قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل السابع

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل السابع

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل السابع

طرأت له فكرة متهورة، أن يعود إلى منزله، باعتبار أنه سيكون مهجورًا في الفترة الحالية، بسبب انشغال العائلة بمتابعة الحالة الصحية لابنهم المفضل، أدرك أن تنفيذ فكرته يتضمن عواقب خطيرة؛ لكنها تستحق المجازفة، فقد أراد الحصول على بعض النقود، قبل أن تنفذ القلة القليلة المتبقية معه، عله تنفعه مؤقتًا لحين حصوله على ما يكفيه. تسلل من مخبأه الآمن، واتخذ الطرقات غير المباشرة ليصل إليه، وقبل أن ينحرف من عند الناصية، تجمد في مكانه للحظاتٍ، راقب فيها المدخل جيدًا. كان محرز على وشك التحرك، حينما لمح سيارة ليست بالغريبة تسده، تراجع بجسده للخلف، وتوارى عن الأعين، وهو يتمتم:.

-هما بيعملوا إيه هنا؟

ظل متسمرًا في مكانه، ومع هذا شعر بارتفاع دقات قلبه المتوترة، حتى كاد يخرج من بين ضلوعه، اختلس النظرات مجددًا، فرأى منذر واقفًا بجوار شقيقه دياب، وعلى جانبه بدير، الذي يبدو مهمومًا، ثلاثتهم يتحدثون معًا بجدية واضحة عليهم، خمن أن وجود الشقيقين هنا له صلة بـ تميم، وهما أخطر في عدائيتهما عن الأخير، بلع ريقه، وتراجع مختبئًا حتى يهدئ من روعته، ثم تحلى بشجاعة زائفة، وأطل برأسه من الزاوية، ما لبث أن تبدل الخوف الشديد إلى غيظ وحقد، حيث احتقن وجهه بشدة، وتصاعدت الدماء إلى رأسه؛ كأنها ستتفجر من فتحات وجهه بالكامل، عندما أبصرت عيناه زوجته تتبادل الحديث مع سراج، والأخير يبدو مهتمًا بها بشكلٍ مبالغ فيه، كما لو أنه قدم له فرصة ذهبية ليتودد إليها، على مرأى ومسمع منه، وهو عاجز عن منعه، ؛ كان هذا آخر ما ينقصه! الوقح يكرر ما فعله سابقًا قبل أن يفسد الأمر برمته عليه.

توقفت عقارب الساعة عن الحركة، لتعود به لسنواتٍ مضت، عندما كان فقيرًا، معدمًا، لا يملك إلا القليل، يُعد نفسه مجازًا كرئيسٍ للعمال؛ وإن كان لا يرتقي عنهم في منصبه الافتراضي، سوى بدهائه في تطييع الأمور لصالحه، ليستفيد منها على قدر الإمكان. وقتها كلاهما كانا يجلسان أمام إحدى الشاحنات، في سوق الجملة، على مقعدين خشبيين، ينتظران انتهاء العمال من تعبئة الصناديق بالطازج من الفواكه، والخضراوات. نفخ سراج دخان نارجيلته في الهواء، والتفت نحوه يحادثه، بنوعٍ من الاستهلال:.

-بأقولك إيه يا محرز...
ارتشف الثاني قدرًا من الشاي الساخن الذي يملأ كوبه الزجاجي، وقال:
-أيوه يا معلم سراج.
تردد قبل أن يخبره بحرجٍ:
-عايز اسألك في حاجة كده، بس بعيد عن الشغل، حاجة خصوصي شوية.
ركز أنظاره عليه، وشجعه للحديث معه قائلاً بترحيب، وابتسامته السمجة لا تفارقه:
-قول يا معلم.
ترك سراج خرطوم النارجيلة، ومال ناحيته، ليبدو صوته قريبًا –منخفضًا كذلك- عندما نطق:.

-بيني وبينك كده، أنا عايز أفاتح المعلم بدير عن خطوبة بنته، عندك خبر عن الحكاية دي؟
غامت ملامح محرز، رغم محاولته لإظهار العكس، بينما أضاف سراج في حرجٍ أكبر:
-ومايصحش أسأل بردك المعلم تميم عن أخته، إن كان في حد في نيتهم يجوزهاله ولا لأ، ماينفعش نتكلم كده من غير إحم ولا دستور، وجايز يكون في حد سبقني، لازم نعمل احترام لغيرنا، إنت إيه رأيك؟

ظلت تعابير وجهه غير مقروءة، لم يجد ما يخبره به؛ وكأن الخبر قد هبط على رأسه كالصاعقة، وهو الذي كان يعد العدة في الخفاء، للتودد إليها، وإظهار حسن نواياه نحوها، علها تكون السبيل للانتقال من حياة الفقر، إلى النعيم والترف. انتبهت حواسه لصوته وهو يسأله بخفوتٍ، كما لو كان يخشى أن يلتقط أحدهم جملته تلك:
-يعني سمعت إن في حد متكلم عنها يا محرز، بما إنك معاهم في الدكان؟

بعد صمتٍ حذر، يكبت به غله الناقم عليه، أجابه:
-اللي أعرفه إن الحاج رافض يجوزها إلا لما تكمل علامها.
سأله بحماسٍ انعكس على نبرته وتعبيراته:
-يعني مافيش حد اتقدملها؟
نفى برده الموجز:
-لأ
استراح سراج في جلسته، وتابع بنبرة عازمة:
-زي الفل، خلاص أبعت الحاجة تروح عند جماعة المعلم بدير تتطأس كده، واللي فيه الخير يعمله ربنا.
ابتسامة متهكمة احتلت زاوية فمه وهو يغمغم إليه:
-وماله يا معلم، يا زين ما اخترت.

هلل بعدها سراج بسرورٍ يكاد ينطق به كل ذرة منه:
-يالا يا رجالة، شيدوا الحيل شوية، مش عايزين نتأخر على حبايبنا.
نظرة غامضة رمقه بها محرز، وقد توقع ارتضاء العائلة به على الفور، باعتباره زوجًا مناسبًا، لا يوجد ما يعيبه، ما لم يفسد هذا عليه أولاً، هكذا وسوس له شيطانه الداهية!

أقل ما يمكن وصفه عنه، أنه شخصية انتهازية، وصولية، غير مؤتمنة، تسعى بشتى الطرق للكسب السريع، وإن كان على حساب أرواح الآخرين، فمنذ نشأته في أسرة بسيطة، وهو يتطلع إلا ما لا يملكه؛ ما بيدِ غيره. لم يكن محرز راضيًا عن فقره المدقع، ولا عن سوء الظروف المحاوطة بعائلته، أوجد لنفسه الفرص لتحسين مستواه الاجتماعي والمادي، ولم يكن هذا كافيًا، لجأ للطرق غير المشروعة، على أمل أن تمنحه ما يطمع في اكتسابه، في أقل وقت ممكن، فشارك غيره في التهريب، بطرقٍ مبتكرة؛ لكنه أنفق ما حاز عليه سريعًا.

طمعه الجائع لا حدود له، فدفعه للتفكير في أساليب تتيح له اختلاس المزيد من الأموال، وبدت الفرصة سانحة، عن طريق مصاهرة عائلة سلطان، في البداية فكر في توجيه مخططاته نحو خلود، الصيد السهل، فوالدها متوفي، لن يضع العقبات أمام زواجه بها، ووالدتها على شاكلته، ترغب في الظفر بكل ما ضنّت به الحياة عليها؛ لكنها كانت قد اختارت هدفها مسبقًا؛ تميم، فأدار مسار الدفة نحو هاجر، وبدأ في تدبير الأموال اللازمة لتعينه على الظهور بمظهرٍ لائق حينما يتقدم لخطبها، وقبل أن يتحقق مراده، الذي استعد له طويلاً، فاتحه سراج مصادفةً في رغبته بمصاهرة العائلة، فلم يكن أمامه إلا إفسادها عليه بأحط الوسائل اللئيمة.

أنفق مبلغًا من المال للاتفاق مع بعض العمال المأجورين، على الادعاء بالكذب على غريمه، ليبدو وكأنه يخوض في أعراض الأسرة، خاصة بعد زيارة والدته الودية للعائلة، فتنطلي الخدعة على تميم الذي كانت به سمة مميزة ومهددة في نفس الآن؛ الاندفاع الأهوج لقطع دابر من يتجرأ بالقول أو الفعل على عائلته، وكان ذاك مدخله، أحضر العامل منكس الرأس إليه، وهتف فيه بوجهٍ ممتقع، ليظهر بمظهر الضيق قبالته:.

-تعالى ماتخفش، اتكلم وأنا أضمنلك برقبتي المعلم تميم مش هيتعرضلك.
رفع تميم عينيه نحو الاثنين مستغربًا مجيء أحد عماله إليه، في هذا الوقت المتأخر، قبل أن ينهي مراجعة فواتير اليوم، تساءل بصوتٍ متعب قليلاً:
-في إيه يا محرز؟
بنفس الملامح العابسة أخبره، وهو يشير بسبابته نحوه:
-الواد ده عايز يبلغك بحاجة مهمة، وماحبش يروح للحاج على طول.

التفت تميم ناظرًا إليه، فوجد العامل مطرقًا رأسه في خزيٍ، والخوف يكسوه، ضجر من صمته المزعج، وصاح به بزجرةٍ قوية:
-انطق ياض في إيه.
لعق العامل شفتيه، ونظر له بارتعابٍ، قبل أن ينطق بنفس اللجلجة:
-أصل يا معلم آ، الحكاية إن، كان...
قاطعه بخشونةٍ:
-أنا مش فاضيلك، لخص في الحوار.
تراجع العامل خطوة للخلف خشية غضبته الوشيكة، وقال ببطءٍ، ونظراته بين الحين والآخر تتجه نحو محرز:.

-الحكاية أصلها تخص آ، أهل بيتك، الست، هاجر.
هب تميم واقفًا، ليهجم عليه، قبض على عنقه، يخنقه منه، ثم هزه بعنف، وهو يهدر به بعدائية وحمية هائجة:
-نعم، إنت اتجننت يا (، )؟ مالك ومال أختي؟
قفز محرز من مكانه، وتدخل بينهما ليمنعه من الفتك به، بصعوبة انتشله من بين قبضتيه، ليرجوه بعدها:
-اهدى يا معلم، اسمعه للآخر عشان تعرف في إيه.
نطق العامل بصوته المرتجف مبررًا:.

-ده ست البنات أشرف من الشرف، هو حد يقدر يجيب سيرتها بكلمة، بس الحكاية إني سمعت آ...
هدده تميم بصياحه الجهوري، وقد فاض به الكيل من مماطلته، التي لا طائل له بها:
-قول على طول، بدل ما أعلقك هنا!
ظل محرز يحول بجسده بين الاثنتين، والتفت برأسه نحو العامل مانحًا إياه إشارة من عينيه ليتابع كما شدد عليه من قبل، فأردف الأخير قائلاً باسترسالٍ:.

-أنا سمعت طراطيش كلام من الرجالة في السوق، عن إن المعلم سراج بيقول عن الست هاجر بعد ما أمه زارتكم في البيت، إنها مش أد كده، وإنه..
راقب جيدًا التعابير النارية التي اكتسبها وجهه، وأضاف باهتزازةٍ محسوسة في صوته:
-كان بيفكر يخطبها، بس الست أمه قالت عليها أنزوحة، ومش عِشرية، ولما كلمت الواد اللي هلفط بالكلام ده إنه مايصحش، دي بنت سيد رجالة السوق، قالي إن معلمه بيقول آ...
ازدرد ريقه لثانية، وأكمل:.

-مافيش راجل غيره في السوق، وإن، لولا بضاعته كان زمان آ...
تردد قبل أن يتابع بالجزء الأخير من استرساله:
-الحاج بدير وابنه بيشحتوا، ومش بعيد نلاقيهم واقفين على أول السوق يبيعوا للزباين بالأجل.
النظر في وجه تميم في تلك اللحظة كان كفيلاً لإدراك مدى الغضب العارم المسيطر عليه، وليزيد من وهج حنقه تساءل محرز بلهجةٍ حادة:
-إنت سمعته بيقول كده؟!
استدار العامل نحوه، وخاطبه مؤكدًا:.

-أيوه يا معلم، إن شاء الله يفرمني قطر، أنا سامعه بوداني اللي هياكلها الدود، وكان معايا الواد دُقدق، وصبي المعلم سراج وآ...
لم يطق تميم استمراره في استفزازه، فهتف بصوتٍ كان باعثًا على الرهبة العظيمة:
-وربنا ما أنا سايبه، هاعرفه مين هو تميم سلطان.
أوقفه محرز بصعوبة، ومنعه من الخروج من الدكان، وهو يحاول نصحه:
-خد حقك بالعقل يا معلم، الكلام هيكتر لو اتجنيت عليه.
رد عليه بأنفاسه المنفعلة:.

-كله إلا أهل بيتي!
مشاعره في تلك اللحظة كانت خليطًا من الغضب، والهياج، وزادها حدة قول محرز الماكر، ليضمن تحقيق غرضه:
-والله أنا ما عايز أتكلم من زمان، بس فعلاً هو بيغير منك يا معلم تميم، كذا مرة يقولي كلام زي كده، وأنا ساكت، وماحبش حد يقول عني بوقع بين معلمين السوق.
عنفه بغلظةٍ، وقد ظهر عليه تأثير كلامه:
-كنت تقول.
أسبل محرز عينيه، وعلق بخذلانٍ مفتعل:
-بردك العين متعلاش عن الحاجب.

في تلك الأثناء، بعد أن فرغ من صلاة العشاء، حضر الجد سلطان إلى الدكان، وجه أنظاره نحوه حفيده المستشاط غضبًا، سأله مستفهمًا:
-في إيه يا تميم؟
توتر محرز من مجيئه، وأشار للعامل بإيماءة خاطفة من رأسه ليبتعد، ونظر في اتجاه تميم الذي هدر بصدره الناهج:
-الكلب سراج جايب سيرة أختي.
تطلع إليه الجد مطولاً، قبل أن يسأله مجددًا، بعقلانية هادئة، ومغايرة للعصبية الهوجاء المستبدة بحفيده:.

-وإنت اتأكدت من الكلام ده؟ ولا رايح تتخانق عمياني كده؟!
كان يلهث من فرط انفعاله عندما جاوبه:
-عايزني أسكت يا جدي؟ هستنى إيه تاني؟ لما نلاقي الواغش بيألفوا حكايات عن هاجر؟
أتاه رد جده بنفس الصوت الهادئ:
-أه تسكت لحد ما نتأكد، مش جايز يكون الكلام غلط؟
وقبل أن يعارضه أمره بصرامةٍ:
-إنت تفضل هنا لحد ما نشوف إن كان صح ولا لأ
احتج بغضبٍ شديد:
-بس يا جدي كده آ...
قاطعه بلهجته غير المفاوضة:.

-أنا قولت إيه؟
أمام نظراته الصارمة، وحزمه الواضح، اضطر أن يرضخ له؛ لكنه أخبره بزمجرةٍ، بما يشبه الوعيد:
-ماشي يا جدي، بس وعزة جلال الله لو طلع حقيقي، هاخش فيه اللومان.
انسحب محرز من المشهد، لاعنًا في سره، فلو جاء الجد متأخرًا دقيقة واحدة، لما تمكن من اللحاق به، ولسُفكت الدماء في الحال.

حربٌ باردة اندلعت -لاحقًا- دون سبب معلوم بين أفراد العائلتين، قُطباها يحتفظان بمشاعر عدائية، تضاعفت مع ازدياد الحاجة، لتوريد بضائع جديدة، شحَّ تواجدها في السوق، وكانت تلك القشة التي استغلها محرز مع استمراره في بث سمومه المغلوطة، لكلا الطرفين، ليبدو وكأنهما يتحينان الفرصة، للتنكيل ببعضهما البعض، وقد حدث ما تمناه! وقامت تلك المشاجرة العنيفة في السوق، توقع فيها محرز أن يقتل أحدهما الآخر؛ لكنها انتهت بحبس تميم، وإقصاء سراج عن ساحة التجارة لبعض الوقت، مع ضمان عدم وجود أي بادرة صلح بين الطرفين.

نعم، كانت له طريقته الخبيثة الداهية في التقرب من بدير، وقلب الحقائق لصالحه، ليبدو في نظره المخلص المجتهد في عمله، ورويدًا رويدًا تولى إدارة الأعمال، وتعميق الصلات بالزواج من هاجر، ليستمر على منواله اللئيم في استنزاف وسرقة أموال العائلة، بذكاءٍ كبير، متلاعبًا في أصول الأوراق، والمستندات، وكافة ما له صلة بفواتير الشراء، إلى أن خرج تميم من محبسه، فارتبكت كل حساباته، وضاق الخناق عليه.

أفاق من دوامة الذكريات على صوت تشغيل محرك السيارة، تأكد من عدم رؤيتهم له، أثناء مرورهم من جواره، وأولاهم ظهره؛ لكن بقي الغل يحرق في كبده، كز على أسنانه هامسًا بحقدٍ لا طائل له:
-هي بقت كده خلاص؟
احتفظت تعابيره بعلامات الشر، وأضاف بوعيدٍ لن يخل به:
-مش هتخرب عليا بس، هاخليها على الكل!

حديثه المباشر عن تورط زوج شقيقته في قضايا تهريب خطيرة، خاصة تلك المرتبطة بالمواد المخدرة، صدمه على نحوٍ مشمئز، ورغم استنكاره لوضاعة محرز وخسته التي تنكشف يومًا بعد يوم، إلا أنه لم يتوقف عن لوم نفسه، لمنحه ثقته لمثيله من الخونة، بل ومصاهرته أيضًا، وإن لم يكن حاضرًا آنذاك؛ لكنه أعطاه مباركته لإتمامها. استند تميم على كفيه، ليعيد ظهره للخلف، مستمعًا إلى وجدي الذي استطرد قائلاً:.

- محرز مجرد أداة في إيدين ناس تانية، بيحركوها على مزاجهم، واحنا دورنا كرجال قانون نوقع كل اللي مشغلينه.
تساءل تميم بصوتٍ شبه متحشرج:
-والمطلوب مني إيه؟
تحرك ماهر من مكانه ليدنو منه، ساحبًا بيده مقعدًا معدنيًا، كان ملتصقًا بالحائط، وضعه بجواره، وجلس عليه، ثم أجابه:
-عايزينك تتعاون معانا، بصورة سرية، وتجيبلنا المعلومات اللي تلزمنا.
علق تميم بتهكمٍ صارخ:.

-يا باشا سيادتك جاي تتريق عليا؟ معلومات إيه اللي هاعرف أجيبها وأنا بالحالة دي؟ هو أنا قادر أقوم من مكاني؟
نظر في عينيه، وقال بهدوءٍ:
-المعلومات دي متوقعين إن جزء منها يكون عند، أختك
اصطبغت بشرته الباهتة بحمرة غضبه، وهتف بعصبيةٍ انعكست في نبرته:
-نعم؟ أختي؟
أكد له بإيماءة صغيرة من رأسه:
-أيوه.
احتج بغلظةٍ تسببت في إيلام صدره:
-لا متأخذنيش يا باشا، أنا أختي مالهاش دعوة بأي حاجة.

دون تحيزٍ أو انفعال قال له، محاولاً إقناعه:
-احنا واثقين من ده، بس بدل ما يكون الاستدعاء رسمي، وتتبهدل في الأقسام والنيابة، أنا حابب ده يتم بصورة ودية، بعيدًا عن جو المجرمين، أكيد إنت متحبش تشوف أختك هناك؟
منطقيته الواضحة غلبت تعصبه الملازم له، وعلى الرغم من التنمر البادي عليه إلا أنه سأله:
-وهي هتعرف تفيدكم إزاي؟
جاءه الرد هذه المرة من وجدي، حيث قال:.

-أكيد زي أي واحدة قاعدة مع جوزها، هياخد راحته معاها، يفضفض عن شغله، ويقولها عن شوية أسرار.
التفت نحوه، وخاطبه بتبرمٍ:
-ماظنش محرز بالغباء ده.
كان صوت وجدي مغلفًا بالبرود وهو يعقب عليه:
-مش هنخسر حاجة.
في حين استأنف ماهر باقي حديثه موضحًا له:
-احنا شغالين في كذا اتجاه، ومحتاجين كل مساعدة متاحة عشان نقدر نمسك بالمجرمين دول.
أضـاف وجدي من ناحية أخرى:
-وهنستدعي كمان أخو مراتك للتحقيق معاه.

انزوى ما بين حاجبيه في نكرانٍ شديد وهو يدمدم:
-مراتي؟!
أخبره ماهر ببساطة:
-أيوه، مدام خلود.
صحح له بزفيرٍ ثقيل، وبعينين ملتهبتين من غضبه المتزايد بداخله، نتيجة ما يتلقاه من أنباء غير سارة:
-لأ، دي طلقتي يا باشا...
تبادل وجدي نظرة اندهاش مع ماهر، في حين تابع تميم متسائلاً بتوجسٍ:
-هي ليها علاقة بـ محرز كمان؟
نفى على الفور ماهر، مانحًا إياه مزيدًا من الإيضاح:.

-لأ، بس معروف إنه كان صاحب نوح، اللي اتقتل من فترة، أكيد إنت عارفه؟
زفر بثقلٍ قبل أن يقول:
-أيوه
اعتبر إفصاحه عن القادم نوعًا من المجازفة؛ لكنه كان مضطرًا للجوء لكل وسيلة متاحة، لإحكام الطوق حول محرز، ومن ثم الوصول إليه، حتى تتذلل عقبة الوصول إلى آسر، خاصة مع تعذر التواصل مع فيروزة، لذا استمر في حديثه معه متابعًا:.

-بعد تفريغ كاميرات المراقبة الموجودة في المنطقة اللي ساكن فيها القتيل، اكتشفنا إن محرز كان طالع معاه بيته، وبعدها بفترة بسيطة نزل، وكان مش على بعضه.
سأله تميم كنوعٍ من التخمين:
-يعني هو اللي قتله؟
أخبره ماهر بتريثٍ، ودون أن تكون إجابته حاسمة:
-في احتمال كبير يكون ليه يد في موضوع قتله، وخصوصًا بعد التحريات الدقيقة، مصدرنا أكدت إنه علاقته بيه من زمان، وكان معاهم هيثم!

احتدت نظرات تميم بشكلٍ ملحوظ، وقبل أن يساء فهم كلامه، أوضح له ماهر:
-بس مش متورط معاه في التهريب، أخره كان سهرات من إياها.
تساءل تميم بحيرةٍ سيطرت عليه:
-وهو هيثم هيعرف إيه زيادة؟
أجابه بنظرة نافذة:
-السكك اللي ممكن يكون مستخبي فيها...
لمحة من التردد انعكست على تعابيره عندما أضاف ماهر بنبرة ذات مغزى:
-احنا عارفين إن حبايبك معاك، وجايز توصل معاهم لـ محرز قبلنا.

سأله بهدوءٍ مصطنع، محاولاً إخفاء ربكته:
-بتكلم عن مين يا باشا؟
ببساطةٍ شديدة أخبره:
-ولاد طه حرب.
رمش بعينيه، وقال متهربًا:
-أنا مش فاهم حاجة.
بوجهٍ جاد التعبيرات علق عليه ماهر:
-لو مسكتوه، ماتخلصوش عليه، يلزمنا، وصلت كده يا معلم؟
بعد أن كشفت جميع الأوراق، وأصبح اللعب متاحًا للجميع، ظل تميم محافظًا على ثباته، وراوغه في الحديث قائلاً بإرهاقٍ لم يزيفه:.

-ادعيلي أقوم بالسلامة يا باشا، وأنا بنفسي مش هرتاح إلا لما أجيبه لحد عندكم.
قال ماهر مبتسمًا:
-هاعمل نفسي مصدق كلامك، و...
توقف لهنيهة عن الحديث لينهض من جلسته، وتابع:
-وحمدلله على السلامة.
تنحنح الأخير بحشرجة خفيفة قبل أن يرد مجاملاً:
-الله يسلمك يا باشا.

انصرف بعدها الضابطان، ليتركاه في حالة من مشاعر الغضب والخزي؛ الأولى لكونه عاجزًا عن التحرك بحرية بسبب عطب جسده، والثانية لعدم استطاعته حماية عائلته من أمثال الوغد المتلون محرز.

ضاق صدره من كم العمل الزائد المفروض عليه، والذي تطلب منه المكوث بعد ساعات العمل الرسمية لوقتٍ إضافي، حتى ينتهي كليًا من مراجعة ما بحوزته، من أوراق. نهض الموظف الجالس في المكتب المجاور له عن مقعده، وسأله بتثاؤبٍ:
-أجيبلك قهوة معايا يا خليل؟
رفع رأسه عن الملفات المفتوحة التي يزدحم بها سطح مكتبه، ورد بتبرمٍ؛ وكأنه يشكو له تشبع جسده بالكافيين:
-ده أنا شارب يجي 3 قهوة، و4 شاي، معدتي قفلت خلاص.

همهم الموظف في استياءٍ، بصوته الخافت:
-منه لله المدير الجديد، حبكت يعني يعوز الدفاتر الجرد كلها النهاردة.
عقب عليه بنفس الصوت الخفيض:
-كل ما يجبولنا واحد جديد، نعمل نفس الموال، أما طفحنا.
زفير متعب خرج من جوف زميله، لينطق بعدها:
-هانت، فاضل كام حاجة ونخلصها.
أمّن عليه خليل متمتمًا:
-يا مسهل.

عاد لينهمك في مراجعة الأوراق بتركيزه الشديد، إلى أن قطعه رنين هاتفه المحمول، المسنود على ميمنته، مدّ رأسه في اتجاهه، وحملق في الاسم الذي أنار الشاشة، بدت ملامحه متجهمة قليلاً، عندما عرف أن المتصل أحد جيرانه بمنزله الآخر، تساءل مع نفسه بتذمرٍ:
-وده بيتصل ليه؟

توقعت أن يكون اتصاله –كالعادة- له علاقة بجمع الأموال من سكان المنطقة، لإصلاح تلفٍ ما تأخر الحي في الاهتمام به، لم يستطع التهرب منه، فجاره اللحوح لن يتوقف عن مهاتفته، لهذا لم يكن أمامه مفرًا من الإجابة عليه، فخاطبه بنبرة متعجلة:
-سلامو عليكم، إزيك يا حاج عماد؟ إيه الأخبار عندك؟
كان صوته مهومًا حزينًا، لا يبشر بخيرٍ وهو يتكلم معه:
-مش عارف أقولك إيه يا أستاذ خليل، قلبي عندك والله.

أدرك من حديثه الغامض أن هناك خطب ما، انتصب كتفاه، وتساءل بتلهفٍ:
-حصل إيه؟
صمتٌ طويل تخللته نهنهات متألمة جعلت قلبه ينقبض، كرر خليل سؤاله عليه بقلقٍ متعاظم:
-ما تقول يا حاج عماد، في إيه؟
بنحيبٍ مسموعٍ مع صوته أجابه:
-جماعتك يا أستاذ خليل، تعيش إنت..
تلقائيًا نطق باسمها غير مصدقٍ ما أخبره به:
- سماح؟ إنت بتقول إيه؟
-البيت ولع باللي فيه من شوية، والناس حاولت تنجد جماعتك، بس أمر الله نفذ!

اضطربت أنفاسه، وهربت الدماء من وجهه ليغدو كالأموات وهو يردد مصدومًا:
-مش ممكن، لأ!
ترك عمله مندفعًا كالأعمى، يسابق دموعه التي فرت من عينيه حسرةً على خسارته، ولم يعلم بعد أن المزيد ينتظره!

أحست كم هي ضائعة، وهي تتطلع بنظرات فارغة، للردهة الطويلة –باهتة الإضاءة- المستندة بجانبها على حائطها البارد، إلى حيث نقل هيثم أولادها الثلاثة للمشفى القريب، من أجل إنقاذهم. سرحت حمدية في أفكارها المتداخلة، تتذكر شغف أبنائها بتناول بقايا العجين الطازج الذي كانت تعده آمنة ببراعة لا تقارن، ولهفتهم على تذوقه نيئًا، كما لو كان مذاقه الخطير لا يضاهيه شيء، كما اقتحم عقلها مشهد إعدادها للكعكة المشؤومة، وكيف تفانت في تجهيزها هذه المرة، بعد أن اختبرت فاعلية مكوناتها لبضعة مرات سابقة، الفارق أنها أفرطت في وضع الفانيليا لإخفاء المذاق الغريب، وخلطت المادة السامة باللبن، ليبدو الخليط في النهاية متجانسًا، خطأها غير المقصود أنها احتفظت بالبقايا في صحنٍ صغير، كروتين متبع، عقب كل مرة تنتهي منها من تجهيز العجين، في درج الثلاجة.

تذكرت بين ضلالاتها أن أحد أبنائها رأى الوعاء، وكاد أن يختطف منه قطعة، إلا أنها نهرته بغلظةٍ، وهي تضرب كفه بعنفٍ:
-إياك تمد إيدك، وامشي من هنا يا زفت.

نظراته الحزينة مع شفتيه المقلوبتين في عبوسٍ، كانت آخر ما احتفظ به وجهه البريء، لم تمنحه اهتمامها آنذاك، تجاهلت قهره، وبقي كامل تفكيرها منصبًا على الكعكة، تلقائيًا ارتفع كفاها للأعلى تلطم بهما صدغيها، بعد أن تجسد طيف وجهه الوهمي أمامها، وصوت نواحها يهتف في ندمٍ:
-يا ريتني ما زعلتك يا ضنايا، حقك عليا يا غالي.

اتجهت الأعين إليها، خاصة هيثم، راقب ردات فعلها بأسفٍ، فالمصاب جلل، لا يمكن احتماله، أقبلت عليها آمنة تحتضنها، حاولت أن تشد من أزرها، وتهون عليها ألمها، تدعو الله أن ينجيهم من الموت. أبعد هيثم نظراته عنهما، وتطلع إلى زوجته التي لم تتوقف عن البكاء، متحجر القلب، من لا يتأثر برؤية الحزن الثقيل الجاثم عليهن! جاهد ليبدو متماسكًا أمام الانهيار المسيطر على الثلاثة، اشرأب بعنقه للأعلى في توترٍ، حينما رأى أحد الأطباء يلوح إليه. تحرك في خفة نحوه، وسأله وهو يختطف النظرات نحو حمدية التي بدت مفصولة عمن حولها:.

-طمنا يا دكتور؟
وجهه عكس الأخبار غير الطيبة، ضغط على شفتيه، وأخبره بأسفٍ لا يخلو من المواساة:
-مش عارف أقولك إيه والله، وأنا شايف الأم مقطعة نفسها هناك.
ما قاله كان تمهيدًا للأسوأ، والذي بدا مؤلمًا حد الموت وهو يتابع:
-شيدوا حيلكم يا جماعة، التلاتة في ذمة الله.

زلزلة عظيمة ضربت بجسد هيثم، والذي فُرض عليه تلقي مثل تلك الأخبار المفجعة، شعر أثناء سماعه لها بقلبه يهوي بين قدميه حسرةً على الخسارة الفادحة، لم ينطق لسانه سوى بكلمات الذِكر:
-إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله.
لم يكن الطبيب واثقًا إن كان يتابع حديثه أم لا؛ لكنه أضاف بلهجةٍ تحولت للجدية:.

-الأمل في إنقاذهم كان تقريبًا معدوم، وخصوصًا بعد التأكد من إن الأعراض اللي كانت سبب في وفاتهم راجعة للتسمم.
بدا صوته أجوفًا متباعدًا وهو يقول:
-اللهم إنا لا نسألك رد القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه.
واصل الطبيب إعلامه بهدوءٍ:
-أنا مضطر أبلغ البوليس، لأن في شبهة جنائية في وفاتهم...
لم ينتظر قراره، واختتم حديثه مواسيًا:
-وربنا يصبركم.

تحركت عينا هيثم نحو زوجته التي كانت تنظر ناحيته أيضًا، أدركت الأخيرة من شحوبه المريب، ودموعه الزاحفة على صفحة وجهه، أن الفاجعة لا تُحتمل، ارتفعت أصوت شهقات بكائها المتقطع عاليًا، ليتحول بعدها لعويلٍ صارخ يفطر القلوب المكروبة...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة