قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والثلاثون والأخير

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والثلاثون والأخير

طرقة خافتة التقطها بأذنيه، فاتجه على الفور –بخطوات سريعة- إلى باب منزله، وقد عرف هوية القادم، ابتسامة مقتضبة تشكلت على محياه، وهو يراجع سريعًا فاتورة الطعام الجاهز الذي أرسل في طلبه، دفع لعامل التوصيل المبلغ المطلوب، وزاد عليه قليلاً، كنوعٍ من البقشيش، ثم أغلق الباب، وهو يدندن بصافرة مبتهجة، فمن المفترض أنه سيحتفل بقدوم عروسه الليلة، اتجه "آسر" إلى مائدة الطعام المربعة –ثنائية المقاعد- والتي تحتل الصالة، أفرغ عليها ما احتوته الحقائب، ثم ســار نحو المطبخ الصغير الذي يحتل مقدمة الجانب الأيسر من الصالة، وبحث عن أكواب نظيفة في الرفوف العلوية، ليصب فيها المشروب البارد، ابتسم لنفسه في انتشاءٍ، وقال:
-كده تمام أوي.

لم ينسَ "آسر" الاستعانة بإحدى تلك الحبوب العجيبة، حيث أكد له من منحه إياها بأنها الوصفة السحرية –والمضمونة- لعلاج (عجزه)، ورغم عدم اقتناعه بنتيجتها، إلا أنه لم يمنع نفسه من التجربة، فمنذ اكتشافه لعلته، نتيجة خلل عصبي، أصابه منذ الطفولة، في تلك المنطقة الحرجة، لجأ للأطباء، وكانت الصدمة الكبيرة، بعد سعي دؤوب، بعدم فاعلية العلاج طويل المدى، أو حتى بالتدخل الجراحي، وبات حله المتاح تجربة الجديد من الأدوية، عل أحدهم يحقق له المعجزة المنتظرة..

ابتلع بآمال معلقة في الخيال القرص الدوائي بشربةِ ماء، ثم عاود أدراجه ليبدأ في تنظيم الطعام بشكلٍ مرتب، ليبدو مناسبًا خلال تناوله للعشاء المتأخر مع زوجته، وربما أثناء حديثهما الرومانسي المحمل بالأشواق والرغبات، تستجيب خلاياه المستكينة منذ فترات طويلة للتأثير الوهمي للدواء، زفرة بطيئة خرجت من جوفه، قبل أن يتمتم، بقليلٍ من التفاؤل:
-جايز تظبط معايا ...

ثم حملق أمامه بنظرات هائمة، ليتابع حديث نفسه:
-المزة المرادي تستاهل، وحاجة مختلفة!
تبخرت الخيالات الجامحة التي عكست ابتسامة بلهاء على ملامحه، لتتحول لعبوس منزعج بسبب الرنين المتكرر من "محرز"، لم يرغب "آسر" في الرد عليه حاليًا، فسماجته، مع سخافته الزائدة، لا يمكن تحملها في تلك الساعة المميزة، أغلق هاتفه، وتجاهله كليًا، حتى أعماله العالقة أرجأها لوقت لاحق.

السقوط في الهاوية، لن يكون مصيره، إن تخلى عنه الجميع، خاصة من يؤدي عنهم أعمالهم القذرة، وغير القانونية، جلّ ما يرعبه حاليًا، هو نجاة خصمه من الحادث المدبر، وبالطبع إن تكلم ضاع ما رتبه طوال السنوات المنصرمة سُدى، لهذا توارى "محرز" عن الأنظار مؤقتًا، ريثما تتضح الصورة كاملةً، وتنقشع تلك الغمة عنه، فبعد أن دفع المال المتفق عليه لأعوانه، بحث عن مخبأ يأويه، ووجد واحدًا تتوافر في الشروط المناسبة، في مكانٍ بعيد؛ لكنه لن يبقى فيه للأبد، وبدا الاختيار المتاح له الآن مخابرة "آسر"، ليحميه ويعاونه في مأزقه، لذا حدث نفسه بعزمٍ:
-أنا ياما ساعدته، جه دوره عشان يطلعني من الوحلة دي.

اضطر أن يخرج من مخبأه، وسار بحذرٍ شديد بين المارة، متخذًا من الطرق الجانبية مسلكًا له، بحث عن أحد المحال الخاصة ببيع كروت شحن الرصيد، من أجل إجراء تلك المكالمة الدولية الهامة، وبعد عناءٍ من اللف، والاستعانة بإرشادات بعض المواطنين، تمكن أخيرًا من تعبئته بالمال اللازم، توقف عند بقعة هادئة، ووضع الهاتف على أذنه مترقبًا بأعصاب متلفة رده عليه، استشاط غيظًا حين تجاهله أكثر من مرة، وبلغ ذروة غضبه في لحظة عندما وجد هاتفه مغلقًا، تذكر امتلاكه لرقمٍ آخر يستخدمه عند الطوارئ، لهذا فتش عنه متوعدًا إياه:
-قسمًا بالله لو ما رديت عليا، لهكشف المستور كله!
قالها "محرز" لنفسه، وكتبها في رسالة نصية قصيرة، قاصدًا بها التشديد على جدية تهديده.

كنوعٍ من الهروب، غابت بداخل الحمام لوقت حاولت استطالته؛ لكن في الأخير، كان عليها الخروج، والالتقاء به، لم تحبذ "فيروزة" أن يراها زوجها للمرة الأولى بالفاضح من الثياب، لهذا انتقت قميصًا حريريًا من اللون الأبيض، ومن فوقه أحكمت ربط روبه، فلم يظهر إلا وجهها، وكفيها، تنفست بعمقٍ، وأقنعت نفسها أنها مهيأة نفسيًا لبدء حياتها مع شخصٍ يملك من السمات الجيدة، ما يحسدها عليه غيرها، وما إن فتحت باب الحمام، حتى عبقت رائحة الشامبو القوية -والذي دلكت به فروة رأسها لعدة مرات- الهواء بكثافة، لازمت أنفها رائحته النافذة، وتمكن زوجها أيضًا من استنشاق عبيره المميز، ليقول لها بكلماتٍ ذات مغزى، وهو يدنو منها:
-نعيمًا يا حبيبتي، حمام الهنا.

وقبل أن ترد عليه، ضمها إلى صدره ليحتضنها، ويشعر بدفئها المنعش يغزوه، حاولت أن تنسل من بين ذراعيه المطبقين عليها، وردت بنوعٍ من المجاملة:
-شكرًا.

استمر في ضمه له، وهو يشتم رائحة شعرها، مستحضرًا في ذهنه، كل الأفكار الجامحة في العلاقات الزوجية، ليحفز المستكين من خلاياه المستعصية في استجابتها؛ لكنها أبت الانصياع له، وفشل كالعادة في استحضار ما لا يملكه، في نفس الوقت تراجعت عنه "فيروزة"، وقد استشعرت جموده المريب، تاركة مسافة خطوتين بينهما، ورفعت رأسها لتتأمل باهتمام تفاصيل المكان، الذي لم تكن منتبهة له جيدًا، وإن كانت غير راضية عما رأته بالداخل...،

ليس رغبة منها في الثراء؛ لكن لكونه قد خدعها بطريقة ملتوية، وهذا ما لم تقبله! تجنبت نظراته الدائرة على تفاصيلها الأنثوية، وحدقت فيه بتشجعٍ، لمحت في عينيه الرغبة، وذلك ما أصابها بالتوتر، باعدت أنظارها عنه، وانشغلت بتأمل لوحة زيتية على الحائط لمنظر من الطبيعة، استدارت ناظرة نحو حين قال لها، وهو يشير بيده يدعوها للجلوس:
-الدليفري جاب الحاجة، وأنا جهزت السفرة.

ردت بهدوءٍ، وابتسامة متحفظة:
-تسلم إيدك.
أضاف وهو يضع يده على خصرها ليدفعها نحو الطاولة:
-إن شاءالله يعجبك، المطعم ده معروف بأكله هنا.
اكتفت بهزة من رأسها، وسحبت المقعد لتجلس في مواجهته، فأخبرها وهو مسبل عينيه نحوها:
-حقيقي البيت نور بوجودك فيه...

امتدت يده لتمسك بكفها، ومال نحوها بعد أن رفعه إلى فمه ليقبله، نظر لها بعينين متطلعتين في اهتمام، وأخفض من نبرته قائلاً، بلهجةٍ ذات مغزى:
-أد إيه أنا كنت مستني اللحظة دي.
قشعريرة موترة سرت في أوصالها، وبلطفٍ حذر استعادت يدها من قبضته، لم يبعد "آسر" نظراته المعلقة بها، وتابع:
-أنا عارف إنك مستغربة الوضع شوية، بس كل ده مؤقت.
أجبرت "فيروزة" شفتيها على الابتسام، وردت بتفهمٍ:
-مافيش مشكلة..

للحظة حاولت ألا تتطرق لتزييفه للحقائق؛ لكنها لم تستطع، فأدرفت قائلة:
-هو في سؤال محيرني شوية
بدأ في إزاحة ورق السلوفان عن أطباق الطعام، وسألها، بعينين محملقتين في تعبيراتها:
-إيه هو؟

دارت بنظراتها في المكان، وتوقفت عنده، لتسأله مباشرةً:
-يعني الشقة دي كنت عايش فيها قبل كده؟
توقف عما يفعل، واستقام في جلسته، ليقول بصوتٍ هادئ، وبكلماتٍ مرتبة:
-اتنقلت فيها من قريب، هي مش بطالة، تقضي الغرض، ومناسبة للإيجار بتاعها، يعني أنا.. أصلي كنت عايش في حتة تانية، بس أقل من دي بكتير، حاجة شبه العشوائيات.

صدمها بصراحته، ومع ذلك حافظت على جمود تعبيراتها، تطلع إليه بنظراتٍ تُعيد دراسته، وأخبرته دون تجميلٍ:
-أنا مش قصدي حاجة، بس كان في دماغي صورة عنك غير دي.
رد عليها متسائلاً:
-عشان مظهري ولبسي؟
ضمت شفتيها للحظة، وحركتهما قائلة بصراحةٍ:
-مكدبش عليك.. أيوه.

قال ببرودٍ، ولمحة من الغطرسة تشوب صوته:
-دي شكليات، يعني لزوم شغلي، مش معقول هالبس مقطع ومبهدل، أنا بأتعامل مع علية القوم، والحياة هنا غالية جدًا، لما تاخدي على الوضع، هتفهمي كلامي.
هزت رأسها بإيماءة صغيرة، لتعلق باقتضابٍ، وتعبيراتها يكسوها الامتعاض.
-تمام.
أشـار لها بيده قائلاً:
-يالا بقى عشان الأكل ما يبردش.

دفعت "فيروزة" مقعدها للخلف، وقالت وهي تنهض:
-طيب أنا هاقوم أجيب مياه.
أوقفها صائحًا؛ كما لو أنها على وشك ارتكاب جريمة خطيرة:
-لأ استني، احنا مش بنشرب من الحنفية، دي مياه خزان.
ضاقت عيناها في استغرابٍ، سألته، والدهشة تعلو قسماتها:
-وإيه يعني؟

أوضح لها ببساطةٍ، مستخدمًا يده في التلويح:
-لأ مياه الخزانات للنضافة، للحمام؛ لكن الأكل والشرب بنستخدم القوارير المعدنية...
ثم نهض من مكانه، وطلب منها بلهجةٍ شبه آمرة:
-استريحي إنتي يا حبيبتي، وأنا هاجيبلك.

استجابت لطلبه، وتابعته بنظراتها المهتمة، وهو يتجه نحو الثلاجة الموجودة خلفها، لم تكن قد لاحظتها في البداية، وها هي مع الوقت تكتشف المزيد عن تفاصيل المكان الذي ستعيش فيه القادم من أيامها، استدار "آسر" ليواجهها، وقال وهو يحمل في يده زجاجة بلاستيكية، نصف ممتلئة بالمياه:
-تقريبًا مافيش عندي أزايز معدنية كفاية، بكرة هنزل الصبح أجيب من السوبر ماركت.
ضغطت على شفتيها في استياءٍ، لم تستطع إخفائه، وردت عليه بإيجازٍ:
-أوكي.

أفرغ ما تبقى من المياه المعدنية في كوبٍ أحضره لها، وناولها إياه، ابتسمت له بامتنانٍ، وتجرعت ما فيه لتبلل حلقها الجاف، واستأذنت منه بابتسامة بذلت فيها الجهد لتبدو طبيعية:
-ينفع أكلم ماما بقى أطمنها عليا.
بادلها ابتسامة زائفة، ورد متهربًا منها:
-إن شاءالله، ناكل بس الأول.
أومأت برأسها وهي ترد:
-طيب.

عاد ليلوك الطعام في جوفه بنهمٍ، وأكمل حديثه معها مغيرًا الموضوع:
-الأكلات هنا مقولكيش، هندي، وصيني، وكوري، وكل اللي نفسك فيه.
تطلعت بنظراتٍ مهمومة إلى أطباق الطعام، وتنهدت معلقة عليه:
-أنا مش أكيلة أوي.

اقتطع قطعة من الدجاج المشوي الموجودة في صحنه، وغرسها في شوكته، ثم مد بها ذراعه نحوها، ورجاها:
-دوقي بس ..
على مضضٍ تقبلت تناول ما لم تستسغه من طعامٍ، وابتلعته مضطرة، وهي تصغي لثرثرته عن مواضيعٍ مختلفة ومتشعبة، وقبل أن يفرغ كلاهما منه، صدح رنين هاتف "آسر" الآخر، والذي نسي كليًا إغلاقه، زفر في ضيقٍ، ثم نهض من مكانه معتذرًا منها:
-سوري يا حبيبتي.

اتجه بخطواتٍ متعجلة إلى غرفة النوم، وانتزع الهاتف من شاحنه، لينظر إلى رسالة تهديدية مرسلة من "محرز"، إن لم يجب فيها على مكالمته، سيحدث ما لا يحمد عقباه، غامت ملامحه، واسودت نظراته، بدا مرتبكًا إلى حد كبيرٍ من كلماته القوية، أطلق لعنة خافتة، قبل أن يرتدي قناع الهدوء، ثم استطرد معللاً بنبرة كذبة:
-مش هاخلص من الشغل وقرفه.
سألته باهتمامٍ:
-في حاجة مهمة؟
تحدث من زاوية فمه قائلاً بأسلوبٍ مراوغ:
-لا مش مهم ..

ثم ارتشف ما تبقى من كوب مياهه دفعة واحدة، وهتف متنحنحًا:
-حبيبتي، أنا هنزل أجيب حاجة ساقعة من تحت، وطالع على طول.
تعقد حاجباها في استغرابٍ وهي تكرر عليه، بنوعٍ من التساؤل المندهش:
-دلوقتي؟
ضحك بسخافةٍ، وأردف:
-عشان نهضم.
لم يكن أمامها سوى الرد بتنهيدة ملولة:
-خد راحتك.

اقترب منها، وانحنى برأسه نحو خدها، ليطبع قبلة صغيرة عليها، وكرر من جديد على مسامعها:
-مش هتأخر يا حبيبتي.
رغم ترديده لذلك اللقب الحميمي، وإرفاقه بنوعٍ من المداعبة اللطيفة، إلا أنها لم تشعر بقربه الودي منها، شيعته بعينين جمعت بين الحيرة والتوتر، انتفاضة خفيفة انتابتها بمجرد خروجه من المنزل، تسرب إليها شعورًا جديدًا، ومخيفًا في نفس الوقت، إنه ذلك الإحساس العظيم بالاغتراب، والوحدة، شعورٌ لم تألفه بعد؛ لكنه سيكون ملازمًا لها –وبقوةٍ- خلال الأيام القادمة.

"الأخبار السيئة تصل سريعًا".. مقولة صح معناها، فور أن علمت الحاج "بدير" بالمصاب الذي طال ابنه، حتى هرع إلى المشفى، تاركًا باقي أسرته خلفه، ليلحقوا به لاحقًا، لم يعبأ بحريق دكانه، فليفنى عن بكرة أبيه، المهم ألا يفقد وليده، من ضحى لأجل العائلة، انتحب في صمتٍ عاجز، وانسابت عبراته المكلومة كالأنهر، تشق طريقها على صفحة وجهه المجعد، أما والدته فنواحها المفجوع، وعويلها الصارخ كانا كفيلان بتليين القلوب المتحجرة، واستعطاف الغرباء قبل الأقرباء، آسفًا على حالها المفطر للفؤاد .. انهارت، ولم تعد قادرة على الحركة، فالمصاب أقوى من استيعاب إدراكها له، الوحيد الذي بقي متماسكًا كان الجد "سلطان"، آمن بقوةٍ أن مصيره بين يدي الله، ووحده -تعالى- من يعلم الغيب، وما عليه إلا الدعاء والتضرع له .

وبخطوات غير متماسكة، تسندها عصا مهتزة، أسرع "بدير" في خطاه عبر الردهة الطويلة، في المشفى الخاص، الذي انتقل إليه "تميم"، قاصدًا الطريق المؤدي لغرفة العمليات، اعترض "سراج" مساره حينما لمحه، آخر من توقع وجوده بالمكان، بل وإنقاذ ابنه رغم الخصومة العنيفة بينهما، استوقفه الأخير بجسده قائلاً بنبرة أظهرت مؤازرته له:
-متقلقش يا حاج، إن شاءالله هايبقى كويس.
رفع رأسه المنكسر لينظر إليه بكل هموم الدنيا ونصائبها الثقيلة، بلع ريقه المشبع بالعلقم، وهتف بصوتٍ فشل أن يكون صلبًا:
-عايز أشوف "تميم".. ده ابني!

ربت على كتفه بلطفٍ، وأكد له بهدوءٍ:
-هيحصل، لما الدكاترة يخرجوا من جوا، ويطمنونا عليه، ادعيله يا حاج.
تهاوى كتفاه، وظهر انحناء ظهره، وربما انكسار هامته، وهو يرد عليه برجاءٍ خاشع، وعيناه تبكيان بألمٍ:
-يا رب سمعنا كل خير عنه.

ادعت أسفها وهي تتلقى من شقيقتها الأخبار المؤسفة عن حادث "تميم"، وحريق الدكان، ذرفت عبرات التماسيح الكاذبة تضامنًا معها، ووعدتها بالمجيء فورًا للتواجد معها، ومساندتها في هذه الكارثة الرهيبة؛ لكن ما إن انهت "بثينة" المكالمة معها، حتى مسحت بلا ندمٍ البقايا العالقة من دموع عن صدغيها، وارتسمت ابتسامة مسرورة على شفتيها، استرخت على الأريكة، وهزت هاتفها المحمول المتدلي من يدها، لتغمغم في انتشاء:
-طلعت أد كلمتك بصحيح يا "محرز".

ضحكة عالية سعيدة أطلقتها، ودمدمت بمزيد من الكلمات الشامتة، استغربت "خلود" من حالة الابتهاج المسيطرة على والدتها، حين خرجت من غرفتها، فسألتها في فضولٍ، وأخبرتها الأخيرة بنبرة فاترة عن السبب؛ وكأنها حادثة عابرة، انخلع قلب ابنتها، وهوى بين قدميها في ارتعابٍ مهلك، جرفتها مشاعر الرهبةِ، وسألتها في عدم تصديقٍ:
-إنتي بتقولي إيه؟ "تميم"؟ استحالة! ده كدب!

مصمصت والدتها شفتيها، وقالت ببرود وجفاء:
-ده اللي خالتك بلغتني بيه.
أجهشت بالبكاء، وصرخت منفعلة، بصدرٍ ناهج من شدة انفعالها، وعقلها رافضٌ استيعاب الأمر بشكلٍ كلي:
-مش معقول، جوزي! أكيد ده كدب.
بقساوةٍ علقت عليها، غير مبالية بحالة الانهيار الوشيكة، والظاهرة عليها:
-يا بت فوقي من أوهامك، ده مش جوزك، والبعيد يستاهل اللي حصله! إياكش نسمع خبره قريب.

هزت رأسها بهستيرية، ولسانها يصيح ببكاءٍ:
-"تميم".. حبيبي!
لعقت "بثينة" شفتيها، وقالت بتنهيدة بطيئة، عبرت عن شماتتها:
-يالا، أهوو ربنا بيسلط أبدان على أبدان.
وكأنها مفصولة عنها، ركضت بلا وعي في اتجاه باب المنزل، وهي تصرخ:
-أنا لازم أروحله حالاً، هو موجود فين؟

تمكنت والدتها من إيقافها بصعوبةٍ، وقبضت على ذراعها لتشدها للداخل، أغلقت مزلاج الباب، واستندت بظهرها عليه، ثم رمقتها بتلك النظرة الصارمة، وسألتها بغضبٍ بدأ يتشكل على تقاسيم وجهها:
-تروحي فين؟ يا بت اهدي كده واقعدي، إنتي عايزة تفرجي الناس علينا؟
انهارت على ركبتيها أمامها، ولطمت على صدغيها مواصلة صراخها المتوسل:
-سبيني يامه، ده "تميم" ... جوزي!

ركلتها أمها بقدمها في ركبتها، لتجبرها على النهوض .. كالمغيبة، استندت "خلود" على يديها لتقف، رمقتها بنظرة نارية من عينين ملتهبتين بحمرتها الغاضبة، لتنفجر صارخة باهتياجٍ شديد، واتجهت إلى منقولات البيت، بدأت في إلقاء ما تطاله يديها، وتحطيمه، وصراخها المتعاقب يكاد يصم الآذان، زجرتها "بثينة" بخشونةٍ، ودون أدنى تعاطف مع حالة الهياج العصبي التي تمكنت منها:
-هي ناقصة جنان؟!!!

في عالمٍ رسم فيه الخيال لقائهما المستحيل طوعًا، كان معها بكل وجدانه، ودقات قلبه تنتفض لأجلها اشتياقًا، ركز "تميم" عينيه العاشقتين عليها، لم يرغب للحظة في إغماضهما، ليبقى هكذا للأبد، يتأملها، يحفظ أدق تفاصيلها الساحرة .. كانت معه في ظلمته، تنير له عتمته، تبتسم له بنعومةٍ، وتنظر إليه في ولهٍ، لطالما حلم به منها .. وجودها الوهمي أغناه عن قساوة العالم الآخر، المليء بالنكبات، والصدمات المحبطة، حاول وسط ضلالاته أن يمد ذراعه إليها، يتلمس تلك البشرة اللامعة التي أسكرته بتعويذة جمالها، يخبرها أنه لم يعشق غيرها، أن القلب نبض بحبها؛ لكنه لم يتمكن!

شعر بشللٍ غريب مسيطر عليه، حركته معدومة، أخفض نظراته، وتفقد جسده، فأدرك أنه مكبل اليدين والقدمين، قاوم في يأسٍ القيود التي تعوقه عنها، خاصة وطيف البغيض "آسر" يحوم من حولها، اتسعت عيناه هلعًا، ونظر إليها في جزعٍ، حرك شفتيه لينطق ويحذرها، لم يفعل، كرر المحاولة بقوة أكبر ليناديها؛ لكنهما كانتا مضمومتان بشدة، ملتصقتان بخيوط قوية، وكأن أحدهم أجرى له عملية جراحية ليمنعه عن الكلام..،

رمقته بنظرة تعيسة، تحمل اللوم في طياتها، ليس لأنه خذلها، لكن لعجزه الواضح عن إنقاذها، برزت مقلتاه في فزعٍ أشد، ويدٌ غادرة تطوق عنقها لتخنقها منه، انتفض، وتشنج، وصرخ بصوتٍ مكتوم، لم يسمعه أحد، عله ينجح في تحرير نفسه، وإبعاد شروره عنه، تلاشى طيفها تدريجيًا أمام ناظريه، وظلت تلك اللمحة الحزينة هي آخر ما علق في ذهنه، قبل أن يغرق في سواد لا خروج منه، ولسانه المحبوس قهرًا يناديها، بحسرةٍ لا طائل لها:
-"فيروزة"..!

تمت
الجزء التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة