلاق، ولماذا يمزحون وقد قبض عليه متلبسًا بالجرم المشهود؟ استمع "حاتم" إلى قائمة الاتهامات التي تنتظره بعقوباتها الصارمة، مرتعشًا في جلسته، نظر بارتعابٍ إلى الضابط "وجدي"، حين ضرب على كتفه، قبل أن يقول له بتحذيرٍ مستتر:
-هاعيد كلامي عليك تاني يا "حاتم"، عشان تطمن، ومتخافش...

لم يعلق عليه الأخير، فقط راقب تحركاته في صمتٍ، غير قادرٍ على الاعتراض بنظراته حتى، استأنف "وجدي" حديثه مرددًا:
-كل اللي هاتقوله هيتاخد في عين الاعتبار، وده هيحسن من موقفك في القضية.
تساءل "حاتم" في تلعثمٍ مغلف بأملٍ زائف، وهو يرف بجفنيه:
-يعني ... هطلع براءة؟

رد ضاحكًا بما يشبه التهكم:
-براءة إيه بس؟ إنت ممسوك متلبس!!
نظر "حاتم" إليه بنظراتٍ ضائعة، وقد تيقن من سوء خاتمته، عاد الأمل ليبث فيه عندما أعلمه الضابط:
-لكن احتمال يتخفف الحكم عليك، وجايز تاخد إفراج بدري .. في حاجات كتير ممكن تحصل ...

ثم تحولت لهجته للجدية، ونظراته للوعيد، وهو يكمل بأسلوبٍ حمل التهديد في طياته:
-ولو فضلت ساكت، وعملت فيها مخلص، الحيتان الكبيرة هتتنعم في خيرات ربنا، وإنت هتدفن بالحيا جوا السجن، وإنت عارف كويس إن يوم السجن بسنة، وجايز يسلطوا عليك اللي يجيب أجلك.

التزم "حاتم" الصمت لدقائق، مستغرقًا في أفكاره التحليلية؛ وكأنه يعيد تقييم الموقف برمته، ليحتسب مكاسبه فيه من خسائره، وكانت النتيجة أن حسم رأيه قائلاً بنزقٍ:
-خلاص سعادتك، أنا هاقول يا باشا على كل حاجة.
ابتسامة انتصــار احتلت ثغر "وجدي" وهو يرمقه بنظراته الواثقة، جلس خلف مكتبه، في مقعده الوثير، مسترخيًا عليه، ثم مدح قراره، فقال له:
-كده إنت بتفكر صح.

ركز "حاتم" كامل نظراته، على وجه الضابط المتابع له بإمعانٍ، لم يتعجل الأخير استجابته، تركه يأخذ كل ما يريد من وقتٍ، ليخبره بما يرغب في معرفته بالأخير، تنفس الأول بعمقٍ، ليستعيد انضباط انفعالاته المذعورة، وباسترسالٍ غير مقطوعٍ، هتف مُفصحًا عن أحد شركائه:
-اللي كان بيديني الأوامر، لنقل الممنوعات يا سعادت الباشا، واحد اسمه.. "محرز"...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة